التجديد العجيب لفيلسوفة ملحدة
الأديبة والفيلسوفة تاتيانا” جوريتشيفا” ولدت عام 1947 م في لينينجراد بروسيا. وقد صارت فيما بعد رائدة في قيادة حركات الشبيبة الشيوعية الإلحادية وذات مكانة هامة فيها. ثم اهتدت إلى المسيحية بقوة غامرة وبحماس شديد بكل ما هو روحي حسب الإنجيل وتسليم الكنيسة الحي. ثم أسست مع صديقات لها حركة النهضة الشبابية المسماة “ماريا” التي كان مبدأها الأساسي أن تضع كل نشاطاتها حتى رعاية والدة الإله متخذة منها مثالاً في تسليم حياتها كلية الله.
نشأتها الأولى:
تقول في مذكراتها الشخصية : [ ولدت في دولة الحادية، قد أبيدت فيها عن عمد كل القيم الدينية. كنت أعيش كحيوان بري صغير أسير أسلاك حديدية، أطأطئ الرأس وأخضع دون محاولة للفهم أو إبداء الرأي في أمر ما.
منذ طفولتي كنتُ أمقت الناس الذين حولي إلى حد الاشمئزاز بسبب رعبهم لي وانشغالاتهم التافهة وعندما كبرت دخلت كلية الفلسفة وكنت متفوقة فيها.
كنت بالنهار أحظى بأن أكون الطالبة اللامعة وفخر كلية الفلسفة، وأتردد على كبار المفكرين في الأدب والفن، وألقي المحاضرات المبسطة في هذا المجال.
أما الليل فكنتُ أقضيه أحط رفقاء السوء المنبوذين من المجتمع، والذين كانوا لا يتورعون عن الاحتيال والسطو والسرقة كلما سنحت لهم الفرصة؛ لكي يتعاطوا ما اعتادوا عليه من مسكرات. وكنا نبحث عن الأماكن الخفية عن أعين الناس لنحتسي ما طالته أيدينا مع من الخمر.
إنسان وحيد هو الذي حاول مرة أن يوقفني عند حدي لكي أكف عن مثل هذا السلوك الماجن هو أستاذنا “يوريس”، وكان مدرسا في كلية الفلسفة ، قال لي يومًا: “تانيا”، لماذا تريدين أن تهدمي كل شيء؟ ألا تفهمين إن التعطش إلى التدمير هو أسوأ نكبة أصيب بها الضمير الروسي في عصرنا هذا منذ قيام الثورة الإلحادية حتى الآن؟ ألا ترين أننا نحيا في عالم يسود فيه إنكار كل دين ويفتخر على لا شيء؟ ماذا تريدين أن تزيدي على ما نحن عليه؟ هذا الكلام كان له صدى عميق في نفسي ، لكن لم أكن أعرف كيف أخرج من دائرة الشر هذه.
قرأت عن علم اليوجا، ثم علمت أن تدريبات اليوجا تستطيع أن تطلق القدرات الهائلة الكامنة في الإنسان، ورغم ممارستي لهذه التدريبات، فقد صار الفراغ القاتل الذي كنت أعاني منه منذ أمد طويل باقيًا على ما هو عليه، ولم يسده شيء، بل على النقيض كان في ازدياد مستمر، وتحول إلى رغبة داخلية رهيبة ملأتني بفزع بلغ بي إلى حد الجنون.
سوء الحالة:
ثم استولى علي حزن مفرط وكانت المخاوف المبهمة تعذبني وتداهمني الكآبة المصحوبة باليأس الشديد، وكنت أعتقد أنني فقدت العقل، وأصبحت لا هدف لي بعد في الحياة.
كم من أصحاب سابقين لي راحوا ضحية هذا الفراغ المرعب:
فبعضهم قد انتحر، ومنهم من سلّم نفسه لشرب الخمور حتى فقدان الوعي، ومنهم من أغلق عليه في مصحات الأمراض العقلية، ولاح أننا فقدنا كل رجاء في الحياة. أما المسيحية فكانت بالنسبة لي ليس لها وجود في حياتي على الإطلاق إلى وقت طويل عندما كنت ما أزال بعد وجودية ملحدة ذهنياً عادمة الإحساس الوجداني أو الروحي. فكان التدين في نظري هو عودة إلى الأساطير القديمة، بل قد تحولت حياتي أكثر فأكثر إلى عبادة الذات والتمرد على كل شيء. ويا لهول التفكير المتطرف الذي كان يساورني بأنه قد أُلقى بي في العالم دون أي غاية بواسطة قوى غير عاقلة!
ميلادها الجديد :
تقول في مذكراتها:
أثناء ممارستي لتدريبات اليوجا القاسية، أحسست بإجهاد شديد حتى فقدت كل قواي ولم أكن قد اختبرت الصلاة من قبل، بل إنني لم أحفظ أي صلاة قط، ولكن وجدت أن كتب التدريب على اليوجا تقترح علي ممارسات تدريب ذهني بتلاوة الصلاة الربانية (أبانا الذي في السموات….)، فأخذت في تطبيق التدريب الذهني دون أن ينشغل ذهني بمعاني الكلمات، أي كنت أتلوها بطريقة آلية. فلما تلوتها حوالي ست مرات، فجأة صرت كمن عاد إلى صوابه وأمتلك وعيه. فقد أحسست أن الله كائن موجود وهو قريب مني، ولم يكن هذا الإحساس يغمرني نتيجة منطق عقلي القاصر، بل بكل كياني، إنه هو الرب الحي بشخصه الذي يحبني ويحب كل الخليقة، إنه “الله” الذي خلق العالم وتجسد في شبه الناس بسبب حبه. الرب المصلوب القائم من بين الأموات، في لحظة واحدة استعلن لي عمق أسرار المسيحية الحياة الحقة، وموضعي في هذه الحياة. حقا، لقد ذقت أول طعم للخلاص.
كنتُ وقتها في الخامسة والعشرين من عمري حين بدأ التحول الكياني في حياتي، وقد بان لي بكل وضوح أن الله قد مس ليس فقط روحي، بل نفسي وقلبي أيضا، بل وكل قوى إدراكي… قد تنقت نفسي وتحررت من أسر الشر، وانفكت عني كل القيود، وأصبحت حرة طليقة أنعم بالفرح، وأستشنق نسيم الحرية الحقيقية بلا أدنى عائق.
أحسست أن كل ما في قد تغير، وشعرت بأنه قد مات الإنسان العتيق، وصرت كمن فارقته عاداته القديمة وسلوكه القديم. وأخيرًا انفتح قلبي وأخذت أحب كل الناس. وبدأت أحب الحياة الحقيقية.
في الأيام الأولى لتحولي إلى الإيمان، كان يبدو لي أن كل الناس خليقــــة سماوية. كنــت أسارع إلى فعل الخير لأخدم الله والناس.
ما أعظم السعادة التي غمرتني، والاستنارة التي ملأت قلبي.
بعد نشوة فرح العماد، ودخولي إلى الإيمان سريعا، قد صار لي في غاية الوضوح كلام الإنجيل “نيري هين وحملي خفيف” (مت 11: 30)، وبدأت حينئذ أن أقبل الضيق بلا تذمر وبترحيب كما سبق وقبلت الفرح بفيض من الرب.
كنت أعرف أنه ينبغي علي أن أعترف ، ثم بعد ذلك يمكنني أن أتناول من القربان المقدس. كنت أعلم أن الاعتراف والتناول هما من الأسرار المقدسة التي من شأنها أن تصالحنا مع الله وتوحدنا مع الرب…
لذا، فقد ذهبت إلى الكنيسة ، وهناك اعترفت وتناولت لأول مرة.
دعامة الحياة الجديدة:
بعد تجديدها، كتبت في مذكراتها تقول:
إني أعترف بأن ظروف الحياة في مجتمعنا رغمًا من قسوتها وعنفها لا تعوق البتة حياتنا الروحية، بل إنها تعاوننا بالأكثر على أن نجد الحقيقة الكبرى. فنحن نعيش في عالم بدأ منذ ما يقرب من خمس وستين عاما (1917 – 1982م) يُكتم فيه على كل مستنير وصالح وراء الأسلاك الحديدية الشائكة المحيطة بمعسكرات الاعتقال.. لكن علينا في نفس الوقت أن نختار بين أمرين: إما الخير اللانهائي (الله)، أو عالم الشر المستبد .. ومن جهتنا قد أصبح موضوع الإيمان مسألة حياة أو موت ولا يمكن لإنسان أن يعرج بين الفرقتين.
إن المعنى الروحي والمضمون السري للمسيحية الذي نفهمه الآن، وهو دعامة حياتنا الجديدة: “إن الشر الطاغي لا يمكن أن يقهر إلا بالصلاة. هذا هو الحوار المستمر مع الله، أي الصلاة التي أصبحت لنا الآن أكثر ضرورة من الهواء الذي نستنشقه.
إن الطبقة المثقفة الروسية من فلاسفة وأدباء وفنانين تتجه اليوم إلي المسيحية كحل نهائي يعيد للحياة البائسة معناها، ويسمو بالإنسان فوق الإلحاد واللامعقول، ويجعله يمسك بالحياة الأبدية والحق ذاته، وصار الارتباط بالأب الروحي عند هؤلاء الراجعين إلى الله ذات أهمية حيوية أساسية.
الروح القدس لا يكف عن أن يكملنا بصلاحه، فبعد كل حديث مع أبينا الروحي، كنا دائما نتغير إلى الأفضل.. الشخصيات العنيفة المتزمتة منا تصبح رحبة القلب وديعة والمتراخون يمتلئون بالهمة الروحية، والإنسان يتعلّم أكثر كيف يسلك بالتدقيق في كل أمر فترتقي أحاسيسه الروحية تلقائيا.
قد افتقدنا ذاك الذي يخلق الكل من جديد، وافتتح لنا طريقا للرجاء غير متوقع أبدًا للغفران والفداء، حررتنا المسيحية من ماضينا الثقيل، بل استطاعت أن تمحو آثاره في وسط عالمنا هذا الذي استنزف دمه و جفت عروق الحياة فيه تظل الكنيسة هي المكان الوحيد الطاهر الذي لا عيب فيه، وستبقى بالحق مقدسة إلى الأبد، ولن يتيسر للموت قسط أن يتمكن منها.
بعد معاناة آلام طويلة، حيث كانت الدولة الحادية تضطهد المؤمنين، تأتي الآن الطبقة المثقفة إلى الكنيسة. لا يوجد وقت بعد للمجادلة والمشاحنة، فالطريق المؤدي إلى الحياة ضيق وشاق، ذلك هو طريق الطاعة والتخلي عن كل معرفة بشرية وكل أفكار ذاتية، ولأنهم قد اختبروا سابقا الحياة الخاوية وهي بدون الله ، فقد وجدوا الآن في الكنيسة الخلاص والحياة وبواسطتها عاشوا التجديد الداخلي عندما اكتشفوا سر بداية الطريق “اطلبوا أولاً ملكوت الله”.
رؤيتها للعذراء:
تحكي عن هذه الرؤيا قائلة:
في يوم ٢٥ يناير عام ١٩٧٩م ، كنتُ في خلوة روحية في دير للراهبات “في روسيا”، وبعد ممارسة سر الاعتراف أمام الأب الكاهن وعندما كنت في الكنيسة وعيناي مرفوعتان إلى السماء، إذ بي أبصر فجأة العذراء مريم متسربلة بسحابة كبيرة تلمع بالضياء الباهر، محاطة بجوقة من الملائكة يكونون هالة متموجة من النور السماوي حولها.
عجيب الله في كل طرقه التي يقود بها حياتي ! عجيبة هي المعرفة التي يتدرج بي فيها والمعونة التي يؤازرني بها، ورعايته لي في كل دقائق أموري. لقد منحني الآب السماوي حقا أن أكون في بيته، وما عليَّ الآن إلا أن أردد مع المرنم “خير لي أن أبقى على عتبة بيت الرب من أن أسكن في خيمة الأشرار” (مز 84: 10).
ويُحكى عن هذا الدير أن والدة الإله ظهرت فيه أكثر من مرة لتباركه.. وفي الواقع إن قوة محبتها تتجلى هنا بوضوح يكاد يكون محسوساً من الجميع بل وأحسست يقينا أنها لم تتخلى عني.. لم تعد لي رغبة أو إرادة في شيء إلا أن أعي بوضوح ملء الحياة الروحية الجديدة وإدراك كمال قوتها.
الكنيسة وأسلحة النصرة :
تقول الكاتبة:
إننا عندما نرى اليوم في روسيا آلافا تلو الآلاف من الشبان والشابات يهتدون إلى الإيمان، مع أنهم قد تدربوا منذ نعومة أظفارهم على اللادينية، فإنه يمكننا أن نقول دون أدنى مبالغة: “إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم”.
فنحن لم نتلقى أي تعليم ديني في طفولتنا، وأول زيارة للكنيسة غالبًا ما تعتبر عندنا معجزة فلا يمكن أن يُمحى ذكراها أبدًا من وعينا.
وهكذا أعطت شركتنا في الكنيسة لحياتنا ليس فقط المعنى الجديد بل وأيضا أعطتنا “الجسد” الذي ينبغي أن تحفظ فيه هذه الحياة أي جسد الكنيسة. وإذ تخلينا عن أساليب حياتنا الأولى أقلعنا عن سلوكنا وعوائدنا القديمة، حيث كنا سابقا بلا أدنى حصانة في مواجهة العالم الخارجي؛ لأننا لم نكن بعد نعرف الكنيسة التي ليس سواها تقلدنا بأسلحة النصرة. لقد بدلت ثيابنا القديمة بثياب طاهرة نقية: فإذا قد تعمدنا في المسيح فإننا بالضرورة قد لبسنا المسيح (أي لبسنا ثوب بره).
إننا نحن العرج المعلولين، نتعلم في الكنيسة من جديد أن نمشي وأن نبصر، وأن نتكلم. إني لا أنسى التغيير المزمن الذي ظهر على وجوه أصدقائي القدامي. تلك الوجوه التي كانت سابقا تنم عن الخلاعة وعدم الاكتراث بالإيمان، أما الآن فهم يقفون في الكنيسة – شباباً وشابات – في جانبي بكل خشوع عفيفين مملوئين بالبرارة.
لم تعد البطولة التي تفوق قدرة الإنسان بل ولا كل النماذج العليا البشرية في إمكانها أن تغوينا، بل القداسة وحدها هي التي أسرتنا وجعلتنا دائمًا منجذبين نحوها. إننا نرى بوضوح أن الإنسان قد خلق لمصير ليس هناك مصير أمجد منه وهو أن يصير “شريك الطبيعة الإلهية” (في البر والقداسة والحياة الأبدية)، وبالتالي فهو مدعو لتقديس كل لحظة ونسمة من حياته.
عن كتابها Nous convertis d’union sovietique