كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

التبني

من أسمى وأعز المفاهيم التي تقابلنا في الكتاب المقدس، أن الله العظيم الأبدي، خالق الكون وما فيه، ارتضى بل وسُرَّ أن يدعو البشر الخطاة الترابيين أولاداً له. وفكرة أن يصير الإنسان ابناً لله يشرحها الكتاب المقدس بطرق متعددة إحدى هذه الطرق تتركز حول مفهوم “التبني” .

وكلمة التبني (هيو – ثيسيا)، ترد في العهد الجديد خمس مرات، جميعها في رسائل القديس بولس، وعندما ذكر بولس الرسول هذه الكلمة لم يشرحها أو يعقب عليها، لأنه كان يعلم أن سامعيه يفهمون ما تعنيه هذه الكلمة.

التبني في العهد القديم:

نادراً ما نتقابل مع فكرة التبني في العهد القديم، فلم يكن لدى العبرانيين مصطلح لغوي للتعبير عن التبني، كما أن شريعة التبني لا نجد لها أثراً ضمن شرائع العهد القديم. ربما يرجع السبب في ذلك إلى إمكان حل مشكلة إنجاب البنين لدى الإسرائيليين عن طريق بدائل أخرى خلاف التبني. فتعدد الزوجات الذي كان مسموحاً به، وشريعة زواج الأخ من زوجة أخيه المتوفي ليقيم له نسلاً (تث ٢٥: ٥-١٠)، قللت من الاحتياج إلى ممارسة التبني، كذلك فإن شريعة بقاء الميراث داخل السبط الواحد، وعدم السماح بانتقال المواريث خارج الأسباط (لا ٢٥: ٢٣)، هدأت بعض مخاوف الوالدين اللذين بلا نسل.

وبدراسة عادة التبني التي كانت شائعة في منطقة سوريا وما بين النهرين، يمكننا أن نلقي الضوء على حالات التبني القليلة التي تمت في العهد القديم. فالتبني في الشرق الأوسط في القديم كان عملاً قانونياً مسموحا به، حيث كان يتم انتساب الشخص إلى عائلة جديدة غير عائلته، تمتعه بكافة الامتيازات والمسئوليات التي يتمتع بها ابن
العائلة الحقيقي. وبتطبيق هذا المبدأ على كتاب العهد القديم يمكننا تمييز بعض حالات التبني القليلة التي وردت فيه مثل: تبني إبراهيم أبي الآباء لأليعازر الدمشقي (تك ١٥: ٣)، وتبني ابنة فرعون لموسى (خر ٢: ١٠)، ومردخاي لأستير (أس ٢: ٧ و١٥)، وربما تكون أيضا تحفنيس ملكة مصر قد تبنت جنوبث (١مل ١١: ٢٠).

وللتبني في العهد القديم معنى روحي أيضاً، فالله كان يعتبر إسرائيل ابناً له، وإن كان شعب إسرائيل لم يراع واجبات هذه البنوة: «رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ».» (إش ١: ٢و٣). وكان جُل اهتمام الله باعتبار إسرائيل ابناً له أن يتمسك إسرائيل بهذه البنوة فلا يجحدها ولا يتخل عن أبوة الله له: «وَأَنَا قُلْتُ: كَيْفَ أَضَعُكِ بَيْنَ الْبَنِينَ، وَأُعْطِيكِ أَرْضًا شَهِيَّةً، مِيرَاثَ مَجْدِ أَمْجَادِ الأُمَمِ؟ وَقُلْتُ: تَدْعِينَنِي يَا أَبِي، وَمِنْ وَرَائِي لاَ تَرْجِعِينَ.» (إر ٣: ١٩). وأكثر من ذلك يقول الله إن إسرائيل ابني البكر (خر 4: 22)، وأيضاً: “أَنِّي صِرْتُ لإِسْرَائِيلَ أَبًا، وَأَفْرَايِمُ هُوَ بِكْرِي.” (إر ٩:٣١).

كما تظهر أبوة الله أيضاً في اختيار الملك الآتي من نسل داود ليُدعى اسم الله عليه: «هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ، إِلهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي. أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا، أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ. إِلَى الدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي. وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ. وَأَجْعَلُ إِلَى الأَبَدِ نَسْلَهُ، وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ السَّمَاوَاتِ.» (مز89: 26 -29).

ويمكننا ملاحظة هذا الاختيار الإلهي خلف كلمات بولس الرسول عن بني إسرائيل: “….إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ، 4الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ،” (رو 9: 3و4).

التبني في العهد الجديد:

كانت شريعة التبني منتشرة في العالم اليوناني والروماني في زمن الرسل. فعند اليونانيين كأن يتم إشهار التبني في ساحة السوق العام أمام مواطني المدينة، ثم يتم تسجيل اسم الشخص المتبى في الكشوفات العامة للمدينة بعد ذلك. وكان من شروط التبني أن يحتفظ الشخص باسمه واسم عائلته والآلهة التي كان يعبدها. أما عند الرومان فكانت إجراءات التبني تتم بأن يقوم الوالد ببيع ولده للأب الجديد ثلاث مرات، بعدها يمثل الوالد الجديد أمام القاضي ويعلن أن هذا الولد صار ابناً له. وهكذا يصبح هذا الابن هو الوريث الشرعي لأبيه بالتبني.

من هذا نفهم أن القديس بولس كأن يستعمل مصطلحاً يعرفه جيداً جميع قرائه. ففي رسالته إلى أهل رومية، يذكر الرسول لهم كلمة التبني (هيو – ثيسيا) ليشرح علاقة الله بشعب إسرائيل واختياره لهم، كما ذكرنا آنفا. أما في الأربع مرات الأخرى التي يذكر فيها هذه الكلمة فإنه يصف علاقة الله بإسرائيل الجديد، أي المؤمنين بابنه يسوع المسيح.

( أ ) التبني كهبة روحية: (أف ١: ٣-٥)

لم يكن اختيار القديس بولس لتعبير التبني عفوياً، لقد أراد أن يوضح أن بنوتنا لله ليست بنوة طبيعية؛ بل هي هبة روحية يمنحنا إياها الله. ولم يلجا الله للتبني كحل أخير لمشكلة الإنسان؛ بل كانت عطية التبني في فكر الله قبل خلقتنا؛ بل منذ الأزل، وهي ترتكز بالدرجة الأولى عل محبة الله لنا في المسيح يسوع:

+ مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيج، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لتكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه ، حسب مسرة مشيئته».

ويشرح هذا المعنى القديس كيرلس الكبير:
الكلمة وضع نفسه
لكي يرفع إلى علوه الخاص ما هو وضيع بحسب الطبيعة.
ولبس شكل العبد، مع كونه بالطبيعة هو الرب وهو الابن،
ليحول من هو عبد بالطبيعة إلى مجد التبني بمشابهته وباللجوء إليه.
فقد صار مثلنا أي إنسانا لنصير نحن مثله، أي آلهة وأبناء؛
وهكذا أخذ لنفسه ما هو لنا لكي يعطينا في المقابل ما هو له…
إننا نرتقي إلى ما يفوق الطبيعة بمشابهتنا له،
فمع أننا لسنا أبناء بالطبيعة، قد دُعينا أبناء لله…
إن إله الكون كله هو آب للمسيح بالطبيعة وبالحق،
وأما لنا فهو ليس أباً لنا بحسب الطبيعة،
بل بالحري هو إله لنا باعتباره هو خالقنا ورب لنا،
غير أن الابن لما مزج نفسه بنا بنوع ما،
أنعم عل طبيعتنا بالكرامة التي هي أصلا خاصة به بصفة رئيسية،
فدعا أباه الخاص أباً مشتركاً لنا (يو20 :17 «أبي وأبيكم»).


(ب) التبني والميراث الإلهي: (غل ٤: ٤-٧)

بحسب القوانين والشرائع لا يستطيع الابن القاصر أن يتمتع بميراث أبيه؛ بل يكون تحت أوصياء (غل ٤: ١). هكذا كنا نحن تحت وصاية الناموس ولم يكن لنا الحق أن ندعو الله أبانا، أو أن ننال ميراثاً سماويا. ولكن في الوقت المعين من الله، وذلك عندما تجسد الابن الوحيد، أعطانا الله التبني في المسيح يسوع، فصرنا ورثة لله بالمسيح. ليس ذلك فقط؛ بل إن الله أعطانا روحه القدوس الذي به نستطيع أن نصرخ الى الله قائلين: “أبا، أيها الآب”. وكلمة “أبا” كلمة أرامية كان يستعملها الأطفال عندما ينادون على ابيهم:
+ “ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت التاموس لننال التبني. ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخا؛ «يا أبا الآب». إذاً لست بعد عبداً بل ابناً، وإن كنت ابنا فوارث لله بالمسيح”.
ويعلق القديس أثناسيوس الرسولي على هذه الآية قائلاً:
[هذه هي محبة الله للبشر، أن الذين هم أصلاً مجرد خلائق وهو خالقهم، قد صار لهم فيما بعد أباً بحسب النعمة. وقد تحقق ذلك عندما قبل البشر المخلوقون «روح ابنه في قلوبهم صارخاً يا أبا الآب» بحسب قول الرسول].
ويستطرد القديس أثناسيوس ليشرح الميراث السماوي الذي سنناله فيقول:
[قد صار الكلمة جسداً لكي يجعل الإنسان قادراً أن يتقبل اللاهوت] . (ضد الأريوسيين ٢: ٥٩)

(ج) التبني والعتق من العبودية: (رو ٨: ١٥- ١٧)

ويعود القديس بولس في الرسالة إلى أهل رومية ليؤكد على بنوتنا لله وعلى حقنا في الميراث السماوي. فقبل تجسد المسيح كان يسيطر علينا روح العبودية، وكنا نسلك كعبيد للخطية. لكن بعد الإيمان بالمسيح والولادة الجديدة من الماء والروح نلنا روح التبني، روح العتق من الخطية وسلطان الظلمة. وبالتالي صار بمقدورنا أن ندعو الله أباً لنا، وصرنا
وارثين لله ووارثين مع المسيح. فإن كنا الآن نجوز تحت آلام هذا الزمان، فهذا سيؤول حتما إلى مجد لنا:
+” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبـني الذي به نصرخ: يا أبا الآب… فإن كنا أولادا فإننا ورثة أيضا، ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه”.
ويتغنَّى القديس كيرلس الكبير في انتقالنا من العبودية إلى البنوية قائلاً.
[ يا للجود الفائق! ويا للطف المنقطع النظير واللائق به وحده!
إنه يخلع علينا مجده الخاص! إنه يرفع العبيد إلى كرامة الأحرارا
فيكلل حالة الإنسان بمثل هذه الكرامة التي تفوق قوة الطبيعة،
ويحقق ما سبق وأخبر به بواسطة صوت المرنم قديما:
أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العل كلكم (مز81 :6 سبعينية)،
فهنا هو يحررنا من مستوى العبودية،
واهباً لنا بنعمته، ما لم نكن نملكه بالطبيعة،
انه يسمح لنا أن ندعو الله أباً لنا، بصفتنا قد ارتقينا إلى طقس البنين.] (تفسير لوقا ١١: ١ )

( د ) كمال التبني: (رو 8: 22و23)

واخيراً وفي نفس الرسالة إلى أهل رومية، ينتقل القديس بولس من التأكيد على موضوع التبني الحاصل الآن بصورة غير كاملة، إلى التبني في المستقبل في صورته النهائية. فبالرغم من أننا أولاد الله، فإننا نخضع الآن لبعض الآلام، مما يدفعنا إلى الأنين والصراخ حتى ننال التبني في صورته النهائية. ويشاركنا في هذا الأنين الخليقة بأجمعها التي تتوقع هي أيضا التجلي في القيامة الأخيرة.
– «فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن، وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الزوح،نحن أنفسنا أيضا نئن في أنفسنا، متوقعين التبني فداء أجسادنا».

ففداء الجسد يشير إلى القيامة الأخيرة. فالإنسان المسيحي، ومعه الخليقة كلها، يتوقع بصبر وصول علاقته بالله إلى كمالها، وعندها سوف يختبر بحق معنى المفهوم الكامل للتبني لله. في هذا المعنى يقول القديس يوحنا اللاهوتي:
“أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله … أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله (بالتبني)، ولم يُظهر بعد ماذا سنكون (التبني في صورته النهائية). ولكن نعلم انه إذا اُظهر
نكون مثله، لأننا سنراه كما هو”.

إن استعمال القديس بولس لتعبير التبني ليشرح به علاقتنا بالله، يضع في ذهننا مفاهيم أساسية علينا أن نعيها جيداً:

  • فالتبني يذكرنا أننا لسنا أبناء الله بالطبيعة؛ بل بنوتنا لله هي عطية منه، وبالتالي لم يكن لنا في الماضي أية حقوق لدى الله كأبناء.
  • بنوتنا لله تعتمد عل سبق اختيار الله لنا، وأنه أعدنا لهذا التبنى من قبل تأسيس العالم.
  • بنوتنا لله تمت بتجسد ابن الله الحقيقى، حيث صرنا فيه أولاداً لله، ودخلنا في علاقة حب تطرح الخوف إلى خارج.
  • وكأبناء لله، أصبح لنا الحق في ميراث الله، ويوما ما سنختبر مجد هذه البنوة في صورتها الكاملة.

 

مواهب الروح القدس كتب أنبا إبيفانيوس الكرازة
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى