الحدود المتسعة للإيمان بالله

 

– المؤمن ورؤيته لقوى الطبيعة المدمرة بجبروتها وشدتها. 
– الضرر والخسارة وقانون النمو العام : « حبة الحنطة » .
– عقل الإنسان وحدوده في اكتشاف حكمة الله في الخليقة، ونموه في ضبط ثورات الطبيعة . 
– الحرية الظاهرية لعقل الإنسان ، وقوة الله الضابطة له.
ـ لماذا لا يعاقب الله الملحد والمجدف بالمعجزات ؟
ـ ما هي الحكمة الإلهية وراء سماح الله بالإتجاهات السلبية التي تنشأ في الكون؟
ـ السؤال الذي لم يستطع العلم حتى الآن أن يرد عليه !
ـ مركز الإيمان بالنسبة للتفكير، وسعادة الإنسان الحقة !

أن نـؤمـن بـالله ، فنحن نؤمن أنه قادر على كل شيء ، وأنه حكيم ، وأنه عادل ، وأنه رحيم ، وأنه محب.

والإيمان بالله يـسـتـلـزم أن نثق بكل صفة من هذه الصفات ونعمل بها في حياتنا . والإيمان لـيـس ضرورة تعسفية لإرضاء سلطان الله ، ولكنه هو سر سعادة كل من يؤمن بمسرة وعن رضى . وإن كان الله قد حتّم بالإيمان على البشر ، فذلك بدافع أهم صفة من صـفـاتـه وهي المحبة ، لأنه إذ يحب الإنسان كخليقة ممتازة عنده ، لذلك يدعوها في إصرار المحبة أن تؤمن به حتى تسعد بوجوده ، وتكمل القصد المبارك الذي خلقها من أجله . فالله خلق الإنسان ليسعد بصفات الله التي كلها خير وصلاح .

و واضح الآن كـل الـوضـوح أنه لما انحصر الإيمان وضعف في قلوب الشعوب ، بدأت تكثر أحزان الإنسان ، و بدأ شبح الحرمان والمجاعات والحروب والدمار يزحف على المســكــونـة كلها . وسوف يتأكد العالم كله ، في لحظة ما ، أنه من المستحيل أن يسعد الإنسان بدون الله.

الإيمان بأن الله قادر على كل شيء :

هذه هي الـصـفة الأولى ، لا بالنسبة الله لأننا لا نعرف ترتيب صفات الله في ذاته ، ولكن بالنسبة للإنسان الذي يحيا في عالم مادي تتحكم فيه قوى طبيعية هائلة .

ونحن يجب أن نؤمن ، بادىء كل ذي بدء ، بقدرة الله على كل شيء ، لأن الله هو هكذا بالفعل ، وحتى لا ترعبنا قوى الطبيعة كأنها ذات السلطان الأعظم علينا من جهة حـيـاتـنـا وأمننا وسلامنا . فالإنسان الذي يؤمن بتفوق الله على قوى الطبيعة يرتاح جدأ ، وخـصـوصـاً إذا واجـه شـدتها عيانا أو اطلع على جبروتها الذي تعلنه في أماكن عديدة من العالم ؛ فـالزلازل المخـربـة والـبـراكين والعواصف العاتية والفيضانات المخيفة والأوبئة الفتاكة لا يمكن أن تنزل الرعب في قلب إنسان يؤمن بتفوق قوى الله على قوى الطبيعة ، لهذا فهو في أوج ثورتها لا يرتاع ، عالماً بأن الله ضابط لجميع قواها في مسار لا تتعداه ، وأنه يضبطها بحكمة ليقودها حسب مشيئته المعينة والقصد المبارك الذي خلقها من أجله . ومها ظهرت آثارها المخربة ، فالغاية التي تستقر عليها بعد ثورتها تحمل حتماً توجيهاً جديداً للساكنين على الأرض للإرتقاء إلى حالة أفضل.

وحينا نؤمن بقدرة الله الكلية وحكمته التي تسير أمور العالم كله ، نطمئن أنه لو أصاب العالم ضرر ما وأصابنا نحن جزء منه ، فالخير الذي سيتمخض عن هذا الضرر كفيل بأن يـوازن الخسارة بل و يزيد بالقدر الذي يكون فيه ارتقاء وإسعاد ملايين عبر الدهور عوض خسارة ألوف في زمن محدود.

وهـذا قـانـون تـسير عليه الخليقة بكل أعضائها ، وهو قانون النمو العام الذي تمثله حبة الحنطة حينا تموت لتعيش مئة حبة ، أو حينا تتمخض المرأة بآلام شديدة ليخرج مولود جـديـد . هكذا يؤكد القديس بولس الرسول أن الخليقة تئن كلها وتتمخض معاً بانتظار تبني الله للإنسان في وضعه الجديد كلية جسدا وروحاً ، هذا الذي نترجاه بفارغ الصبر ( رو8: 22 و23)

وكان ممكناً أن يتلافى الله كل خسارة من كل نوع في كل الخليقة ، ولكن كان لابد أن يبقى كـل شـيء ثـابـتـاً في ذاته لا يتغير ، فكان آدم يبقى آدم ، وحبة الحنطة تبقى حبة الحـنـطـة وحـيـدة وحدها ، وكل شيء يخلق يبقى كما هو غير قابل للنمو، لأن النمو يشمل ولابد حالة انسلاخ من دور إلى دور ، أي يشمل عملية موت وحياة .

كذلك الأرض كان يمكن أن تبقى بلا زلازل و براكين وفيضانات ، ولكن كان يلزم حينئذ أن تـقـف عن الحركة وتمنع عنها الحرارة كلية ، لأن بهذين العاملين تنشأ حتماً الـبـراكين والزلازل والـفـيـضـانـات والـعـواصف . إذن ، فالخير الجزيل الذي يتمتع به الإنسان ، سواء من نمو في جنسه وفي الخليقة الحية الأخرى ، أو من الحرارة التي يستخدمها في كـافـة شـئـونـه ، أو مـن الحـركـة التي يحس بواسطتها بكيانه ووجوده ، هذه كلها لابد تشمل قانون الخسارة والربح ؛ ولكن دائماً أبدأ : خسارة أقل وربح أعظم ، أي حركة نحو الأفضل والأعظم ، أي حركة نحو الله !!

وهكذا فإن إيماننا بقدرة الله الكلية وحكمته يزداد حينا نرى أن عمله في الخليقة يزداد ناحية الربح بشكل واضح ملموس على مدى السنين والأجيال.

فالإنسان ــ آدم ـ وجد فرداً واحداً وحيداً ، وها الآن يدب على الأرض ألفا مليون إنسان و يزيد ، فالموت الذي ماته آدم انبعثت منه حياة لا يحصرها حد ولا عد ، إذا ما أحـصـيـنـا الأجيال كلها ، والفيضانات التي قتلت ألوف الناس فيما سلف من الأزمان ، نجدها الآن وقـد أخـصـبـت ملايين الأفـدنـة مـن الأراضي لتعول ملايين البشر على مر الأجيال . والزلازل التي خربت بيوتاً عتيقة كثيرة ، نشطت ألوف الأيدي العاملة لبناء مدن حديثة . والبراكين التي أهلكت أرواحاً ومدناً ، أضافت إلى باطن الأرض استقراراً أكثر لضمان سنين مديدة لسعادة ملايين عديدة.

وهكذا نستطيع أن ننتقل ونمتد لنقول إن الخسارات العارضة التي تواجه الإنسان في الطبيعة هي في صف قدرة الله الكلية ، لأنه بالرغم من حدوثها بأشكال مفزعة ، إلا أنها كـلـهـا تـتـحول إلى خير أعظم بواسطة حكمة قدرته الفائقة ، حتى إننا نستطيع أن نقول إن قدرة الله الـكـلـيـة ، وهي تستلزم حالات سلبية أشد ، نلمس فيها قدرة الله الأقوى على تحويلها إلى خير أكمل . لذلك كان علينا دائماً أن ندرك عملياً ، و بالقياس المنطقي ، أن قدرة الله الفائقة قادرة فعلاً على كل شيء لتحويل كل ما في الوجود إلى ما هو أفضل ، إنما على المدى الطويل .

ومن الواضح أشد الوضوح أنه لم يستطع حتى الآن أي عامل سلبي واحد ، منذ الخليقة وحتى الـيـوم ، أن يسود العالم أو ينمو في تأثيره الضار إلى مالانهاية بلا ضابط ؛ لذلك نحن نـؤمـن يـقـيـنـا أن وراء هذه القوى السلبية توجد قوة الله « ضابطة الكلم) التي توجه هذه السلبيات إلى خيرات وإلى حياة أفضل أكثر استقراراً وأكثر ازدهاراً.

ويمكـنـنـا أيـضـاً في ظل إيماننا الثابت بقدرة الله الفائقة على ضبط العالم الطبيعي أن نـقـول إنه بالنسبة للخير الحتمي الذي تؤول إليه كل أعمال الطبيعة وحركاتها لا يوجد ما نسميه أعمالاً سلبية محضة ، أو نعتبره خسارة كاملة ؛ بل هي تحولات لازمة لسير مجرى الحياة نحو الخير النهائي.

و يكفي تدليلاً على ذلك ، أن العالم منذ أن خلقه الله حتى اليوم دائم النمو والحركة إلى ما هو أفـضـل ، ولم يـتـقـهـقـر قط . ربما تكون قد تراجعت عن الوجود أجناس برمتها من الحيوانات أو النباتات وزالت لعدم تحملها عنف التغييرات في الطبيعة ، ولكن قام عوضاً عنها أجناس أكثر قدرة على متابعة الحياة.

عقل الإنسان هو أحد الصور لقوى الله العاملة للخير في الكون :

و يلزمنا أيضاً أن نؤمن بأن قوة الله وقدرته الكلية ليستا صفتين جامدتين في شخص الله يدبر بها حـركـات الـكـون مـن جـهة ما وراء هذا الحجاب المادي الذي يكون عالم الإنسان.

 فالإنسان أحـد خـلائـق الله الممتازة ، وقد خصه الله بعقل دقيق جدأ له قدرة إلهية نفاذة في التعرف على جوهر الأشياء وحقائق الحياة المادية . وهو بذلك يتقابل مع الله في حقيقة الأشياء المخلوقة ، فالخليقة مصنوعة بحكمة دقيقة غاية في الدقة ، ولكنها غير خافية تـمـامـاً على عقل الإنسان . فلأن الإنسان مخلوق إلهي ، وقد استودعه الله قسطاً وافراً من حكمته ، ولأن الله صنع الخليقة أيضاً بحكمته ؛ لذلك فإن الإنسان يستطيع كل يوم أن يكتشف هذه الحكمة ، ليس لأنه هو إله ، ولكنه يكتشفها بالحق الذي في جوهر عقله. فالحكمـة يـدركـهـا الحكيم ، والحـق يـدركـه الباحث عن الحق . ولكن لأن الإنسان هو مخلوق ؛ لذلك فهو لا يكتشف جوهر الحق الخالق ، وإنما يكتشف الأسلوب مجرد الأسلوب الحكيم العجيب الذي صنعت به هذه المصنوعات والخلائق ، وذلك بصفته حاملاً لهذا الأسـلـوب عـيـنـه . فكلما اكتشف قانوناً في الحياة ، هيأه هذا القانون لاكتشاف قانون آخر ، وهكذا يزداد الإنسان في معرفته للحكمة والحق عن طريق استيعاب أسلوب الحكمة والحق في الخليقة ، والموجود في صميم كيانه أيضاً .

وكما خلق الله الضوء والحرارة والحركة في المادة تحت قوانين غاية في الترتيب والدقة والحكمة ، كذلك خـلق العقل في الإنسان . فكما تعمل الحرارة في الكون ، كذلك يعمل عقل الإنسان . ولأن عـقـل الإنسان اختص بحكمة إلهية ومعرفة الحق ، لذلك فهو أقدر المخلوقات جميعاً على عملية إنماء الخير وإسعاد الخليقة.

فكما أن الله يـضـبـط الزلازل والإنفجارات البركانية حتى لا تفسد الخليقة ، وذلك بـقـوتـه الحـكـيـمـة، كذلك أعطى الإنسان أن يعمل بعقله الحكيم ليوقف الثورات المحلية للطبيعة أو يـتـفـاداهـا أو يحولها إلى ما هو أفضل، وهكذا أعطاه أن يتسلط بعقله على الوحوش وعلى الميكروبات الفتاكة وعلى الأمراض المختلفة.

وكـلما نمـا عقل الإنسان وامتلأ من المعرفة بحقيقة وخواص الخليقة والقوانين التي تسير عليها ، ارتقى في قـدرتـه الضابطة لها ، وتمكن من تحريك الخير الأسمى بنفس التوجيه والأسلوب الذي يعمل به الله في الخليقة العامة بصورة أعم. ولكن لا يتبادر إلى الذهن أن الإنسان يعمل بوجهة نظره الخاصة كمخلوق سيد حر في توجيه أعماله للخير الذي يبغيـه أو للشر الذي يضمره ، كلا ، فعقل الإنسان يخضع كبقية المخلوقات تحت قوة الله القادرة على كل شيء الضابطة لكل نواحي تقدمه وتفكيره.

والإنسان ولو أنه يعمل الشر عمداً أحياناً و يرتكب أعمالاً مخرّبة لجنسه تبدو أنها شرّ مستطير و يبدو الخراب كائناً وراءها بشكل فظيع ، كاختراعه آلات الحروب الفتاكة ، إلا أن هذا العمل أيضاً لا يمكن أن يفلت من ضبط يد الله الضابطة الكل ، فهو يوجهه في النهاية للخير كما يوجه زلزالاً مروعاً.

ولأن الـعـقـل الـبـشـري يمـيـل ـ إن هـو ابـتـعـد عـن الله ـ إلى نـاحـيـة اليسار نحو الـتـخـريـب ، لذلك فهو ينطوي مجبراً تحت الخليقة العاجزة التي يعوزها دائماً حكمة الله وتوجيهه ، لذلك فإن هذا السبب الأخير أدعى لأن نؤمن ونعتمد ونثق بأهمية قدرة الله وحكمته على كل شيء ، وإلا يصبح عقل الإنسان ـ كما كان منذ البدء ـ سبباً في أن يفسد الحياة على نفسه ، ويخلق له في الجنة بؤرة عصيان.

ولـكـن و بـالـرغـم مـن الحرية الظاهرية التي يبدو أن الإنسان يمتلكها لذاته في هذا الـكـون ، إلا أننا نستطيع أن نقول إن عقل الإنسان مضبوط بقوة الله الفائقة ، يعمل على المـدى الـواسع والبعيد خاضعاً داخل دائرة حكمة الله ومقاصده الأزلية ، وفي نفس الوقت يـتـحـرك داخل دائرة ذاتية محدودة ، يعمل فيها كأنه حر، وكأن له مشيئة خاصة يوجهها كيفما شاء ، سلباً أو إيجاباً . ومثله مثل الأرض التي تدور حول نفسها في مدارها الخاص ، وفي نفس الوقـت تـدور خاضعة لمدار الشمس ، وهي في الحقيقة ليست حرة في حركتها التي تظهر كأنها خاصة ، أي حركتها اليومية ، لأن منبع حركتها الخاصة هو أيضاً مستمد من قوة جذب الشمس وأثرها المباشر عليها.

كيف يرضى الله ـ بالرغم من قدرته الفائقة – أن يهان اسمه و ينكر وجوده :

وأحـيـانـاً يـتـيـه عـقـل الإنسان عجباً بقدراته الخاصة في فهم الأمور وضبط الأشياء البسيطة التي تقع تحت إمكانياته المتواضعة، فينكر الحكمة الفائقة التي تدبر الخليقة كلها، و ينكر الله الكلي القدرة، ويجدف على اسمه العظيم جهاراً ، فيحتار الناس : كيف يرضى الله أن يهان اسمه و ينكر وجوده، مع أنه قادر أن يظهر قدرته الفائقة بأن يعاقب الملحد أو يلغي إدعاء المجدف بمعجزة مثلاً ؛ ولكن فات على الناس أن أي إجراء سلبي يـتـخـذه الله تجاه الذين ينكرون وجوده ويجدفون عليه ، يكون في الواقع انتقاصاً صفته العظيمة ، أي قدرته على كل شيء . فالله لو عاقب الإنسان عقاباً انتقامياً إزاء جـحـوده ، كان ذلك معناه أن الله يدافع عن قدرته الإلهية ، وكأنما قدرته الإلهية سيصيبها شـر أو ضـر، وهذا محال ، لأن قوة الله لا يمكن أن ينتقص منها بأي عامل مهما كان، ولهذا تدعى «قدرة كلية».

كذلك فإن الله لا يلغي إدعاء المجدفين عليه ، بأن يثبت وجوده بمعجزة مثلاً كما ينتظر الناس ، فهذا يكون أيضاً نوعاً من الدفاع عن الذات ، وحاشا الله ! فقدرة الله ثابتة من الأزل وإلى الأبد ، وتجديف الناس عليها والإفتراء عليها إنما ، وبمرور الزمن ، يز يدها يقيناً وثباتاً ، وهل يلغي جحود الإنسان وجود الله؟

ولـكـن لـقـدرة الله الكلية عملاً آخر تعمله ، يتضح منه أنها فائقة فعلاً وكلية ، بكل معنى ، وذلك بتحويل الشر الذي يحدثه الملحدون بإلحادهم وكفرهم إلى نهايات خيرة ، فـبـقـدر مـا يـتـبـارى الملحدون في تقديم أدلة على انعدام وجود الله عملاً وفكراً ، بقدر ما تسـتـنـفـر كـل قـوى الخير والإيمان في المؤمنين ، لتعمل أكثر وتشهد أوفر ، فيزداد تعمق الإنسان في إدراك الله على طول المدى.

وهـكـذا كلما خـرج مـن صـف البشرية الزاحفة نحو الله أعداد ملحدة، ازداد وعي الإنسان بالله عمقاً واتصالاً، وبالنهاية يزداد وجود الله في عالم الإنسان قوة و يقيناً.

 فالإنسان خلق ليكون بالنهاية خليفة خيرة في ذاتها ، ليشهد لخيرية الله ، وقد خلقت إمكانياته لمقاصد خيرة تجاه الكون الذي يعمل فيه . علماً بأن الله لا يعاقب الإنسان لمجرد العقاب ، فالعقاب لا يتناسب مع صفة الله الكلي القدرة ، ولا يتناسب مع قصده من خلقة الإنسان . فقدرة الله الكلية تنشط فقط ضد الإتجاهات السلبية التي تنشأ في الكون سـواء كانت عامة أو فردية ، سواء من خليقة جامدة أو خليقة عاقلة ، فتمتص الشر الذي فيهـا لـتـوجـهـه إلى الخير وتحوله مع الزمن إلى ما هو أفضل . وقد سبق أن قلنا إن الثورات الـسـلـبـيـة الـطـبيعية من زلازل وفيضانات يمكن أن نعتبرها نوعاً من النشاط الخير، لو اتسعت نظرتنا لتشمل النتائج المترتبة عليها.

وكذلك يمكننا أن ننظر إلى حالات الثورات الفكرية ضد الحق والله في الإنسان سواء كان فرداً يعبر عن . سخطه ضد الله أو فئة تعبر عن فلسفتها لإنكار وجوده ، العقلي السلبي . ، فلا يخمدها الله كعاجز بل يقودها في هدوء قدرته الفائقة كما يـقـود زلزالاً مخرباً ليخرج منها ثمرات إيمانية غاية في الثبات والخصوبة ، وإنما على المدى ، كأنها نوع النشاط من الطويل.

فـاضـطـهـاد دقـلـديـانـوس المروع للمسيحية في العالم ، أو حركة الإلحاد العلمي التي قامـت ضـد الـدين في القرن الثامن عشر ، لم يحرك الله ليميت هذا الطاغية أو ليهلك علماء قـرن مـن الـزمـان ؛ بل كان الله مـوافقاً على أعمال هذا ومهاترة أولئك ، إذ كان . للـذيـن اسـتـشـهدوا أكاليل مجد لا تفنى و يتمهل على العالم الوثني حتى يستنفذ كل قواه ، وفي نفس الوقت وفي هذه الظروف المعاكسة نشطت حركات إيمانية قوية في العالم  المسيحي ارتـوى منها العالم، ولا يزال يرتوي، كأنما دقلديانوس وغيره من الطغاة الذين الأجيال عبارة عن فيضانات مخربة خلفت وراءها تربة خصبة أشبعت العالم كل الأجيال.

وهـكـذا ، وحتى لـو أفـسـد الإنسان طريقه فعقابه يتحول إن آجلاً أو عاجلاً إلى خير وارتقاء للبشرية من حوله، والله دائماً هو الغالب لخير الإنسان.

وقـد تـوجـد حالات فردية حصل للإنسان فيها نوع من العقاب بسبب التجديف على الله أو إنكار عمله أو الكذب عليه ، كهيرودس الذي لم يعط المجد الله أو حنانيا وسفيرة أو سـمـون الـساحر… إلخ ، هذه جميعها لا نرى العقاب فيها نوعاً من الإنتقام ، حاشا لله ، فالله غير منتقم بالشرور، بل هو قضاء شكلي مؤقت يعطي صورة لحقيقة القضاء النهائي في إلغاء ما هو سلبي لحساب ما هو إيجابي.

قدرة الله الفائقة وأعماق حكمته اللانهائية ، لا يمكن الإلمام بها بالعقل :

حقاً إن عـقـل الإنسان أداة صالحة لمعرفة قدرة الله الفائقة وحكمته اللانهائية في الـكـون ، ولكن لا يمكن أن يصلح للإحاطة بها ، لأن العقل « جزء » من عمل قدرة الله وحكمته ، وليس «كلا» ، ولذلك فإن دائرة معرفته تنحصر في دائرة ما يدركه فقط ولن تـتـعـدى يوماً ما يفوق إدراكه ، وواضح أنه توجد أشياء حتى في العالم المادي تفوق إدراك الإنسان، كمنشأ الحياة مثلاً، أو ماذا تؤول إليه الحياة بعد الموت؟

وحتى مـا هـو في دائرة إدراك الـعـقـل البشري لن يستطيع الإنسان أن يدرك منه إلا ظـواهـره وسلوكه ، أما ناموس العلة فهو أصعب من أن يفحصه العقل . فالإنسان يعرف كيف يحيا النبات وكيف ينمو، ولكن لماذا يحيا النبات ؟؟ ولماذا ينمو؟ هذا وكأنما له إرادة قوية ملحة تدفعه من التربة وترفعه عالياً ضد قوى الجاذبية الأرضية الشديدة . كذلك نحن نعرف كيف نفكر ونسلك ونتكلم ونعمل ونحيا ، ولكن لماذا نحيا ؟ هذه هي معضلة الفلاسفة التي لم يقو عقل بشري على الإفصاح عنها . وهكذا مهما تعمق الفكر البشري في الخليقة لفحص دقائق الكون والخلائق فهو لن يكتشف إلا النواميس التي تحيا بمقتضاها إن كانت حية أو خواصها الطبيعية إذا كانت جامدة .

 فـالـعـلـم يستطيع أن يتوصل إلى تحليل كل شيء ومعرفة ما فيه من قوة كامنة ، وهو يحلل أدق ذرة في الوجود و يكتشف خواصها و يستخدم قدرتها الكامنة فيها ، سواء للخير أو للشر، ولكن لن يعرف لماذا خلقت الذرة ؟ ونحن لا نستطيع أن نقلل من قيمة ناموس العلة بالنسبة لناموس السلوك ، فمها اكتشفنا من القوانين التي يسير عليها العالم، ومها اسـتـخـدمـنـا مـن خـواص المواد التي نفحصها ونحللها، ومها عرفنا من صفات وطبائع الخلائق الحية، ثم أخفقنا في معرفة لماذا خلق العالم وما فيه ، ولماذا خلقنا نحن ، فإن كل معـرفـتـنـا الأخرى تبقى ناقصة، بل وتصير فاقدة لأهم عنصر في مفهوم الإدراك وهو: علة وجـودهـا. مما يشكل سبباً من أسباب تعطيل سعادة الإنسان في حياة هذا الدهر. ولن يستطيع العقل أبدأ بالرغم مما فيه من معرفة وحكمة أن يدرك من فحصه الخاص للأمور المادية ناموس العلة أو بالحري مقاصد الله في الخليقة. 

إذن ، فلا نـنـتـظـر أن تـوصلنا معرفتنا بالأمور إلى معرفتنا لقدرة الله وحكمته ، ولكن العكس صحيح ، فإيماننا بقدرة الله الكلية وحكمته تهيىء لنا بالتأمل في الخليقة اكتشاف الحق الذي تقوم عليها أعمال يديه ، فيزداد الإيمان بقدرة الله و يزداد اليقين بكل وعوده .

فبالرغم من أن مشيئة الله في جوهرها المطلق غير مفحوصة كما يقول الكتاب :
+ « يـا لـعـمـق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الإستقصاء . لأن من عرف فكر الرب . » ( رو11: 33 و 34 )

+ « الحكمـة المـكـتـومـة … لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر. » (1کو2: 7و8)
 + « لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه . » ( 1کو16:2)

وذلـك مـن جـهـة إمـكـانـيـات الإنسان الشخصية ، إلا أن جميع أعمال الله ومشيئته مفحوصة بواسطة روح الله و بالإيمان به :

+ « الحكمـة المـكـتـومة … الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله … أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله … فأعلنه الله لنا نحن بروحه. » ( 1کو2: 7 و10و11).
+ « إذ عرَّفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه.» ( أف1: 9)
+ « إن لم تؤمنوا فلن تفهموا . » ( إش7: 9 الترجمة السبعينية )
+ « من أجل ذلك … لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي . » ( کو1: 9)
+ « لأن الأرض تمتلىء من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر . » ( حب 2: 14).

وهـكـذا نرى أنه لا يصح الإعتماد على الفحص العقلي لتقرير كنه الإيمان بقدرة الله الـفـائـقـة وحكمته ، وكذلك فإن هذا العجز الذي يصطدم به العقل في فهمه لناموس علة الموجودات هو سبب كاف ليكون الإيمان أساس التفكير لبلوغ إدراك الله وليس الفحص العقلي وذلك أمر حتمي حتى يكفل للإنسان سعادته بالله وامتداده في معرفة الحق وأسرار الحياة والإحساس بالوجود وعلته .

زر الذهاب إلى الأعلى