كتاب قصة الإنسان - القمص متى المسكين
سقوط الإنسان
وفي الأصحاح الثالث من سفر التكوين، وفي صميم ترتيب وضع الإنسان في علاقته مع الله والخليقة، فجأة يدخل عنصر غريب يزلزل كيان الإنسان، وكأنما كان لابد أن يدخل هذا العنصر لتكتمل صورة الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بعلاقته بالله التي قامت منذ البدء على حرية الإرادة المشروطة، فالإنسان لم يأخذ حرية إرادة مطلقة أو خضوعاً مطلقاً لأوامر الله . إنما تظهر الحرية المشروطة بقول الله له : « وأمـا شـجـرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت » (تك 2: 17). لقد أعطي آدم حرية الإرادة أن يأكل أو لا يأكل، ولكن الشرط كامن وراء التحذير « لا تأكل» حيث تكون نتيجة عصيان الله هي توقف الصلة الحياتية الدائمة مع الله : « موتاً تموت ».
وهكذا يظهر منذ البدء أن الطاعة لأمر الله هي الشرط الدائم اللازم لبقاء الإنسان حراً في إرادته يختار ما يختاره الله له بمنتهى الإنسجام؛ لأن هذا هو مفهوم خلقة الإنسان على صورة الله كشبهه، لأن الصورة إذا اتبعت أصلها ، فمن ذا يستطيع أن يُنقص من حريتها وقدرتها الحرة على الحركة ولكن إن عصت الصورة أصلها فكيف تظل صورة ؟ حيث العصيان يمثل استقلال الإنسان عن الله ، وهنا يكمن خطر الموت، لأن الله هو مصدر الحياة الدائمة للإنسان، وعلى أقل تقدير نقول إن نفخة الله في الإنسان تتوقف عن استمرارها أو تتعطل !!
نتائج السقوط وإمكانية التجديد:
وقد تمت المأساة بالفعل، فقد مدَّ الإنسان يده وتناول الثمرة المحرمة، وأكلها بغواية الحية. ولم تقتصر الخسارة الكبيرة على فقدان العلاقة المفتوحة مع الله، بل كما أنكر الإنسان سيادة الله عليه، هكذا تنكّرت الأرض والطبيعة والخليقة كلها لسيادته، وإن كان قد تبقى له في مضمون كيانه صورة باهتة ضعيفة لهذه السيادة يمارسها بمنتهى المشقة، غير أنها تعلن بلا جدال أن صورة الله فيه لا تزال تحمل شيئاً ما من هيبة الله على الخليقة!
لأن صورة الله في الإنسان، وإن كانت تحمل إمكانية التشويه من جهة أعمال الإنسان، إلا أنها تحمل أيضاً إمكانية الإسترجاع إلى أفضل مما كانت عليه، شأن كل أعمال الله الصالحة. وهكذا بقيت الصورة المشوَّهة تنتظر الفداء ، لتعود أفضل مما كانت: «ولَبِسْتُم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه » (كو 3: 10)، «وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24)، «الذين سبق فعرفهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة أبنه (الله)» (رو 8: 29) ، « وكما لبسنا صورة الترابي ، سنلبس أيضاً صورة السماوي (الله)» (1کو 15: 49)، «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها ( الله )، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح.» (2کو 3: 18)
وواضح أن الصورة المعادة تحمل السر الأدبي والأخلاقي للإنسان التقي ، بإحساس الضمير الواعي الحي الملتزم بوصايا الرب ، مع استنارة المعرفة، وانفتاح الذهن، والحكمة في القطع بين ما هو فاضل وما هو باطل، مع حرية إرادة منحازة إلى الله بلا جهد، وقدرة على الحكم والتدبير، بشبه الله ، ، بإرشاد الروح القدس وعمله .
وهكذا، بقدر استضاءة الإنسان في جهاده و وضعه الجديد مع الله، بقدر ما يدرك الإنسان مقدار الخراب والتدمير الذي حاق به بسبب رفضه إطاعة الله ، وقبوله خدعة الشيطان من فم حيَّة ، مع أنه أعطي السيادة المطلقة على عالم الحيوان كله، كذلك بقبوله شهوة الأكل من الشجرة المحرمة، مع أنه أعطي أن يسود بشهوته على كل حُسْنِ عالم النبات ولدته وجماله !!
وهكذا ذلل الإنسان نفسه تحت الخليقة التي أعطي أن يسود عليها كممثل الله ، وكحامل لصورته . و بسقوط الإنسان من رئاسته قبلت الأرض اللعنة في عالميها – عالم النبات وعالم الحيوان – واشترك كلاهما : الإنسان والخليقة، في الألم والأنين و مخاض الموت، وبالتالي اشتركت الروح في الإنسان، والمادة فيه وفي الطبيعة، وتقاسما معاً جرحاً واحداً مميتاً . لهذا ، أصبح كل ما يصيب الإنسان روحاً ونفساً ، ينعكس على جسده ؛ وكل ما يؤذي الجسد في الإنسان ينعكس على نفسه وروحه ؛ وشفاء هذا يعتمد على شفاء ذلك ؛ بل أصبح عالم النبات والحيوان شديد التأثر بحال الإنسان ارتفاعاً وهبوطاً من جهة الروح والتقوى: «فإني أحسب أن آلام هذا الزمان الحاضر، لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا . لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله . إذ أخضعت الخليقة للبطل، ليس طوعاً، بل من أجل الذي أخضعها، على الرجاء . لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله . فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح ، نحن أنفسنا أيضاً ، نثن في أنفسنا متوقعين التبنّي فداء أجسادنا .» (رو 8: 18 -23)
العنصر الدخيل بين الإنسان والله:
ومن وراء حديث الحية مع حواء والإفتراء على وصية الله لآدم، يتضح كل الوضوح، أن هناك عنصراً دخيلاً مفسداً دخل بين الإنسان والله ، وبين الإنسان والخليقة، وزيف عليه الحقائق. هنا مضمر مخلوق ،آخر ليس من الخليقة الأرضية، لكنه ذو سلطان على الخلائق الأخرى، هو الذي دخل الحية، وتكلم منها ليغوي الإنسان ويُسقطه، وهو ذو طبيعة غير مادية ( رئيس سلطان الهواء» (أف 2: 2)، ويمثل مجموعة أخرى من الجنود السمائية أجناد الشر الروحية في السماويات» (أف 6: 12) التي عصت الله قديماً (1بط 3: 20) فسقطت كما سقط آدم ، وإنما بصورة مـا أخـرى لا ندركها ، واستقلت عن الله « ولم تحفظ رئاستها » (يهوذا : ٦)، وهي إذ تـعـلـم أن مالها النهائي إلى الهلاك حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يه ٦) ، تعمل جاهدة لتفسد وتوسع مجال إفسادها ـــ أما الله ، فبسبب قدرته الكلية واللانهائية فهو في اعتماده على قدرته على تغيير الإنسان، ترك الشيطان يمارس إفساده للإنسان بكل ما أوتى من قوة لأن نهايته معروفة لدى الله الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء » ( 2بط 2: 4 ) . أما الإنسان فإنه يتحول إلى أفضل و يزداد حكمة ومعرفة إذا خرج من هذه التجارب وهو متمسك بالله وصبر له ، أي أن ترك الله للإنسان هو اعتماد على حرية إرادته بما يكفل له الإنحياز إلى الله لو شاء، فيتلقفه الله و يضمُّه إليه . وواضح من الكتاب المقدس أن هذا المخلوق غير المادي المتزعم للأجناد السماوية الساقطة هو الشيطان المدعو «إبليس» ، والمسمى أيضاً: «الحية القديمة» (رؤ 20: 2) (التي كلمت حواء).
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب قصة الإنسان | |||
المكتبة المسيحية |