كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الدَّهش

‏Έκστασις

«فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة Έκστασις أخذ تاهن.» (مر 16: 8)

وصف الكتاب المقدس حالة الدهش بكلمة Έκστασις ، وتفيد في الأصل اللغوي معنى الذهول أو الإغماء وانخطاف العقل حيث يخرج الإنسان عن وعيه، وقد تُرجمت بالعربية إلى كلمة «حيرة » كما في قول داود النبي في المزمور :١١٦: «أنا قلت في حيرتي إن كل الناس كاذبون». وهنا، للأسف الشديد ، فهمت كلمة «حيرة» أنها تفيد الإرتباك ، ولكن هي في الواقع تفيد حالة سمو روحي هو الدهش الروحي حيث قرينة الكلام توضح هذا المعنى، إذ يقول داود النبي بعد ذلك : «بماذا أكافىء الرب عن كل ما أعطانيه ، كأس الخلاص آخذ وباسم الرب أدعو» (مز 116: 12 و 13) ، أي أنه يعترف بمقدار النعمة التي رفعت إليها نفسه أثناء الدهَش ( الحيرة). أما قوله إنه في دهشه رأى أن كل الناس كاذبون فهو المعنى المطابق لقول سليمان في سفر الجامعة «الكل باطل وقبض الريح» (جا 1: 14). أي أن داود استعلن له أثناء دهشه الروحي أن كل ما للإنسان باطل[1]

كذلك وردت كلمة «حيرة» كترجمة لمعنى الدهش الروحي في العهد الجديد في عدة مواضع لـتـفـيـد الإندهاش والتعجب الفائق المذهل للعقل بسبب الفرح أو التأثر الروحي الشديد مثل : فأخذت الجميع حيرة ومجدوا الله وامتلأوا خوفاً قائلين إننا رأينا اليوم عجائب.» (لو 5: 26)

و وردت أيضاً في سفر الأعمال بنفس هذا المعنى : « وعرفوه أنه هو الذي كان يجلس لأجل الصدقة على باب الهيكل الجميل وامتلأوا دهشة وحيرةً  مما حدث له.» (أع 3: 10)

و وردت أيضاً في موضع آخر حيث تظهر قوة الكلمة: «بل بعض النساء منا حيرننا ( أي أوقعننا في الدهش ) إذ كُنَّ باكراً عند القبر، ولما لم يجدن جسده أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي.» (لو 24: 22) . ويتضح معنى الكلمة أكثر في الموضع الآتى : «فخرجن سريعاً وهر بن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً ( انعقد لسانهن ) لأنهن كن خائفات.» (مر 16: 8)

وفي الواقع قد أسيء في ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وخاصة في النسخة البيروتية فهم الكلمة اليونانية بترجمتها بكلمة « حيرة » ، فهذا غير صحيح وغير واقعي، بل وقد أسيء أيضاً إلى استخدام كلمة « حيرة » نفسها إذ جعلت مرة في موضع الدهش الروحي السامي ومرة أخرى في موضع الإرتباك دون مراعاة لدقة الترجمة للكلمات اليونانية ودون مراعاة للمواقف الروحية.

والدهش أو الغيبوبة الروحية، حالة اختطاف روحي يعبر عنها الكتاب المقدس بعدة اصطلاحات مثل: « وكان روح الرب عليه» (قض 3: 10؛ 29:11)، أو «يد السيد الرب وقعت عليَّ» ( حز 8: 1) ، أو «اختطف إلى السماء الثالثة… أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم. الله يعلم.» (2كو 12: 2 و 3 ) ، أو «مطروحاً وهو مكشوف العينين » ( عد 24: 4 ) ، أو « كنتُ في الروح.» ( رؤ 1: 10)

وهذا الإختبار يستلزم أن يكون الإنسان في حالة استعداد روحي داخلي لقبول إعلانات الله ، لذلك فالدهش يكون دائماً ملازماً لحالة الهدوء الكامل والسكينة التي بعدها يتوقف اتصال الإنسان بنفسه وبالعالم المحيط و يصبح تابعاً الله بكل كيانه. وفي الدهش يفقد الإنسان السيطرة الحرة على عقله وحواسه، لأن الروح القدس هو الذي يقوده في هذه اللحظات، فتبتلع حريته في مشيئة الروح و يكون تحت تدبيره وإعلاناته.

والدهش يسجله العهد القديم بمنتهى الوضوح في كافة الحالات التي كان يتقبل فيها الأنبياء صوت الله وأوامره وإنذاراته، حينما كان يُخطف عقل النبي فجأة ويصير في غيبوبة يعود بعدها إلى نفسه لينطق بكلمة الله بمنتهى الصحو والرزانة والوضوح ؛ أو ينطق أثناء دهشه بكلمات الله وهو في نصف وعيه واصفاً ما يراه وما يسمعه ؛ أو يكتب بيده ـ وهو في دهشة ـ كل ما يمليه الله عليه كما في حالة دانيال النبي : « أما أنت يا دانيال فاخْفِ الكلام واختم السفر إلى وقت النهاية» ( دا 12: 4 ) ؛ وفي حالة يوحنا في سفر الرؤيا في العهد الجديد : « وقال لي لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.» (رؤ 22: 10).

و بتجسد ابن الله وحلول الروح القدس على الكنيسة وانسكابه على كل بشر كوعد الله في سفر يوئيل النبي وكوعد المسيح قبل الصعود وكتحقيق سفر الأعمال يوم الخمسين ، صار كل إنسان في المسيح يسوع مهيَّأ بالنعمة التي بالمسيح، ومعداً بالسر الإلهي المنسكب عليه بالروح القدس أن يكون تحت سيطرة الروح القدس وتعليمه وتدبيره المباشر كما كان الأنبياء، ولكن لا ليأخذ من الله إستعلانات جديدة للإيمان العام كالأنبياء أو الرسل ولكن ليعرف ما يخصه في هذا الإيمان عينه ، وليدرك خلاصه ويكتشف سر محبة يسوع المسيح المذخرة له شخصياً، ويتقبل منه إعلانات خاصة لنفسه كوعد المسيح : «أحبه وأظهر له ذاتى» (يو 14: 21) ، حيث الدخول تحت سلطان الروح القدس وتدبيره يختلف تأثيره على النفس البشرية من إنسان لإنسان.

فالدهش لا يزال إلى الآن، كما كان في العهد القديم ، أحد وسائل الإتصال المباشر بين الله والإنسان، إنما بدرجات متفاوتة قد تصل إلى الدرجة الكاملة وذلك لزيادة المعرفة ونمو علائق المحبة الفردية الشخصية بين الله وأحبائه الأمناء المخلصين، هذه المعرفة، أو هذه المحبة هي التي وعد الله أنها تظل تزداد من يوم إلى يوم وإلى الأبد.

أما السؤال لماذا لا تُستعلَن كل الأسرار الإلهية الفائقة التي تختص بمعرفة الله ومحبته بواسطة العقل الواعي ؟ فالجواب بسيط وسهل، وهو أن عقل الإنسان الواعي ذو طبيعة قائمة على أساس القياس المادي والتصوري والمنطقي ، وقد نمى وكبر ونضج بتأثير هذه القياسات ، لذلك نشأ عاجزاً تقريباً عن معرفة الله الكاملة والحقيقية ، لأن طبيعة الله ليست خاضعة للقياسات المادية أو التصورية أو المنطقية . لذلك صار الإيمان بالله أمراً يفوق العقل بالضرورة ، فالذي يريد أن يؤمن بالله حقاً لا بد له أن . يسمو فوق نفسه وفوق عقله وفوق الدنيا كلها ولهذا أصبحت قيمة الإيمان أعلى من قيمة الإنسان نفسه ومن الدنيا كلها . وهذا صار جزاء الإيمان أعلى من كل ما يملكه الإنسان وأعلى من أمجاد الدنيا بأسرها . فجزاء الإيمان هو الله نفسه. وبذلك فقيمة الإيمان في الواقع أعلى من قيمة الدهش والرؤى والإعلانات في حد ذاتها : طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو 20: 29)

ولكن لكي يعلن الله محبته للإنسان الذي أحبه وآمن به ، استلزم أن يُظهر الله نفسه للإنسان أحياناً حتى تكون محبته شخصية ذاتية حقيقية على الواقع البشري : « الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتى» (يو 14: 21). ولكي يعلن الله ذاته للإنسان يستلزم حتماً وبالضرورة أن يتجاوز الإنسان كل ما يمكن أن يقع تحت بصره وسمعه وفكره وكل حواسه حتى لا تدخل هذه الحواس الجسدية والعقلية وتزيف حقيقة الله الذي يفوق حواس الإنسان، من هنا صار ظهور الله للإنسان وإعلان محبته لمحبيه يستلزم بالضرورة توقف نشاط وفاعلية العقل المتصل بالحواس فترة معينة يتم فيها هذا الإتصال الفائق للطبيعة المحسوسة، وهذا هو الدهش بالله الذي سميناه الدهش المطلق بسبب تساميه فوق المحدود والمحسوس.

واختبار الدهش بالله لا يتوقف على استحقاقات معينة يشترطها الله ليعلن نفسه للإنسان سوى المحبة العميقة من كل العقل والقلب والنفس حسب الوصية . والعجيب حقاً أن العلاقة القوية والأساسية بين الحب الجارف الحار وبين الدهش بالله تظهر بصورة اختبارية أكيدة فكل الذين دخلوا في اختبار الدهش ،بالله هم في الحقيقة الذين دخلوا في حالة حب قلبي كامل الله ، فبمجرد أن تبلغ حرارة المحبة القلبية حداً معيناً يكون ذلك إيذاناً بإمكانية الدخول في حالة الدهش؛ لذلك يسمون الدهش أحياناً بالسرور المفرط : Rapture. ولكن تظل النعمة غير مقيَّدة حتى بهذا الشرط، إذ يجوز للنعمة أن تفتقد الإنسان وتباغته فجأة دون أي استحقاق أو استعداد وتدخله في حالة الدهش، وكأنه وقع فريسة محبوبة للحب الطاغي الذي يُفقده حريته وإحساسه بنفسه لينعمه بمسرات ومعرفة لا ينطق بها.

لذلك فإن اختبار الدهش لا يمكن أن نعتبره درجة للمتقدمين روحياً، بل يميل بعض الآباء، مثل سمعان الناطق بالإلهيات إلى اعتبار الدهش اختباراً مناسباً للمبتدئين ، معتبراً أن عدم خبرة المبتدئين بالنور الإلهي الداخلي يجعلهم عُرضة للإصطدام المفاجيء الشديد بحقيقة بهاء ذلك النور الفائق مما يسلبهم وعيهم في الحال، كالإنسان الذي اعتاد الظلام حينما يُفاجأ بنور شديد.

ولكن في رأينا، أن المبتدئين يكونون في حالة تؤهلهم للدهش ليس بسبب عدم تعودهم على النور الإلهي بل بسبب شدة حرارتهم الأولى التي تفوق العقل. فالمعروف بالإختبار العملي أن حرارة ومحبة الإنسان المبتدىء نحو المسيح تبدأ من القمة حيث تبلغ في اللحظات الأولى من حياته الجديدة أعلى مستوى لها، الأمر الذي يجعل الإنسان في فرح ونشوة روحية تفوق العالم كله وتفوق العقل حتى أن الإنسان يكاد يكون في حالة ذهول دائم.

لذلك نسمع مراراً وتكراراً من الآباء المعلمين الأوائل أنه يلزم للإنسان أن يعيش في شعور وحرارة وحب اليوم الأول الذي تاب فيه وترك العالم وراء ظهره. وقد أثبت كثير من الآباء إمكانية هذه الحياة الحارة الدائمة المفعمة بالحب والدهش، مثل القديس مكاريوس  الكبير الذي نقرأ عنه لدى بالليديوس أنه كان دائماً في حالة دهش.

وفي رأي الـقـديـس ديونيسيوس الأريوباغي أن الدهش عملية لاإرادية « يتقرب بها الإنسان نحو الله » وذلك مكافأة له عما يكون قد ابتعد به عن العالم ، فبقدر ما يفقد الإنسان يجد، وبقدر ما يموت يحيا . والدهش يستلزم فعلاً أن يكون الإنسان خاضعاً لله خضوع الميت الذي استسلم لله كلياً.

وفي نظر الروحيين على وجه العموم نجد أن الدهش يعبر عن عملية ارتقاء وتصاعد سري للطبيعة البشرية نحو وضعها الأفضل الذي دعيت إليه من واقع خلقتها ، لأن الإنسان مخلوق ليتغير وهو مدعو ليتغير روحياً إلى أعلى ليصير أقرب إلى الله.

ولكن ليس الدهش اللاإرادي هو المدخل الوحيد لهذا الإرتقاء أو التصاعد السري للطبيعة البشرية وتقربها من الله . فتوجد نفوس ذات مجال روحي عميق متسع وذات بناء عقلي قوي تستطيع ، وهي في كامل وعيها أن تبلغ درجة من التجرد الذاتي فيها تتقابل مع الحق الإلهي ومع وجه يسوع المسيح في صميم قاعدتها الواعية حيث تتواجه مع الله بكافة قواتها وطاقاتها الروحية والفكرية والحسية معاً في لحظة واحدة حينما تبلغ النفس حالة صادقة من الحب. وهذا الإختبار الواعي الذي تتواجه فيه النفس مع الله بالرغم من أنه يكون أقل قوة وعمقاً وأصالة من حالة الدهش والغيبوبة الروحية غير الواعية وغير الحسية ، إلا أنه يُعتبر أكثر صلة بحياة الصلاة وأكثر واقعية لجمال العبادة، حيث تذوق النفس فيه أسعد مسرات الروح وتعزياته وتصير كأنها في حالة سكر واعي.

وجميع الحالات التي ذكرت في الكتاب المقدس التي وصفت فيها النفس كأنها ثملة من الخمر وقورن فيها عمل الروح القدس في النفس بعمل الخمر في العقل، هي تصوير مباشر لحالة الدهش في حالاته المختلفة بين الدرجات الواعية وغير الواعية، كاختلاف درجات تأثير الخمر على العقل تماماً.

الدهش أي الجذب الإلهى
وما يلازمه من انفعالات نفسية

 يُعتبر الدهش ظاهرة لبلوغ قمة التأمل ونهايته، لأنها تُعبر بكافة الوجوه عن حدوث حالة اتصال سري وثيق بين النفس والله التي هي غاية الصلاة وكل نشاط روحي.

ولأن الإنسان يكون منجذباً نحو الله بقوة خارجة عن إرادته ، بينما تكون النفس والعقل وكل الحواس مخطوفة وغير قادرة على مباشرة نشاطها الطبيعي وفاقدة كل استجابة للمؤثرات الخارجية، فإن هذه الحالة تُعتبر تشخيصاً واقعياً للتأثير الروحي الكبير الذي يتعدى اللاشعور ليشمل الشعور نفسه بكل ميكانيكيته وتنبيهاته . وهذا يُفصح عن أن الإتصال بين الله والإنسان إذا تم فعلاً فإنه يصبح من القوة والعظمة والعمق إلى الدرجة التي لا يمكن للإنسان فيها أن يتمالك نفسه أو يحتفظ بوعيه تماماً أو يظل يباشر اتصاله بهذا العالم الخارجي المنظور ! … «الإنسان لا يراني و يعيش . » (خر 33: 20)

والجذب الإلهي ليس واحداً لكل السائرين على الطريق ، فدرجة العمق والوضوح تختلف حسب المدرج الروحي الذي يسلكه الإنسان لأنها تعبر عن حالة اتصال بالله . وحالة الإتصال هي في جوهرها فعل إدراك ومعرفة فائقة، والإدراك بالتالي يتناسب دائماً مع اتساع القلب بالحب وحرية الضمير في الحق وهذه ليست واحدة عند الجميع . لذلك لا نسمع عن القديسين إلا همسات شاردة متباينة عن اختبارهم لهذه الحالة يمنعهم عن الإسترسال في وصفها لصعوبة التعبير وشدة الإتضاع أيضاً ! وعلى حسب تعبير بولس الرسول : أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم ، الله يعلم …» (2كو 12: 3) «اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها.» (2كو 12: 4)

ولكي نحيط بحالة « الدَهَش» التي ينتهي بها التأمل غالباً، يلزمنا جداً أن نعرض للنواحي الجسدية والنفسية والروحية التي تشترك بالضرورة في حدوث هذه الظاهرة غير العادية :

النواحي الجسدية :

الدهش الإلهي حسب الفحص الطبيعي هو حالة غيبوبة تتراوح بين العمق الشديد والخفة، وتتفاوت في مدتها بدءاً من الاستغراق الطويل إلى اللحظات القصيرة، حسب عمق وسرعة التأثر الذي يستجيب به الجسد لموضوع التأمل.

وهذه الحالة يدخل فيها الجسد إما تدريجياً وببطء كانتقال طبيعي من حالة التركيز الذهني في موضوع التأمل إلى حالة استغراق وانشغال شديد ثم إلى حالة الدهش، حيث يبتلع الموضوع كل أنواع النشاطات الذهنية والنفسية الشعورية ويصير الجسد في حالة غيبوبة.

وإما يكون الدخول في «الجذب» فجائياً وسريعاً لمجرد لمح الذهن لموضوع التأمل أو عرض منظر أو سماع كلمة لها صلة بالموضوع .

وسواء كان الدخول إلى الجذب تدريجياً أو فجائياً ، فإن الإنسان يشعر أثناء العبور إليه بحالة مسرة فائقة أو سرور مفرط يكون بدوره عاملاً شديداً من عوامل الدخول في الغيبوبة.

وبمجرد أن يدخل الإنسان في حالة الغيبوبة ، تظهر عليه العوارض الطبيعية التي يسجلها الطبيب عادة لإنسان في هذه الحالة، من انخفاض في سرعة التنفس وهبوط في الدورة الدموية وبرودة الجسد وتصلب الأعضاء وثبوت الجسد في وضعه مهما كان هذا الوضع مؤلماً وغير طبيعي.

وقد تصبح الغيبوبة عميقة لدرجة فقدان كل الإحساس وعدم الإستجابة لأي مؤثر ألمي، ولكن العجيب حقاً أن الجسد أحياناً لا يُضار من الإيذاء مهما بلغ هذا الإيذاء ، كما في حالات التعذيب التي كان يتعرض لها الشهداء والتي كانوا بعدها يقومون معافين، وأحياناً لا تترك التعاذيب أي آثار جسدية فيهم مع أنها قد تكون جروحاً مميتة ! فالجسد هنا لا يكون خاضعاً لقانون الطبيعة والألم بل خاضعاً لقوة القيامة كأجساد الثلاثة الفتية ؟ وكجسد القديس بولس الرسول بعد أ أن رجموه في السترة: «وجروه خارج المدينة ظانين أنه قد مات! ولكن إذ أحاط به التلاميذ قام ودخل المدينة وفي الغد خرج مع برنابا.» (أع 10: 19 و20)

ومثل كثير من الروايات العينية التي رواها الآباء عن الشهداء، والقديس أنطونيوس الكبير يشرح هذا بقوله :
[لأن الجسد يرجع تحت سلطان الروح القدس، فأنا أقول إن ذلك الجسد قد اتخذ شيئاً من الجسد المزمع أن يقوم في قيامة الصديقين ] الرسالة الأولى. 

هذه الحالة تشرح – لنا تأكيد بعض الحجاج الأتقياء الذين يقولون إنهم حملوا «النور» – الذي يخرج من القبر المقدس في يوم السبت العظيم بكنيسة القيامة ـ وجعلوا الشموع المنيرة في وجوههم دقائق كثيرة ولم يتألموا ولا ظهر عليهم آثار حروق بل آثار فرح وسرور مفرط ؟؟؟

ويقص لنا القديس مار إاسحق قصة عن راهب آخر وهو في الحقيقة يتكلم عن نفسه فيقول :

وكان هذا القديس يسهر كثيراً ، وكان يقول : إنه في الليلة التي أسهر فيها من العشاء إلى الصباح و بعد ذلك أستريح قليلاً أقوم من النوم وأكمل نهاري كمثل من هو ليس في هذا العالم ، ولا يصعد على قلبي أي فكر أرضي ولا أحتاج إلى تكميل قوانين الصلاة المفروضة لأني أظل نهاري كله ثابتاً في الدهش. وفي أحد الأيام وكان النهار الذي أريد أن آكل فيه قمت أصلي قبل العشاء لكي أفطر فوقفت في حوش قلايتي وكانت الشمس عالية (خلف ظهري) وأحسست أني بدأت بمزمور الخدمة فقط ( أي المزمور الخمسين)، ومكثت حتى إلى ثاني يوم وإذا الشمس أشرقت في وجهي وحميت الثياب التي على جسدي ولم أكن أحس أين أنا، ولما أحرقت الشمس وجهي انجمع عقلي إلي ونظرت وإذا هو نهار ثاني . فشكرت الله على كثرة إنعامه على بني البشر إذ عرفت إلى أي رفعة وعظمة قد أهمل طالبيه . ] الكتاب الأول – الميمر التاسع .

ولكن هذا الدهش أو الغيبوبة التي يتلذذ بها الجسد في حالة الجذب الإلهي هي إحدى الظواهر الثانوية على الطريق الروحي ولا تنم عن قيمة روحية أساسية خلاصية في حد ذاتها . فهي إذا لم تكن على أساس إيمان صحيح وإتصال روحي عملي بالله و يصاحبها نمو في المعرفة والسلوك والمحبة، فإن هذا الدهش أو هذه الغيبوبة تصير ظاهرة مرضية ، و يصبح الدهش إدعاء وتزييفاً من اللاشعور، كما عند الأشخاص الذين يسيرون على الطريق الروحي يدفعهم الطموح الشخصي إلى بلوغ الدرجات العليا في الحياة الروحية بسرعة.

هؤلاء تشدهم حرارتهم المتولدة من اشتياقاتهم المريضة وتدخلهم فيما يشبه الدهش تماماً.

ومعروف أنه يوجد أشخاص ذوو بناء نفسي وعصبي وذهني ضعيف ، إذا وقعوا تحت مؤثر نفسي أو ذهني شديد فإنهم يفقدون وعيهم ويتعرضون لحالة إغماء أو غيبوبة، أو كالأشخاص المعروفين بالوسطاء في عمليات التنويم المغناطيسي، أو الأشخاص سريعو التأثر الذين يميلون إلى الإستغراق في التفكير في موضوع وسريعاً ما يستحكم على كل انتباههم وبالتالي يقودهم إلى حالة ذهول ثم ما يشبه النوم .

ولكن واضح في جميع الحالات المرضية أن الفكرة المتسلطة أو الموضوع الذي يقود إلى حالة الغيبوبة غالباً ما يكون تافهاً أو غير معقول، كما أنه غالباً ما يكون راجعاً لقصة قديمة في حياة الفرد أو الخبرة مؤلمة.

 أما في الدهش الإلهي فتكون الغيبوبة فوق مستوى العلل العصبية والعقلية، بل كحالة انسلاب تحسه النفس وتعيه في البداية بصورة متألقة واضحة، وكأنما يد إلهية حانية تحمل النفس وهي مستلقية عليها كطفل على ذراع أمه وترفعها إلى ما يشاء الروح ، تدخل بعدها النفس في واقع الدهش وهي قائمة في حالة نشوة عالية لترى وتسمع وتحس ما لا يمكن أن يُعبر عنه بالكلام. أما الفكرة أو الموضوع الذي تنسلب له النفس فلا يخرج عن الله ذاته الذي يكون قد احتل كل اهتمام النفس ومحبتها بصورة حية صادقة.

هنا لا تكون الغيبوبة ناتجة عن ضعف البناء الجسدي للإنسان أو بسبب هبوط الطاقة العصبية، إنما تكون بسبب تفوق القوة الروحية على ميكانيكية الشعور البشري. حتى أنه كلما كانت البنية العصبية والعقلية سليمة قوية ؛ كلما كان الدهش في أصح وأروع أوضاعه.

كذلك فإن الفارق الباطني بين الغيبوبة الناتجة عن الضعف العصبي المرضي و بين غيبوبة الدهش الإلهي يمتد ليظهر بكل وضوح وجلاء بعد الغيبوبة، إذ أن الدهش السوي الذي هو بسبب النعمة ومن عمل الروح القدس يخصب حياة الفرد و ينميها ، ويجعله أكفأ في تفهم الحياة ومواجهة الواقع ، بل ويحتفظ بصلابة البناء العصبي والفكري.

أما الغيبوبة الناتجة من الحالات المرضية فتؤثر تأثيراً سيئاً متواصلاً على نفسية الإنسانوتجعله أقل كفاءة في مواجهة الحياة وتزيد بناءه العصبي ضعفاً.

والدهش الإلهي بالنسبة للنفس السوية يُعتبر غذاءً عالياً ووجبات دسمة تعيش عليها النفس سنين طويلة، ويكون لها بمثابة دعامات تستند عليها وقوة مذخرة تجدد نشاطها ليس الروحي فقط بل وحتى الجسدي أيضاً : « تُسمعني سروراً مع فرح فتبتهج عظامي المنسحقة.» (مز 51)

ولكن في حالات النسك الشديد يواجه الإنسان بالضرورة حالة ضعف في الطاقة العصبية يجعل اختلاط الدهش بحالات غيبوبة مرضية أمراً محتملاً، ولكن من المعروف أن الإنسان الذي ذاق التأمل السوي ووصل إلى حالات الدهش الإلهي يسهل عليه جداً التفريق بين ما هو سوي وما هو ناشيء عن ضعف أو مرض.

ومن الثمار المقدسة التي يغتذي عليها العالم كله والتي هي ثمار حالة دَهَش مقدس وغيبوبة بالروح سفر الرؤيا للقديس يوحنا اللاهوتى، الذي يبين بوضوح صفات وإمكانيات الدهش كرسالة إلهية للبشرية كلها كذلك أيضاً رؤ يا دانيال النبي ، وبقية النبوات التي تمت تحت تأثير الدهش.

النواحي النفسية :

الدهش الإلهي من جهة الفحص النفسي هو حالة مرونة في الشعور الواعي تؤهله للحركة والإنسحاب من الواقع السطحي نحو باطن النفس وإعطاء اللاشعور ( وهو ما يُعبر عنه بـ «الإنسان الباطن» بحسب تعبير الإنجيل ) فرصة لممارسة أقصى نشاطه ولتوليه زمام السلطة على كل عمليات الحياة.

ومن حيث التعبير النفساني الدقيق، يُعتبر الدهش حالة تركيز كلي في موضوع «واحد» هو الله ، فيه يُدفع الشعور حتى إلى حافته إما إرادياً أو لا إرادياً.

وفي حالة الصحة النفسية السوية ينتبه الإنسان من الغيبوبة الروحية وهو في أعلى حالات النشوة والتألق الروحي والذهني ، حيث تزداد قدرة الإنسان على «الحدس» أي المشاهدة العقلية والتعمق الفكري مع الإستنارة في موضوع الدهش الذي انحاز العقل نحوه واستغرق فيه أثناء الغيبوبة التي قد تطول إلى ساعات طويلة وأحياناً إلى أيام، كما نعلمه عن الآباء العظام كالقديس مكاريوس الكبير والقديس أرسانيوس ومار إسحق و يوحنا الدلياني ( الشيخ الروحاني ).

فالدهش من وجهة النظر النفسية يُعتبر في الواقع شرحاً عملياً واقعياً لحالة تأمل بلغ أعلى حالاته أي «التركيز في الموضوع الواحد »، حيث تكون الغيبوبة الروحية من هذه الناحية «ضماناً» تصنعه ميكانيكية النفس للحفاظ على حالة التأمل العليا، لأن التأمل في درجاته الأخيرة يحتاج إلى هدوء كلي وانعزال عن صخب العالم وشوشرة الحواس، وكأنما تدرك النـفـس هـذه الـضـرورة فـتـعـمـل لها لاشعورياً بانسحاب وتوقف الشعور والدخول في حالة اللاشعور لتكميل فرصة التأمل .

والواقع أنه يوجد بين أعلى درجة للتأمل الواعي أثناء اليقظة وبين الغيبوبة حالة قصيرة يكون فيها الإنسان متعطشاً جداً لإستكمال الصلة السرية مع الله والإقتراب إليه، وحينما يبدأ فعلاً ليخطو أول خطوة نحو الأبدية فإنها تكون بمثابة استدعاء للغيبوبة.

والمعروف نفسياً أن شدة التركيز الكلي في الموضوع الواحد مع الرغبة الشديدة في الإنعزال عن كل موضوع آخر يمهد عملياً للدخول في الغيبوبة.

ومن هذا التشخيص النفسي نستنتج أن الدهش حالة مكملة للتأمل وملازمة له ، وكأنما النفس تلتزم لاشعور ياً بقول الرب : «متى صليت فادخل إلى مخدعك » (مت 6: 6) ، حيث تمارس النفس، وهي في حالة نعاس الحواس، أسمى حالات الصلاة ويتم لها قول نشيد الأنشاد : «أنا نائمة وقلبي مستيقظ » (نش ٢:٥) ، لا بصورة رمزية ولكن كحقيقة واقعة !

وإذا كان الشرح النفسي لحالة الدهش يعتبر أنها حالة أدى إليها شدة التركيز الكلي في موضوع « واحد» وهو الله مع رغبة أكيدة في ترك ونسيان والإنعزال عن «الكل» أي العالم، فإنه بذلك يتمشى إلى حد كبير مع هدف الإنسان الروحي السائر على الطريق، بل و يطابق أيضاً تعاليم الآباء القائلة: «إن خلاصة الطريق الروحي هي أن يترك الإنسان الكل ويلتصق بالواحد» كقول مار اسحق.

لأنه إذا كان التحليل النفسي يرى في الدهش حالة استغراق كلي في الموضوع الواحد الذي أصبح يملأ في الإنسان كل تفكيره وقلبه وقدرته، إلى الدرجة التي لا يعود يقوى فيها الإنسان أن يحتفظ بوعيه الشخصي أو يحتفظ بإحساسه بذاته منفصلاً عن موضوع اهتمامه، بل إنه يخضع و يستسلم بكل كيانه له ، فإن هذا الوصف أيضاً يشرح غاية قول الإنجيل وسعي الروح أن يحب الإنسان إلهه من كل قلبه وفكره وقدرته وأن يموت الإنسان عن العالم والجسد ليحيا الله وهذا يتم في الدهش بصورة لاإرادية.

كذلك إذا كان التشخيص النفسي لحالة الدهش يحاول أن يثبت أيضاً أن الإنسان يصبح في الدهش متحداً فعلاً بموضوع اهتمامه ، لأن الإغماء يعتبر أقصى موقف عملي يمكن أن يعبر ويكشف صلة الإنسان بالموضوع الذي يبتلع ليس تفكيره فحسب بل وكل نفسه، إذن فالدهش من وجهة نفسية يطابق المعنى الروحي الإنجيلي كإختبار حي لبلوغ حالة الإتحاد بالله التي يسعى لها الإنسان بالإيمان على مدى الطريق وبكافة الوسائط الروحية.

وقد لوحظ في سرد أخبار الآباء القديسين أن في حالات الدهش المتكررة يصبح مجرد لمح أي إشارة رمزية تخص موضوع التأمل، كفيل أن يُدخل الإنسان في حالة الدهش في الموضوع نفسه، سواء كانت هذه الإشارة عملية كالوقوف أمام المذبح للتناول من الأسرار المقدسة مثلاً أو النظر إلى الصليب أو سماع لحن أو آية معينة من مزمور محبوب.

وهذا يعلله علماء النفس بازدياد قدرة الشعور على التحرك إلى الداخل والإنسحاب من الواقع المحسوس، أما من جهة الروح فهذه السهولة في الدخول إلى الدهش ترجع إلى توطيد الصلة بين النفس والله وإلى جذب الله المستمر : « اجذبني وراءك فنجري» (نش 1: 4)، وإلى اعتياد النفس على الدخول في حظيرة الرب: «تدخل وتخرج وتجد مرعى.» (يو 10: 9)

ولكن التعليل النفسي لحالات الدهش والتشخيص الطبي للغيبوبة يختص فقط بالظواهر وعللها، لذلك يراها حالات نفسية محضة و يظل في حيرة من أمر النتائج الباهرة التي يحصل عليها الإنسان الذي يجوز هذا الإختبار النفسي، لأنها تتعدى مجرد التأثيرات النفسية والشعورية وتصل إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه الإنسان من حيث السمو الذهني وارتقاء المعرفة والنظرة العقلية الحادة، مما يثبت قطعاً حصول اتصال بين النفس والله وخروجها محملة بهبات إلهية ممتازة.

فمسألة الدهش ليست إذن مجرد تركيز كلي في فكرة واحدة تسلب الشعور وتدخل الإنسان في غيبوبة كما يعللها علماء النفس ، ولكنها شيء أعمق وأكثر من ذلك بكثير فهي تشمل حدوث تغيرات باطنية فيها تتوحد كل القوى الداخلية للنفس وتتعاون معاً ثم تنفتح فجأة على المجال الإلهي الأعلى لتخدم قضية أهم بكثير من قضية الشعور والحواس والعالم الظاهري : تلك هي قضية «الموضوع الواحد» والحياة الأبدية التي تستعلي وتستظهر على الحياة الحاضرة بالنسبة للنفس بصورة عملية رائعة، حتى أنه يمكن أن يُقال إن الدهش على حسب التشخيص النفسي يصبح شهادة من الشعور واللاشعور كليهما على أهمية وعظمة القيمة الإلهية الخالدة أو الحياة الأبدية في اعتبار الإنسان.

إذ نرى أن الشعور عندما يعجز بكل اتساعه وإمكانياته عن مواجهة الله ، ينسحب في الحال ليعطي الفرصة للاشعور الذي يُعتبر مجاله أوسع وأعمق من الشعور، ثم نرى اللاشعور يعود من مغامرته بغنائم تفوق في قيمتها كل أمجاد هذا العالم، ويخرج الإنسان من هذا الإختبار أكثر قوة وأكثر نفعاً وأكثر سعادة.

النواحي الروحية :

أما الدهش من وجهة الروح فهو درجة روحية مرتفعة لإدراك غير المدرك . هذه الدرجة تظل مختبئة في الكيان النفسي إلى أن يواجهها الإنسان فجأة وذلك عندما يجهد الوعي الروحي للإمتداد نحو الله مضحياً بكل شيء، فيفاجأ بالإجابة على هذا الجهد بالدخول في الدهش حيث يكتشف الإنسان أغنى الهبات التي يمكن أن تذوقها نفس في هذا العمر، إذ أنها تدخل في شركة سرية مع الرب وتذوق الحياة الأبدية !

فالنفس البشرية أثناء الدهش تحيا في الأبدية كما يحيا الجسد الطبيعي الآن في هذا العالم.

ولأنه يستحيل على الإنسان أن يمارس الحياتين معاً بالجسد، فإن الجسد بحواسه وعقله الشعوري يتخلف معطياً الفرصة للحياة الأفضل.

لذلك، فإن الدهش بالنسبة للتأمل يُعتبر حالة مؤقتة لتكميل السعي و بلوغ الإتحاد، ولو كسبق تذوق، حيث الوصول إلى الله لا يكون بالرؤيا من بعيد وإنما بالوجود الواقعي في الحضرة الإلهية وبالإتصال الفعلي أيضاً حيث يعرف الإنسان الله معرفة الحبيب لحبيبه.

في التأمل يعرف الإنسان كثيراً عن الله و يدرك أموره وأعماله ومشيئته ومواعيده ، ولكن في الدهش يعرف الإنسان الله ويدركه بغير منظر أو صورة . لذلك فمقدار الغبطة والمسرة والفرح العميق الذي يملأ نفس الإنسان أثناء الدهش يكون فوق الوصف . كذلك تكون الثقة ويكون الإقتناع والرضى الذي يملأ النفس من جهة أنها رأت الحي الخالد الأبدي الذي لا يتغير والحقيقة والحب والرحمة التي لا تُرى، شيئاً لا يُنسى إلى أبد الآبدين، وكأن النفس قد حلت لغز الحياة والوجود وكشفت لغز نفسها واطمأنت إلى المصير!

أما الدهش من جهة الجسد والحواس فيعتبر الستارة المعتمة التي لا بد أن تلقى على الحواس حتى يتسنى للروح أن ترى ما للروح .

وأما الدهش من جهة الروح فهو بمثابة رفع البرقع الموضوع على العقل، لتعاين النفس الله بالمشاهدة العقلية الحرة و بالوعي الباطني الكامل اللذين هما الوسيلة للدخول في حالة شركة واتصال . لأنه لا يمكن معرفة النور إلا بالدخول في النور!

وحالة الدهش في كثير من الأحيان لا تبلغ درجة العمق الكافي للدخول في غيبوبة كاملة، فكثيراً ما تقف عند حالة الإستكانة العميقة والهدوء الداخلي حيث تواجه النفس حالة سرور مفرط ونشوة روحية، وأحياناً يرافقها إحساس بارتفاع النفس وتحركها خارج الجسد ولكن لا تبلغ إلى الغيبوبة . وهنا يحس المتأمل نفسه وكأنها مخطوفة إلى أعلى تعاين وتشاهد الأمور غير المنظورة ولكنه يكون في كامل وعيه ، غير أنه لا يستجيب للمؤثرات الخارجية بسهولة وربما لا يستطيع أن يستجيب على الإطلاق. ولكن المعروف أن مقدار اطلاع النفس على الحقيقة وشركتها في النور يتناسب مع عمق حالة الدهش والاستغراق الكلي في اللاشعور.

والذي يميز حالة الدهش الحقيقي من حالات الغيبوبة المزيفة من الناحية الروحية، هو شعور الشخص في حالة الدهش الروحي الصحيح بفقدان فرديته واختفاء الإحساس بذاته من جراء الإتحاد السري الذي يتم بين النفس والله ، لأن وجود الله في النفس يجعلها لا تحس إلا بالله حيث يكون هو مصدر كل فرح واهتمام. أما اهتمامها وفرحها بالله فيثبت ضمناً عدم ملاشاة كيانها !!

أما الغيبوبة المزيفة فلا تؤثر سلبياً على ذاتية الإنسان بل تزيدها ضخامة، وتجعل « الأنا» المصدر والغاية التي تبدأ وتنتهي إليها كل مسرة واهتمام.

كذلك أيضاً، فإن المعرفة المتولدة من الدهش الإلهي تختلف عن أية معرفة تتسرب إلى العقل بواسطة الغيبوبة المزيفة التي يصطنعها اللاشعور بواسطة الحرارة المتولدة من الطموح والرغبة في الإرتقاء لإشباع مسرة الذات. فإن المعرفة المتولدة من الدهش الإلهي بالرغم من أنها ترفع من قدرات الحكمة والتمييز والإفراز الروحي إلا أنه لا يمكن شرحها بالكلام لأنها ليست مكتسبة بالفهم العقلي، ومثلها كمثل معرفة الراحة والهدوء والسلام والفرح والحب المتولدة من الدخول فيها، فهي معرفة خبرة ووجود واتحاد في الله ، معرفة الحياة بقبول الحياة.

أما المعرفة المزيفة فهي من صُنع العقل نفسه، لذلك يمكن تذكرها وسردها بكلماتها لأنها تكون موجودة تحت مستوى العقل وغالباً تكون تافهة وبغير ذي نفع.

ولكي نفرق بين الصحيح والمزيف من الدهش، يلزم أن نضع الدافع الذي يقود النفس إلى الصلاة والتأمل في الموضع الأول بل في القمة لأنه هو الذي يحدد نوع الدهش إن كان إلهياً أم مزيفاً ، فالدافع الصحيح السوي ينشىء خبرة صحيحة سوية على الدوام!

أقوال الآباء في الدهش:

يلزم لمن يرتفع إلى الإدراك التصوري أن يستغني عن الإدراك الحسي الجسدي. لأن الخيال شيء ومنطقة المحسوس الجسدي شيء آخر. كذلك من يصل إلى الإدراك العقلي الكامل يلزمه أولاً أن يفقد الإدراكين الجسدي والتصوري كليها معاً ، حتى يستطيع أن يدرك الحق إدراكاً واضحاً غير مزيف بتداخل الحواس والتصور أي يدرك الحق كما هو في ذاته وليس كما يصوره الخيال.

وفقدان الإنسان للإدراك الجسدي والتصوري معاً هو الذي يُعبر عنه بكلمة الدهش» . وهي حالة يشبهها القديس أوغسطينوس بحالة ما بين النوم والموت :

164ـ الإنتباه العقلي حينما يفارق الحواس الجسدية ويتخلى عنها يسمى حالة ذهول (دهش) وحينئذ لا يرى الإنسان كل ما يعرض من الأجسام أمام عينيه وهما مفتوحتان كما لا يسمع ! الأصوات أيضاً. هي. حالة متوسطة بين النوم والموت فيها تكون النفس مخطوفة ومتخلية عن الحواس الجسدية بدرجة أكثر مما هو في حالة النوم الطبيعي ولكن أقل طبعاً مما في حالة الموت!

أوغسطينوس

وفي قطعة أخرى يشرح بوضوح خروج العقل عن دائرة الحواس وأهمية ذلك :

165- الذهول هو ذهاب العقل كما يحدث أحياناً من الفزع والرعب، وهو يكون لاستعلان ما ، وذلك بإبعاد العقل من منطقة الحواس الجسدية حتى يتسنى للروح أن تطلع على ما يُراد إطلاعها عليه.

أوغسطينوس

وهنا يعترضنا سؤال عن كيف تستطيع النفس مفارقة الحواس الجسدية، هل بخروجها من الجسد؟ فإذا كان الأمر كذلك ألا يكون الجسد في حالة موت حقيقي ؟ يشرح ذلك القديس أوغسطينوس في موضوع رؤيا القديس بولس الرسول :

166- لم يعرف بولس الرسول حينما اختطف إلى السماء الثالثة هل كان في الجسد؟ لأن النفس تكون في الجسد حينما يكون حياً، سواء كان في يقظة أو في نوم ، أو يكون في حالة ذهول حيث تكون نفسه مبعدة عن الحواس الجسدية فقط، أو تكون نفسه قد فارقت جسده فعلاً. حتى أن جسده انطرح ميتاً إلى أن انتهت الرؤيا فعادت النفس إلى الأعضاء الميتة، لأنه لم يستيقظ كمن هو قائم من نوم ولا كمن استفاق من حالة ذهول وعاد إلى حواسه، ولكنه قام كميت عاد إلى الحياة. ولأنه لم یکن متأكداً حينما فارقت نفسه الجسد أكان جسده في حالة موت تام أم ترك الجسد حياً بطريقة ما والنفس فيه، والعقل وحده هو الذي اختطف ليرى و يسمع أمور هذه الرؤيا غير المنطوق بها . ربما من أجل هذا السبب قال : « أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم. الله يعلم.»

أوغسطينوس

والموضوع لم يستغلق فهمه على القديس أوغسطينوس بوضعه الأمر بين علامات الإستفهام، وإنما هو يعرض موضوع الذهول أو الدهش عرضاً يوضح فيه احتمال وقوعه على نوعين :

فالنوع الأول : اختطاف العقل فقط بعيداً عن حواس الجسد حيث يبقى الجسد مع النفس. وفي هذه الحالة يستجيب الجسد لكل المؤثرات الخارجية ولكن بدون توجيه العقل إنما بنوع من التلقائية فهويرى و يسمع ولكن لا يستجيب إذ يكون في حالة ذهول . كما سبق في قول القديس أوغسطينوس .

و يقول في ذلك الأب سيرافيم ( الذي من صروف ) :

167ـ حينما ينشغل الإنسان داخلياً بالتأمل في النور الأبدي يكون عقله نقياً لا تشوبه تصورات الأشياء المحسوسة إذ يكون مبتلعاً بتأمل ذلك الجمال الفائق غير المخلوق ، و ينسى كل متعلقات الحواس ولا يرغب في التطلع لشيء حتى إلى نفسه، ويتوق أن يختفي عن كل الأنظار حتى لا يُحرم من الله .

الأب سيرافيم ص .

168- أعرف إنساناً بعد أن تدرب بالعمل وتكميل قوانين صلاته، وصل إلى هذه الرتبة: أنه لم يقدر أن يصنع صلاة قدام إنسان، لأنه في بدء خدمته أو في وسطها كان . يصنع . سجدة فيُبتلع عقله بالدهش بالله، وكان يتوقف عن المعرفة وكل الحركات وكان يثبت الليل كله بغير ذكر، وعندما كان يقوم على رجليه وهو مستأنس بخدمته تشرق في عقله زيارة الروح وتحل فيه و يدوم بلا حركة بدهش عظيم … ياللعجب كيف تحتمل أعضاء الجسد في هذه المدة كلها صعوبة انحناء الجسد أو الوقوف بغير حراك ! لكن هي اللذة الروحانية العجيبة التي هونت عليه احتمال هذه المشقة. وكان يقول : إنه في بعض الأوقات إذا تحركتُ من مكاني وأنا في هذه الحالة لضرورة ما أمشي حتى ألتقي بحائط وأصطدم به دون أن أراه إذ يكون الكل قد ارتفع من أمام نظري ومن دائرة حواسي.

الشيخ الروحاني

169- كان إنسان يقول : إنني إذا جلست أحياناً وعقلي مسي بدهشة نظر الله وقد ابتلع باللذة، يكون وقت أن يخطر على جسدي غفلة النوم أن الملاك الذي معي يهز جسدي ليستيقظ ، ولكن العقل أثناء ذلك لا يضطرب أو يعود من موضعه.

الشيخ الروحاني

170ـ وربما خُطف العقل بواسطة الروح مرشده ليسبح في بحر النور الأزلي . قال لي أخ : حينما كان يُخطف عقلي لهذه النظرة البهية كنت أراه يتفرس في بحر الحياة يسبح في لجج من نور، ويستنشق رائحة الحياة ، و يدهش ويتجلى بفرحة عظيمة . و يتغطى بالنور و يغلي بفعل الحب والفرح و بإشراق عجيب ، و ويتأمل في جوقات الملائكة المشرقة حوله ، و ينبسط معهم وفيهم و يقدس بتقديسهم بالعجب، ويخطفونه ليلج معهم مناطق النور العليا فينحبس فيها ويُذهل بنظرة المجمد المحيطة بالنور الأعظم. وهناك يثبت العقل إما لحظة صغيرة أو ساعة واحدة أو النهار كله أو الليل كله حسب مشيئة الروح وكقدر العطية.

وفي الوقت الذي تكون فيه هذه الموهبة في النفس، فلو كانت كل الخليقة أصواتاً واضطراباً ، لا تستطيع أن تجعل العقل يهبط من موضعه أو يعود لذاته من فرط انشغاله من التعجب والدهش وفقدان كل صلة بشعور الجسد.

الشيخ الروحاني

و يقول القديس ديوناسيوس الأريوباغي في اختطاف العقل :

171- يدخل العقل بالفعل إلى ذلك الغمام الروحي غير المدرك حيث هناك يتعرى من كل شعور بالمعرفة، و يثبت في ذلك غير المنظور وغير المحسوس و يلتصق بالتمام في ذاك الذي هو فوق الكل . وذلك إنما يكون بإبطال كل قوى العقل التي للمعرفة من جهة الحس والتصور) متحداً فقط بأعلى نقطة منه في ذلك الشيء… إذ أنه حينما يصل إلى درجة التخلي الكامل عن كل معرفة حينئذ يصل إلى معرفة الحق الذي هو فوق الفهم .

ديوناسيوس الأريوباغي

و يقول في ذلك أيضاً القديسون :

172ـ  ولكن إذا كان عقلنا مبدداً في الأشياء الأرضية فهو لن يستطيع بأي حال أن يبصر شيئاً لا في ذاته ولا في طبيعة النفس . لأنه يكون مُساقاً في أفكار كثيرة وقد أعمته المعوقات، لذلك فإن أول خطوة هي أن ينجمع العقل إلى ذاته ثم يحاول أن ينقلب ليعطي ظهره للعالم ثم يهم صاعداً فوق ذاته مستسلماً لنية التأمل في خالقه غير المنظور.

ولكن العقل لا يستطيع أن يجمع ذاته إلا إذا تدرب كيف يصدُّ ذاته عن كل الخيالات والتصورات، سواء كانت تخص الأشياء الأرضية أو السمائية، ويرفض ويزدري بكل المشاعر التي تعرض على فكره حتى يكون في داخله كما لو كان قد فقد المشاعر والإحساسات جميعاً ، لأنه حينما تفارق هذه الخيالات عين العقل حينئذ ترى النفس قدر ذاتها كما خُلقت دون الله وأرفع من الجسد، حتى إذا ما تقبلت الحياة ممن هو فوقها تعطيها للجسد الذي هو دونها وتحت سلطانها».

غريغور يوس الكبير

173ـ وهذه النار ( الروح القدس ) تحرق الخشبة التي في العين الباطنة وترد العقل إلى نقاوته فإذا عادت إليه قوة النظر الأصلية فلا ينقطع من معاينة عجائب الله.

أبا مكاريوس الكبير

174- وقفتُ على قمة العالم عندما أحسست في ذاتى أني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً، لأن الذي يحتقر أمور هذا العالم و يزدري بها حتى الجيدة الحسنة فيه فإنه يتعالى فوقها جميعاً.

175- والعقل بقوة التأمل يُحمّل بعيداً عن الجسد ولكنه بثقل فساده يبقى متعلقاً به، وعلى

الرغم من كونه بعيداً عن العالم فإنه يبقى متعلقاً بالجسد.

176ـ وغالباً يكون عقل الأبرار منشغلاً جداً بتأمل الأمور العليا، حتى أن منظرهم يكون كمن أصيب بمخدر.

غريغور يوس الكبير

177- النظر الإلهي هو استعلان العقل بلا حواس .

مار إسحق السرياني

178 – لأن طبيعة القوات الروحانية لا يمكن أن تُنظر خارجاً عن العقل. وهذه النظرة بدون نقاوة العقل (أي بلوغ الدرجة المطلقة بعيداً عن الحواس الجسدية والتصور الفكري ) لا يمكن للإنسان أن يقبلها .

179 – لأن جميع حركات الصلاة وترتيبها إنما توصل العقل إلى بداية النظرة وإلى ذلك يكون جهاد وتعب، ولكن بعد هذا الحد تتخلف الصلاة ولا يكون إلا دهَش وتعجب بنظرة العقل . ولا يكون للعقل سلطان في ذاته وإنما ينساق ويتدبر من قوة أخرى إلى حيث ما لا يدري . لأنه يملك ( على الطبع) في ذلك الوقت سكوت ، ويُخطف العقل دون أن يحس بشيء . هنا يصدق القول : إن كان بالجسد أو بغير الجسد لا أدري حسب ما يقول الكتاب.

180- هذه النعمة يؤهل لها الإنسان إذا ما تعرى العقل من الإنسان العتيق .

181- وأما قوله : إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال لا يحس الإنسان بتنعيم الملكوت ، فقد قالوا في ذلك إن ملكوت السموات هو التاور يا الروحانية، وهو لا يقبل بالأفكار والمعرفة ولكن يذوقها الإنسان بالنعمة ؛ فإلى أن يتطهر الإنسان من الأفكار والمعرفة لا يكون فيه كفاية ولا للسماع بها، لأنه لا يقتنى بالتعليم والتلقين …. فإن كنت يا ابني قد بلغت إلى النقاوة التي تقتنى بالقلب ونسيت معرفة العالم فإنك تجدها بغتة داخلك من غير بحث أو فحص.

182ـ بدون النور الإلهي ما تقدر عين العقل أن ترى الحق ، كالعين الجسدية فإن قوة نظرها لا تعمل إلا بحضور النور الطبيعي.

183ـ إذا ارتفع العقل من الكائنات عند ذلك تزول من الجسد كل علامات الصلاة حتى الدموع وكل حركة وكل إحساس، ما خلا نبضات الحياة الطبيعية، لأن تلك المعرفة ( أي رؤية الحق) لا تتنازل لتأخذ مشاركة الحواس، أو تستعير أشكالاً وصوراً من هذا العالم المحسوس بل بنظر العقل … إن كان بالجسد أو بغير الجسد لا أعلم الله يعلم . هكذا سمع المغبوط بولس كلاماً لا ينطق به ما لم يسمعه بحواس الجسد، ونظر أشياء لا تنظر بالحس ولا تُدرك بأشكال متجسمة ولا بمشاركة الإرادة، بل بحركة العقل حينما يختطف من الجسد. 

184 ـ هوذا القديس أنطونيوس إذ كان واقفاً يصلي على قدميه تسع ساعات أحس أن عقله اختطف وارتفع. وآخر مكث في الدهش أربعة أيام.

185ـ وأما تدبير السيرة الروحانية فهو فعل بعيد عن عمل الحواس، وهو الذي كتب عنه الآباء جميعاً في كتاباتهم . لأن عقول القديسين إذا ما قبلت التاوريا (النظرة الروحية أو التأمل الروحاني ) عند ذلك ترتفع وتزول كثافة الجسم . فتكون النظرة حينئذ روحانية بحتة، ومن هذه النظرة يدرك العقل إدراكاً حراً نقياً ما هي المعرفة الحقة، هذا هو الدهش والتعجب بالله عز وجل ، وهذا هو التدبير العظيم المزمع أن يُعطى بحرية في الحياة الأخرى التي لا يشوبها موت بعد القيامة . حيث لا تكف حينئذ الطبيعة البشرية هناك ولا تنقطع قط من حالة الدهش الدائم بالله تعالى. ولا تتصور هناك شيئاً من الخلائق أو ترتبط بها لأن الله يكون الكل في الكل.

186ـ إذا انقشعت حواجز الآلام من أمام عين العقل، وشخص العقل في ذلك المجد، فإنه للحال يتعالى بالدهش.

187- يا يسوع إلهي الفريد في قوته ، طوبى للذي حظي بمعونتك وقد وضع في قلبه مصعداً إليك ! رُدَّ وجهنا أنت يا رب من العالم بالإشتياق إليك ! إلى أن ينظرك كما أنت ! لا تدعنا نركن إلى الغي كأنه حق ! جدد في فكرنا الإجتهاد والحرص قبل الموت لكي نعلم قبل خروجنا كيف كان دخولنا إلى هذا العالم وكيف يكون خروجنا منه إلى أن نكمل العمل الذي قد دعينا إليه أولاً بحسب قصدك بوضعنا في هذه الحياة.

نرجو بفكر مملوء ثقة أن نقبل العظائم كما بشربها الإنجيل ونتذوق المواعيد التي أعدتها محبتك في التجديد الثاني، الأمور التي ذكرُها محفوظ في أمانة السر. والمجد لك يا رب. آمين.

188- فإذا أدركته النعمة، فإنه يسكر منها مثل الخمر، وتنحل أعضاؤه، ويمكث فكره حائراً، ويُسبّى قلبه خلف الله ، ويصير كأنه سَكِرٌ من الخمر. حتى أنه وهو لابس جسده لا يعلم إن كان في هذا العالم أم لا. هذا هو مبدأ النظرة الروحانية واستعلان الفكر لها.

189ـ الذين يقولون إنه يمكن رؤية سيدنا في هذا العالم بالحواس هم مثل الذين يعتقدون أن في العالم الجديد شيئاً محسوساً، وأن تنعم الملكوت يكون بالحواس والوجود فيه يكون مادياً ، أ، وهذان الإثنان قد زاغا عن الحق . لأن الشيء بشبهه يكون أوغريس الطوباوي هو شاهد أمين لأنه قال : إن كان الجسد البشري هو جزء من العالم ، فإذا ما زال العالم فمعلوم أن شكل الجسد يزول أيضاً.

190- في الدرجة الأولى : يتهاون الإنسان بأمور العالم و بالتخايل البشري، وهذه هي الأمانة(الإيمان).

في الدرجة الثانية : يثق الإنسان بالله ويتكل على الخالق فيثبت في الحق.
في الدرجة الثالثة : يتأجج الحب في قلبه فيُبتلع بلذة مذاقته ويرتمي في أحضان الله كالطفل مع أمه.

في الدرجة الرابعة : تنسكب عليه حكمة الله وتؤهله للنظرة الفاخرة التي بالروح.
في الدرجة الخامسة : يختطف منه العقل بالذهول، ويدرك بقوة الروح الدهش في الله . ولكن إن لم يضف العقل و يتنق من حركات الجسد والفكر لا يستطيع أن يشترك في عمل الروح.

مار إسحق السرياني

191ـ إنني في وقت ما كنتُ جالساً وقد سُبي عقلي بالنظر الإلهي، ولما انحل تنهدت بقوة .

الشيخ الروحاني

نتحقق من أقوال القديسين أن درجة الدهش الأولى ـ أي رفعة العقل الحر الطاهر الخالي من حركات الجسد والفكر – إنما في بدايتها تكون اجتهاداً من قبل الإنسان . فهي كما يقول غر يغور يوس الكبير :

“وقفت على قمة العالم عندما أحست في ذاتى أني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً … لأن الذي يحتقر ويزدري بأمور هذا العالم حتى الجيدة الحسنة فيه فإنه يتعالى فوقها جميعاً”
 
وكذلك يقول :
“ولكن العقل لا يستطيع أن يجمع ذاته إلا إذا تدرب كيف يصدُّ ذاته عن كل الخيالات والتصورات، سواء تلك التي تخص الأمور الأرضية أو السمانية ويرفض و يزدري بكل المشاعر التي تعرض عليه”.
 
إذن، فالذين تمرنوا على جمع فكرهم وضبطه أثناء الصلاة وعدم السماح للحواس الجسدية بالانشغال بشيء طالما كان الإنسان واقفاً في الصلاة، يسهل عليهم أمر رفعة العقل للتحرر من الحواس جملة، ومن تصورات الفكر وطياشته في الأمور العالمية عموماً. والذين تدربوا على الهذيذ يكون عندهم الاستعداد والموافقة للدخول في هذه الدرجة من التحرر من بقية الحواس استعداداً للانطلاق للرؤية. كل هذا من جانب واحد وهو جانب الاجتهاد البشري، ولكن يستحيل أن يرتفع العقل ليدخل في منطقة المعقولات المطلقة إلا بمساعدة ومؤازرة النعمة كما قرأنا لمار إسحق :
“بدون النور الإلهي ما تقدر عين العقل أن ترى الحق (الله) ، كالعين الجسدية فإن قوة نظرها لا تعمل إلا بحضور النور الطبيعي”.
فالنعمة تدخل عندما تجد استعداد العقل كاملاً ليهم مرتفعاً فوق المحسوسات والتصورات، لترفعه النعمة من تحت سلطان الحواس الجسدية، وتحرره من سلطان الماديات، وتُشركه معها لتحضره أمام الله نقياً مطلقاً. وهذا الإنتقال يُعتبر النقطة الحرجة للعبور من العالم المادي إلى العالم الروحاني الحر. ولكن بمجرد تدخل النعمة، يحصل هذا جميعه في لحظة ويكون نتيجة ذلك أن يُترك الجسد بلا مدبر، إذ يكون العقل، وهو القوة المسيطرة على حواسه وإدراكاته ، قد فارقه ليعاين هذه الموهبة العظمى التي من أجلها جاهد هذا الجهاد الشاق اللذيذ.
ونقول ، ليس على سبيل التشجيع وإنما لتقرير حقيقة ، أن أي جفاف أو ملل أو قلق أو ضيق يعتري الإنسان وهو في بدء اختباره للتأمل لا يكون علامة على عدم الاستعداد أو الفشل، لكن على العكس تماماً، فهو علامة الدخول في عمق التأمل، وما هذا الضيق والملل والقلق والجفاف إلا بسبب الضيقة التي تعتري النفس عند محاولة تخلصها من الجسد الذي ارتبطت به بطول الزمن ارتباطاً صعباً يحتاج إلى جهد وتعب وصبر لتحطيم قيوده، وهذا ما يعبر عنه القديس بولس الرسول بالتحرر من الإنسان العتيق.
 
ويحثنا القديس ديوناسيوس الأريو باغي على التمرين على التاوريا بقوله :
192 – إذا قصدت التمرين على التاوريا (أي التأمل بالروح)، أترك وراءك الحواس وكل عمليات العقل بأنواعها، سواء التي بممارسة التصور أو الفكر أو البحث في الأمور في كل ما هو موجود وكل ما هو غير موجود أيضاً، واجتهد صاعداً ببساطة غير مهتم بمعرفة شيء ما. فعندما تتخلى عن كل هذه ببسائلة وطهارة تاركاً الكل ومتحرراً من الكل حينئذ تحمل على شعاع النور إلى ذلك الغمام الإلهي .
ديوناسيوس الأربو باغي
 
وله أيضاً :
193- الشرط الأساسي لكي ندرك ذلك الذي يفوق كل معرفة وكل رؤية هو أن لا تفحم ما لنا من معرفة أو تخيل مهما علت وحينئذ نصل إلى المنظر الحقيقي والمعرفة الحقة.
ديوناسيوس الأريوباغي
 
أما النوع الثاني من الدهش :
وهو تحرر النفس كلية من ربقة الجسد ، فهو انسلاب النفس وخروجها متحررة من كل علاقة تربطها بالجد، حتى أن الجسد يُترك مُسجَّى في شبه حالة موت ، لا يستجيب للمؤثرات الخارجية في شيء، حتى ولا إلى قطع الأعضاء ! و يكون العقل رفيق النفس في نظرتها العليا. و يستمر الإنسان على هذه الحالة إلى أن تعود النفس إلى الجسد مرة أخرى. وهذه الحالة هى التى اختبرها القديس بولس الرسول تماماً عندما اختطف إلى السماء الثالثة وعاد مرة أخرى وهو متحير هل كان في الجسد أم خارج الجسد؟
 
و يقول في ذلك القديس أوغسطينوس :
 
194ـ عند الوقوع في درجة الدهش الروحي الكامل يفقد الإنسان كل مشاعر الجسد، ويُحمل إلى الله، ثم يعود إلى حالته الأولى.
 
195- النفس تكون مخطوفة ومتخلية عن الحواس الجسدية بدرجة أكثر مما هو في حالة النوم الطبيعي، ولكن أقل طبعاً مما هو في حالة الموت.
 

196- إن ذلك الإستعلان الفائق منح لبعض الرجال القديسين، وهم لم يموتوا بالمعنى الكامل ـح أن يُقال إنها جثث تستوجب الدفن . حتى يصح

أوغسطينوس

ففي هذه الأقوال التي للقديس أوغسطينوس، يقلل من المغالاة في القول إن الجسد يكون في حالة موت كامل أي أن تكون النفس – وهي مصدر الحياة ـ قد فارقته نهائياً، ولكنه يرى أن الجسد إنما يكون في حالة حياة كما في قوله عن رؤيا بولس الرسول : « بطريقة ما ، كان الجسد حياً».

و یورد الأب يوحنا كاسيان اختباراً عملياً في هذا الموضوع هو طريف للغاية، وقد سمعه من أحد آباء البرية واسمه «يوحنا » أيضاً :

197– بنعمة الله الصالحة أذكر أني كنت غالباً أمسك في حالة ذهول لا أعي فيها هل كنت في الجسد ؟ تنقطع نفسي فجأة من كل المناظر الخارجية وتنقطع من الأشياء المادية على وجه العموم، حتى أنه لا عيني ولا أذني كانتا تقومان بعملها العادي ونفسي تمتلىء بالهذيذ الإلهي والتأملات الروحية، حتى أني ، غالباً، ما كنت أعي وأنا في وقت المساء هل تناولت طعام يومي أم لا، وأحياناً يُمسي علي اليوم فلا أذكر هل كسرت صيامي في الأمس أم لا.

الأب يوحنا (عن مناظرات يوحنا كاسيان)

198- إنه في الليلة التي أسهر فيها من العشاء إلى الصباح وبعد ذلك أستريح قليلاً، أقوم من النوم وأكمل نهاري كمثل من هو ليس في هذا العالم، ولا يصعد على قلبي أي فكر أرضي، ولا أحتاج إلى تكميل قوانين الصلاة المفروضة لأني أظل نهاري كله ثابتاً في الدهش.

مار إسحق السرياني

199– حينما تتقوى النفس وتبلغ أشُدَّها في الإحتراس واليقظة وهي سائرة في طريق البحث عن الحق، فإن عامل التصور والتخيل لا يقوى على خداعها، فهي تزدري حينئذ بكل التصورات التي ترد عليها ، لأنها كما سقطت بهذه الصور والمرئيات عن مستواها، فهي تجهد، لكي بدون هذه المرئيات وتخيلاتها ترتفع فوق ذاتها . فبعد أن كانت في حالة معيبة مبعثرة مشردة بين الكل، تكد لتجمع نفسها إلى واحد حتى إذا أمكنها أن تغلب وتسود بالقوة العظيمة التي بالحب حينئذ تستطيع أن تتأمل في الكائن الواحد غير الهيولي.

غريغور يوس الكبير

200ـ والذي يؤمل لهذه التاوريا يكون في أثنائها كجثة لا نفس فيها وهذا ما ندعوه بالنظرة.

مار إسحق السرياني

201ـ لا يكون هناك ضعف بشري ولا يكون هناك صلاة أو سؤال أو طلبة أو أفكار أو حركات، ولا حياة بشرية متحركة ولا ذكر شيء مما هنا ولا من المزمعات، بل يكون متحداً مع الله الذي يتكلم فيه، وهو يعرف في ذاته أنه ابن الله ، ومثل الابن يتكلم مع أبيه بدالة، ويصير حينذاك ليس كمن يصلي ، بل كمن يقبل الصلاة وكمستجيب لكل الأسئلة من كنز ليس هو المتسلط عليه بل من غنى أبيه … آه للسر الذي لا يُفسّر، ولا يميني أيضاً تقدر أن تُظهر مرادي بالكتابة !! ليت الصانع لذات السر هو بنفسه يفسره لكم . فالإنسان الذي وصل إلى هذه الدرجة لا يصلي عمن طلبوا منه الصلاة، بل الرحمة فقط تتحرك فيه بالشفقة قبالة كل المحتاجين والروح الذي فيه المتحد به هو الذي يشفي أوجاعهم و يتمم حاجاتهم !!

في ذلك الوقت الذي تكون فيه الموهبة فعّالة في داخل الإنسان لو كانت كل الخليقة أصواتاً واضطرابات لا تقدر أن تجعله يعرف ذاته أو يعود من ذهوله ودَهَشه ، حتى أن جميع ما يتكلم به ذلك الإنسان يكون كأن الله يتكلم وكل مخلوق يطيعه، لأنه ليس هو المتكلم بل الله الحال فيه، الذي له المجد إلى الأبد آمين .

الشيخ الروحاني

202ـ حينما تستنير النفس حينئذ يرتفع الكل من قدام وجهها وتصير هي لذاتها كأنها غير موجودة إذ تكون متحدة مع الله بغير إدراك . في هذا الحين تصمت الحواس بدون أي فعل و يقف الضمير أيضاً بلا حركة ، إذ تكون النفس قد جازت إلى عالم آخر ليس هو عالم الحس والحركات، تستنير هناك بدهش وعجب.

هناك تحيا النفس بالحب مع سكان ذلك العالم وتكون بينهم كضيف غير مقيم تتحدث معهم ولكن بلغة غير مدركة للعقل، إذ لا يكون للسان الجسداني نصيب في تركيب حروفها، فلا يستطيع العقل أن يستذكرها ، ولا اللسان أن يسترجعها، ولا القلب حتى أن يتصورها.

الشيخ الروحاني

وهكذا نرى أن بعض القديسين يرون أن في حالة الدهش الذي يكون بخروج النفس وطوافها في الأماكن العليا، إما أن يكون الجسد مُلقى في حالة موت، أي أن يكون خالياً من فاعلية النفس لخروجها منه؛ أو أن يكون الجسد في حالة بين النوم والموت، وإن كانت أشد من النوم ركوداً، ولكن تكون النفس فيه بطريقة ما.

ونختم بحثنا في هذا النوع من الدهش بقول للقديس أوغسطينوس الذي يميل إلى الرأي الأول :

203ـ إذا لم يكن الإنسان ميتاً عن هذه الحياة بأي شكل كان – سواء كان قد فارق الجسد نهائياً أو كان قد تخلى عنه وهجر حواسه المادية حتى إنه يكون غير مدرك أفي الجسد هو أم خارج الجسد ـ فهو لا يستطيع أن يصل إلى المرتبة العالية حيث يكون هناك الله في سر بلا واسطة.

أوغسطينوس

 

  1.  وهذا يشير إليه القديس غريغوريوس النيسي بقوله : [ حينما قال داود إن كل الناس كاذبون فهو يعني أن كل محاولة يحاولها الإنسان لكي يشرح بها الرؤية الفائقة يكون في ذلك كاذباً .] On Virgin., ch. X.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى