يو٣: ٤ قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟…
“1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ». 3أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ:«كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» 5أَجَابَ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».” (يو3: 1-8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“قال له نيقوديموس:
كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟
ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟” (4)
جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة.
صُدم نيقوديموس بحديث السيد المسيح عن الميلاد الجديد، فقد كان نيقوديموس كغيره من الإسرائيليين يعتزون بمولدهم من أبيهم إبراهيم، ونسبهم لشعب الله، وتمتعهم بالأنبياء، والوعود الإلهية، والعهد الإلهي، والهيكل الفريد بكل طقوسه. إنه ليس فقط إسرائيليًا بل وكان فريسيًا، فأي ميلاد أفضل يريده له يسوع؟ كان اليهود ينتظرون في مجيء المسيا أن يُقبل الأمم على الإيمان ويولدون من جديد، أما بالنسبة لهم فليس من مولد أشرف مما هم عليه. إنهم يعتزون بنسبهم وميلادهم ويصعب بل يستحيل أن يسمعوا عن مولد آخر.
مع هذا كله فإن نيقوديموس لم يعطِ ظهره ليسوع بل تساءل لعله يدرك أمرًا جديدًا كان ينقصه معرفته. كشف نيقوديموس، المعلم والرئيس، عن تواضعه واستعداده للتمتع بأية معرفة صادقة أو إعلان سماوي ينقصه، حتى وإن كان الأمر يبدو حسب معرفته مستحيلاً. إنسان عجيب، فمع خبرته الطويلة الممتدة عشرات السنوات، ومع مركزه كقائدٍ له تقديره، ومع الجو الفريسي الذي يعيشه انحنى ليتعلم شيئًا جديدًا. إنه مثل رائع لكل قائد حقيقي ألا يتشامخ بما تعلمه، بل يبقى تحت التعليم حتى آخر نسمة من حياته. وكما يقول الأسقف القديس أمبروسيوس أنه لا يوجد كائن لا يحتاج إلي التعلم سوي الله.
v لقد جاء نيقوديموس إلى المسيح كمن يجىء إلى إنسان، فسمع أقوالاً أعظم من أن تُسمع من إنسانٍ. نعم ولا سمعها أحد قط، فلبث يثب في لحظاتٍ إلى علوها عاجلاً، إلا أن فهمه أظلم، وصار غير ثابت، محمولاً من كل جانب، ساقطًا على الدوام من الإيمان. لذلك صمم على تأكيد استحالة ذلك، وكأنه قد حث السيد ليوضح تعليمه، فقال:: “ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويُولد؟“,,, سمع نيقوديموس عن الميلاد الروحي لكنه لم يتعرف عليه روحيًا، بل سحب الكلمات إلى اسفل دنو الجسد، وجعل تعليمًا عظيمًا كهذا يعتمد على براهين جسدية.
وهكذا أوجد مصاعب تافهة وسخيفة. لذلك يقول بولس: “الإنسان الطبيعي لا يقبل ما للروح” (1 كو 2: 14). ومع هذا فقد حفظ نيقوديموس الاحتشام والتوقير للمسيح، لأنه لم يسخر بما قيل له، لكنه سكت ظانًا أنه أمر ممتنع، وقد حدث له شك في أمرين هما: الولادة التي من هذا النوع، والملكوت، لأن اسم الملكوت لم يُسمع عند اليهود في وقت من أوقاتهم، ولا ذُكرت ولادة معناها كهذه، إلا أنه وقف متفكرًا عند الأول منهما وهو الولادة التي من فوق التي أدهشت عقله تمامًا.
v عرف هذا الرجل ميلادًا من آدم وحواء، أما الذي من اللَّه والكنيسة فلم يعرفه. لقد عرف فقط هذين الوالدين اللذين يلدان للموت، ولم يعرف اللذين يلدان للحياة. لقد عرف الوالدين اللذين ينجبا خلفًا لهما، ولم يعرف الوالدين الدائمي الحياة اللذين يلدان من يقيموا (على الدوام). يوجد ميلادان: ميلاد من الأرض، والآخر من السماء، واحد من الجسد، والآخر من الروح، واحد قابل للموت، والآخر أبدي، واحد من ذكرٍ وأنثى والآخر من اللَّه والكنيسة، أما هو ففهم ميلادًا واحدً فقط.
v كما لا يوجد تكرار في الميلاد من الرحم، لن يوجد أيضًا من المعمودية.
تفسير الأب متى المسكين
4:3- قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».
الحقيقة هنا أن نيقوديموس لا يدعي الجهالة ولا يتوقع بالسخرية على عقيدة الميلاد الثاني، بل هو بكل صدق وأمانة يصور مدى الصعوبة البالغة، التي تبلغ مدى الإستحالة، كون الإنسان ينجح في أن يحصل على بداية حياة جديدة بميلاد جديد. وهذا التصوير, غير المبالغ فيه, أن الميلاد الثاني يساوي دخول شيخ في بطن أمه ثانية ويولد، هو محاولة منه ليدفع المسيح «كمعلم بالحق» أن يشرح له كيف يكون هكذا أو ما هي الوسيلة التي بها يمكن للانسان أن يولد ثانية؟ وهذا رة عليه المسيح ردا مباشراً عل فكره هكذا.
وليلاحظ القارىء أنه كما أن المسيح ابتدره بقوله: «إن لم يولد الإنساذ ثانية (أو من فوق)»، هكذا كان رد نيقوديموس صحيحاً ومناسباً: «كيف يولد»؟ وأضاف من عنده تصوره عن استحالة الأمر.
وليتمهل القارىء على هذا الفريسي العاتي، ليدرك أعماق إجابته. وعليك أن تتصور معه إنساناً ذا ماض طويل وعريض في التكيف بالعالم والناس والتعود على عادات وأفكار وسلوك مدى ستين سنة مثلاً، كيف يتخطاها، كيف ينساها، كيف يجعلها كأنها لم تكن ليبدأ من جديد وكأنه ما عاش هذه السنين، كيف؟
ثم صبراً جميلاً، وفرضاً أنه أمكن أن يمحو هذا محواً وكأنه لم يكن؛ ولكن كيف تبقى له «نفسه» هي هي التي سيبدأ بها، لأن النفس معجونة بصور الحياة منذ أن يعرف الإنسان نفسه، بل انطباع الأيام وحوادث الدهر تختزنها النفس أكثر مما يختزنها الجسد ألف مرة!!! لاحظ أن نيقوديموس يتكلم من عمق أعماق نفسه ومن طول حياته وخبراته التي ما جاء إلى المسيح إلا لكي يعدل فيها ويصحح، ولكن أن يلغيها كلها فهذا أمر جد خطير وغير وارد.
ثم لا تسخر من رد نيقوديموس كونه يصور ونفسه وهو يدخل بطن أمه، فهذا هو الجزء الأقل في المشكلة، لأن الجزء الأكبر هو «النفس»، نفسها، كيف يعطيها بدءاً جديداً. فإذا استحال على الشيخ دخول بطن أمه ليولد من جديد، فالإستحالة الأكبر أن يدخل داخل نفسه ليلغي ما صنعته السنين وما خطه الدهر فيها. وبهذا يكون نيقوديموس قد صور, دون أن يدري, القيمة الفائقة للميلاد من فوق مع ما يحويه من غفران ومصالحة.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (4): “قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد.”
لم يفهم نيقوديموس ما قاله المسيح وأعلن عن عجزه على الفهم. وكما أنه من الصعب أن يدخل الشيخ العجوز لبطن أمه، كان صعباً على نيقوديموس أن يتقبل فكرة الميلاد الثاني بعد أن قضي عمره لا يفهم سوى البر الذاتي. [المسيح يتكلم عن ملكوت الله كخليقة جديدة ونيقوديموس يصر على تكرار القديم (الولادة الجسدية)] المسيح لا يغير الظروف الخارجية بل هو يعيد تغيير الداخل ويخلقه جديداً.