حاجتنا إلى حياة التقديس
“لأَنَّ هَذِهِ هِى إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ” (1تس 3:4)،
“كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّى أَنَا قُدُّوسٌ” (1بط 16:1).
هل القداسة معناها “العصمة” أو “اللاخطية”؟:
إن الإنسان غير معصوم من الخطأ، مهما كان قديسًا! لأنه مكتوب، بل هناك حقيقة تقول: “ليس مولود إمرأة يتزكى أمامك”. وهذا ما يتأكد من الآيات التالية:
– “لاَ تَشْمَتِى بِى يَا عَدُوَّتِى، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ” (مى 8:7).
– “الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ” (أم 16:24).
– “إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا” (1يو 8:1).
مفهوم القداسة
– ليست القداسة هى العصمة من الخطيئة، فلا أحد معصوم من الخطيئة، إلا واحد هو الله. ولكنها الجهاد ضد الخطيئة بكل الطاقة، بغية الانتصار عليها، ونزعها من القلب، فإذا ما سقطنا لا نيأس، لأن رجاءنا فى الله لا يخيب أبدًا.
– وفى هذا يقول معلمنا يوحنا: “يَا أَوْلاَدِى، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَىْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا” (1يو 1:2-2).
– إذن، فالمطلوب منا أن نجاهد حتى لا نخطئ، ولكن إحتمال وقوع الخطيئة وارد، والشفيع الكفارى موجود، طالما نقدم عن خطايانا توبة أمينة.
– وفى هذا يقول الآباء: “أليق بنا أن نموت فى الجهاد، من أن نحيا فى السقوط”.
– ويوصينا الكتاب أن نصرخ نحو الخطيئة قائلين: “لاَ تَشْمَتِى بِى يَا عَدُوَّتِى، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ، إِذَا جَلَسْتُ فِى الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِى” (مى 8:7).
– “وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ فِى كُلِّ شَىْءٍ” (1كو 25:9).
– المهم أن نقوم “لأَنَّ الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ” (أم 16:24).
هدف حياة التقديس :
الهدف النهائى من القداسة هو التخصيص والتكريس للرب، أى أن يكون كل الكيان الإنسانى للرب، فهو الذى أوصانا: “يَا ابْنِى أَعْطِنِى قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقى” (أم 12:23).. القلب لله، والملاحظة فى الطريق.. أى أن نحب الله من كل القلب، ولا يبقى فى القلب سوى الله، ملكًا وعريسًا محبوبًا للنفس.. وبعد ذلك يكون الجهاد سهلاً وميسورًا بالنعمة الساكنة فينا.. إذ تلاحظ عيوننا الطريق، ويسلك الإنسان بتدقيق: “تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ” (أف 15:5).. وكذلك يسلك بالروح “اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ” (غل 16:5).
وإن كنا فى المعمودية نتجدد بالروح، ونولد ميلادًا ثانيًا، فنحن فى الميرون نتقدس، ونتخصص، ونتكرس، ونتدشن هيكلاً مقدسًا لسكنى الروح “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1كو 16:3).
ثم يطلب منا الرسول أن نضرم روح الله الساكن فينا (بالميرون)، حتى يملأ كياننا، ويشبع حياتنا، ويقدس طبيعتنا.. فنثمر ثمر الروح: “مَحَبَّةٌ وفَرَحٌ وسَلاَمٌ وطُولُ أَنَاةٍ ولُطْفٌ وصَلاَحٌ وإِيمَانٌ ووَدَاعَةٌ وتَعَفُّفٌ” (غل 22:5).
– “وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِى بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ” (أف 30:4).
– “بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً” (عب 10:10).
– “يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَىْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ” (عب 12:13).
– “وَالْقَدَاسَةَ الَّتِى بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ” (عب 14:12).
– “لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا” (1كو 11:6).
القداسة – إذن – هى الجهاد ضد الخطية بقوة الرب، والإنتصار عليها بالمعونة السمائية، ثم رفضها وكراهيتها من كل القلب حينما نعطى القلب كله للمسيح، ثم تخصيص الكيان الإنسانى كله لله: الجسد، والنفس، والروح، والعقل، والوزنات، والصحة والجهد، والمادة.

تحديات القداسة
واضح أن الجيل الرقمى المعاصر، تتاح أمامه مصادر إثارة غير مسبوقة تشكل له تحديات كبيرة، فأمامه:
1- الشاشة الكبيرة : أى السينما، وما تقدمه من أفلام، أكثرها مرتبط بالغريزة، إما غريزة الجنس أو المقاتلة، أو على الأكثر حب الاستطلاع كأفلام الخيال العلمى.
2- الشاشة المتوسطة : أى التليفزيون، فمع أن هناك ضبط جيد لما يُعرض على التليفزيون الرسمى، هناك الآن فضائيات حرة للغاية، بل وأحيانًا إباحية التوجه.
3- الشاشة الصغيرة : وهى شاشة اللاب توب (الكمبيوتر)، وما أخطرها؟! وخطرها ينبع مما يلى:
⦁ أنها تشاهد إما على إنفراد أو مع مجموعة منحرفة من الشباب.
⦁ أنها تتيح فرصة الاختيار الشخصى، فالمشاهد يختار بنفسه من آلاف المواقع والملفات ما يريد هو شخصيًا.
⦁ أنها تتيح فرصة غير محدودة من التنوع والاختيارات، سواء من جهة المشاهد المتنوعة، أو عروض لعلاقات منحرفة.. الخ.
4- شاشة الموبايل : وهى أخطرها جميعًا، حيث تتيح – فى كل لحظة – نقل وتخزين
كل ما سبق، وأكثر، مما يجعل فرص الانحراف متاحة بصورة غير مسبوقة،
وعلى دائرة اتساعها هو العالم كله.
وهذا التحدى الذى يقود بعض أبناء الجيل الرقمى إلى نوعين من الإدمان:
⦁ إدمان الكمبيوتر Computer Addiction.
⦁ إدمان الجنس Sex Addiction.
وكلاهما مرض خطير، حيث يكون لدى المصاب به نـوع من “الاعتمادية” Dependence بمعنى أنه يعتمد على جرعـة خارجية من استخدام الكمبيوتر، أو ممارسة الخطيئة باللفظ، وبالسمع، وأحيانًا بالفعل!!.
لهذا فالحاجة إلى القداسة، والاقتناع بأهميتها، وبمكاسبها لحياتنا، على الأرض وفى السماء.. حاجة جوهرية للجيل الرقمى.. ومن هنا نسأل:
ما مفهوم “القداسة”؟ هل هناك “قداسة” للإنسان أم أن القداسة لله وحده؟ وما الفرق بين أن الله “قدوس” والإنسان “قديس”؟
قدوس وقديس
هناك فرق شاسع بين “القداسة” لدى الله، الذى ندعوه “القدوس” أو “كلّى القداسة”، وبين الإنسان المدعو إلى قداسة نسبية محدودة، تتناسب مع الإنسان المحدود “قديس”.
قداسة الله: هى “عصمته”، أى أنها عدم إمكانية الخطأ، وهى قداسة مطلقة، وغير محدودة… وكلمة “عصمة” بالإنجليزية تشرح نفسها بنفسها فهى (عصمة = (Infallability) وهى كلمة من 3 مقاطع:
In = للنفى fall = يسقط ability = إمكانية
أى “عدم إمكانية السقوط”.. أى العصمة الكاملة، والقداسة غير المحدودة والمطلقة.
وهى غير موجودة إلا فى الله وحده، وهى من أهم الأدلة أن السيد المسيح هو اللوغوس “الكلمة” ظاهرًا فى الجسد، لأنه “لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً” (2كو 21:5)، وقد تحدى اليهود قائلاً: “مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِى عَلَى خَطِيَّةٍ؟” (يو 46:8).
أما قداسة الإنسان: فهى نسبية، ومحدودة، أى أنه يجاهد فى طريقها ليشابه صورة الله، ليتأهل بنعمة الله لنوال ملكوته و”شَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِى النُّورِ” (كو 12:1). فالإنسان مهما كان مستواه الروحى معرض للسقوط، ومدعو للتوبة طوال حياته.
– لهذا قال السيد المسيح فى العظة على الجبل: “كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ” (مت 48:5).
– وقال معلمنا بطرس الرسول: “نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِى دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِى كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّى أَنَا قُدُّوسٌ” (1بط 15:1-16).
– وهذه الآية وردت فى سفر اللاويين، كوصية من الله منذ القديم: “تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّى أَنَا قُدُّوسٌ” (لا 44:11). “تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّى قُدُّوسٌ” (لا 2:19).
ويقول معلمنا بولس الرسول: “الْقَدَاسَةَ.. بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ” (عب 14:12).
– وهذا ما أكده لنا رب المجد: “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت 8:5).
– فنحن قد دعينا لكى نكون: “مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ” (رو 29:8).

معوقات القداسة
هناك معوقات كثيرة لحياة القداسة، أهمها:
1- الجســـــــد :
ولا نقصد به – بالطبع – الجسم الإنسانى، ولكننا نقصد به تيار الإثم العامل فى الجسم. فمعلمنا بولس يتحدث عن خطايا الجسد وأعماله، فيذكر بعضًا منها ذا طبيعة حسية، والبعض الآخر له طبيعة معنوية غير محسوسة ماديًا فى الجسم.. وكمثال للمجموعة الحسية يقول: “وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِى هِىَ زِنىً, عَهَارَةٌ, نَجَاسَةٌ, دَعَارَةٌ, عِبَادَةُ الأَوْثَانِ, سِحْرٌ, قَتْلٌ, سُكْرٌ” (غل 19:5).. وفى نفس هذه الآيات، يذكر مجموعة أخرى ليست لها أبعاد حسية مثل: “عَدَاوَةٌ, خِصَامٌ, غَيْرَةٌ, سَخَطٌ, تَحَزُّبٌ, شِقَاقٌ, بِدْعَةٌ, حَسَدٌ, قَتْلٌ, سُكْرٌ, بَطَرٌ” (غل 20:5-21).. وهى كلها أمور عقلية ونفسية، قبل أن تظهر فى أشكال حسية وبدنية.
ونقصد به تيار الإثم العامل فى الجسم.. إذ يقول معلمنا بولس: “نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِى أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّى فِدَاءَ أَجْسَادِنَا” (رو 23:8).
والحديث هنا عن إنسان مؤمن بالمسيح، ومعمّد، وأصبح هيكلاً للروح القدس،
إلا أنه يئن من وطأة تيار الإثم العامل فى جسدنا الترابى، الذى مازلنا نعيش فيه. والحلّ
– كما يقول معلمنا بولس الرسول – هو أننا مع جهادنا ضد الخطية، ننتظر لحظة
تغيير هذا الجسد الترابى إلى جسد سماوى.. “وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِىِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِىِّ.. إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ” (1كو 49:15-50).. وللجسد حواس هى منافذ للخطيئة، وشهوات تنبع من الداخل ويغذيها الخارج!!
لهذا فمع أن الكنيسة توصينا أن: “نضبط الجسد”، والرسول بولس يعلمنا أن: “أَقْمَعُ جَسَدِى وَأَسْتَعْبِدُهُ” (1كو 27:9)، إلا أن ذلك لا يمنعه من أن يقول: “لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ (أى جسمه)، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ” (أف 29:5).
المطلوب – إذن – هو ضبط الجسد بالأمانة الروحية، والأصوام والنسكيات.. دون إضعاف الجسم أو التأثير على الصحة، فالجسم الإنسانى هيكل لروح الله، وطاقة هامة نستثمرها فى الحياة اليومية المعيشية، وفى الجهاد الروحى، وفى الخدمة. وهذا هو الفرق بين النسك السليم (الوسيلة للضبط وللإعلاء والشبع الروحى)، وبين النسك المنحرف (الذى يصير لدى صاحبه هدفًا، ويعطيه إحساسًا بالبطولة والتفوق على الغير).
هكذا علينا أن نجاهد لحفظ حواسنا وعلاقاتنا من الخطية، وننتظر القيامة المجيدة التى فيها سيتجدد جسدنا ويصير جسدًا نورانيًا.
2- العالــم :
ولا نقصد به البشر “هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَم، لِكَىْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ” (يو 16:3)، ولكنه أوصانا: “لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِى فِى الْعَالَمِ” (1يو 15:2)، ويقصد
المقتنيات والشهوات.
ونقصد به العثرات والشهوات: “شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ،
لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَم” (1يو 16:2).
وقد ازدادت هذه المحاربات بكثرة، وتنوعت فى صورها، وتفاقم تأثيرها على حياة القداسة لدى الإنسان المؤمن.. لكنه يعرف أن الغلبة هى فى المسيح، وبالمسيح!! “هذِهِ هِى الْغَلَبَةُ الَّتِى تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا” (1يو 4:5). “أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يو 33:16).. “مَنْ هُوَ الَّذِى يَغْلِبُ الْعَالَمَ، إِلاَّ الَّذِى يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ؟” (1يو 5:5).
ذلك لأن المعونة التى يهبها لنا الله بالنعمة، هى التى تجعلنا ننتصر على عثرات وشهوات العالم المحيط بنا “الْعَالَمُ يَمْضِى وَشَهْوَتُهُ” (1يو 17:2). “الَّذِى فِيكُمْ (أى روح الله) أَعْظَمُ مِنَ الَّذِى فِى الْعَالَمِ” (1يو 4:4).
من هنا كان لابد للمولود من الله، أن يشبع بمحبة الله، وأن يعرف أن العالم إلى زوال، وأن “الشَّهْوَةُ تَبْطُلُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِىِّ” (جا 5:12)، “لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ” (1كو 31:7).. وهكذا يرتقى بنفسه إلى السمائيات، ويفطمها عن الأرضيات الفانية، عالمًا أننا “لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ” (عب 14:13).
ولا يستطيع المؤمن أن يغلب العالم بقوته الشخصية، بل بقوة المسيح الذى قال لنا: “فِى الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يو 33:16).. لذلك أوصانا الرسول قائلاً: “لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهَذِهِ هِى الْغَلَبَةُ الَّتِى تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا.
مَنْ هُوَ الَّذِى يَغْلِبُ الْعَالَمَ، إِلاَّ الَّذِى يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ؟” (1يو 4:5-5).
3- الشــــــيطان :
وهو “الْمُجَرِّبُ” (مت 3:4)، و”الْمُقَاوِمُ” (1تس 4:2)، و”إِبْلِيسَ” (مت 1:4).. الذى سقط من أعلى مكان، حينما تكبّر فى نفسه، وأراد أن يجعل كرسيه فوق كرسى الله: “أَرْفَعُ كُرْسِيِّى فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاِجْتِمَاعِ فِى أَقَاصِى الشِّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِىِّ” (إش 13:14-14).
فسقط إلى الأرض، وأخذ يغوى الإنسان لكى يسقط هو أيضًا.. وقد أطاعه الإنسان فى البداية، حينما استمع إليه متكلمًا فى الحية، لكن الرب وعد بسحقه بالصليب، حينما قال للحية: “أَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” (تك 15:3).
إسمه “كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ” (يو 44:8)، و”الْمُشْتَكِى عَلَى” (رؤ 10:12)، الذى سقط إلى الأرض “وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ” (رؤ 12:12)، إذ يحاول الإيقاع بنا، وإخراجنا من طريق الملكوت لكى نفقد الملكوت. الذى بحسده دخل الموت إلينا، فهو المتمرس فى الخطيئة والضلال منذ آلاف السنين، منذ سقط حينما أراد أن يجعل كرسيه فوق كرسى الله قائلاً: “أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِىِّ” (إش 14:14).
ولكن هيهات للشيطان أن ينتصر على أولاد الله، إنه يعرض ولا يفرض، فلقد رآه الرب يسوع “سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ” (لو 18:10)، من خلال صليبه المجيد، وهو قادر أن “يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ” (2تس 8:2)، ونصيبه هو البحيرة المتقدة (رؤ 10:20)..
وهذا ما تم فى الصليب، حينما قال الرب يسوع: “رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ” (لو 18:10). “رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ (الشيطان) يَأْتِى وَلَيْسَ لَهُ فِى شَىْءٌ” (يو 30:14).
وأيضًا الرسول يعقوب قائلاً: “قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ” (يع 7:4). فهو “كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ” (1بط 8:5).
وقد وعدنا بولس الرسول قائلاً: “إِلهُ السَّلاَمِ سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعًا”
(رو 20:16). وبسكنى الرب فى قلوبنا “سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعًا” (رو 20:16).. لذلك أوصانا يعقوب الرسول: “قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ” (يع 7:4)، وهذا يأتى من خلال طاعتنا لوصية معلمنا بطرس: “اُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِى الإِيمَانِ” (1بط 8:5-9).
فالمؤمن تسنده قوة المسيح اللانهائية، التى تتصاغر أمامها كل قوى الجسد والعالم والشيطان وهذه هى معادلة النصرة.

مقومات القداسة
لعل أهم مقومات حياة القداسة هى :
1- الشبع الروحى : بوسائط النعمة المختلفة، التى ذكرنا بعضًا منها سابقًا: كالإعتراف، والتناول، والصلوات المتنوعة، وقراءة الكلمة، والكتب الروحية، والإجتماعات الكنسية، والأصوام، والخدمة.. فهذه كلها تشبع القلب بالمسيح، وتملأ الفكر بالنور، وتشحذ الإرادة للجهاد الأمين.
2- التدقيق فى الحواس والعلاقات : فمن غير المعقول أن يطلق الإنسان لحواسه العنان، فتتدنس النظرة، ويتنجس اللسان، وتفسد الأذنان، وهذه كلها منافذ للخطيئة، كما قال الحكيم: “لاَ تَدَعْ فَمَكَ يَجْعَلُ جَسَدَكَ يُخْطِئُ” (جا 6:5).
كذلك من غير المعقول أن يحيا الإنسان فى معاشرات وصداقات رديئة وسلبية، ويتوقع لنفسه النمو فى حياة القداسة “فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ” (1كو 33:15).
بل العكس هو المطلوب إشباع الحواس بما نقرأ وما نسمع وما نتكلم، بأسلوب مقدس: كتب وشرائط وأفلام وألحان مقدسة.. كذلك بأن نختار أصدقاءنا ممن يساعدونا على خلاص أنفسنا، ونمونا الروحى، وذلك من خلال الإلتزام بالحياة الكنسية والجماعة المقدسة.. نزامل الكل ونحبهم، ولكن ننتقى البعض ليجاهدوا معنا فى طريق الملكوت.
3- مقاومة الخطية بكل قوتنا : فها هو الرسول يوصينا أن نقاوم إبليس “قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ” (يع 7:4).. وهذا لا يمنع أحد أساليب المقاومة، وربما أهمها، هو الهروب من وجه الشر وعثرات العالم “اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ” (تك 17:19).. “أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا” (2تى 22:2)، فمساومة الشيطان هى أقصر طريق للسقوط، ولنتذكر سقطة آدم وداود وامرأة لوط.
4- الرجاء فى المسيح : فمهما كان شبعنا وجهادنا ومقاومتنا، فلابد من أن تحدث سقطات.. هنا يجب أن لا نيأس أو نفقد رجاءنا.. بل بالحرى نثق فى إلهنا القادر أن يقينا من عثرتنا، ونعود إليه فى روح التوبة والجهاد والإعتراف الأمين، هاتفين
مع الرسول بولس: “فِى هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِى أَحَبَّنَا” (رو 37:8)،
“لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ” (2تى 7:1).
وهكذا إذ يجاهد الخادم فى طريق القداسة، يهتم أيضًا بقداسة مخدوميه، “الْقَدَاسَةَ الَّتِى بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ” (عب 14:12).
ختامًا: أنظروا إلى نهاية سيرتهم :
هذه الآية تجعلنا ندرس سير القديسين لنتعلم منهم: كيف عاشوا حياة القداسة؟ وكيف تغلبوا على كل المعوقات: الجسد، والعالم، والشيطان.
ولكن مهم أيضًا أن ننتبه إلى كلمة “نهاية” ممكن أن يبدأ الإنسان سيرة حسنة، ولا يستمر فيها إلى النهاية. وممكن أن يرتد إلى الخلف ويهلك!!
لهذا لابد الصحو المستمر، والاسترشاد الروحى بأب الاعتراف. فهناك من قال عنهم معلمنا بولس الرسول: “كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ” (فى 18:3)..
لهذا ينبهنا القديس بولس الرسول قائلاً: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ” (1كو 12:10).