الروح القدس والتدرج من حياة الخطية إلى حياة القداسة

 

الروح القدس لا يعمل في السطح ولا من الظاهر، إنه يعمل في الداخل وفي الخفاء جداً.

لذلك إذا أردنا أن نتتبع عمل الروح القدس في حياتنا ، يلزمنا أن نتعمق كل شيء، نتعمق فكرنا ، نتعمق ،ضميرنا نتعمق دوافع سلوكنا، نتعمق رغباتنا وشهواتنا الطيب منها والرديء، نتعمق صلواتنا وصومنا ودموعنا نتعمق خدمتنا ، وأخيراً نتعمق حبنا الله والناس.

لأنه من هذا العمق نتواجه مع فكر الروح القدس ومطالبه وأهدافه فينا . والتعمق دائماً يتطلب جهداً، فإذا أهملنا التعمق بسبب صعوبة الجهد المبذول ، فإننا ننطرح على السطح ونعيش في مظاهر الأقوال والأعمال فلا نتواجه مع الروح القدس.

أما لماذا لا يعمل الروح القدس إلا في الأعماق، فذلك راجع إلى طبيعة الإنسان ، لأن الدوافع والأسباب والغايات الحقيقية التي تحرك الإنسان أو التي يتحرك الإنسان بمقتضاها لا تعمل ولا توجد إلا في أعماقه . أما على السطح فلا توجد ولا تعمل إلا الدوافع المزيفة التي تحركها وتتحكم فيها التقاليد الاجتماعية والتأثيرات البيئية والتربوية وإيحاءات الغير.

حينما يبدأ الروح القدس عمله في أعماق الإنسان، يبدأ الإنسان يكتشف مفاعيل الروح القدس الأولية على هيئة صراع داخل الفكر والضمير والأعضاء، صراع بين «روح الحياة في المسيح يسوع – أي روح الحق والقداسة والبر والتعفف – ضد روح الباطل والنجاسة وخداع الشهوة. 

هنا الصراع يبدو مراً وغير محتمل على ضمير الإنسان وفكره، بسبب إمكانية السقوط في الشر مع وجود روح القداسة في ذات الوقت، حيث يبلغ التأنيب أوجه لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل … فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في، فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي – شيء صالح . لأن الإرادة حاضرة عندي ، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل» (رو 7: 11-20).

أما النتيجة الحتمية التي يبتغيها الروح القدس في هذه المرحلة فهي بغضة الخطيئة جداً. وبقدر ما يزداد وجود الروح القدس يزداد تبكيته لسلوك الإنسان، فيزداد الإنسان بغضة لحياة الشر والخطيئة جداً.

‏هنا يكون الإنسان منحازاً إلى الروح القدس بضميره أو بقلبه، الذي أسماه بولس الرسول «فكر» أو «عقل» أو «ذهن » . ( وهذا الإلتباس ناتج من تغيير حدث على مدى العصور في معنى الكلمة) ، حيث التوبة في عرف لغة الإنجيل هي تغيير يتم في العقل μετά-νοια ، كذلك أيضاً فإن عمل الروح القدس لتجديد الإنسان يتم في الذهن أيضاً «تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم» تغيروا عن شكلكم، أي تغير من طور إلى طور، ذهن = νοῦς

 ولكن لشدة الأسف بينما يكون الإنسان منحازاً للروح القدس بقلبه يكون جسده منحازاً للخطيئة «لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» (غل 5: 17) ، وذلك بسبب امتداد غیر سوي لسلطان الغريزة والعادة الذي يحتاج إلى بعض الوقت ليخضع و ينضبط السلطان الضمير والقلـب بالروح القدس. علماً بأن الخطيئة تستغل دائماً الغريزة الطبيعية في الإنسان لتنحرف بها دون المطالب الطبيعية.

فإن كانت الخطيئة تجد لها في غرائز وشهوات جسد الإنسان قاعدة تختبيء فيها وتعمل من خلالها، فإن الروح القدس يجد له في قلب الإنسان (أو عقله وضميره ) قاعدة يسكن فيها ليبدأ عمله ضد عنصر ا الشر المتسلط على جسد الإنسان « اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد» (غل 5: 16) ، حيث يبدأ التغيير والتجديد في الذهن، وهذا أسهل نوعاً ما.

وهذا يوضحه بولس الرسول عندما يشرح حالة الإنسان وهو تحت فاعلية الروح القدس في بداية صراعه ضد الخطية :

« فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي. ويحي الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا . إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية » (رو 7: 22-25).

ولكن إذا انجاز العقل والضمير للشر نهائياً ورفض بإصرار قبول الروح القدس أو الوقوف بجانب مشورته، يتوقف إيحاء الخير، وينعدم بذلك الصراع بين الخير والشر، ويقف بالتالي التبكيت ويتخلى الله عن الإنسان، ويسلمه للعدو « وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق »(رو1: 28)

وهنا يصبح الذهن «ذهناً مرفوضاً » يفعل كل ما لا يليق بلا مانع وبلا أقل تأنيب !!

بل ويُسر الذهن المرفوض بالذين يفعلون الشر ( رو 1: 32)، حيث يصبح الذهن هنا فاقداً للنور الإلهي ، تابعاً للجسد ومتوافقاً . معه ، و يسميه بولس الرسول «ذهناً جسدياً »: « متداخلاً في ما لم ينظره منتفخاً باطلاً من قبل ذهنه الجسدي » (کو2: 18).

وهذا الإنغلاب الخطير الشامل إنما يبدأ بهجمات الشيطان المتعددة لتشكيك الذهن في ما هو خير وصالح، ويضغط على الإرادة حتى يكسر حاجز المقاومة حيث يبتدىء الإنسان يستسلم إلى مالانهاية.

أما إذا ساد الروح القدس على الذهن وقبل الإنسان تبكيت الروح القدس واستجاب له بالفعل، فإنه يصبح شيئاً فشيئاً ذهناً روحياً. ويمتد أثر الروح القدس من العقل النشيط المتجدد ليشمل كل ملكات الإنسان العليا فيسمى « إنساناً روحياً » ، حيث يصبح ناموس الذهن أي القانون الذي يسلك بمقتضاه ـ هو نفسه ناموس الروح القدس !! و يعبر عن ذلك بولس الرسول هكذا « أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن …. و بذهني أخدم ناموس الله » (رو 7: 22، 25).

ونلخص درجات عمل الروح القدس هكذا :

(أ) بدون عمل الروح القدس يشرب الإنسان الخطيئة كالماء دون أي صراع أو نزاع أو إحساس باللوم أو الندم. إذ يكون مقياس الصلاح (الوصية) والهاتف الداعي إليه غير موجود.

(ب) يبدأ الروح القدس عمله بطرح الوصية أمام ذهن الإنسان كمقياس إلهي وكرسول يطالب بحق الله !! فيبدأ في الحال الصراع بين الذهن القابل لهاتف الصلاح وبين الخطيئة الرابضة في الأعضاء كالحية يحركها الشيطان ويتحرك بها . حيث الصراع هنا يتم داخل الإنسان بين الذهن ( أو العقل أو القلب أو الضمير) وبين الجسد. حيث يستريح في الذهن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع » كما يستريح في الجسد ناموس «الخطيئة والموت».

(جـ) يزداد عمل الروح القدس بمقدار قبول الذهن له وطاعته المشورته حيث تزداد حدة الصراع، ولكن كلما ازداد الصراع كان ذلك برهاناً أو مقياساً لفاعلية الروح القدس المتزايدة حيث يكون هدف الروح هو الوصول إلى القناعة الأكيدة بشناعة الخطية.

(د) إذا بلغ الذهن إلى القناعة الكلية بشناعة الخطية وخطرها الأكيد، يكون هذا معناه أن الذهن انحاز لناموس الروح القدس، وهذا بذاته هو حالة تقديس للذهن.

(هـ) تقديس الذهن لا يبقى بدون عمل ؛ إذ بمجرد أن يتحرر الذهن من ناموس الخطية ويتقدس بالروح القدس، ترتفع القدرة القتالية للإرادة بيقين المعرفة الصالحة للذهن لمواجهة الخطية الرابضة في الجسد والمتحركة بفعل الشهوة التي يلهبها الشيطان بنوع من الخداع والتهويل الكاذب .

(و) بدء غلبة الإرادة على حركة الخطية وإيحاءاتها الشهوانية المخادعة، هو هو بدء حياة البر أو التقوى أو القداسة.

(ز) هذا الصراع القائم في أساسه بين ناموس الروح القدس في الذهن و بين ناموس الخطية والموت في الجسد لا يكف ولا ينتهي قط طالما الجسد ينبض بالحياة، بل هو دائماً أبداً على أعلى مستوى من الإستعداد للتأجج في الإنسان الذي يجاهد في السيرة المقدسة، تارة يرتفع إلى أقصى درجة من الحرارة حيث يرتفع الذهن إلى أعلى درجة من القداسة، وتارة يهدأ عندما تسود النعمة وتملك فتحل محل الصراع إلى حين.

(ح) ولكن مجرد القناعة الذهنية بشناعة الخطية وضررها المفسد والمهلك لا يبرر الإنسان، ولكن يبرره الله وحده. حيث يتضح أن الله هو وحده القدوس ! ولكن معلوم أن بر المسيح نضح علينا ، فالمسيح برر الخطاة بسفك دمه الكفاري !

إذن فالوصول إلى قناعة الذهن بشناعة الخطية والإيقان ببر المسيح وتبريره هو بجد ذاته منفذ عملي للدخول في حياة البر أو حياة القداسة.

والآن نشرح هذا بمعنى آخر:

(ط) إن موت المسيح الكفاري بسفك دمه عن الخطاة دان الخطية وأنهى على سلطانها القتال للناس ! إذن فالوصول إلى القناعة الذهنية بشناعة الخطية وبالتالي رفضها ذهنياً هو هو الخروج العملي من تحت دينونتها الرهيبة، وهذا إنما يكون حتماً من فعل الروح القدس ودم المسيح : لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت !!» (رو 8: 2).

(ي) إذن، فازدياد الذهن والضمير إحساساً بالخطيئة وبفعلها المدمر لحياة الإنسان وخلاصه ، حتى ولو لم يكن الإنسان قد بدأ في حياة القداسة كما ينبغي ، هذا لا يجب أن يوصلنا إلى يأس، لأنه في الواقع لا يوصلنا إلى الوقوع تحت دينونة الخطية بل بالعكس فهو يخرجنا من : تحت دينونة الخطيئة !! لأن جحد الخطيئة والشيطان في الذهن وفي الضمير عن صدق وقناعة كاملة هو بحد ذاته فعل من أفعال الروح القدس وهو ناتج أصلاً من فعل تبرير المسيح للخطاة بدمه ، و بدينونته للخطية والشيطان على الصليب. وهذا ما يفعله المعمد قبل أن يبدأ حياة الإيمان المسيحي العملي.

إذن فكل مرة نجحد فيها الخطيئة والشيطان في الذهن، أي في القلب، عن صدق وإخلاص وقناعة روحية كاملة، هذا بحد ذاته تمسك ببر المسيح وإعلان إيمان صحيح، وهو كفيل أن يهييء لنا بداية جديدة لحياة القداسة ودفعاً جديداً لممارسة القداسة عملياً ! ….

(ك) ولكن بدون حياة القداسة، أي بدون الإنتقال من القناعة الذهنية بشناعة الخطية إلى قتال الإرادة الفعلي ضد الخطيئة العاملة في الجسد بالأهواء وغرور الشهوات، يبقى بر المسيح بلا ثمرة فينا ، ولا يكون له في حياتنا شهادة ، بل يبقى مجرد وثيقة في يدنا قابلة للصرف، ولكن لم تُصرف بعد للإنتفاع بها.

لأنه لا يمكن أن يُستعلن بر المسيح في الذهن فقط، إذ يتحتم أن ينتقل إلى حياة القداسة وغلبة الخطية أولاً بأول. كما أنه يستحيل أن يوجد خلاص في حياة الخطية.

(ل) لذلك فإن عمل الروح القدس في الإنسان الذي يظهر كصراع ذهني ضد ناموس الخطية الرابض في الأعضاء يتحتم أن يزداد ويزداد و يزداد حتى ينتقل الذهن من القناعة بشناعة الخطية ( التي هي حالة قداسة فكرية) إلى إشعال الإرادة نفسها بالقداسة بالفعل. وهكذا تنتقل القداسة من الذهن إلى الإرادة الفعلية، وبالتالي إلى الجسد فيسود الروح القدس على الإنسان كما في الذهن كذلك في الجسد والأعضاء جميعاً .

(م) وهكذا يظل بر المسيح متعلقاً أساساً بتخلصنا من ناموس الخطية العامل في الأعضاء !

(ن) هنا يلزمنا جداً أن نعلم أن علاقتنا الدائمة الشخصية بالمسيح بالحب الصادق من خلال إيحاءات الروح القدس المستمرة هي الأساس القوي جداً للإنتصار على ناموس الخطية مهما كان سلطانه : الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات (غل 5: 24)، هنا كلمة ( للمسيح » تفيد علاقة قريبة شديدة متصلة اتصالاً مستمراً لا يكل ولا يمل.

حيث معروف أن اتحادنا بالمسيح الآن هو اتحاد بالمسيح القائم من الأموات المعطي الروح القدس بالنفخة السرية من خلال كل أسرار الكنيسة «إن كان أحد,, في المسيح، ، فهو خليقة جديدة» ( 2كو 5: 17).

( هـ ) فإذا قارنا في الختام بين ناموس الخطية وناموس روح الحياة، اكتشفنا مقدار الهوة المريعة بين الخديعة التي ننساق إليها إذا اخترنا لأنفسنا الخطية، وبين أصالة الحق والنور الذي سنسير فيه إذا اخترنا الروح القدس وسمعنا صوته ولم نقسي القلب.

فناموس «الخطية والموت» قانون صارم مستبد شرس ، بلا عقل أو حكمة أو أية منفعة، ناموس أعمى لا معنى له ولا غاية إلا الموت والهلاك الذي شبهه الرسول بسريان النجوم التائهة في فلك الفضاء وهي تحترق وتتلاشى، أو الغيوم التي يسوقها النوء بلا أي نظام، أو سقوط أوراق الخريف كيفما كان فتذريها الريح عن وجه الأرض ولا يقر لها قرار ( يه : 12، 13).

فإذا تسلط ناموس الخطية على الأعضاء أعمى الذهن وجرَّده شيئاً فشيئاً من إدراك الحق الإلهي، وحقر في نظره العفة والقداسة، وقلل من شأن كل فضيلة وكل ما هو الله . فإذا ملك ناموس الخطية على الأعضاء وعلى الذهن أنهى على الإرادة بالتالي وأذلها تحت كل شهوة ونجاسة واستعبد الإنسان كلية.

أما إذا فحصنا ناموس «روح الحياة في المسيح» نجده من حيث القوة أقوى من ناموس الخطية وأكثر سيادة وسلطاناً، وقد مثله الرب يسوع في إنجيل لوقا الأصحاح الحادي عشر بــ «الرجل الأقوى». فإن كان الشيطان قوياً فالروح القدس أقوى ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنه يغلبه و ينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه و يوزع غنائمه » (لو 11: 20-26).

فإن كان ناموس الخطية يُحدر الإنسان إلى ما هو دون الطبيعة حتى ينتهي به إلى الموت فكراً وعملاً ، فناموس روح الحياة في المسيح يسوع يرفع الفكر والإرادة والعمل بل وحتى الجسد إلى ما فوق الطبيعة حتى إلى حياة أبدية.

وإن كان ناموس الخطية يعمل في جو من الظلام على أساس الكذب والخداع والكلام الملق والتصورات المفخمة المهولة المملوءة باللذة المخادعة ، حتى يتم إلقاء الشبكة وحينئذ يمد الشيطان يده بسرعة خاطفة ليذبح الفريسة قبل أن تستيقظ ؛ نجد ناموس الروح القدس يعمل في النور على أساس الحق درجة درجة بترولي، و برهان صدقه فيه، حيث كلما ساد ناموس الروح كلما ساد الإنسان على نفسه وأهوائه وغرائزه، وفاحت من ذهنه وفه وسلوكه رائحة القداسة، حيث كل خطوة تكون ذات معنى وذات أثر وذات انسجام أعظم مع النفس ومع الناس والله والكون والخليقة كلها.

واضح إذن أنه مستحيل على الإنسان أن ينعتق من ناموس الخطية والموت إلا بهذا الناموس الأقوى والأعظم «ناموس روح الحياة في المسيح يسوع».

لا تحزنوا روح الله القدوس كتب القمص متى المسكين الروح القدس وجهادنا المتواصل ضد الخطيئة
كتاب مع الروح القدس في جهادنا اليومي
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى