لأن حبّك أطيب من الخمر
محبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس، وكأنها سائل ينسكب، وكأنها مشروب نشربه، هي «أطيب من الخمر»، وهي تُعطي القلب فرحًا وحرارة روحيةً وتجاوزا لكل المشاكل أفضل بما لا يُقاس من الخمر المادية.
يقول ق. بولس إنها «قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس» (رو 5: 5) لأنها مثل سائل ينسكب في قلوبنا، مثل مشروب سماوي نشربه. وفي موضع آخر يقول: «وجميعنا سُقينا روحًا واحدًا» (1كو 12: 13)، حيث كلمة «سُقينا» تعني أن الله سقانا مشروبًا سماويًّا هو الروح القدس. هذا هو حب الله الذي هو «أطيب من الخمر».
لو نعتبر صفات الخمر المادية نجد أن الخمر تُعطي أولاً فرحًا للقلب، كما يقول المزمور (104: 15)، وتُعطي حرارةً، ثم إذا زادت قليلاً يمكن أن تُعطي نوعا من السكر وكأن الإنسان لا يعيش على الأرض. هكذا حب الله، نجد فيه هذه الصفات، ولكن على مستوى روحي أفضل بما لا يُقاس، لأنه بالصدق «حبك أطيب من الخمر»!
يقول المزمور إن الخمر المادية «تُفرّح قلب الإنسان» (مز 104: 15)، وأما الروح القدس فهو حين ينسكب في القلب يعطيه فرحًا أفضل بما لا يُقاس، فكثيرا ما نجد الفرح يلازم الروح القدس في العهد الجديد:
+ سفر أعمال الرسل يصف التلاميذ الأوائل هكذا: «وكان التلاميذ يمتلئون من الفرح والروح القدس» (أع 13: 52).
+ وفي موضع آخر يقول بولس الرسول: «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربا، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17).
+ وفي موضع ثالث يقول: «وأنتم … قبلتم الكلمة في ضيق كثير بفرح الروح القدس» (1تس 1: 6).
وهكذا في مواضع عديدة نجد الروح القدس مقترنا بالفرح.
هذا من مفاعيل الروح القدس الأكيدة أن يحس الإنسان بفرح روحاني ليس من العالم أفضل بما لا يُقاس من الفرح الذي تُعطيه الخمر، وفي هذا يصدق القول: «لأن حبك أطيب من الخمر».
صفة أخرى من صفات الخمر المادية أنها تُعطي حرارة للقلب، وكذلك الروح القدس يُعطي حرارة روحية، فهو يُعطي ما يُسمِّيه الآباء “غلوة روحية” وهي تعني أن القلب يغلي من الداخل. ق. بولس يقول: «كونوا حـاريـن فـي الـروح» (رو 12: 11)، أي اقبلوا حرارة الروح القدس التي هي أفضل من حرارة الخمر.
وأمَّا الدرجة الثالثة من مفعول الخمر المادية إذا ما زادت قليلاً فهي أنها تعطي سكرًا للإنسان. ق. بولس أيضًا يُقدِّم لنا الامتلاء من الروح القدس وكأنه هو البديل والمُضاد للخمر التي تُسكر، حيث يقول لأهل أفسس: «لا تسكروا من الخمر التي فيها الخلاعة، بل امتلئوا بالروح» (أف 5: 18). وهكذا وضع الامتلاء من الروح القدس كبديل معكوس وأفضل بما لا يُقاس من الخمر المادية.
وعلى مستوى عملي نجد أن الرسل في صباح يوم الخمسين لمَّا حل عليهم الروح القدس كألسنة نارية منقسمة على كل واحدٍ منهم كان منظرهم عجيبًا جدًا، كانوا حارّين في الروح، حتى ظنَّ الذين رأوهم «إنهم قد امتلأوا سلافةً (أي خمرا رديئة)، فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته قائلاً: أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون … هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون، لأنها الساعة الثالثة من النهار فليس هو وقت سكر، بل هذا ما قيل بيوئيل النبي… أسكب من روحي على كل بشر» (أع 2: 13-16).
مفاعيل الروح القدس قوية في الإنسان، فهي تُعطيه فرحًا وحرارةً وغلوةً، وتُعطيه شبة سُكر روحاني أدهش الذين رأوا الرسل عندما انسكب عليهم الروح القدس. ولكن يوجد فرق أساسي بين السكر الذي تُعطيه الخمر المادية وبين حالة النشوة الروحية التي يولّدها فرح الروح القدس في النفس. فالذي يسكر من الخمر يقول: لكي أنسى المشاكل. وفعلاً هو ينساها ويتهيَّأ له أنها صارت غير موجودة، ولكن للأسف عندما يعود إلى وعيه يجد المشاكل باقية كما هي، بل وربما تكون قـد ازدادت تعقيدا. وعلى كل حال تكون قدرته على مواجهة المشاكل قد قلت. فالسكر من أجل نسيان المشاكل هو حل وهمي، وبمجرد أن ينتبه الإنسان ويتصادم مع الواقع المرير، يجد نفسه في حالة أردأ مما كانت قبل أن يتعاطى الخمر.
أمَّا خمر الروح القدس، خمر الحب الإلهي، فهذه يحصل معها تجاوز للمشاكل وتجاوز للواقع المرير ؛ ليس هو هروبًا من المشاكل بل على العكس هو حل لها. لأن الإنسان الذي يسكر بخمر الروح القدس أو بخمر الحب الإلهي يتصل بحقيقة الله وبالتالي يخضع له الواقع المادي. فكل ما هو مخلوق يخضع لمن يكون متصلاً بحقيقة الله كما يقول المزمور: «لأن كل الأشياء متعبّدة لك» (مز 118: 91)؛ متعبدة الله وبالتالي متعبّدة لمن يكون متصلاً بالله. «امتلئوا بالروح» (أف 5: 18) «إلى كل ملء الله» (أف 3: 19)، «لأن كل الأشياء متعبدة لك».
حينئذ كما يقول لنا المسيح «لا يكون شيء غير ممكن لديكم» (مت 17: 20). أو كما يقول بولس الرسول عن الذين يمتلئون بحب الله: «كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله» (رو 8: 28). فالذي يسكر من الخمر الروحية، الذي يسكر من حبّ الله أو من الروح القدس، كل الأشياء تعمل معا لخيره وتتعاون معه فالخليقة ،كلها الخليقة المادية والخليقة الحية غير البشرية (النبات والحيوان والإنسان نفسه – الخليقة كلُّها تكون مجبرة أن تخضع له، كما كان آدم في الفردوس، حيث كان هو سيد الخليقة، هكذا من يسكر من الخمر الروحية، فإن كل الأشياء تكون متعبّدة له، وكل الأشياء تعمل معا للخير للذين يُحبُّون الله.
فهذا هو الفارق الأساسي بين الخمر المادية وبين خمر الروح القدس. الأولى ينسى بها الإنسان المشاكل إلى حين، ولكنه عندما يرجع إلى وعيه يجدها أصعب مما كانت، ويجد قدراته على حلّها أقل مما كانت. أما من يمتلئ من الروح القدس ومن الحب الإلهي الذي هو أطيب من الخمر، فتنحل المشاكل أمامه، لأن المشاكل لا تستطيع أن تتواجد أمام الله ولا تكون في حاجة إلى حلول. فعندما يتصل الإنسان بالله، أي يعيش في حضرة المسيح، تسقط المشاكل من نفسها، لأنه في حضرة المسيح لا يمكن أن تتواجد أي مشكلة: «الأثيم الذي الرب يُبيدُه بنفخة فمه ويُبطله بظهور مجيئه» (2تس 2: 8). بمجرد ظهور المسيح ومجيئه ينحل ويبطل ويُباد الشيطان بكل مشاكله.
الحب الإلهي هو الخمر الجديدة التي وعدنا الرب أن نشربها معه في ملكوت الآب «وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي» (مت 26: 29). وقد نبهنا أبونا الروحي (الأب متى المسكين إلى أنه كلَّما نجد في الإنجيل كلمة «جديد» يجب أن نفهم أن الكلام متصل بالروح القدس بروح الخليقة الجديدة. فعبارة «أشربه معكم جديدًا تُشير إلى مشروب الروح القدس المشروب السماوي، مشروب الخليقة الجديدة في ملكوت الله فهو المشروب السماوي الذي ستحيا عليه الخليقة الجديدة. نقول ”ستحيا عليه كأنه فعل مستقبل، ولكن أمور الملكوت ولو أنها تكتمل في المستقبل، لكنها مُعطاة لنا منذ الآن كعربون وكباكورة… أما ملء الروح فسيكون في الملكوت.
ملكوت الله يبدأ منذ الآن كما قال المسيح: «هوذا ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21) منذ الآن نحن نأخذ عربون الروح» و «باكورة الروح»؛ منذ الآن نحن نشربه مع المسيح كعربون وكباكورة. كذلك قال المسيح لتلاميذه: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي (لو 22: 28). إذن سيكون هناك أكل وشرب ولكن على مستوى الروح.
ما هذا المشروب السماوي الذي سنشربه ونسكر به في ملكوت الآب إلا الحب الإلهي المنسكب في قلوبنا بالروح القدس؟ هذا هو المشروب السماوي الذي سنسكر به في الملكوت، والذي يُعطى لنا منذ الآن كعربون وكباكورة.
والآن نستطيع أن نفهم لماذا اختار الرب مادة الخمر بالذات ليحملها سر دمه الكريم. دم المسيح هو جوهر الحب الإلهي ، فهو الذي سكبه إلى آخر قطرة من أجل حب الآب ومن أجل حبه لنا هذا هو جوهر الحب الإلهي المنسكب فينا بالروح القدس. ولذلك لم يجد المسيح أفضل من مادة الخمر ليُحملها سردمه، أي سر حبه المنسكب في قلوبنا بالروح القدس.
من أكثر القديسين الحارّين بالروح الذين تكلموا عن الدم الإلهي واتصاله بحب الله، أو بالحب الإلهي المنسكب فينا القديس المحبوب الذي تكلمنا عنه كثيرًا: ق. إغناطيوس الأنطاكي الشهيد الذي أملى رسائله وهو مُقيَّد بسلاسل في وسط جنود يجرونه إلى ساحة الاستشهاد في طريق طويل من مدينة أنطاكية التي كان أسقفًا عليها إلى مدينة روما حيث تمت محاكمته وطرحه للوحوش ليأكلوه. أثناء سفره هذا أملى رسائله السبع، بمشاعر صادقة ليس بها أي تكلُّف، مشاعر شهيد يتقدم بإرادته إلى الاستشهاد يتكلم عن حب المسيح الذي هو دم المسيح، جوهر الحب الإلهي، فيقول:
[تجددوا في الإيمان الذي هو جسد الرب،
وفي الحب الذي هو دم يسوع المسيح]
الرسالة إلى تراليا 8: 1
[الشراب الذي أشتهيه هو دم المسيح
الذي هو الحب الذي لا يفنى]
(الرسالة إلى رومية 7: 2)
حيث عبارة «لا يفنى» تعني الأبدي وهي بعينها التي استعملها ق. بطرس ليصف ميراثنا السماوي الذي «لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحل» (1بط 1: 4)، ويرى ق. إغناطيوس أن هذا الحب الذي لا يفنى هو بعينه دم المسيح، وهو الشراب الذي يشتهيه فوق كل شيء!
[إنكم مشتعلون بدم الله !]
(الرسالة إلى أفسس 1: 1)
عبارة «دم الله» جريئة ومن أقوى ما يمكن. سبق أن استعملها ق. بولس: «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28) حين كان يُخاطب قسوس كنيسة أفسس. وهنا ق. إغناطيوس وهو يكتب أيضًا إلى كنيسة أفسس يقول إنهم «مشتعلون بدم الله»! فالدم الإلهي هو مصدر الغلوة الروحيـة فـينـا، هـو مـصـدر الحرارة والغيرة الروحية مصدر الاشتعال الداخلي بحب المسيح.
وأخيرًا يكتب إلى المؤمنين في كنيسة سميرنا:
[أُمجد يسوع المسيح إلهنا…
لأنكم راسخون في المحبة بدم المسيح]
(إلى سميرنا 1: 1)
هنا أيضًا دم المسيح هو جوهر المحبة الذي يجعلنا راسخين في حب المسيح.
بالحق يا ربنا يسوع المسيح،
إن «حبّك أطيب من الخمر!»
وأيضًا:
«لأن حبّك أطيب من الخمر (1: 2ب)
حب الله مصدر طاقة فائقة غير محدودة طاقة حركة هائلة، والطاقة عموما يمكن الانتفاع بها بطرق متعددة، فمثلاً الطاقة الكهربائية يمكن أن نحوّلها إلى طاقة حرارية في دفاية، أو طاقة حركة في موتور أو طاقة وضع في مصعد. وهكذا طاقة حب الله هي طاقة دافعة جبارة متعددة المنافع، هي التي دفعت جميع القديسين لكي يعملوا كل الأعمال التي صنعوها، دفعت الرسل لكي يعبروا القـارات سيرا على الأقدام ليُبشِّروا بالإنجيل، ودفعت الشهداء ليسفكوا دماءهم من أجل اسم المسيح.
بدون هذه الطاقة الفائقة التي أطيب من الخمر، ما استطاع الرهبان أن يسكنوا الجبال والبراري ويثابروا على الصوم والصلاة والتجرُّد. فالذي دفعهم إلى ذلك هو «عظم محبتهم للملك المسيح».
«لأن حبك أطيب من الخمر»
معروف أن الخمر تُعطي طاقة، ولكنها طاقة زائفة، ذلك لأن الخمر ليست غنية بالمواد الغذائية، ولكنها تتميّز بوجود نسبة من الكحول وهذا الكحول مهمته أن يحرق بسرعة المواد الغذائية الموجودة في الجسم، مما يعطي إحساسًا مؤقتًا بالانتعاش والحماس لفترة محدودة؛ ثم ما يلبث الشخص بعدها أن يصاب بالخمود والإحباط نتيجة حرق الطاقة التي كانت مخزونة فيه.
أما محبة الرب فهي “أطيب”، إنها هي أيضًا تعطي طاقةً وانتعاشًا، ولكنها طاقة حقيقية، طاقة لا تفنى طاقة تتزايد من تلقاء نفسها، لأنها آتية من فوق طاقة الحب الإلهي هذه تُعطيك قوةً في كافة المجالات. تجعلك تذهب إلى العمل وأنت في منتهى الفرح بحب المسيح، فلا تحس بالأتعاب التي تقابلك، بل تحس بالسعادة وأنت تبذل نفسك. تُعطيك قوة مثابرة في الوقوف في التسبحة أو في تلاوة المزامير بالقلاية هذه الطاقة تنير ذهنك وتفهمك الإنجيل وتكشف لك أسراره وأيضًا يُعطيك الحب الإلهي طاقة روحية لتتجاوز المشاكل التي تتعرّض لها في مسيرتك. فلو أن الحب الإلهي عمال داخل قلبك، تجد الشتيمة حلوة كالعسل وتتجاوز الافتراءات والمصاعب والاحتكاكات، تأخذ أجنحة روحية لتطير فوق كل المصاعب وتعبرها بسهولة.
لو قارنا الحب الإلهي بالخمر المادية، نجد أن الخمر تعطي مفاعيل زائفة، والحب الإلهي يعطي نفس المفاعيل ولكنها حقيقية وأفضل و أطيب بما لا يُقاس. فالخمر تُعطي في البداية فرحًا ثم تُعطي حرارةً وحماسًا ونشاطاً، ثم إذا ازدادت تُعطي شكرًا ونسيانًا لكل ما في العالم.
أما الحب الإلهي فيعطي نفس المفاعيل ولكن بصورة أخرى تماما.
المفعول الأول: الفرح.
نحن كل يوم نقول في مزامير باكر: «أعطيت سرورًا لقلبي أوفر من الذين كثرت حنطتهم وخمرهم وزيتهم» (مز 4: 7) ومزمور آخر يقول: «وخمر تفرّح قلب الإنسان» (مز 104: 15). هذا عن الخمر الطبيعية؛ أما الحب الإلهي فيعطي فرحًا سماويًا لا يستطيع شيء أن ينزعه منَّا، كما يقول المسيح: «ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم (يو 16: 22). وعن هذا الفرح يقول القديس أنبا أنطونيوس في رسالته الثامنة الشهيرة عن مفاعيل الروح القدس:
[ويكون لكم فرح سماوي ليلاً ونهارًا وتكونون وأنتم في هذا الجسد كمن هو في الملكوت ].
كيف يكون هذا؟ بقبول الروح القدس الذي يسكب في قلوبنـا محبة الله (رو5: 5) فكما أن أول مفعول للخمر المادية هو الفرح الزمني، هكذا أول مفاعيل الخمر الروحية، خمر الروح القدس، خمر الحب الإلهي هـو فـرح روحي أفضـل بـلا قياس، لأنه حقيقي ولا يزول.
آيات كثيرة في العهد الجديد تُبيّن أن الفرح من أهم مفاعيل الروح القدس:
+ «وأمَّا ثمر الروح فهو محبة فرح سلام…» (غل 5: 22).
+ «وأما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس» (أع 13: 52).
+ «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربا بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17).
+ «وأنتم صرتم متمثلين بنا وبالرب إذ قبلتم الكلمة في ضيق شديد بفرح الروح القدس» (1تس 1: 6).
يلاحظ في هذه الآية الأخيرة أنه يقول إنهم تمثَّلوا بالرب في قبول الضيقة بفرح الروح القدس. فهل الرب كان له فرح الروح القدس؟ ومن أين أتى بولس الرسول بهذه الحقيقة؟
مكتوب في الإنجيل: «حينئذ تهلل يسوع بالروح القدس…» (لو 10: 21) ومسحة الروح القدس التي مُسح بها الرب يسوع بحسب ما جاء في (مز45: 7 و عب 1: 9) كانت بزيت الابتهاج: «من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك».
المفعول الثاني: الحرارة الروحية
الخمر الطبيعية تُعطي مع الفرح حرارةً وحماسًا ونشاطا، وهكذا أيضا الخمر الروحية، خمر الروح القدس، خمر الحب الإلهي تعطي حرارةً وحماسًا ونشاطا، كما يوصينا بولس الرسول: «كونوا حارّين بالروح» (رو 12: 12). ولكن شتّان بين الخمر المادية والخمر الروحية فمفاعيل الأولى زائفة ومؤقتة، لأنه بعد فترة قصيرة تخبو كل حمية الإنسان ويحل محلها إحباط وحالة من الخمول والخمود. ولكن ليس الأمر هكذا بالنسبة للخمر الروحية فهي كما قلنا تُعطي الإنسان طاقة متجددة لا تنفد. فأنت كلما بذلت أكثر كلما أخذت طاقةً أكثر ، بمعنى أنك تأخذ أضعاف ما تُعطي هذا هو القانون الروحي، وهو مخالف تمامًا للوضع الطبيعي، الذي بحسبه كلما تعطي كلما ينقص رصيدك.
هذا ما اختبره الرسل في معجزة إشباع الجموع، كانوا يأخذون من يد المسيح جزءا من السمك ومن الخبز، ويوزّعون على الألوف الجائعة والخبز والسمك كما هو في أياديهم بل يفيض ويفيض دون نقص في هذه المعجزة تصوير مُبدع للقانون الروحي بأن الإنسان كلما يُعطي يأخذ، بل ويأخذ أكثر مما يُعطي.
وهذا ما نختبره عمليًا في حياتنا، أننا كلما بذلنا نفوسنا من أجل محبة المسيح، سواء في العمل أو الصلاة أو التسبيح، كلما نلنا طاقة متجددة تدفعنا لمزيـد مـن العطاء والبذل ولا نشعر بالتعب.
يوجد ربع في المديحة المشهورة التي بدايتها “داود هتف زمان…” يوضح هذه الحقيقة. يقول عن داود: [هتافه قدام التابوت كان يعطيه قوة]. هذا حق. فكلما سبح الإنسان بحماس وهتف كلما أخذ من الله ،قوة ثم إن هذه القوة عينها تدفعه لمزيد من التسبيح، ومزيد من الحب ومن البذل بلا توقف.
في الحقيقة هذه خبرة روحية حقيقية، لك أن تختبرها في حياتك إياك أن تصدق عندما يوحي عدو الخير الخير عندما لك بأنك إذا تغيبت عن التسبيح في الكنيسة ونمت، ستستطيع أن تؤدّي أعمالك اليومية بطريقة أفضل. هذا خداع من العدو الذي يغتاظ جدًا من التسبيح الصادق المقدَّم الله ، ويريد أن يوقفه بكل وسيلة. وأما ما اختبرناه عمليا، فهو أن الإنسان كلما كان أمينًا في تسبيح الله من كل القلب، كلما نال منه طاقة روحية بل وجسدية أيضًا أكثر جدا مما لو نام واستراح.
المفعول الثالث: السُكر
على إذا سألت إنسانًا يشرب الخمر، لماذا تشربها؟ يقول لك لكي أنسى همومي! هذا ما تعمله الخمر المادية. ولكن هناك فارق كبير بين إنسان يشرب خمرا لكي ينسى همومه، وبين إنسان يمتلئ بحب الله لكي يتجاوز مشاكله: الأول يتوهم أن همومه زالت، إلا أنه بعد ما يستفيق يجد أن المشاكل باقية كما هي بل ربما زادت، وقدرته حلّها نقصت. أما الذي يسكر بحب الله فهو لا يخدع نفسه كالنعامة التي تُخفي رأسها في الرمال، ولكنه بالعكس يكون قد لجأ للحل الحقيقي لكافة المشاكل، لجأ للوحيد القادر أن يحل جميع المشاكل، الذي «كل الأشياء متعبدة له» (المزمور الطويل الذي يُقال في نصف الليل قطعة 12: 3) القادر أن يُسخّر كل الأشياء لكي «تعمل معا للخير للذين يحبون الله!» (رو 8: 28)، الذي وعدنا قائلاً: «إن ثبتُم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7)؛ «تلذذ بالرب فيُعطيك سؤل قلبك» (مز 37: 4).
فأفضل طريقة لحل مشاكلك، سواء مشاكل في العمل أو في حياتك الروحية أو في علاقاتك مع الآخرين شخص أهانك افترى عليك لدى المسئولين، أو وقعت في ورطة من أي نوع… أفضل علاج لكل ذلك هو أن تلتصق بالرب بالحب الإلهي، فسوف تجد أن كل الأشياء تتحوّل لصالحك دون أي تدخل منك. ولكن بمجرد فقط أنك سكرت“ بالحب الإلهي والتصقت بالرب، تبحث عن المشكلة التي كانت تضايقك فلا تجدها.
والقديس مار إسحق يشرح ذلك قائلاً:
[كإنسان يشرب خمرًا وقت الحزن فيسكر وينسى كل وجع حزنه، هكذا الذي يسكر بحب الله في هذا العالم الذي هو بيت الندب والأحزان، ينسى وجع أحزانه جميعها؛ ولأجل سُكْرِه لا يحس بكل آلام الخطية، ويتقوى قلبه بثقته في الله، وتكون نفسه مثل الطير الخفيف الذي يرتفع فكره عن العالم كل حين ويطير في علو السماء في هذيذ أفكاره، ويتنعم بمواهب العلي الأزلية، وصلاته تكون بلا انقطاع، فيكون مثل إنسان يمتطي الريح كالحصان حتى لا يدركه عدوه، فكلما أقبل إليه هرب سريعا].
هذا القول يُذكرنا بما قرأناه لأنبا أنطونيوس:
[وتكونون وأنتم في هذا الجسد كمن هو في الملكوت].
فالذي يسكر بحب الله يكون كمن يركب طائرة ترتفع تدريجيًا عن الأرض، وكلما ارتفعت كلما صغر العالم بكل ما يحتويه تحتها.
وقديسنا لابس الروح الأنبا مقار هو من أكثر القديسين الذين اختبروا هذا السكر بحب الله. يقول عنه بالليديوس مؤرّخ الرهبنة الشهير، في كتابه التاريخ اللوزياكي:
[إنه كان في حالة دهش مستمر وكان يصرف وقتًا مع الله أكثر من اهتمامه بسائر الأشياء التي تحت السماء ].
حتى أن الذي ترجم عظات أنبا مقار الخمسين إلى اللغة الإنجليزية، لم يجد عنوانًا مناسبًا لها أفضل من “السكارى بالله” : Intoxicated with God، وذلك بسبب كثرة ورود هذه العبارة في عظات أنبا مقار.
في يوم الخمسين عندما حل الروح القدس على التلاميذ قيل عنهم «إنهم قد امتلأوا سُلافة»، أي إنهم سكروا بالخمر، وذلك بسبب الفرح والحماس والنشاط الذي بدا عليهم فكان رد بطرس الرسول : هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون… بل هذا ما قيل بيوئيل النبي : «يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر » (أع 2: 13-17). وفي هذا تلميح إلى أن مفاعيل الروح القدس في الإنسان تُشبه في ظاهرها ولكنها تختلف في حقيقتها وتفوق بلا قياس مفاعيل الخمر.
ونفس هذا التقابل أو هذا التضاد بين الروح القدس والخمر نجده في وصية بولس الرسول القائلة: «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح» (أف 5: 18)
وهكذا نستطيع أن نفهم الآية التي نحن بصددها: «لأن حبك أطيـب مـن الخمر»، بأن مفاعيل الحب الإلهي في قلب الإنسان تُشبه مفاعيل الخمر ولكنها تفوقها بلا قياس ، فهي بالحقيقة أطيب بلا حدود من الخمر المادية!
والآن نستطيع أن نفهم لماذا اختار الرب مادة الخمر ليُحمّلها سر دمه بل سرَّ حبه. لقد قال للتلاميذ وهو يُسلّمهم هذا السر:
+ «وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي» (مت 26: 29).
ويُفهم من عبارة «أشربه معكم جديدًا» أن خمر الملكوت خمر من نوعية جديدة تختلف تماما عن الخمر المعروفة لنا على الأرض. ولكن ما هي، ما هي هذه الخمر الجديدة التي وعدنا الرب أن نشربها معه في ملكوت أبيه؟ نقرأ الرد من القديس مار إسحق:
[المحبة هي الملكوت وهي ما وعد به ربنا الرسل وعدًا سريًا أن يأكلوه في ملكوته لأننا حين نسمعه يقول تأكلون وتشربون في مائدة ملكوتي»، ما الذي نظن أننا سنأكله إن لم تكن المحبة؟ المحبة تكفي لتغذية الإنسان عوضًا عن المآكل والمشارب. هذا هو الخمر المفرّح قلب الإنسان (مز 104: 15)، فطوبى لمن يشرب منه من هذا الخمر شرب الفسقة الوقحون فصاروا ذوي عفاف وحياء. شرب السكيرون منه فصاروا صوَّامين شرب منه الخطاة فنسوا سُبل المعاثر. الأغنياء شربوا منه، فأحبوا الفقر. والفقراء شربوا منه فاغتنوا بالرجاء. والمرضى فصحوا والضعفاء فتقووا، والعوام فصاروا حكماء].
هذه هي خمر الحب الإلهي التي وعدنا الرب أن نشربها معه في ملكوته، علمًا بأنه قال إن ملكوت الله داخلنا (لو17: 21) فمن يريد أن يشرب من هذه الخمر الروحية، عليه أن يطلبها داخله وليس خارجًا عنه.
«أشربه معكم جديدًا»: الخمر “الجديدة”
روح كلمة “جديد” في الإنجيل دائمًا ترتبط بالخليقة الجديدة، أو بالروح القدس الخليقة الجديدة. لذلك تكون الخمر الجديدة الموعود بها هي خمر الخليقة الجديدة خمر الروح القدس الذي به تنسكب محبة الله في قلوبنا (رو 5: 5). والخليقة الجديدة مخلوقة أساسًا في المسيح ومحصورة في محبة المسيح. فأوضح آية جاءت عن الخليقة الجديدة في العهد الجديد هي: «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة» (2كو5: 17)، وهذه الآية جاءت بعد قوله: «لأن محبة المسيح تحصرنا» (2کو 5: 14) ، فتعريف الخليقة الجديدة هو أن تكون مغمورة “في المسيح” وأن تكون محصورة بمحبة المسيح، بمعنى أننا لم نعد نستطيع أن نعيش لأنفسنا، لأننا صرنا محصورين بمحبة المسيح، لأنه «هو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام» (2کو 5: 15). صارت محبة المسيح هي الوسط الجديد الذي تعيش فيه الخليقة الجديدة فكما أن الطير مخلوق ليعيش في الهواء والسمك ليعيش في الماء، ويموت إذا خرج منه، هكذا الإنسان المخلوق جديدًا من الروح القدس لا يقدر أن يعيش خارج الحب الإلهي.
والآن نفهم ماذا يعني الرب بالخمر الجديدة التي وعدنا أن نشربها معه في الملكوت: هي خمر الخليقة الجديدة، خمر الحب الإلهي، وهي معطاة لنا منذ الآن لنمتلئ بها ونتجدد بها.
«نتاج الكرمة هذا»
ونلاحظ في الآية: «إني لا أشرب من نتاج الكرمة هذا…»، أنه لم يدعُها خمرا، بل نتاج الكرمة ونعرف من إنجيل يوحنا أنه في نفس الجلسة أشار إلى نفسه قائلاً: «أنا هو الكرمة الحقيقية …». ثم أعطاهم دمه في الكأس قائلاً: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي»؛ حتى صارت عبارة «نتاج الكرمة هذا» ذات مفهوم سرّي يدركه جميع الحاضرين ولا يحتاج إلى شرح فوعد المسيح بأن يشرب من نتاج الكرمة هذا في ملكوت أبيه معناه السري أنه سيعطينا أن نشاركه في حبه الإلهي الذي سكبه إلى آخر قطرة من دمه وقدمه لنا في الكأس! هذا هو نتاج الكرمة الحقيقية الذي ليس من نتاج الأرض، بل هو دمه الذي يُقدمه لنا في كل قداس هو حبه الذي هو أطيب بلا قياس ليس فقط من الخمر بل من كل ما يوجد على الأرض!
القديس إغناطيوس الأنطاكي الذي كتب رسائله وهـو سـائر نحـو ســاحة الاستشهاد، كان هائمًا بحب المسيح، وفي أكثر من موضع من رسائله يعتبر دم المسيح هو المرادف السري لحب المسيح:
+ [تجدّدوا في الإيمان الذي هو جسد الرب
وفي الحب الذي هو دم يسوع المسيح]
+ [أمجد يسوع المسيح إلهنا … إلهنا….
لأني أراكم راسخين في المحبة في دم المسيح]
+ [الشراب الذي أشتهيه هو دم المسيح
الذي هو الحب الذي لا يفنى]
هكذا يرى القديس إغناطيوس أن دم المسيح ليس مجرَّد دم عادي، ولكنه يحوي طاقة حب إلهي لانهائية لا تفنى. فكلما شربنا روحيًا من هذا الدم نمتلئ بالحب الإلهي الذي لا يفنى!
ما معنى عبارة “الحب الذي لا يفنى؟” وما هو الفرق بينه وبين أي حب آخر؟ كل حب أرضي مآله إلى الزوال، وكل طاقة وحرارة وحماس تعطيها الخمر المادية الأرضية يكون أقصى استمرار لها ساعات معدودة، ثم تتحوّل إلى عكسها، أمـا الخمر الروحية التي هي “دم المسيح” الذي هو الحب الذي لا يفنى، فمفعولها أبدي لا يزول. على أن تعبير الحب الذي لا يفنى استعاره القديس إغناطيوس من آخر آية في رسالة أفسس: «النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فناء» ( أف 6: 24) أي يحبونه بمحبة عديمة الفناء لا تفتر بل تتجدد من نفسها، وتزداد مـن يـوم إلى يوم وإلى الأبد.
وفي رسالته إلى أفسس يقول:
[إنكم متشبهون بالله ومضطرمون بدم الله !]
صلاة
نشكرك يا إلهنا الحبيب يا من أحببتنا حبًا يفوق العقل.
أنت الإله العظيم الأبدي الفائق،
خالق السماء والأرض والنجوم والمجرات التي تفوق التصور.
خلقت كل هذه الخليقة العظيمة لكي تُظهر لنا عظمتك اللانهائية،
ثم أخليت ذاتك وتصاغرت وأتيت إلينا على الأرض وبذلت نفسك، لكي تبين لنا مقدار حبك اللانهائي.
لا نهائية حُبك تُقاس بالمسافة اللانهائية بين عظمتك وإخلائك،
إنها مسافة لانهائية، فائقة لكل وصف وكل قياس.
ثم عبَّرت عن هذا الحب بسفك دمك لأجلنا،
وقدَّمته لنا في الكأس قائلاً:
«هذا هو دمي الذي للعهد الجديد»،
هذه هي الخمر الجديدة التي وعدتنا أن نشربها معك في ملكوتك.
اسكب فينا يا رب هذه الطاقة اللانهائية من الحب
الموجودة في دمك الإلهي
حتى نتجاوز بها كل ضعفاتنا وخطايانا ومشاكلنا،
ونتفوق عليها «كمن يمتطي الريح»،
فيرى العالم كله صغيرا تحت رجليه.
ربنا الحبيب نشكرك على هذه العطية،
أعطنا أن نقدّرها ونُكرّمها ونمتلئ بها ونضرمها فينا
فنزداد حرارةً يومًا بعد يوم.
اجعلنا نلتصق بك في كل لحظة،
ولا يكون حبُّنا لك مجرد كلمات أو أفكار في المخ والعقل،
بل يتحول إلى حياة أبدية، إلى حياة معاشة
فلا نكف من ترديد عبارات الحب لك في الليل والنهار.