وصايا الطبيعة الجديدة

إنجيل يوم الأربعاء من الأسبوع الأول من الصوم المقدس

المزمور:« احْفَظْ نَفْسِي وَأَنْقِذْنِي. لَا أُخْزَى لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. الْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي لأَنِّي وَحْدٌ (مُنفردٌ) وَمِسْكِينُ أنَا» (مز ٢٥ : ١٦،٢٠).

الإنجيل: «بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (لو 6: 35-38).

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل هذا الصباح، يا أحبائي، أربع آيات، وهو يحوي كل منهج الحياة المسيحية، ولكنها تحوي ثماني وصايا: ستٌّ منها أوامر إيجابية، واثنتان نواهي:

+ «أحبُّوا أعداءكم، وأحسِنوا وأقرضوا وأنتم لا تَرْجُون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونون بني العَليِّ، فإنه مُنْعِمٌ على غير الشاكرين والأشرار. فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم. ولا تدينوا فلا تُدانوا. لا تَقْضُوا على أحد فلا يُقْضَى عليكم. اغفروا يُغفَر لكم. أَعطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جيداً مُلَبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعْطُون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكالُ لكم».

الوصايا الإيجابية: أحبوا، أحسِنوا، أقرضوا، كونوا رحماء، اغفروا، أعطوا.

الوصايا السلبية: لا تدينوا، لا تقضوا.

واضحٌ أنَّ:

الوصايا الإيجابية: تخصُّ الطبيعة الجديدة للإنسان المُعمَّد أي المولود ثانيةً.

والوصايا السلبية: هي لضبط الإنسان العتيق وتوقيفه عن العمل.

الوصايا الإيجابية:

كلها تستحيل شكلاً وموضوعاً على أيِّ إنسان يعيش بفكره وطبيعته العتيقة محكوماً بالذات والخطية. والمحكُّ الأول لذلك هو الوصية الأولى.

1. محبة الأعداء:

شيءٌ تنفرد به المسيحية كصفة خاصة بالخليقة الجديدة، التي على صورة خالقها في البرِّ وقداسة الحق (أف 4: 24).

ومعناها أنَّ لا وجود للذات التي تتأثر بالعداوة وتنفعل لها وتتحفز ضدها؛ حيث احتمال التنازُل والبذل باستعدادٍ حتى الموت واردٌ.

ومعناها كذلك، أنَّ عنصراً خلاَّقاً فائقاً للطبيعة موجود داخل القلب والفكر والنفس، ذلك هو محبة الله المنسكبة بالروح القدس في القلب. وهنا تكون محبة الأعداء عملاً منعكساً من أعمال الصليب، دخل في طبيعة الإنسان وسلوكه كفعلٍ حيٍّ يعمل لحساب المسيح مباشرة، نأخذه بقوة سرِّية عندما نتناول الجسد الممزَّق والدم المسفوك على المذبح، لأن فيها قوة المحبة الغالبة للعداوة، المحبة المذبوحة من أجل الأعداء وبيدهم. فكل مرة نتقدَّم فيها إلى سرِّ التناول نغتذي من قوة الحب الباذل حتى الموت.

2. «أحسِنوا»: ¢gaqopoie‹te اعملوا الصلاح، الصالح:

في الحديث السابق مباشرة للمسيح جاءت: «أَحسنوا إلى مُبغضيكم» (لو 6: 27)، وهي مترتِّبة أساساً وبالضرورة على «أحبوا أعداءكم». فقوة الإحسان بالصالح للذين يُبغضوننا لا تجيء من فراغ ولا من برِّ الذات أو إمكانيات وأخلاق الإنسان الطبيعي، فهذا من المستحيلات؛ بل هي إفرازات المحبة الإلهية التي سكنت الطبيعة الجديدة، وفتحت مغاليق أحشاء الإنسان بلا فحص، ليتلقَّى إحسانات الله ومنها يوزِّع، والإحسان إلى المُبغضين هو الميل الثاني لمحبة الأعداء.

3. «أقرضوا وأنتم لا تَرْجُون شيئاً»:

القَرْض أصلاً يُسْتَ‍رَدُّ. والقرض لا يجوز إلاَّ بين متساوين في الدرجة المالية والكرامة، وإلاَّ يصير حسنة لله. ولكننا هنا، نحن لا نتعامل مع الإنسان الطبيعي وأصوله في المعاملات؛ بل الإنسان الجديد الذي لا يستسيغ معنى الحَسَنَة المالية، ولا يجيز أن يحسب المُعْطِي أغنى من المُعْطَى له؛ بل ينعكس الوضع كما عكسه المسيح في نفسه، الذي افتقر وهو غني. فالإنسان الجديد يُقْرِض مَن كان في حاجة، على أساس أنه يسترد القيمة بالروح – وفي الحال – من المسيح مُضاعفة.

كما أن المسيحي الروحي ليست له أموال خاصة؛ بل هي أموال الله، وهو وكيل عليها، وهو يُعطي على أساس الآية المشهورة: «مَن يرحم الفقير يُقرِض الرب» (أم 19: 17). والفاقد من مال الإنسان المسيحي على الأرض مكنوزٌ له في السموات، حتى ولو سُلِبَتْ منه عنوة: «لأنكم… قَبِلْتُم سَلْبَ أموالكم بفرح» (عب 10: 34)، والفرح هنا نتيجة تحويل المال إلى فوق.

4. «كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم»:

مَن ذاق الرحمة يرحم، ولا رحمة لِمَنْ لم يصنع رحمة.

الإنسان في طبيعته الأولى يرحم ذوي الرُّحمَى، أي ذوي القُرْبَى، فرحمته منغلقة في حدود صِلات الجسد. أما المسيحي، الذي نال طبيعته الجديدة، فقد خرج عن نطاق الرَّحِم الذي منه وُلِدَ، فلا يعود يرحم مِمَّا له؛ بل من مراحم الله الصادقة التي تتجدَّد عليه كل صباح: «لأن مراحمه لا تزول، هي جديدة في كل صباح» (مراثي 3: 23،22).

مراحم الله عندما تنسكب على إنسان، تجعله يرحم بلا حدود.

ويُلاحَظ أن المسيح يتدرَّج للدخول في العمق، مِن محبة، إلى إحسان، إلى إقراض بلا عائد، إلى رحمة متسعة بلا حدود، حيث الرحمة هنا مبنيَّة على هذه الثلاث (وصايا). أي مُدعَّمة بالمحبة والإحسان واستعداد العطاء بلا عائد. وهكذا تدخل في صفات رحمة الله، حيث يتبنَّى الإنسان المواقف الصعبة للغير: يحملها معه، أو يحملها عنه، لأنه هو محمول على ذراعَي القدير.

«كونوا رحماء»، تحمل معنى أن يُشارك الإنسان أخاه في ضيقته أو في شدَّته أو حزنه أو تعبه: «فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين» (رو 12: 15). فهو يحاول ليس فقط أن يتبنَّى ضيقة أخيه، ولكن يحملها معه؛ وليس ذلك فقط، فعندما ينمو في القامة الروحية، يحاول أن يحمل ضيقة أخيه عنه. هذه هي الرحمة في مفهومها الواسع.

5. «اغفروا يُغْفَر لكم»:

لا يُغفَر الخطأ والخطية إلاَّ لِمَن يسعى لمغفرة خطاياه، ومَن أكرم الاعتراف، والندامة، وسَكْب الدموع بلا كيل، لينال لنفسه الغفران. فإذا ذاق قوة المغفرة يشتهيها للآخرين. وإذ يحسُّ بعِظَم وكثرة خطاياه المرفوعة، ويتوسَّل لدى الله لنَيْل الغفران والصفح عنها؛ تصبح خطايا الآخرين من نحوه لا تستحق أن يقف عندها أو يتمسَّك بها.

أما الذي لا يُكْرِم الاعتراف، والإقرار بخطاياه، وطلب الصفح عنها؛ فإنه لا يُقدِّر قيمة غفران الخطايا. وغفران الخطايا يسبق القدرة على عدم الدينونة وعدم القضاء. فالذي استطاع أن يغفر لا يمكن أن يدين.

والمقايضة التي يضعها المسيح هنا: «اغفروا يُغْفَر لكم» تفوق حدَّ النسبة. فنحن نغفر توافه الأخطاء والهفوات؛ والرب يغفر خطايا وتعدِّيات قلبنا التي تقشعر منها السماء والأرض.

ولكن لا يقدر أحدٌ على الغفران حقّاً ومن كل القلب، إلاَّ الذي غلب العالم، وثبَّت وجهه نحو السماء، وباع نفسه للذي اشتراه.

6. «أَعطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جيداً مُلَبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعْطُون في أحضانكم.

لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكالُ لكم»:

ليس من فراغ ولا من سخاء الذات يُعطي الإنسان الآخرين بهذا الكيل. الإنسان بالطبيعة مُحبٌّ لذاته، والعطاء أصعب شيء عنده. لذلك فالعطاء هو صنعة مَن استؤمِن على مخازن سيده الملآنة خيرات، وللذي أحسَّ في حياته بكُوَى السماء المفتوحة التي تفيض حتى لا مُتَّسع. وطبعاً المقصود هنا خيرات الروح وفَيْض النعمة، لذلك فهو يُعطي بلا كيل لأنه أَخَذَ بلا كيل: «ليس بكيل يُعطي الله الروح» (يو 3: 34).

وليس جُزافاً يذكر المسيح العطاء بالكيل الجيِّد المُلبَّد المهزوز الفائض كآخر كل الوصايا، لأنها مُحصِّلة الجميع. فهذا الكيل هو كيل ملء المسيح: «ومِن ملئه نحن جميعاً أخذنا» (يو 1: 16)، والذي أَخَذَ الملء هو وحده الذي يفيض.

 

(?( (

 

 

الوصايا السلبية:

 

1. «لا تدينوا فلا تُدانوا»:

الإنسان الذي لا يدين، هو الإنسان الذي يسعى لكي يرفع الله عنه الدينونة: «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح» (رو 8: 1)، هو الإنسان الذي أحسَّ بعِظَم الطُّوبَى: «طوبى للذي غُفِرَ إثمه وسُتِرَت خطيته. طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية، ولا في روحه غش» (مز 32: 1).

الواقع تحت الدينونة عسيرٌ عليه جداً أن لا يدين بفكره وقلبه. عدم الدينونة هي من صفات الله، وكل مَن وُلِدَ منه: «إن مَن يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24).

مَن يسعى ليذوق الصفح عن خطاياه، ويشتهي أن يُرفَع سيف الدينونة من فوقه؛ يشتهي الصفح للجميع، ويطلب الغفران للكل.

وعدم الدينونة مربوط بالرحمة. فالذي تثقَّل بهموم وضعفات الخطاة، وانسكبت أحشاء رحمة الله في قلبه تجاه الآخرين؛ لا يعود قادراً أن يدين، بل يتمنَّى لو يحمل الدينونة عنهم، وعِوَض الدينونة يمتلئ قلبه بالأنين والهمِّ عليهم. لأن روح الفدية يسود عليه: «احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح» (غل 6: 2).

2. «لا تقضوا على أحد فلا يُقضَى عليكم»:

الدينونة تبدأ في الفكر وتنتهي عند اللسان؛ أما روح القضاء فينبع من القلب الغاضب المجروح الذي يطلب الانتقام ورد الطعنة عنه، فهو يُكوِّن حُكْماً قاطعاً في القلب ومُبيَّتاً، يمتدُّ لاستصدار الحُكْم بالردِّ أو التأديب.

فروح القضاء أشنع من روح الدينونة. والقضاء سواء بَقِيَ في القلب أو انتهى إلى القضاء بالفعل، يبدأ بخسارة وينتهي بخسارة، مهما كانت المكاسب الشكلية. فهزيمة المغتصب تكون قد ضيَّعت أعزَّ وأغلى وصية في المسيحية: «أحبوا أعداءكم»، والمحبة لا تحتمل روح القضاء لأنه يقتلها.

المسيح وضع حدّاً لروح القضاء منذ أول خطوة: «كُن مُراضياً لخصمك سريعاً ما دُمتَ معه في الطريق» (مت 5: 25).

إنْ عَفَوْتَ، ربحتَ نفسك والخصم، وربحتَ رضا الله والضمير.

وإنْ لم تَعْفُ، خَسَرْتَ نفسك وحتى الفَلْسَ الأخير، وتكُن قد كرَّستَ للعداوة بيتاً في قلبك وقلب خصمك. وحتى إن ربحتَ قضيتك على الأرض، تكون خسرتها في السماء.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى