كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار
سفير يسوع المسيح
أراد القديس بولس مرة أن يلخص المسئولية الكرازية الموكولة إليه ، فقال لأهل كورنثوس : « إذا نسعى كسفراء عن المسيح ، كأنّ الله يعظ بنا . نطلب عن المسيح : تصالحوا مع الله » ( 2 كو 20:5) . ومرة أخرى يستخدم نفس اللقب ” سفير‘‘ طالباً من أهل أفسس أن يؤازروه بالصلاة والطلبة كل حين « لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي ، لأعلم جهاراً بسر الإنجيل ، الذي لأجله أنا سفير في سلاسل ، لكي أجاهر فيه كما يجب أن أتكلم » (أف19:6و20).
ويستعمل القديس بولس في الآيتين الفعل (برسفيفو) الذي يعني : “يعمل كسفير ، يكون رسولاً أو ممثلاً شخصياً لجهة ما أمام جهات أخرى”. أما الاسم من هذا الفعل فهو ( برسفيا ) ، وقد تُرجم في إنجيل القديس لوقا إلى كلمة ” سفارة” ( لو 32:14 ؛ 14:19).
ومفهومنا الحالي عن السفير وعمله ، وأهمية منصبه كشخصية رسمية تُختار من بين ذوي الكفاءات ، وعن تفويض الحكومات لهذه الشخصية لتمثلها أمام باقي حكومات العالم ، تساعدنا في فهم قيمة شهادة بولس الرسول عن نفسه كسفير. فالسفير يعمل كممثل للجهة التي يمثلها ، وسلطة السفير مستمدة من سلطتها. والقديس بولس يعتبر نفسه المتكلّم بلسان الله والممثل الشخصي للمسيح ، الذي مُنح السلطة والقوة ليعلن للعالم رسالة الله من أجل السلام ( 2 كو 18:5-20).
وبرجوعنا إلى مفهوم عمل السفير والمهام الموكلة له في زمن القديس بولس ـ أي في القرن الأول المسيحي ـ يمكننا أن نتعرف أكثر على المعنى الذي كان يقصده بولس الرسول.
أولاً : حقوق السفير:
كان السفير منذ العصور القديمة يتمتع بالحصانة ، ولم يكن من حق أحد أن يقبض عليه أو يلقيه في السجن. وكان الازدراء بالسفراء أو إساءة معاملتهم أو اضطهادهم يمثل شرخاً أو نكوصاً عن المواثيق المرعية عالمياً . وكانت مثل هذه المعاملات تقابل بالحزم والقوة ، وأحياناً بشن الحروب ، خاصة إذا كان السفير يتبع دولة ذات قوة وسيادة. وكانت هذه العادات متبعة منذ قديم الزمان . فقد حدث في أيام داود الملك أنه أرسل سفراء من طرفه للتعزية في وفاة ملك بني عمون . لكن حانون الملك الجديد وابن الملك المتوفي أساء معاملة السفراء واستهزأ بهم، فأدى ذلك إلى نشوب حرب بين إسرائيل وبين بني عمون وحليفتها آرام راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف فارس ( 2 صم 1:10-19).
أما القديس بولس فلم يكن يتمتع كسفير للمسيح بأي نوع من الحماية الدبلوماسية ، أو بأي وضع متميز في أعين هذا العالم : « فإنّي أرى أنّ الله أبرزنا نحن الرسل آخرين ، كأننا محكوم علينا بالموت. لأننا صرنا منظراً للعالم ، للملائكة والنّاس … إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرى ونُلكم وليس لنا إقامة » ( 1كو 9:4-11).
وكان بولس سفيراً في سلاسل ، وهذه العبارة تحمل لنا مضادة صارخة :
أ ـ فكلمة سلاسل التي استعملها القديس بولس هي (هلوسيس) ، وهذه الكلمة كانت تُستعمل للسلاسل والحُلي ( الذهبية ) التي كان يلبسها الرجال والسيدات من الأسر الغنية حول الرقبة أو في معصم اليد. وفي الاحتفالات العامة كان السفراء يلبسون مثل هذه السلاسل للدلالة على غنى وقوة وكرامة الحكومات التي كانوا يمثلونها. ولأن بولس كان يمثل المسيح المصلوب، وجد في سلاسل السجن التي كانت تكبل يديه ورجليه شارة الشرف التي تميزه وتمثل سيده.
ب ـ وفي الظروف غير الملائمة كان من حق الدول المضيفة الاستغناء عن السفراء أو طردهم ، ولكن لم يكن من حقهم ـ كما ذكرنا ـ أن يلقوا القبض عليهم أو يسجنوهم . وهنا يشير بولس الرسول بالسلاسل إلى السجن الذي طُرح فيه. وعندما وصف بولس نفسه أنه سفير في سلاسل، أراد تعريف قارئيه بالظلم الواقع عليه ، ولكنه هنا لم يكن يشتكي أو يلعن يومه، بل فقط كان يطالبهم بالصلاة حتى يستطيع أن يبشّر أكثر بالإنجيل بكل جراءة ( أف 19:6و20) :
+ « فقال أغريباس ( الملك ) لبولس : بقليل تقنعني أن أصير مسيحياً. فقال بولس : كنت أصلي إلى الله أنه بقليل وبكثير ، ليس أنت فقط ، بل أيضاً جميع الذين يسمعونني اليوم ، يصيرون هكذا كما أنا ، ما خلا هذه القيود » ( أع 28:26 و29).
ج ـ وكان عندما يتم القبض على أحد السفراء أو السياسيين تتعرض مهمته للفشل ، بل وتكون رسالته قد انتهت . أما القديس بولس ففي رسالته إلى أهل فيلبي (12:1-30 ؛ 19:2-30 ) فإنه يذكر لهم أن القبض عليه وإلقاءه في السجن ، بالإضافة إلى الاضطهادات والعداوة والتهديد بالموت والعذابات الجسدية والنفسية ، قد آلت كلها إلى تقدم الإنجيل ، وأنها تقدم لهم الرسول كمثال ينبغي على المؤمنين بالمسيح التمثل به وليس الهروب لتجنّب ما وصل إليه . وعليهم أن يتذكروا ما قاله الرب يسوع سابقاً أنهم إن كانوا قد أهانوا السيد والمعلم ، فماذا سيفعلون بخادمه ( مت 25:10).
ثانياً : واجبات السفير :
تحمل لنا الوثائق والنقوش الباقية من العصور القديمة بعض المعلومات عن سبب إرسال السفراء، ومنها أن السفراء كانوا يرسلون كعلامة على الصداقة وإظهار النوايا الحسنة، ولتوطيد العلاقات ولتجديد أواصر الصداقة القائمة، وأيضاً لعقد بعض الأحلاف والمعاهدات.
وفي أيام القديس بولس كان السفراء يرسلون إلى روما ليمثلوا مدنهم أو مقاطعاتهم أمام الإمبراطور. ولأن معظم الدول القديمة كانت خاضعة لروما آنئذ ، لذلك كان القسط الأكبر من هذه الإرساليات يذهب إما لتقديم بعض الالتماسات الخاصة أو لدفع الضرائب المقررة عليهم، وتقديم الهدايا التي تجعل لهم حظوة لدى الإمبراطور. ويذكر لنا المؤرخ الروماني بلوتارخ عدداً كبيراً من هذه الإرساليات التي كانت تمثل بين يدي الإمبراطور. وكانت هذه الإرساليات تذهب أولاً إلى هيكل الإله ساتورن Saturn لتسجيل أسمائهم أمام حافظ الخزانة . وكان كهنة هذا الهيكل يقدمون الخدمات الطبية للسفراء إن هم مرضوا ، كما كانوا يعتنون بأجسادهم ودفنها إذا قضوا نحبهم هناك.
كما يصف الفيلسوف اليهودي فيلو – وهو من معاصري القديس بولس – كيف اشترك في إحدى هذه الإرساليات المرسلة من يهود الإسكندرية إلى الإمبراطور غايوس ملتمسين الحماية من الإمبراطور ضد مواطنيهم من غير اليهود الذين كانوا يعاملونهم معاملة سيئة.
ومن جهة أخرى ، فإن الإمبراطور الروماني الذي كان يرسل القوانين المُلزمة لجميع سكان المعمورة، مثل الإحصاء الذي تم في زمن ميلاد الرب يسوع ( لو1:2) ، كان في العادة لا يرسل سفراء للمدن أو للمقاطعات للتفاوض ، بل كان يبعث بالحكام والقادة ليحكموا ولينفذوا أوامره ؛ لذا كان السفراء يأتون إليه ، لكنه لم يكن يرسل سفراء إلا في القليل النادر.
وعلى النقيض من ذلك ، فإن الله لم يجلس مكتوف اليدين في انتظار أن يرسل له الإنسان من ينوب عنه من السفراء لكي يقدم التماساً أمامه طالباً المصالحة مع الله . لكن الله اتخذ المبادرة من جانبه ، فبعد أن أرسل ابنه كسفير فوق العادة ليصالح البشرية : « أي إنّ الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسب لهم خطاياهم » (2كو19:5) ، عاد الله وأرسل سفراءه ليتوسلوا إلى البشرية من أجل الصلح : « نسعی گسفراء عن المسيح ، كأنّ الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح : تصالحوا مع الله » ( 2 كو 20:5).
لقد كان تصرف الله هذا عكس ما كان يتوقعه أي إنسان. والمثل الذي ألقاه الرب يسوع عن الملك الذي خرج لمقاتلة ملك آخر يصور لنا الوضع الطبيعي الذي كان يجب اتخاذه ( لو 31:14و32) . فالملك : « يجلس أولاً ويتشاور : هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفاً ؟ وإلا فما دام ذلك بعيداً ، يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح».
أما وصف بولس الرسول لإرسال الله لسفرائه إلى العالم فهو صورة معكوسة تماماً. فالله هو صاحب القوة العظمى والسلطان ، ولكن عالمنا هذا الوضيع يصمم أن يتجاهل قوة الله ، لذلك يتمادى في عداوته لله ، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن طلب السلام مع الله. ومما يدعو للدهشة فإن الطرف صاحب القوة اللامتناهية يتنازل دافعاً ثمن الصلح مع الإنسان : « لكن الكل من الله ، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح ، وأعطانا خدمة المصالحة … لأنه جعل الذي لم يعرف خطية ، خطية لأجلنا ، لنصير نحن بر الله فيه » ( 2 كو 18:5و21).
وبالتالي أرسل الرب يسوع رسله كسفراء إلى العالم ليعلن للبشرية جميعاً مبادرة الله للصلح والعفو العام الذي أصدره : « الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسب لهم خطاياهم » ( 2 كو19:5) . لقد كان السبب الرئيسي وراء إحجام أهل العالم عن إرسال سفرائه إلى الله أن : « الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد … في طرقهم اغتصاب وسحق. وطريق السلام لم يعرفوه » ( رو 12:3-17). لذلك كان عذرهم الوحيد كما جاء على فم أيوب الصديق : « ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا » (أي33:9) ، وكان الرب يسوع هو المصالح والسفير بيننا وبين الله.
ثالثاً : اختيار السفير:
هناك بعض الاختلافات في أسلوب اختيار السفراء قديماً وحديثاً . فبينما يتم اختيار السفراء الآن من بين الذين يحملون الشهادات العليا ومن ذوي الثقافة الرفيعة ، ومن ثم يتم إرسالهم كسفراء دائمين يقيمون في الدول التي يعملون بها ؛ كان في العصور القديمة يتم اختيار السفراء من أبناء العائلات المرموقة في المجتمع ، وكانوا يقيمون في أوطانهم الخاصة ويتم إرسالهم فقط كسفراء عند الحاجة . وكان البعض يرى أن إرساله كسفير لبلاده يعتبر شرفاً وكرامة تلحق به وبعائلته ، وينال بسببها حظوة لدى مواطنيه وحكامه ، مما كان يدفع البعض إلى التماس الوساطة ليقع عليهم الاختيار . أما البعض الآخر – وخاصة ممن لا يميلون إلى العمل بالسياسة – فكان يرى في اختياره سفيراً عبئاً غير محبب للنفس. وكان الكثير منهم لا يُرحب بالسفر وترك الديار لمدد طويلة ، وتحمل مشاق السفر وخطورته.
وكان على الدولة الالتزام بمصاريف الرحلة وتغطية كافة تكاليفها . وكان بعض السفراء يستغلون هذه الفرصة للاستفادة من هذه الرحلة لحسابهم الخاص ، بل إن البعض منهم كان ينتهز الفرصة لتحقيق مآربه الشخصية لدى الإمبراطور على حساب مصالح بلاده.
وإذا رجعنا إلى بولس الرسول ، نراه لا يعتبر تكليفه كسفير للرب يسوع عبئاً يتهرب منه. كما نراه غير مهتم إن كان سيتحمل كل نفقات رحلته : « فما هو أجري ؟ إذ وأنا أُبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة ، حتى لم أستعمل سلطاني في الإنجيل » ( 1 كو18:9). لم نسمعه يوماً شاكياً لأنه عانى من السجن عدة مرات ، لأنه ضُرب مراراً كثيرة ، لأنه رجم وانكسرت به السفينة ، ولأنه واجه صعوبات جمة في رحلاته الكثيرة. لم يكن يسافر في ” الدرجة الأولى‘‘ بل كان يقاسي الجوع والعطش والبرد ( 2 کو 23:11-28 ) . ولم يكن يكابد كل هذه الآلام من أجل مجد شخصي يلحقه أو كرامة تعود عليه ، بل لأن الله أشرق في قلبه لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ( 2كو 6:4) . لم يركن إلى الراحة ولا جلس في بيته. ساكناً ، بل وجد أن هناك ضرورة ملحة لكي يحمل رسالة المخلص ويبشر بها العالم كله : « إذ الضرورة موضوعة علي ، فويل لي إن كنت لا أبشر» ( 1 كو 16:9) . لقد أخضع نفسه لهذا العمل من أجل إنجيل يسوع المسيح (1كو23:9) ، ومن أجل من أحبه وأسلم نفسه لأجله (غل20:2).
ويلزمنا هنا أن نذكر أن كلمة ( برسفيا ) التي تُرجمت سفارة ، تُعطي أيضاً معنى ’’الشفاعة‘‘. وهذه الكلمة هي التي دخلت في طقوس وصلوات الكنيسة ، خاصة في لحن الهيتنيات : “ أي ” بشفاعة والدة الإله … “ ، وهي التي تُستعمل في صلوات مجمع التسبحة ، وفي القداس قبل قراءة البولس . هنا يتضح المعنى المقصود من الشفاعة إذا ربطناه بمعنى السفارة . فالقديسون الذين نتشفع بهم هم من أبناء الكنيسة المرموقين : « أهل بيت الله » ( أف19:2) الذين تم إرسالهم كسفراء عن الكنيسة ليمثلوا أمام كرسي الله كل حين ، مقدمين الصلاة والتوسّل عنا ، وجالبين لنا الخيرات من الملك السمائي.
الامتحان والتزكية | كتب أنبا إبيفانيوس | المفاهيم الروحية للرياضة البدنية |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |