الخطية التي صلبت المسيح

للأب أنتوني كونيارس

(مر10: 32-45)

شخص ما سأل البائع في أحد المولات الكبرى: “ما هو شعورك تجاه شخص يملك كل شيء؟” فأجابه: “الحسد. ليس شـيء سـوى الحسد!”

الحسد والغيرة توأمان متشابهان ولو اختلفا، ويسيران في حياتنـا وهما متشابكا الأيدي. ومثل خطايا الكبرياء والغضب، فالحسد خطيـة لها باع كبير في حياتنا، وقل من ينجو من براثنها، والـذي يقـول: “لا توجد ولا شعرة حسد في حياتي” هو كاذب، لا تصدقه، هو بياع كلام لا أعمال. 

عندما طلب يعقوب ويوحنا تلميذا الرب يسوع أن يجلسا واحد عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته، هاج التلاميذ العـشرة الآخرين حسداً وغيرة.

نلاحظ في الأناجيل كيف كان بطرس الرسول يغـار مـن القديس يوحنا الذي كان شاباً وكان ذا معزة خاصة لدى يسوع. ذات يوم، بعد أن قال الرب لبطرس عن الطريقة التي سيموت بهـا،  نجده يشير إلى يوحنا ليسأل الرب: «وهذا ما له؟» أعطى الرب إجابة خاطفة ومفيدة لبطرس فقال له مطلوب منك أمران:
(1) أن تهـتم بعملك الشخصي: «ماذا لك؟»
و (2) «اتبعني» (يو21: 21و22).
هذه نصيحة لطيفة وجيدة لكل الذين ينشغلون بالآخرين وبما
يخصهم.

كان الفتى يوسف ذا أخلاق حميدة ورفيعة، ولكـن هـل تتذكر كم كان إخوته يبغضونه؟! «أبغـضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام… ازدادوا أيضاً بغضا له من أجل أحلامـه ومـن كلامه… فحسده إخوته… وقالوا هلم نقتله… ثم جلسوا ليأكلوا طعاما» (تك37). نظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، ماذا كانت النتيجة؟ اغتاظ قايين جدا وسـقط على وجهه، وقام على هابيل أخيه وقتله (انظر تـك4: 1-16). أرأيت نتيجة الحسد؟ القتل. عندما وقف الرب يسوع أمـام بيلاطس للمحاكمة، كان الحسد هناك، وكان بيلاطس متألما بشدة لأنه أدرك وجوده. يقول الكتاب: «لأنه عرف أن رؤسـاء الكهنة قد أسلموه حسدا» (مر15: 10). عندما رأى قادة الدين اليهود أن أساس قوتهم وتأثيرهم على الناس يقطعه الرب يسوع من جذوره، وأن الجموع أخذت تتبعه، انتابهم الهلع وقرروا أن ينهوا عليه بأي طريقة. هذا ما يؤدي إليه الحسد، القتل!

ما هو الحسد؟

موقف الشخص الحاسد من الآخرين هو: “لا أريد أن تمتلكوا ما هو لكم. ما دام ليس عندي، فلماذا تمتلكونه أنتم؟

قصة:

توجد قصة قديمة عن شخص حسود، فكـان يتطلـع إلى نجاحات وإنجازات جاره بعين حاسدة، وذات يوم صـرخ بصوت عال: “لو نالني هذا النجاح والغنى، سأكون سعيدا!” وفجأة ظهر له ملاك وقال له: “ها أنا بين يديك لأعطيك ما تريده، ولكن بشرط واحد”. فسأله بترقب شديد: “وماذا يكون هذا الشرط؟”
قال له الملاك: “في كل مرة تأخذ شيئا، سأعطي جارك ضعفاً. إن أعطيتك مليون دولار، فسأعطيه للتو مليونين”.
وإذ بسحابة من الوجوم تغطي وجه الرجل المكفهر، فقد انتابه الحسد من جاره الذي سيحصل على مليوني دولار انه مع لم يحصل بعد على أي شيء. وبعد أن فكر بتمعن قال للملاك وهو حـزين: “هذا ليس عدلاً، لماذا يحصل جاري على ضعف كل ما أحصل عليه؟ هذا سيفسد كل شيء”. ترك الملاك الرجل آسفاً وهـو غارقا في حسده.

القصة ليست بعيدة جدا عنا، فجميعنا لنا نفس ميول ذلك الرجل الحسود.

الحسد يقتل صاحبه:

قصة:

توجد قصة يونانية عن رجل قتل نفسه مـن الحـسد. أقـام المواطنون تمثالاً لواحد من ذويهم حصل علـى عـدة بطـولات في المباريات الأولمبية، ورفع شأن أمتهم. كان يوجد رجل يتنافس مـع الشخص الأول في البطولة، وإذ تملكه الحسد واستولى علـى كـل مشاعره، صمم على أن يدمر التمثال عن آخره، فكان يمضي كل ليلة في الظلام ويحاول بإزميل أن يقوض التمثال من أساسه، وفي النهايـة نجح في إسقاط التمثال، وسقط التمثال فعلاً، ولكنه سقط على هذا الحسود، ومات ضحية لحسده!

قصة:

توجد قصة عن صورة زيتية تبين كيف أن الحسد قاتل. يوجد على جدار إحدى الكنائس في بادوا Padua، المدينة القديمة في شمال شرق إيطاليا، صورة زيتية من عصر النهضة للفنان جيوتو Giotto وصور الفنان فيها الحسد بآذان طويلة يمكنها أن تسمع أصغر الأخبار عن نجاح شخص آخر. كما جعل للحسد لسان أفعى لتسمم سمعـة الشخص المحسود. لكنّك إن نظرت بعناية على اللوحة، ستجد أن اللسان يلف إلى الخلف ويلدغ عين الصورة نفسها. لا يصور جيوتو الحسد كأعمى، لكن أيضا هادما نفسه بشره السام المميت. الحسـد يجلب دائما الضرر للشخص المغتاظ الذي يقيم فيه.

كان الحسد من ضمن الخطايا التي كانت تهدد وتؤذي كنيسة كورنثوس. انقسم الناس في هذه المدينة إلى شيع لأنهم كانوا غيورين من مواهب بعضهم البعض، وكان كل مؤمن يناضل ليحصل علـى الصدارة، لذلك حثهم القديس بولس وحضهم أن يتبعوا: “طريقـا أفضل ـ الذي هو المحبة” (1كو12: 31). وقال لهـم: «المحبـة لا تحسد» (1کو13: 4).

أداة الشيطان الماكرة:

الحسد هو أحد أدوات الشيطان الماكرة والمنتشرة.

تحكي قصة عن شيطان كان يعبر الصحراء الليبية عندما تقابل مع بعض أتباعه وهم مجتمعون ليجربوا متوحداً قديساً، وحاولوا أن يسقطوا المتوحد في خطايا الشهوة، ولكنّهم لم يفلحوا، فقـد ظـل صامداً. وأخيراً بعد أن تحققوا من فشلهم، همس الشيطان لأتباعـه وهو يقول:

“ما تعملونه مع المتوحد هو أمر بسيط غير مجدي، أعطـوني فرصة لحظات، ثم همس في أذن المتوحد وقال له: “أخوك سيم للوقت بطريركا للإسكندرية”. وللحال انغلب المتوحد من الحسد. عندئذ قـال الشيطان لأتباعه: “هذا ما أريدكم أن تنتبهوا لأجله، وليكن سـلاحكم المفضل”.

يبدو أن هذا هو ما أوصى به الشيطان، ونحن صرنا نتبعه مجددا، لنسقط ضحايا الحسد منذ ذلك الوقت.

قال شيخ:

ليس شيء من الخطايا يستمر وجوده بالفعل في الإنسان سوى الحقد والحسد. فإن القاتل مثلاً يكون زمان مباشرته بالفعل لخطيئـة أقل بكثير من زمان تركه لها. وكذلك الزاني والسارق وغيرهم، أما الذي يحسد ويحقد، فإنه إن كان جالسا أو راقدا أو ماشيا، أو متكلّما أو ساكنًا أو متكلّما، أو في سائر حالاته وأوقاته، فالحسد لا يـزال ملازما له يهري في قلبه. مثل هذا الإنسان صلاته باطلة، لأنه يطلب الغفران وهو لا يغفر حتى ولو سفك دمه كالشهداء، لأن الرسـول يقول إن هذه كلها بلا قيمة بدون محبـة، و: «المحبـة لا تحسد» (1کو13: 4).

الغيرة تحدث حينما يوجد تنافس على الحب؛ أما الحسد، فهـو مجرد الرغبة في امتلاك شيء يخص شخصا آخر. قد تحــد شـخـصا بسبب رونق منـزله دون أن تغار منه، ولكن في حالة الغيرة لابد مـن تواجد محبوب للشعور بالغيرة. هذا هو السبب الذي لأجله كثيرا ما نجد آيات في الكتاب المقدس تتحدث عن غيرة الله علينا، عندما يجدنا، نحن الذين يحبنا نمنح ولاءنا لآلهة كاذبة غير حقيقية.

علاج الحسد:

ألا يوجد علاج للحسد؟ أنظل نبقى ضحاياه، ونتركـه ليـدمر حياتنا وحياة الآخرين؟ بلى! يوجد علاج.

(1) أول جزء في العلاج هو التعاطف empathy، أي اندماجنا ذهنيا في روح الآخر، ووضع أنفسنا في مكان الآخر بأن نتبنى شعوره بقدر ما نستطيع. عندما نسمع عن عازف كمان يعزف جيدا، فبدلاً من أن نحسده على فئه برغبتنا أن نصير مثله، ندع موسیقی الكمان تصبح موسيقانا أيضا. التعاطف هو القدرة على جعل خبرة الآخر كأنها لنـا. وبهذا تُثرى الحياة وتكمل وتمتلئ دون أن نُفسح مكاناً للحسد.

(2) الشعور بالدونية:

قال بليني Pliny مرة: “الحسد، أينما يكمُن ويستقر، يُلمح إلى حساس واعٍ بالدونية”. نحن نحسد الآخرين لأننا نشعر أننا أدني منـهـم. العلاج لمثل هذه الدونية التي تلد الحسد يقع في أن نحصي البركات الـتي وهبنا الله إياها كل يوم، وأن نتحقق أنه يوجد شيء، على الأقل شـيء واحد يمكننا أن نعمله بجدارة. قد لا يكون الله قد أعطى كل واحد منّا نفس عدد الوزنات، ولكنه أعطي بالتأكيد لكل واحد، علـى الأقـل، وزنة واحدة. تذكر ما قاله السنجاب الصغير للجبل الكبير: “لا أستطيع أن أحمل الغابات على ظهري، ولكن لا يمكنك أنت أن تكسر بندقـة”. ستكون هناك خطورة قليلة من الحسد إن استطعنا أن نكتـسـب عـادة إحصاء بركات الله لنا يوميًا.

(3) هل ترى الجروح التي في الداخل؟

سؤال هام يجب أن نسأله وهو: “هل تعرف الشخص الـذي تحسده جيدا؟ هل تعرف أسرار اهتماماته أو أتعابه أو جروحه؟ هل تعي أو تدرك شيئا من صراعاته الداخلية؟” هل صليت بحـب لأجلـه؟” إن فعلت ذلك، فقد تستطيع أن تدرك شيئا مما يصطرع داخله، بينما أنـت تحسده على ما تراه من الخارج.

قصة:

تقابل صاحب بنك مع بستاني، وبعد أن افترقا ومضى كل واحد في طريقه، تمنى البستاني أن يصير صاحب بنك، ليكون غنياً وسعيداً. وكان يقول في نفسه: أجلس هناك على كرسي مريح أمام مكتبي. وبسبب أهميتي يأتي إلي أصحاب الأعمال، مع اتصالات تليفونية كثيرة. ولكن البستاني لم يكن يعلم ما يدور في عقل صاحب البنك. في نفس الوقت كان صاحب البنك يحسد البستاني على وجهه الأسمر اللامع من تعرضه للشمس أثناء عمله، وعلى عينيه المتألقتين اللامعـتين، وعلـى حيويته وخطواته الواسعة، وكان يتنهد في داخله ويقول: “آه، ما أروعه عملاً أن تشتغل وسط الأشجار والزهور، وأن تستنشق هواء نقياً، وألاَّ تنشغل بكلام وثرثرة الناس التي لا تنتهي!”

إذا ما انتابك فكر أن تحسد شخصاً، اسأل نفسك هذا السؤال: هل يصح أن أحكم عل آخر من خلال الأمـور الخارجيـة دون أن أعرف ما يجري في أعماقه؟

(4) أعضاء بعضنا بعضاً:

علاج رابع للحسد هو أن تتحقق من أن الله خلقنا لنكون أعضاء جسده. وكما أن أعضاء جسدنا البشري تحتاج إلى بعـضها البعض، هكذا أيضا أعضاء جسد المسيح. نحن نحتاج كل إلى الآخر، نحن نعتمد بعضنا على بعض.

قصة:

تُوضح إحدى الأساطير حقيقة ما ذكرناه، فتقول إن أعـضاء الجسم عملت لقاء ذات يوم، وقررت أن تعمل إضرابا لأن المعـدة في أنانية تحصل على جميع الطعام بينما تقوم باقي الأعضاء بالشغل. ولكـن بقية الأعضاء اكتشفت أنه إذ لم يوجد طعام في المعدة، فلن يمكـن لأي عضو أن يؤدي وظيفته. وتستنتج القصة في ختامها أنه حتى ولو المعدة تشتغل بطريقتها الكسولة الهادئة، إلا أنها ضـرورية في عملـها لصالح الجسم كله، وأن جميع الأعضاء لابد أن تعمل معا وإلا لتمـزق الجسد إلى قطع. بدلاً من أن تحسد الشخص الآخر، اقبلــه كعـضو في جسد المسيح، هذا العضو الذي يؤدي العمل الهام الموكل بـه مـن الله لصالح الجسم كله. القناعة وليس الحسد هو نموذج حياة أولاد الله.

(5) صرخة حب:

إن وضعت صليبا حول رقبتك، تطلع إليه لوقت ما وقُل: “الرب يسوع يحبني، وصلب لأجلي!” قد تجد في هذا علاجا ناجعا للحسد.

(6) الصلاة:

مثل أي خطية، لا يمكن للحسد أن يقهر بدون معونة الله. نحتاج أن نحني ركبنا كل يوم ونصلي مترجين قوة الله.

قصة:

كان هناك كاهن في لندن، وكان عدد المصلين في كنيسته قليلاً، في مقابل الكنيستين المجاورتين اللتين لم يكن فيهما مكان لقدم. اعترف الكاهن أن الحسد أخذ يأكل فيه، فالتجأ إلى الله في صلاته، وأخذ يصلي من أجل الكنيستين ومن أجل خدامهما. ما حدث أن ازداد النشاط في الكنيستين حتى لم يعد مكان للمصلين، الذين فضل الفائض منـهم أن يذهبوا إلى كنيسة الراعي الأول ليملأوها. وهكذا بطريقة غريبة، ونتيجة لقوة الصلاة امتلأت الكنائس الثلاث.

(7) الله يطرح الحسد:

يكتب القديس بولس: «المحبة لا تحسد» (1کو13: 4). تهزم الحسد. عندما بدأ الرب يسوع خدمته العلنية، ترك الجمع الكبير القديس يوحنا المعمدان وتبعوا يسوع، لم تكن هناك غيرة أو حسد، بل قال المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأنّي أنا أنقص» (يو3: 30). حيث يوجد الحب يوجد الفرح والسرور بنجاح الآخر كما قال القديس أنبا أنطونيوس. لم يحسد القديس يوحنا المعمدان الرب يسوع، لماذا؟ لأنـه كان يحبه محبة شديدة حقيقية ومؤثرة.

(8) من تحسد؟

أخيرا، إن كان لابد لك أن تحسد فاسمع مني هذه النصيحة: “لا تحسد أصحاب المليارات الناجحين، ولا المغنين والمغنيات، ولا الممثلين والممثلات، فربما لدى البعض أمراض بالفرح أو الأورام أو يذهبون إلى الأطباء النفسيين، ولكن أريك من تحسد. احسد الذي اكتشف السلام الذي لا يقدر العالم أن يعطيه. احسد الذين سلموا حياتهم بالكمال إلى عناية الله المحبة التي تهتم بهم. احسد الشيخ الذي على وجهه نور الحياة الأبدية. احسد الشخص الذي يقضي أيام غربته على الأرض وهو واثق في غفران الله في دم يسوع المسيح. احسد من يقدر أن يقول بأمانة مع بولس الرسول: «تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه» (في4: 11).

والحسد في الأمثلة السابقة هو بالمعنى الإيجابي، أي تتمنّـى أن تكون مثلهم، وتقتني النعمة التي اقتنوها في حياتهم.

الشخص المحتاج إلى رثاء وشفقة هو ذلك الحسود، لأنه يحيـا في الجحيم، والشخص الواجب أن يحسد هو ذاك الذي مسرته وفرحه في أن يخدم الآخرين. مثل هذا الشخص يذوق من الآن بركات السماء. الرب يسوع، الذي صلب حسدا، مات ليحررنا من قيود الحسد المميت، وليعطينا حياة جديدة خالية من الحسد. تعالوا لنتوب عن خطية الحسد المريعة التي تهدد وتهدم سلامنا. ليتنا نسجد أمام صليب الـرب يسوع ونُصلّي:

< صـلاة >

أيها المسيح، الذي صلبت لأجل خطية الحسد،
اغفر لي حسدي واشف قلبي الغيور.
املأني بمحبتك التي تطرح الحسد خارجاً،
وتجعلني راغباً أن أخدم جاري في محبة.
لك كل المجد مع أبيك الصالح والروح القدس،
إلى الأبد. آمين.

فاصل

لماذا الألم؟ كتب الأب أنتوني كونيارس رؤى عظيمة 
كتاب لقاء مع الرب يسوع في الأناجيل – ج1
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى