المصالحة

 

المصالحة احتياج روحي واحتياج نفسي، بدون المصالحة يواجه الإنسان متاعب كثيرة، بعضها روحي وبعضها نفسي وبعضها اجتماعي. وأقول أيضاً إن هناك نوع من المصالحة لو لم يتم يلقي الإنسان في العذاب الأبدي ولا ينال وعد الحياة الأبدية الذي وعد به الرب.

وقبل أن نتحدث عن الله والمصالحة مع النفس والمصالحة مع الآخر فإننا نطرح تصور حالة الإنسان بدون مصالحة. إنه سيكون في صراع مع نفسه وفي خصام مع الآخر، أما مع الله فسيكون هناك مسافة غير محدودة يصعب اختصارها.

الأمر الأشد تأثيراً في حياة الإنسان هو شعوره بعدم الاحتياج للمصالحة أو كيف يحصل على هذه المصالحة. ولكن ما نود أن نضعه أمام القاريء العزيز هو أنه لا يوجد سوی مصالح واحد فقط بين الإنسان والله أو بين الإنسان والآخر أو بين الإنسان ونفسه وهو الرب يسوع المسيح. ولا يوجد وسيلة أخرى غير الصليب بها يتم التصالح حسب هذه النصوص الكتابية التي أعلنها الوحي الإلهي:
+ وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات”
(کو 1: 21).
“وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت (على الصليب) ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه (كو 1: 2).

+ الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم…. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله… (2کو 5: 18-21).

أولاً : التصالح مع الله:

 لكي نعرف كيف يتم التصالح مع الله لابد أن نعرف أن الخطية بكل صورها وأشكالها سواء كانت خطية فكرية أو لفظية أو فعلية فهي تحدث شرخا في العلاقة مع الله، بل تحدث حاجزاً يمنع الرؤية، بل حاجزا يمنع تدفق النعمة، ويعيق الاتصال مع الله. وهذه حالة من القلق وفقدان السلام وغياب الهوية، وما هذه الهوية إلا بنويتنا الله. ثم غياب الهدف وهو الملكوت الأبدي. وما أن يشعر الإنسان بحالته ويتعرف على خطيته، يبدأ بالشعور بالاحتياج إلى المصالحة مع الله. وعندئذ يقدم الرب يسوع المسيح نفسه كمصالح للبشرية مع الله، بل مصالح لكل فرد على حده. ولكن هل تظل الخطية عائقاً؟ لا، هو وحده الذي له سلطان على الخطية بمعنى الإعفاء من العقوبة كخطوة، أما الخطوة الثانية وهي الأهم فهي السلطان على الخطية.

وفي المسيح وفيه فقط نقول “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً” (رو 5: 20) ويجب أن نقف طويلاً أمام الكلمة “ازدادت” و”جدا”، هنا سر المصالحة بل سر الغنى الذي لنا في المسيح يسوع ربنا
+ “أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصي” (أف 3: 8).
+ “غنى نعمته” (أف 1: 7، أف 2: 7).
+ “غنى في الرحمة” (أف 2: 4)

أما الصليب فهو دعوة لكل الخطاة أن يتصالحوا وينالوا نعمة المصالحة، الصليب له سر عظيم جداً لمن يكتشفه، ولا يكتشف سر الصليب من يدعون أنهم أبرار وقديسون، ولكن يكتشف سر الصليب من يقر أنه خاطيء ويقف أمام الصليب كخاطيء – ليس باللفظ – أعماقه . ولكن في يشعر أنه ليس خاطئاً فقط بل هو أول الخطاة” كما وصف القديس بولس نفسه.

هنا وهنا فقط حيث الإيمان بقوة الصليب وشفاعة الدم في كل خاطيء ولن يستفيد من مصالحة الصليب إلا من يتقدم. كخاطيء حقيقي وليس خاطئاً مزيفا. نعم هناك خطاة مزيفون يقولون إنهم خطاة لفظاً وكلاماً بينما هم في داخلهم يشعرون أنهم أفضل من آخرین!!

وهل المصالحة تتم في لحظة؟ إنها تبدأ في لحظة ولكن تستمر طوال غربتنا وطوال سقوطنا !! نحن ضعفاء ولذلك فإن الروح يعين ضعفاتنا وكيف يعين ضعفاتنا إلا خلال قوة الصليب وشفاعة الدم:
+ “الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه” (رؤ 1: 5) .
+ “الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا” (أف 1: 7)

 وعبادتنا اليومية سواء على مستوى الكنيسة حيث الأسرار، أو على مستوى المخدع فإنما هي استمرارية لهذا التصالح القداس الإلهي نحن نصلي صلاة الصلح نأخذ من جسد الرب ودمه ما يمنحنا من المصالحة. وفي مخدعنا نحن نعترف بخطايانا وخزينا وعارنا وإذ بنا نجد ذراعي الرب على الصليب تمتد إلينا وتختصر المسافات وتختزل الأبعاد كلها وإذ بنا نجد أنفسنا أحضان الرب نشعر بالحب وننال المصالحة ونؤكد مصالحتنا مع الله بتناولنا من الأسرار المقدسة حيث جسد الرب المصلوب في عنا ودم الرب المسفوك على الصليب.

(2) التصالح مع الآخر:

هنا القانون الإلهي في المصالحة مع الآخر:

* “محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضا. إن كان لأحد على أحد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً ” (کو 3: 13)

وحين يتصالح الإنسان مع الله وينال الغفران فإنه بسهولة يتم التصالح مع الآخر وكما صالحنا الله نتصالح مع الآخر. بل نقول إن الله صالحنا في الخمسمائة وزنة من في الذهب (خطايانا) ولذلك يسهل أن نسامح الآخر في المائة دينار (خطأه نحونا) ولا يمكن أن تتم المصالحة بين الزوج وزوجته إلا في المسيح فقط. ولذلك فإن كل خلاف عائلي وكل خصام بين زوجين وكل مشاكل عائلية لا يمكن أن يتم التصالح فيها إلا بوجود المسيح ورجوع كل طرف إلى المسيح المصالح حتى يصالحنا مع بعضنا البعض.

وكم من محاولات للمصالحة باعت بالفشل لأنها كانت داخلة في محور علم النفس والخبرات البشرية الضعيفة. ولكن كل مرشد وكل كاهن يعمل في مجال الإرشاد الأسري والمصالحة الزوجية عليه أن يجعل الرب يسوع المسيح هو محور المصالحة وأن يوجه كل طرف إلى الصليب وإلى شخص الرب يسوع المسيح هو وحده القادر أن يجعل من الاثنين واحداً ويستحيل أن يصير الاثنان واحدا إلا في المسيح وبالمسيح فقط. كل زوج وكل زوجة يرتبط بالمسيح ويقدم توبة عن خطاياه وينال المصالحة مع الله بالمسيح يسوع فإنه يستطيع بسهولة أن يتصالح مع الشريك الآخر. وكذلك المصالحة بين الإخوة وبين الأصدقاء فإن المركز هو الرب يسوع وكلما نقترب من هذا المركز كلما نقترب من بعضنا بعضاً ونختصر المسافات. 

(3) المصالحة مع النفس:

 هي مصالحة الإنسان مع نفسه المصالحة بين الجسد والروح، المصالحة بين الماضي المليء بالخطايا والضعفات وبين المستقبل المليء بالأمل والرجاء. وهذا هو سر مصالحة الإنسان مع نفسه:
+ “فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو 5: 1)
+” قد أشتريتم بثمن فمجدوا الله أجسادكم وفي أرواحكم” (1کو 6: 20).

هنا ينال الإنسان الشفاء من كل صراع داخلي، خصوصاً في حالة عدم التطابق بين الصورة المثالية للشخصية والصورة الواقعية. أما في الصليب وفي قوة الدم الإلهي تقترب الشخصية المثالية الشخصية الواقعية حيث ينال الإنسان الشفاء من أوجاعه وضعفاته. 

(4) المصالحة في الخدمة والرعاية :

 نحن نخجل من الحديث عن المصالحة في الخدمة والرعاية لأن هذا الأمر يحتاج إلى توبة جماعية على كل المستويات. إن توبة نينوى هي مثالنا وصوم وصلاة جماعة استير هي قدوة لنا هنا نحن ننكر ذواتنا ونخلع ثياب كرامتنا وننزل من كراسي كبريائنا وننحني لنغسل أرجل الكل متضعين لكل أحد معترفين بخطايانا محتملين بعضنا بعضاً مقدمين بعضنا بعضا في الكرامة.

متشبهين هنا بالرب يسوع المسيح الذي أراح الكل وأعطى الحب للكل واتضع للكل وأعطانا مثالاً أن نتصالح مع الكل بلا انقسام وبلا تحزب وبلا أنانية وبلا كبريائنا وبلا عبادة وتضخيم للذات….

يا من صالحتنا أعطنا أن نتصالح مع بعضنا بعضاً معترفين بخطايانا قدامك وقدام من أخطأنا في حقهم. ودون الاعتراف بخطايانا ودون الغفران لا يمكن أن تتم المصالحة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى