ترائي الحبيب للنفس وسكناه فيها
العظة الثامنة والعشرون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[هذه العظة تصف وترثي ماساة النفس ، أنه بسبب الخطيئة لا يسكن الرب فيها. وتتحدث عن يوحنا المعمدان أن ليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم منه]
[أ] ويل لنفس لا يسكن فيها المسيح
1- كما أنه لما غضب الله قديماً على اليهود ، أسلم أورشليم جهاراً إلى الأعداء، « وتسلط عليهم مبغضوهم »[1] ، وما عاد هناك لا عيد ولا تقدمة ؛ هكذا أيضاً حين غضب على النفس بسبب تعديها الوصية ، أسلمها إلى الأعداء ، أي الشياطين والشهوات ، وهكذا بعدما أضلوها بالتمام أهلكوها ، وما عاد هناك لا عيد ولا بخور ولا تقدمة مرفوعة من قبلها إلى الله ، وامتلأت مداركها بالوحوش الرابضة في الطرق ، وقبعت فيها زحَّافات الأرواح الشريرة . وكما أن بيتاً لا يسكنه سيده تُخيّم عليه الظلمة والذلة والبوار ويمتلی دنساً ونفاية ، هكذا أيضا النفس التي لا تقتني سيدها محتفلاً فيها معه ملائكته ، تمتلئ من ظلمة الخطيئة وخزي الشهوات وكل مذلة.
2- فويل لطريق لا يسلك فيها أحد ولا يُسمع فيها صوت إنسان ، فإنها تمسي مأوى للوحوش ؛ وويل لنفس لا ” يجتاز” فيها الرب ومن صوته تفر منها وحوش الشر الروحية! ويل لبيت لا يسكن فيه سيده ، وويل لأرض لا يكون لها فلاح يفلحها! ويل لسفينة لا رُبَّان لها ، فإنها تُحمل من أمواج البحر ولججه وتهلك ؛ وويل لنفس لا تقتني فيها المسيح ، الربان الحقيقي ، لأنها توجد في بحر مرارة الظلمة وتطمو فوقها لُجج الأهواء وتكابد عواصف الأرواح الشريرة، وفي النهاية تجلب على نفسها الهلاك! ويل لنفس لا يكون لها المسيح الذي يفلحُها باعتناء لتقدر أن تأتي بثمار الروح القدس الصالحة، لأنها تكون قفراً ومملوءة شوكاً وحسكاً وفي النهاية تحصد لنفسها ناراً مُحرقة ! ويل لنفس لا تقتني سيدها المسيح ساكناً فيها ، لأنها تكون خربة وممتلئة من نتن الأهواء ومباءة للشر!
3 – فكما أن الفلاح حين يذهب ليفلح الأرض ، يأخذ ما يلزم لفلاحته من أدوات وثياب ؛ هكذا أيضا المسيح، الملك السمائي والفلاح الحقيقي ، حين جاء إلى البشرية التي أجدبت جراء الشر ، لابساً الجسد وحاملاً الصليب أداة ، فلح النفس المجدبة ونزع منها شوك الأرواح الشريرة وحسكها، واقتلع زوان الخطيئة، وأحرق كل عشب خطاياها بنار، وهكذا بعد أن فلحها بخشبة الصليب ، غرس فيها فردوس الروح القدس ذا الجمال الكامل، الحامل لله سيدها كل ثمرة حُلوة ومُشتهاة.
[ب] الرب يتراءى روحياً للنفس الأمينة
4 – وكما أنه في مصر ، حين صارت ثلاثة أيام الظلمة[2]، ما كان الابن يرى أباه ، ولا الأخ أخاه ، ولا الصديق صديقه المخلص، ولأن الظلمة كانت تلفهم ؛ هكذا حين تعدی آدم الوصية وسقط من مجده الأول، وبات رازحاً تحت وطأة روح العالم ، وانسدل على نفسه برق الظلمة ، مُذ ذاك وحتی آدم الأخير ، أي الرب[3] ، ما كان الإنسان يرى أباه الحقيقي السمائي ، ولا أمه الصالحة الرؤوم ، أي نعمة الروح القدس[4] ، ولا أخاه الحلو المُشتهى ، أي الرب ، ولا أصدقاءه المخلصين له، أي الملائكة القديسين، الذين كان يفرح محتفلاً ومُعيداً. وليس فقط حتى آدم الأخير ، بل الآن أيضا أولئك الذين لم يشرق عليهم المسيح ، شمس البر، ولم تنفتح عیون نفوسهم كي يستنيروا بالنور الحقيقي ، ما ينفكون تحت الظلمة عينها، ظلمة الخطيئة ، ولهم فعل اللذات نفسه ، ورازحين تحت القصاص ذاته، ولا أعين لهم بعد تنظر الآب.
5 – فينبغي لكل واحد أن يعرف أن ثمة عيوناً أكثر إيغالاً من هذه الأعين ، وسمعاً أكثر إيغالاً من هذا السمع . وكما أن هذه الأعين تنظر على نحو محسوس وتدرك وجة الصديق أو الحبيب ؛ هكذا أيضاً أعين النفس المستحقة الأمينة ، إذ تستنير على نحو روحاني بنور إلهي ، تنظر وتدرك الحبيب الحقيقي، الختن الأحلي والمُشتهى جداً، الذي هو الرب ، لأن النفس يشرق عليها الروح القدس المسجود له. وهكذا حين تنظر عقلياً[5] الحسن المُشتهى الوحيد الذي لا ينطق به ، تنجرح[6] بالعشق الإلهي وتُقاد بالروح القدس نحو جميع الفضائل ، وهكذا تقتني حباً لا يُحد ولا ينضب نحو الرب مُشتهاها . فأي شيء أكثر غبطة من ذاك الصوت الأبدي الذي ليوحنا حين أشار إلى الرب أمام أعيننا ، قائلاً : « هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم » ( یو 1: 29 ) ؟
[ج] أعظم مواليد النساء ، ومن هم أعظم من
6 – بالحقيقة « ليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان »[7] ، لأنه هو كمال جميع الأنبياء . فجميعهم تنبأوا عن الرب مشيرين إليه من بعيد آتيا ، أما هو فحين تنبأ عن المخلص أشار إليه عياناً، صارخاً إلى الجميع وقائلاً: « هو ذا حمل الله » ( یو 1 : 29 ) . فكم هو حلو وحسن صوت ذاك الذي يشير مباشرة إلى من يبشر به! « فليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان ، لكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه »[8] . فالرسل المولودون من فوق ، من الله ، الذين نالوا باكورة الروح المُعزي ، هؤلاء استحقوا أن يحكموا مع المسيح ويجلسوا معه في عرشه[9] . هؤلاء قد صاروا منقذين للبشر ؛ فإنك تجدهم يشقون بحر القوات الشريرة ويعبرون بالنفوس الأمينة، وتجدهم فلاحين يفلحون كرم النفس ، وتجدهم أصدقاء للختن يُزوجون النفوس للمسيح ، كما يقول الرسول : «لأني خطبتكم لرجل واحد» ( ۲ کو ۲:۱۱ ) ، وتجدهم يُعطون حياة للبشر . وبالإيجاز فإنك تجدهم ، بأنواع وطرق شتی ، خادمين للروح القدس ؛ فهذا هو الصغير الأعظم من يوحنا المعمدان.
۷- لأنه كما أن الفلاح بمسكه زوجي البقر يفلح الأرض ، على ذات المنوال أيضا الرب يسوع ، الفلاح الصالح والحق، أقرن اثنين اثنين من رسله وأرسلهم ، فالحاً معهم أرض الذين يسمعون ويؤمنون بالحق. لكن يجدر أن يقال هذا أيضا : إن ملكوت الله وكرازة الرسل لم يكونا بكلمة السمع فقط ، كما لو كان أحد يعرف كلمات ويتحدث بها إلى آخرين ، إنما الملكوت يكون بقوة الروح القدس وفعله[10]. فإن هذا هو ما قد أصاب أيضاً بني إسرائيل ؛ فرغم أنهم كانوا يلهجون في الكتب على الدوام ، وكانت تأملاتهم – بحسب زعمهم – تدور حول الرب ، فلأنهم لم يقبلوا الحق ذاته سلموا إرثهم لأخرين ؛ هكذا أيضا الذين يتحدثون بكلمات الروح إلى آخرين دون أن يقتنوا هم أنفسهم الكلمة بقوتها، يُسلمون إرثهم لآخرين . والمجد للاب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمين .
- مز 41:106
- انظر : خر 22:10 ، 23
- ۔ انظر : 1کو 15 : 45.
- قارن هذا بما ورد في الرسالة الثامنة للقيس أنطونيوس ، الفقرة 1 : [ والآن فإن أمكم سارة التي هي الروح ، تفرح بكم . هذه التي أكملت حبلها وولدت روحاً إلهاً فيكم ، وتشتهي أن تكتملکم ۔ كما طلبت منها عنكم – بذلك الروح الناري العظيم ، هذا الذي قبلته أنا ؛ فاقبلوه أنتم أيضا ….]
- لنلاحظ تكرار أنبا مقار وتأكيده على تجرد هذا النظر الروحاني من كل ما هو ماي واقع تحت الحواس.
- استخدمت السبعينية هذا الفعل يجرح ، في آيتي نشيد الأناشيد اللتين تُصرح فيها العروس بأنها « مريضة حباً » ( نش 2 : 5 ، 5 :8 ) ، فتقول إنها “مجروحة بالحب”
- مت 11:11 ؛ لو 7 : 28.
- مت 11:11 .
- انظر : مت 28:19 ؛ لو 22: 30.
- انظر : اکو 20:4 .
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار