بين الإيمان والرؤيا

 طوبى للذين آمنوا ولم يروا 

لا يزال عالقاً في أذهان كثير منا أن الإنسان الذي يكشف الله ليرى ملائكة وقديسين أو شخص الرب نفسه، يكون ذا امتیاز فائق، ومن أجل هذا تلتهب قلوبنا في شوق ورجاء كثير كل يوم أن نؤهل لرؤية وجه الرب أو أن نقترب إلى استعلانه لنستمتع بأقصى سعادة نتصورها.

وفي الحقيقة لم يترك الرب لنا هذا المجال بهذه الصورة المحزنة ، والتي يبدو فيها الحرمان من رؤية المسيح هو في الغالب الصورة العامة بين المؤمنين.

لذلك حرص الرب عندما شك توما في قيامته من بين الأموات أن يوضح له ولنا أن إمكانية الرؤيا لقيامته ولشخصه أمر میسور ، وهو يعطيه لمن يشاء ، وقتما يشاء بحسب الحاجة الماسة إلى هذا الاستعلان.

وعلى أساس ذلك ظهر الرب في اليوم الثامن من قيامته خصيصاً لتوما، وأعطاه كل ما ألح عليه حتى يكتمل إيمانه ويكتمل إيمان الرسل جميعاً الذين ستوضع عليهم مسئولية الكرازة ، فقال له : هات أصبعك یا توما والمس جروحي ، وهات يدك وضعها في جنبي « ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً » ، ثم استطرد الرب مباشرة دون أن يوبخ توما على هذا التخاذل في الإيمان بقيامة المسيح ، ووضع شروط الرؤيا العينية واللمس باليد للإيمان – قائلا : « لأنك رأيتني يا توما أمنت ، طوبي للذين آمنوا ولم يروا » .

وهنا يقصد الرب ب « الذين أمنوا » ، التلاميذ والأحباء في ذلك الوقت أو من جميع الأجيال الذين سوف تمتد بهم الأيام إلى أواخر الدهور . هنا نجد : الرب يوافق على الرؤيا العلنية والملموسة أيضا لقيامته ، ولكن يعود ويضع الإيمان بدون رؤيا على مستوى أعلى.

وهذه في الحقيقة يمكن أن نعتبرها بكل يقين وثقة آخر وأعظم طوبي أو بمثابة ختام النعمة العظمى التي منحها المسيح للكنيسة ، فقد منح الرب قبل الصليب ثماني تطويبات لمختاريه ( في إنجيل القديس متي ) ، وأضاف عليها سبعة تطويبات أخرى في مناسبات أخرى ، وأبقى هذه الطوبي بعد القيامة ليمنحها لكنيسة الدهور الآتية كلها : « طوبي للذين آمنوا ولم يروا».

ونحن نسأل لماذا أعطى المسيح التفوق للإيمان به بدون رؤيا على الإيمان به الذي تم بالرؤيا على مستوى توما ؟

هنا المسيح لا يتعطف على المستوى الأقل ( الإيمان بدون رؤيا ) ، ويعطيه الطوبي لكي يساويه بالمستوى الأعلى ( الإيمان بالرؤيا ) ، ولكن المسيح أعطى الطوبي للإيمان بدون رؤيا على أساس أن الإيمان البسيط بشخص الرب يمكن أن يبلغ بالإنسان في كل الأمور المختصة بالله إلى حد متفوق جداً على الرؤيا . فهذا الإيمان البسيط الواثق بالمسيح يبلغ بالإنسان إلى قبول المسيح کاملاً و كلياً في ذاته « أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطان أن يصيروا أولاد الله ( فيه ) » ،  أي يصير شخص الرب في صلة قلبية داخلية دائمة في ضمير الإنسان تزداد كل يوم عمقاً واختباراً حتى تصل إلى حد صلة العروس بالعريس ، أي الاتحاد السري أو زيجة النفس بالمسيح ، حيث تصبح النفس مملوكة كلياً له ، فتصير النفس مع الرب روحاً واحداً « أما من التصق بالرب فهو روح واحد » ، حيث لا تعود النفس تحيا من ذاتها بل تحيا من المسيح وبالمسيح حتى إلى الدرجة التي يصير فيها المسيح هو الذي يحيا فيها .

هنا الالتصاق بالرب ، أو حياة الرب داخل النفس الذي يعبر عنه قي . بولس ، والذي سبق وعبر عنه الرب يسوع بالثبوت المتبادل فيه ، والحياة المتبادلة معه ؛ هذه الحالة من الاتحاد والحب ارتفع بها المسيح إلى درجة فائقة في سرالجسد والدم إذ جعلها تبلغ حد أكله وشربه . فليس هو التصاق وحسب بل اتحاد عمیق. هنا استعاض المسيح عن رؤيا العين ولمس اليد لجسد قيامته کواسطة للتحقق من شخصه أو لبلوغ حالة معرفة وإدراك له : “ربي وإلهي” ، استعاض عنها بوسيلة أخرى مُتاحة للجميع وهي أن يعطي شخصه کله سراً و مجاناً لكل إنسان للإيمان به!! لا على أساس الرؤية بل على أساس تغميض العين وفتح الفم لنتناوله داخلياً بالإيمان بدون عیان « من يأكلني يحيا بي » ، « من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه » .

صلاة

أيها الرب القائم من الموت ، أرسل روح قيامتك ليُحرك قلوبنا الغبية في الفهم والإيمان ، لنقبل هذه الحياة الغنية والغزيرة .

یا رب ، یا من نزلت إلى الجحيم وفككت المسبيين ، انزل إلينا وأخرجنا من ضعفنا ووهمنا، وقدنا في موكب نصرتك بروح قیامتك.

نحن لا نريد رؤيا ولا إعلاناً ولا منظراً ولا أية موهبة إلا حركة الروح في قلوبنا ، فنعيش قيامتك بقوة وسلطان اسمك.

نحن لا نريد شيئاً لأنفسنا قط ، نريد كل شيء أن يكون لك وحدك ، وتكون لك القيادة والسيادة علينا وعلى كل الناس والأرض كلها .

نحن لا نريد أن نعيش أحراراً في تفكيرنا ، ولكن احصرنا بروحك القدوس لنننقاد لك أنت وحدك لنكون شهوداً لسلطان مُلكك علينا.

اقبل ، یا رب ، عهدنا أن نموت من أجلك كل النهار حتى نستحق أن حياتك تنمو وتزداد فينا بقوة وحكمة لا تُعاند.

یا رب ، يا من رفعت الغشاوة من عيون تلميذي عمواس حتى تحرك قلبهما واشتعلا بالنار ، اشعل قلوبنا بكلماتك اليوم لنقوم ونجري ونتحول من مسيرتنا العابسة العائدة إلى الوطن الأرضي ، إلى الانطلاق إلى البشارة المفرحة بتهليل مجد القيامة حتى النفس الأخير . آمين . 


من كتاب القيامة و الصعود ص ۲۸۷

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى