طاقة فاغية، حبيبي لي، في كروم عين جدي

«طاقة فاغية، حبيبي لي، في كروم عين جدي» (14:1)

الفاغية هي نبات الحنَّاء، ومعروف أن الحِنَّاء (الفاغية) تتميز بصفتين:

الأولى: مع أن لها رائحةً طيِّبةً جدًّا، فهي تُذكر في نفس نشيد الأنشاد «الناردين» ومع «أنفس الأطياب»: «أغراسُكِ فردوس رمان مع أثمار نفيسة، فاغية وناردين، ناردين وكركم قصب الذريرة وقرفة مع كل عود اللبان مرّ وعود مع كل أنفس الأطياب» (نش 4٤ : 13-14). فقولها الآن «طاقة فاغية حبيبي لي» إشارة إلى «رائحة المسيح الذكية» (2كو 2: 15)، التي تملأ الوجود حولنا وكأننا مغمورون فيها في مقالة عن “شاكيناه العهد الجديد تكلم أبونا الروحي عن حضرة المسيح التي تملأ الوجود كأنها رائحة عطرية تُحيط بنا:

[نحن نحتاج إلى التدرب على محادثة المسيح من القلب ولو أثناء العمل أو الكتابة أو حتى القراءة. فالإحساس بوجود المسيح لا يلزم أبدًا أن يكون في الهدوء أو أثناء الصلاة فقط، لأن المسيح له حضرة بهية تسيطر على الجو كله كالنور ، أو كالرائحة العطرية التي يمكن أن يحيا فيها الإنسان وهو مشغول أو حتى وهو نائم ].

والصفة الثانية التي تتميّز بها الفاغية أي الحناء أنها تعطي صبغة يصعب إزالتها، وهي تُستخدم حتى الآن في بعض الأوساط في الأفراح، حيث يدهنون أياديهم وأرجلهم. هذه الصبغة من صفاتها أنها تلصق بالجلد بشدة ولا تفارقه مهما حاولنا إزالتها وغسلها بالماء والصابون، بل تستمر عالقة وصابغة للجلد لعدة أيام. فلهذا تكون الحناء رمزا للالتصاق الدائم والعلاقة المستمرة. ولهذا السبب يستخدمونها في الأفراح أي في حفلات العُرس، لكونها علامة للارتباط الدائم الذي لا ينفك ولا يمحوه الزمن بين العريس والعروس.

والآن يتضح القصد الروحي من تشبيه العريس بطاقة فاغية“: «طاقة فاغية حبيبي لي». فارتباطنا بالمسيح هو ارتباط لا يمحوه الزمن ولا تؤثر فيه الظروف. والمسيح نفسه هو الذي أسس هذا الارتباط في ذات كيانه. ففي شخصه الإلهي وحد طبيعتنا البشرية بطبيعته الإلهية بوحدة لا تقبل الافتراق، كما نقول في التسبحة: ومعناها: “بوحدانية لا تقبل الافتراق”

وهذه العبارة مقتبسة من أقوال القديس كيرلس الكبير :
 [ لقد ولد بحسب الجسد من امرأة آخذا منها جسده الخاص لكي يغرس نفسَه فينا باتحادٍ لا يقبل الافتراق ].

فهذه هي الغاية النهائية من التجسد، أن يغرس المسيح نفسه فينا باتحاد لا يقبل الافتراق. لقد بدأ المسيح هذا العمل في نفسه بأن وحد طبيعتنا بشخصه الإلهي، وقطع على نفسه عهدًا أبديًا أن لا يفارقها إلى أبد الآبدين. فلن يحدث إلى الأبد ولا بعد مليارات من السنين أن المسيح يتراجع عن هذا العهد أو يفصم هذه الوحدة، كأن يقول: “لقد أكملتُ مهمتي، وبالتالي سأعيد جسدي الذي اتحدتُ به للتراب والعدم، وأنا أعود كما كنتُ، اللوغوس غير المتجسّد في حضن الآب هذا لن يحدث إلى الأبد، مهما طالت الدهور …! 

ولأنه وحد نفسه بطبيعتنا هكذا؛ فهو يشتهي أننا نحن أيضا نثبت فيه «بوحدانية بلا افتراق». لذلك أكد بتكرار وإلحاح كثير على ضرورة الثبات فيه، في کلامه عن الكرمة الحقيقية في يوحنا 15: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا في… الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير» (يو 15: 4-5). وأيضًا في يوحنا 6 في حديثه عن الإفخارستيا : «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه» (يو 6: 56).

ولكن لماذا يلح الرب بهذا الإلحاح الكثير على الثبات فيه وهو فينا؟

لأن هذه هي الغاية من مجيئه بل الغاية النهائية من خِلقة الإنسان، بل ومن خلقة الكون كله من أجل الإنسان. فالله خلق الإنسان لكي يصل به في النهاية إلى أن يتحد به كغاية نهائية للخليقة كلها.

«… في كروم عين جدي»

عين جدي منطقة في جنوب فلسطين مشهورة بكرومها المثمرة والكرمة عموما رمز للثمر الكثير – وقد استخدم المسيح رمز الكرمة مرتبطةً بهذا المعنى «الثمر الكثير» في يو 15. وهنا تتَّضح العلاقة بين شطري الآية. فالشطر الأول «طاقة فاغية حبيبي لي» يُعبّر، كما رأينا . مع الحبيب، سواء بالوجود الدائم في محال رائحته التي تملأ المكان أو بالاصطباغ بصبغته الدائمة التي لا تزول. ثم يأتي الشطر الثاني «في كروم عين جدي» ليؤكد على الثمر الكثير العلاقة الدائمة عن الناتج من هذا الاتحاد الدائم بالحبيب:

«طاقة فاغية حبيبي لي   في كروم عين جدي»

«من يثبت فيَّ وأنا فيه  هذا يأتي بثمر كثير»

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى