سرور القيامة مرافق لصيق لآلام الصليب
“من أجل السرور الموضوع أمامة احتمل الصليب مستهينا بالخزي” (عب 12: 2)
قوة القيامة بكل سرورها تخترق حاجز الزمن. وسرور القيامة هو حقيقة ملازمة لحضور الرب مع كل المتألمين لأجل إيمانهم به، أو لأجل الكرازة بإنجيله، لذا فقد استطاعوا أن يواصلوا المسير معه ويتحملوا المشاق لأجل الكرازة به، ويتجاوزوا العراقيل والصعاب. وعندما يُعلم الإنجيل عن حقيقة القيامة العاملة الآن في المؤمنين بالمسيح، فهو لا يقرر عقيدة جامدة، بل يقدم خبرة حية، بمعنى أنها حقيقة فعالة إيجابية موجودة داخل المؤمن بالمسيح كائنة في باطنه، قائمة على معرفة حقيقية واختبار واقعي.
سرور القيامة هيأ قوة كافية حاضرة في كل وقت مع كل الحاملين صليب الآلام لأجل المسيح. وبذلك يؤكد الرب القائم تواصل حضوره مع المؤمنين به حاملي صليبه، وكان ذلك السرور برهانا فعليًا لفاعلية روح القيامة فيهم.
فالمؤمنون بالمسيح – على مر الأجيال – تواجهوا مع أعداء حقودين أخذوا يواصلون طغيانهم وحقدهم واستبدادهم بلا رحمة كما تواجهوا مع غوغاء واقعين تحت تأثير قوة شريرة، مدفوعين بطاقة الشرير بلا وعي.
وقد تعرض الكارزون بالإنجيل لآلام كثيرة، وضغوط نفسية تقلق راحة القلب، لكنهم احتملوا وصمدوا وتمتعوا بدفء أبوة الله ومحبته كمن يتمتع بدفء حرارة الشمس، ولم يستطع أعداء الخلاص – مهما كانت شدة سطوتهم – أن يوقفوا حركة القيامة أو يعطلوا سريانها في قلوب الأمناء من المؤمنين بالمسيح، بل صار هؤلاء الأمناء أنوارًا مشرقة بضياء البر، كما صارت الكرازة بإنجيل القيامة شعلة متوهجة تنتقل من جيل إلى جيل، لا يؤثر فيها آلام الزمان الحاضر، ولا تبليها مشقات السنين.
لن يخشى الموت إذا جاء:
المبشر الهندي الشهير “سندر سنغ” (1889- 1929م)، كان من أعظم الكارزين بالإنجيل في القرن العشرين من سماته أنه كان يحمل صليب الألم والموت لأجل الكرازة طيلة حياته، وكان يواجه الموت مرارا كثيرة بحيث أصبح لا يخشاه. فقد تعقبه الموت في الغابات والسجون ووسط الأفاعي والحيات والوحوش الضارية والكهوف المهجورة، ووسط ثلوج جبال الهيمالايا، وعند انهيار جبال الجليد، وقبض عليه في التبت، وحكم عليه بالموت، وأُلقي في جب الموت، وخرج بأعجوبة، ولذلك قال بكل هدوء واطمئنان: إنه لن يخشى الموت إذا جاء، بل أكثر من هذا فهو قد وجد الفرح الحقيقي أو فرح القيامة ملازمًا دائما لصليب الألم والموت الذي كان يحمله كل يوم، إذ يقول عن ذلك: [في حديثي مع أصدقائي، أستخدم أحيانا كلمات “السجن”، و”الاضطهاد” و”المعاناة”. ولكنني أقول إن هذه كلها لا تعني الألم بالنسبة لي. فلو كنت أعاني، فما كنت أعود للبشارة في القرى مرة بعد مرة الحقيقة بالنسبة لي هي أنه كلما سمح الرب لي بأن أقاسي في سبيل خدمتي، فإني أكتشف السماء على الأرض.
إن الرب يهبني مع الألم فرحا عجيبًا ، لا أجده في أي ظروف أخرى. وهكذا – وسط الآلام – أتحقق من حضور الرب القائم إلى جواري بصورة واضحة لا تدعو للشك.
ما هو سر الحماسة البالغة لهذا الكارز الشجاع في مواصلة الكرازة رغم كثرة الأهوال التي مرت عليه؟ فهو رغم آلام الاضطهاد التي تعرض لها، لكنه كان يعود متلهفا بأكثر شوق إلى خدمته ليواصل عمله ككارز بالإنجيل.
لأن ضياء القيامة ملأ قلبه وسرورها امتزج بروحه ووجدانه.
القيامة تشيع جوا من السرور حول النفس المتألمة لأجل الله، ويحصن أسوار النفس من هجمات موجات الخوف من الموت. وكأن الإنسان هنا مأخوذ بنشوة سرور القيامة، مما يجعله لا يعبأ بالآلام ولا يقيم لها وزنا، وكل ذلك لأجل الإتيان بالنفوس إلى الله. لذا فقد رأينا في حالة هذا الكارز أنه لن يستعفى عن القيام بهذه المهمة المقدسة الملحة، شهادة لواقع الخلاص والقيامة.
فخلاص النفس كان على الدوام نصب عينيه، ورغم أنه كان يصطدم بأصحاب القلوب القاسية الرافضة للإنجيل، لكنه لم يكن يقيم اعتباراً لذلك، بل كان ينظر إلى الكرازة بإنجيل القيامة والخلاص كوديعة مقدسة تستوجب تسليمها بأمانة فلم يتكاسل لذا كان يرى أن الشهادة للرب والكرازة بإنجيله هما ضرورة ملحة على عقله وقلبه وضميره مستهينا بكل الآلام التـ تقابله في سبيل ذلك: “كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات (2كو 1: 9)
من ذلك كان يستلهم قوة لتحريك وتوجيه مسيرة خدمته للتبشير بإنجيل القيامة.
كما أن سرور القيامة جعله يستثمر طاقة حبه في خدمة الآخرين، فلم يكف عن توصيل نور الإنجيل لكل المحرومين.
کارزون شهداء بالصين
مجمو عة من الكارزين بالصين، كانت مكونة من رجل وزوجته وابنتيه، مع سيدتين أخريين، تعرضوا لتهديد الغوغاء، فهربوا إلى الجبال القريبة، وظلوا مختبئين في الكهوف لمدة ثلاثة أسابيع، قبل أن يقبض عليهم رجال البوكسر (وهي عصابات وثنية كانت تضطهد المسيحيين وتقتلهم).
كتب الكارز رسالته الأخيرة إلى والدته وخاله يقول فيها: [إننا في يدي الله، ويمكنني أن أرنم قائلاً: “لا أخاف شرًا لأنك أنت معي”. إن الجنود فوق رؤوسنا تماما، والوقت لا يتسع سوى أن أقول لكم : أستودعكم الله إننا سنكون قريبا مع المسيح، وهذا أفضل كثيرًا لنا. وكل ما بإمكاننا الآن هو أن نأسف فقط من أجلكم أنتم الذين تخلّفتم هنا على الأرض، ومن أجل أيضاً مواطنينا المسيحيين الأعزاء أستودعكم الله إلى أن يأتي ليأخذكم أنتم أيضا لنكون جميعًا مع الرب كل حين.
إننا سعداء لأن نكون شركاء في آلام المسيح، حتى حين يُستعان في مجده نفرح أيضا بسرور لا ينطق به ومجيد.
وأضافت إحدى السيدتين تقول : [ إن أبانا السماوي معنا ونحن ذاهبون إليه، ولنا ثقة أن نراكم جميعا أمام وجهه؛ لنكون معه جميعا إلى الأبد].
وقد استشهدوا جميعًا في 30 أغسطس عام 1900م.
هؤلاء الشهداء ضحوا بأجسادهم في سبيل توصيل الرسالة، لأنهم كانوا يعون وعيا تاما قيمة التزامهم ومسئولياتهم تجاه النفوس السائرة في طريق الهلاك.
ومن خلال الآلام التي تعرضوا لها تعرفوا على المعنى الأصلي للقيامة وعمقها الحقيقي. وقبولهم الآلام جعل روح القيامة الأبدية مسيطرا على جو حياتهم، وهذا الأمر جعل لهم رؤية خاصة متميزة، نسوا فيها نفوسهم، وكانت تلك الشجاعة التي عندهم تمثل انعكاسا أصيلا لصفاء الرؤية الروحية عندهم.
كم تعرضوا للمطاردة والملاحقة من الرعاع الوثنيين المسوقين بقوة شيطانية، الذين قطعوا عليهم كل سبيل للنجاة، لكنهم بقبولهم الآلام لأجل الكرازة بالإنجيل، انفتح وعيهم على السماء، وهذا الانفتاح كان يحمل قوة للتحرر والانطلاق من قيود الأرض ومآسيها، فكانوا يشعرون أنهم قريبون من حدود السماء غير بعيدين عن مجالها، وكأن صوتا آتيا من العالم الأبدي يهمس في آذانهم الداخلية: “هلموا إلي”.
وبهذه الدعوة شعروا أنهم قريبون من الحياة الخالدة، كل يوم يقتربون خطوة من الأبدية شاعرين بالشوق الشديد للانطلاق إلى الأمجاد.
إن سرور القيامة جعلت قلوبهم مشغولة بالأبدية، ونفوسهم متعلقة بمجد السماويات؛ فاستهانوا بالدنيا وكل ما فيها، ولم يجزعوا من آلامها، بل كانوا تواقين إلى الحياة السامية الأفضل، وهم واثقون أن أكاليل الحياة بانتظارهم وهذا كان مبعث رضى وطمأنينة لهم، حتى فازوا بها فعلا.
نعمة الله المؤازرة :
أحد الكارزين اسمه “كوبر”، كان يكرز في مقاطعة “لوشينج” بالصين:
بعد موت زوجته وطفله، كتب خطابًا لوالدته يقول:
[لقد كرمنا الله بأن سمح لنا أن نشاركه آلامه فقد رجمنا بالحجارة ثلاث مرات، سلبوا منا كل شيء حتى الملابس، وأصبحنا نعرف الآن ماذا يعني الجوع والعطش والعري والألم كما لم نعرفه أبدًا من قبل. ولكننا عرفنا أيضا نعمة الله المؤازرة وقوته وسلامه، بإحساس جديد أقوى مما سبق.
طمت عليَّ اللجج واحدة بعد أخرى، فقدت المنزل، صرتُ مُعْدَما، والزوجة والطفل ذهبا إلى المجد، حتى الطفل الآخر يرقد مريضا جدًا، وأنا ضعيف للغاية ومُرهَق جدًا، ومع ذلك فإني رابط الجأش.
والآن وقد علمت يا أمي أسوأ ما في الأمر، أود أن أخبرك أن صليب المسيح وهو المجد الفائق لمحبة الله قد جلب تعزية فائضة لقلبي، حتى لم يعد موجودًا ولا تذمر واحد ليمنع سلام الله الداخلي.]
واضح من كلام هذا الخادم الأمين أن هناك رنة فرح ترن في قلبه ووجدانه. قاسى الصعوبات والشدائد لكنه ظل رابط الجأش أي كان متمتعا بهدوء النفس وثبات القلب، وبهذا الثبات اجتاز ما قابله من مصاعب جمة ظل ثابتا رغم شدة العاصفة وعنفوان التجارب التي ألمت به إذ كانت الضيقات تحيط به وتطوقه وتحاصره، لكنه لم يفزع ولم يجزع، وكل المصاعب لم تثنيه عن عزمه وسط آلامه اختبر قوة محبة الله في قلبه، أي أن قبوله الآلام لأجل الكرازة بالإنجيل جعل للحب الإلهي جذور متأصلة في قلبه. ولاشك أنه كان يحس أنه يحيا في ألفة مع المسيح القائم وشركة حب عميقة معه، لأن المحبة المضحية هي دائما ثمرة حضور الرب في حياة المؤمنين .به وسرور القيامة هي حياة غير معزولة عن مصدرها، وغير مستقلة عن أصلها الإلهي . ورغم أن طريق الكرازة بالإنجيل هو طريق شاق فيه تعب وجهد وعناء ودماء، ولكن فيه أيضا سرور القيامة، السرور الذي يعزي النفس ويريح القلب، ويضمن بقاء جذوة الإيمان في القلب متقدة حتى لم يعد هناك ولا تذمر واحد يمنع سلام الله داخله.
ومعنى ذلك أنه رغم كل الآلام التي أتت عليه، لم يتشكك في محبة الرب له وحكمته وقدرته. هذه قوة سرور القيامة التي جعلته يرتفع فوق العواصف.
خبرة مؤثرة عن رجاء القيامة:
في أوغندا، أثناء حكم الطاغية عيدي أمين، والذي استشهد على يديه آلاف المسيحيين. يحكي د. سيمباجي هذه الخبرة المؤثرة في كنيسته قبل هروبه إلى الولايات المتحدة، فيقول: بعد انتهاء خدمة عيد القيامة في كنيستنا عام 1973 م، تتبعني خمسة من رجال عيدي أمين إلى مكتبي، وأخبروني عن مهمتهم (أي القبض عليَّ وإعدامي)، وسألوا إن كان لدَيَّ مَا أقوله لهم. فأكدت لهم أنني غير مزمع أن أتوسل إليهم من أجل إنقاذ حياتي، لأنني قد مت فعلاً وحياتي مستترة في المسيح.
ولكن الشيء الذي أذهل أطول الرجال الذي كان قد قتل أكثر من مائتي رجل، هو أن أرامل بعض ضحاياه كنَّ في الكنيسة في ذلك اليوم، يترنمن في إحساس مملوء بالرجاء والفرح. وتساءل: “لماذا لم يصبهن الحزن والأسى؟!”
قلت له : لأن الإنجيل قد غيرهنَّ. ولديهنَّ الآن الفرح والرجاء الذي لا يمكن لأحد أن ينزعه منهن.
ولدهشتي الفائقة، سأل الرجل إذا كان يمكن أن أصلي من أجله هو ورفقائه، ففعلت. وقد صار أحد هؤلاء الرجال الأداة الرئيسية في هروبي فيما بعد من أوغندا، كما أصبح أيضا عضوا عاملا ومؤثرا في كنيستنا .]
هذه خبرة واقعية تكشف عن عظمة الغنى الروحي المؤثر للقيامة ذات الرجاء الحي، خبرة تأصلت في هؤلاء المؤمنات بالمسيح، وأصبحت جزءًا من نسيج حياتهنَّ. سرور القيامة قوة روحية تسمو بالنفس وترفع الذهن إلى أعلى حيث المسيح القائم جالس عن يمين العظمة في الأعالي. كان السبب الأصلي في أنهن يترنمن بإحساس مملوء بالرجاء والفرح أنهنَّ كُنَّ يملكن قلوبًا مشبعة بروح القيامة ومحبة المسيح. وهذا دليل انكسار شوكة الموت بقيامة الرب، أي لا تعود نفوس المؤمنين بالمسيح منكسرة مهزومة أمام الموت بل غالبة منتصرة مزدهرة. الرجاء يهب قوة على الصبر، والإيمان بالقيامة ينشئ فكرًا جديدًا وشعورًا جديدًا بأنه يوجد عالم آخر روحاني وراء هذا العالم المادي، أي يؤمنون أشد الإيمان أنه توجد حياة أخرى سامية بعد انتهاء الحياة في هذا العالم، وهذا الإيمان القوي المعيش كان كفيلاً بأن يغير حياة أحد الخطاة العتاة ويقود خطاه إلى طريق النور ويجعل منه عضواً مؤثراً في الكنيسة.
وفي الختام نقول:
رأينا في النماذج السابقة أن سرور القيامة كان هو العصارة الحية التي تمد الأغصان (أي أعضاء المسيح) بالحيوية اللازمة لثباتها ونموها وصمودها.
والكارزون بالإنجيل دفعوا ضريبة الدم، مناضلين ببسالة ضد قوات الظلمة؛ لأن كل مكان كرزوا فيه بالإنجيل كانوا كمن يشن هجومًا ضد معاقل العدو لإطلاق المأسورين. ولكنهم لم يقفوا بمفردهم في مواجهة الأزمات والإحباطات، بل كان يقف بجانبهم المسيح القائم بقوة قيامته وهذا هو السبب العميق الكامن وراء احتمالهم الآلام والموت.
قوة القيامة زلزلت عرش مملكة الظلمة، وهدمت سطوتها، وحررت ملايين النفوس من قبضة الشرير، واستردت النفوس المنهوبة.
ويظل سرور القيامة حقيقة خافية مستورة حتى يتم استعلائها عند قبول آلام الصليب. والمؤمنون الحقيقيون يتعايشون مع القيامة كواقع حي فعال، بل كقوة روحية مذخورة لوقت الحاجة، حتى تبقى النفس غالبة في جهادها ضد شرور العالم، وبهذه الغلبة يصير المؤمن بالمسيح متحررًا من قيود العالم غير متكل على معونة بشرية، ولا مستند على ذراع إنسان. إن حالة الصبر والاحتمال والصمود التي عاشها أولئك المؤمنون بالمسيح كانت أقوى شاهد على حالة تدفق القوة الروحية من المسيح إلى محبيه المتألمين لأجل اسمه. فقد كانت توجد رفقة دائمة بين المسيح القائم وأبنائه القائمين معه، رفقة هي بمثابة اتحاد قلبين حتى صار سر القيامة وسرورها كامنين في أعماق كيانهم مما جعل لهم قلوبا نابضة بسر الحياة الجديدة التي تستمد قوتها من قيامة الرب.