كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

تحرير النفس

«وقفت على قمة العالم حينما أحسست في نفسي أنني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً.»

غريغور يوس الكبير

النفس البشرية بطبيعتها خفيفة نقية سريعة الإستجابة لنداء الله ، شديدة الرغبة في الوجود معه والإلتصاق به حرة في تحليقها إلى أعلى، كما أنها محبة لبني جنسها أي لكل نفس بشرية أخرى، منفتحة على أحاسيس الغير بدون تحفظ ؛ مُحبة ومنبسطة إلى أقصى ما يمكن، قادرة بطبيعتها أن تكون مع الله والناس وحدة متكاملة من الحب والألفة والعمل المنسجم.

وفي النفس البشرية المنفتحة الله يكون عنصر القوة والخفة والحرية والمحبة النقية غير محدود قابلاً للنمو والزيادة والتكامل إلى ما لا نهاية بسبب استمرار استمدادها لهذه  الصفات من الله.

فما الذي يعطل خفة النفس، إذن، ويوقف حركتها ويبطل حريتها ؟ عنصر أما هذا الجواب على ذلك هو أهم وأخطر ما يعنينا في حياتنا الروحية ، لأننا لو اكتشفنا. الثقل الذي يهبط بالنفس إلى الأرض باستمرار و يوقف حركتها ويحرمها من حريتها و يعرقل امتدادها ونموها استطعنا أن نركز اهتمامنا وجهادنا وصلواتنا ضده حتى نتحرر. الثقل المعادي والخطر فهو «الذات»، الذات البشرية.

الذات البشرية يمكنها أن تريد غير ما يريد الله ، فهي يمكنها أن تميل وتشتهي ضد مشيئته، وتتحرك عكس ما يأمر ، ولا تستجيب لندائه وتحذيره وترفض مشورته وتحتقر محبته وتستهين بلطفه وطول أناته! وتتسبب بالنهاية في هلاك الإنسان كله.

ولكن هل الذات البشرية شيء غير النفس البشرية؟

في الحقيقة ليست الذات إلا النفس عينها ولكن :-

(1) إما أن تكون النفس خاضعة الله تماماً ، فتكون هنا الذات البشرية غير مستقلة بذاتها أي ليس لها كيان مستقل عن الله، بل تكون إرادتها هي إرادته ومشيئتها هي مشيئته، وفي هذه الحالة تكون الذات البشرية مهيأة للوجود الدائم مع الله وبالله ، أي ميتة بذاتها حية بالله.

(2) وإما أن تكون النفس غير خاضعة لله، وذلك عندما تستقل بحريتها عن مشيئة الله وإرادته وتعمل هواها وشهواتها، وهنا تكون الذات البشرية حية لذاتها ميتة عن الله، ويصبح لها وجود وكيان مستقل عن الله ولكنه وجود في الشر وكيان قائم على الوهم  المادي، لذلك فيكون وجودها المستقل عن الله وكيانها الفردي في الخطية هما وجود وكيان زائلان، لذلك فالذات المستقلة عن الله تصبح ذاتاً هالكة. 

ولكن خروج الذات عن إرادة الله يكون بغواية الشيطان بخداع شديد كخداع الحـيــة لحواء في الفردوس : « ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح . » (2كو 11: 3).

ولكن هل من طريقة نُميت بها الذات البشرية عن ذاتها لتحيا بالله؟

نعم ، والوسيلة الوحيدة هي الخضوع الكامل لإرادة الله ! ففي خضوع النفس الله خضوعاً كاملاً ينتهي كل استقلال للذات البشرية.

 والخضوع هنا يعني استسلاماً كاملاً لإرادة الله فيما حدث وفيما يحدث وفيما سيحدث، دون قلق أو تذمر أو يأس، لا بمعنى أن يُبطل الإنسان جهاده لحل المشاكل ودفع الأضرار ومعالجة الأمراض وحسم المواقف بمشيئة روحية يقظة مستمَدَّة من الله ، بل القصد من الإستسلام لإرادة الله . هو الرضى بالنتائج النهائية بعد أن يبذل الإنسان قصارى جهده، على أن يتحقق الإنسان دائماً وباستمرار من أن إرادته وفق إرادة الله ولا يعمل شيئاً بكبرياء أو حماقة أو تسرع أو باندفاع بمشيئته الخاصة . 

وكيف يتم خضوع الذات البشرية لله حتى تتحرر النفس وتعيش في استسلام كامل لمشيئة الله ؟

أولاً: حذار أن تعتمد على حكمتك أو قدرتك أو على ذراع بشر في أي عمل، لئلا ينغلق عـقـلـك وتنطمس بصيرتك فلا تدخلك النعمة ولا ترى الطريق الإلهي وتضل عن الحق، فتقع في فخ العدو وتُستعبد لذاتك ولمشيئات الناس.
«ويل للحكماء في أعين أنفسهم والفهماء عند ذواتهم . » (إش 5: 21)

ثانياً : حذار أن تكون فكرة عن نفسك أنك شيء مهم ، وأنه لولاك لتوقفت الأمور وتعطلت الأعمال، فتبدو ذاتك في عينيك أنها عظيمة وكبيرة؛ ولكن اعلم أن الله يمكنه أن يعمل بغيرك أفضل منك ، و يستطيع أن يجعل الأقوياء ضعفاء والضعفاء أقوياء والحكماء جهلاء والجهلاء حكماء . فكل ما هو جيد ونافع فيك هو من الله وليس منك، وإذا لم تسلمه الله وتنسبه إليه في داخل ضميرك فإنه ينزعه عنك، وإذا افتخـرت بذكائك أو صلاحك يتخلى عنه الله فيتحول إلى فساد وخسارة وضرر.

ثالثاً: إذا كرهت ذاتك الخضوع الله ، وتهربت من الإستسلام له، وتعظمت بقدرتك ، ونسبت ذكاءك وصلاحك ونجاحك لنفسك، فالله يسلمك لتأديب متواصل، تأديب تـلـو تـأديب وضيق بعد ضيق حتى تخضع صاغراً وتستسلم ، فإذا رفضت التأديب وكرهت احتمال الضيق يتخلى عنك الله إلى الأبد.

رابعاً: إحذر، إذن، وافتح أذنك فإنه إما تعتبر نفسك لا شيء بالفعل والعمل والقول وتضمر في نيتك أن تستسلم الله بكل قوتك وحينئذ تتحرر من ذاتك بنعمة الله راضياً، وإما تُسلَّم للتأديب حتى تتحرر من ذاتك مُرغماً . فإن أحسنت، فالزم طريق الخضوع الإرادي واحسب نفسك من الآن أنك لا شيء وسر وراء النعمة إلى حيثما يشاء الروح.

خامساً : إعلم أن الخضوع الله والتسليم الكامل لمشيئته وتدبيره هو في الواقع هبة ونعمة، لذلك فهو يحتاج بجوار الصلاة والتوسل إلى ثقة الإيمان في نوال هذه الموهبة، مع لجاجة في القلب أن لا يسلمنا الله للتأديب بسبب جهالتنا ولا يتركنا لحكمتنا . وإزاء ذلك يلزمنا التصميم بعزم شديد للغاية أن نجحد أنفسنا في كل وقت وكل عمل ليس أمام الناس ولكن داخل الضمير. وطوبى للإنسان الذي يكتشف ضعف نفسه وجهالتها ويقر بذلك معترفاً أمام الله حتى آخر يوم من حياته .

سادساً: إذا وقعت تحت التأديب، فاعلم أن هذا خير عظيم ، لأن الله يسوق التأديب على النفس التي سهيت عن ضعفها وتعظمت بقدرتها ونجاحها حتى تدرك ضعفها، خصوصاً إذا لم يُعط مع الضيق منفذاً وحاصر الذات من كل جهة ومرمرها بالإهانة الداخلية أو الخارجية ، بالخطيئة أو بالفضيحة حتى تكره نفسها كرهاً وتلعن ذكاءها لعناً وتجحد مشورتها جحداً، وأخيراً تستسلم له صاغرة متصاغرة منسحقة . في هذا الوقت يصبح سهلاً على الإنسان أن يبغض ذاته ، بل يشتهي أن يبغضها الجميع. وهذا هو طريق الإتضاع الحق الذي يوصل إلى الإستسلام الكامل للتدبير الإلهي، وينتهي بتحرير النفس من سطوة الذات وغشها وعنادها وكبريائها !

سابعاً : إن شئت أن تبلغ تحرير النفس من أصح طريق وأبسطه، فاجلس متأدباً للنعمة كل يوم وافحص أفكارك وحركة ركاتك ونياتك وأغراضك وأقوالك وأعمالك في نور أقوال الله، وحينئذ سوف تكتشف فساد الذات وغشها ومكرها وخداعها وكبرياءها ونجاستها، فإذا واظبت على ذلك كل يوم بانسحاق قلب تستطيع أن تعزل نفسك هذه الذات الكاذبة الشيطانية، ثم تقوى عليها شيئاً فشيئاً حتى تجحدها وتبغضها وتتحرر من سطوتها . وأخيراً تدرك مقدار المصيبة التي أوقعتك فيها الذات حينما كنت تطيعها وترتاح إليها وتفتخر بها وتطلب كرامتها!! 

وفي اللحظة التي تتحقق فيها من عمق كيانك أنك لا شيء وأن الله هو كل شيء، تكون قد تحررت حقاً.

***

كذلك توجد عوامل مستترة تتدخل في حركة النفس الروحية فتعرقلها ثم توقفها وتطرحها في النهاية على الأرض:

أول هذه العوامل الجهل، الجهل بإرادة الله ومشيئته الجهل بالطريق الضيق المؤدي إلى الحياة الأبدية، الجهل بحيل عدو الخير الذي لا يكف عن غوايتنا حتى نتعظم ونشتهي فنعصى الله، الجهل بتفاهة العالم وزوال مجد الدنيا وحقارة اللذة الحسية.

أما الجهل بإرادة الله ، فعلاجه في الإنجيل وفي الصلاة المستمرة.
والجهل بالطريق الضيق، فعلاجه في الشجاعة والبدء في المسير منذ هذه اللحظة.
والجهل بحيل عدو الخير وغواياته ، فعلاجه في التواضع لدى الله والسهر على النفس.
والجهل بتفاهة العالم وزوال مجد الدنيا ، فعلاجه رحلة إلى المقابر.

***

ولكن لا يزال يوجد عامل أخير خطر يتسلل في حياة الصلاة فيضيق مجالها و يتحكم في حركتها ويطفىء شعلتها: وهو العادات الجسدية والنفسانية وما ورثه الإنسان من أسرته من أخلاق وسلوك غير مسيحيين.

والعادات الجسدية هي مثل لذة الأكل وكثرته ، والكسل وحب النوم الكثير، والتلذذ الجنسي، ، وهذه تولد التهرب من العمل والجهاد والصلاة وكراهية القراءة الروحية وبغضة التعمق الفكري في التأمل في المواضيع الروحية والتلذذ بالبلادة الفكرية، والركون إلى الأحاديث التافهة والإنهماك في رؤية التليفزيون وقراءة الجرائد والمجلات والكتب التافهة، والركون إلى طياشة العقل طول النهار بلا أي هدف قيم، والسهر الكثير في التوافه والرغي.

والتحرر من هذه الربط لا يكون إلا بقطعها بسكين الحماس الروحي وتقبل روح الرجولة ، فطريق الله يحتاج إلى رجال أبطال في الإيمان والعمل.

أما العادات النفسانية فهي إما مظاهر ضعف مثل: الكذب، والإدعاء، والنميمة، والدينونة، والتردد والجبن، وممالأة الآخرين، والعطف على الذات، والبكاء على الكرامة المجروحة ؛ وإما تكون مظاهر تعظم مثل : الإعتداد بالرأي، وتصلب الفكر والعجرفة العقلية، وتحليل استخدام القوة، والظلم والإفتراء ، وشهوة الرئاسة والتسلط والتعليم.

وهذه المظاهر أو تلك، هي في الواقع نتيجة مباشرة لانحراف الذات بسبب البعد عن الله وعدم الخضوع الكامل لمشيئته وتدبيره.

والتحرر من هذه الربط لا يتم إلا بتوبة صادقة منسحقة تحت يد الله . أما الأخلاقيات غير المسيحية فهي مثل : القسوة على الخدم ومعاملتهم بتسلط ، والسخرية من الضعفاء والمشوَّهين، واحتقار الطبقات الفقيرة، وعدم الأمانة في تأدية الواجب ، والإزدراء بالقوانين والرؤساء ومعاملة المثل بالمثل والإستهتار بحريات الآخرين وكرامتهم.

وهذه الأخلاقيات المنحطة تكشف عن الهوة التي تفصل النفس عن المسيح . وعلاجها لا يكون إلا بعودة إلى معنى الصليب.

***

إذا ربطنا عصفوراً بخيط فهو لن يستطيع أن يطير. وبمحاولته الطيران وهو مربوط ، حتماً سينكسر جناحه و يترضض جسده ، بحيث لو فككناه بعد ذلك فلن يستطيع الطيران!

كم من النفوس تستطيع الطيران نحو الله لولا ارتباطها بأشياء العالم ؟ عبثاً يحاول الإنسان أن يرتفع إلى الله وهو موثق بربط هذا العالم. وحتى لو استطاع الإنسان أن يتحرر من جميعها إلا واحداً، مهما كان بسيطاً وتافهاً ، فهو لن يستطيع أن يحيا الله ، بل وتكون الخطورة أكثر بسبب هذا الرباط الأخير، لأنه سيحاول أن ينطلق وهو مثقل بهذا الشيء الذي لا زال متعلقاً به، فتكون النتيجة أنه بعد أن يرتفع قليلاً و يتوهم أنه سار في طريق الله ، إذ بهذا الشيء يجذبه مرة أخرى فيسقط من علوه الروحي فتتأذى نفسه جداً، و بتكرار هذه المحاولة يفقد حرارته وحماسته على الإنطلاق في الحياة الروحية.

كثيرون حاولوا المسير في حياة الصلاة والعبادة ، ولكن فجأة توقف مسيرهم واعتراهم الجمود ونكصوا على أعقابهم. وكان السبب في هذا الإرتداد المحزن هو وجود إحدى هذه الربط الخفية، ربما خطية أو نوع من المكيفات أو عادة من العادات، أو ربما شهوة التلذذ بإحدى متع العالم، أو سعي خفي في النفس للشهرة والكرامة والمجد الباطل، أو محبة جسدية لإنسان ما أو لشيء ما مما في هذا العالم إن واحدة من هذه كفيلة أن تعرقل النفس وتقيدها ، فلا تستطيع الإنطلاق الدائم في جو الصلاة وحياة التأمل.

ولعل من أهم الوصايا التي نوصي بها كل ساع مخلص في طريق الحياة الأبدية، أن لا ينخدع إذا أحس أنه تحرر من خطاياه ومعوقاته الأولى . لأن كثيرين وثقوا في أنفسهم عندما أكرمهم الله ورفع عنهم أثقال خطاياهم وشرورهم فأحسوا أنهم قادرون على تحرير الآخرين بإمكانياتهم ، وانغمسوا في أوساط الخدمة والعمل قبل أن تنضج أرواحهم النضوج الذي يجعل حريتهم إلهية وليست بشرية، تعمل المجد الله وليس لشهرة النفس والإسم ، فكانت النتيجة أن وثبت عليهم خطاياهم الأولى أو تملكت في نفوسهم أنواع جديدة من الشرور الذميمة مع انقسام داخلي والظهور بمظاهر التقوى فكانت أواخرهم أشر من أوائلهم .

فتحرير النفس لا ينحصر في ناحية واحدة ، بل يلزم أن يشمل الحياة الداخلية كلها . فلا يتهادن الإنسان مع العالم ولا يرضخ لمشورة تقيد حريته في المسيح مهما كانت هذه المشورة. وأفضل للإنسان أن يعيش ميتاً في نظر الناس والعالم ويخلص، من أن يتبوأ أعظم المراكز والخدمات ويخسر حريته وحياته الأبدية، كما أنه أفضل للإنسان أن يُقال عنه إنه جاهل أو ضعيف و يُرْدَى به و يكون سائراً في طريق الحق والحياة، من أن يكون شغله الشاغل مديح الأفواه على المنابر كقوي وعظيم وتكون حياته الداخلية خربة وخالية والظلمة تلاحقه.

كذلك إن كانت ثمة نصيحة أخيرة نقدمها للإنسان المحب الله بخصوص تحرير النفس، فهي أن يحترس جداً من إضافة خطايا جديدة على خطاياه بانحلاله واستهتاره وعدم ضبط نفسه وحواسه . فالخطايا القديمة تحتاج إلى دموع كثيرة وتحفظ كبير حتى يتخلص الإنسان من آثارها المرضية و يتحرر من سلطانها ، أما إذا أضاف الإنسان كل يوم خطايا جديدة فإنه يتعذر شفاؤه.

أما الخطوة العملية الأولى التي بها ندخل في حقيقة الحرية وقوتها، فهي أن نخضع خضوعاً كاملاً مطلقاً لإرادة الله وتدبيره دون أن نعترض مشيئته فينا، فهذا يؤهلنا أن نحمل في قلوبنا نوعاً من الحرية أو التحرر من أنفسنا وشهواتنا لأننا نكون داخل مجال فعل النعمة وتأثيرها.

والإنسان الذي يعيش في دائرة إرادة الله و يتمسك بها تمسكاً شديداً عنيداً، في خضوع وشكر واستسلام كامل، فإنه يحصل على مناعة كبيرة ضد كل محاولة لإخضاعه للخطيئة أو الشر أو أي انحراف.

وحينما تبلغ عملية خضوع النفس لإرادة الله درجتها الصحيحة، يصبح الإنسان غير مستعد لقبول أي مسرة أو لذة أو راحة أو غواية مفسدة تبعده عن حالة الخضوع الله والتمتع بطاعته ! وهذا هو منتهى الحرية !!

أقوال الآباء في تحرير النفس :

أقوال من تعاليم الأب إسحق تلميذ أبا أنطونيوس الكبير في حواره مع كاسيان :

404- لكي نقدم صلاة باهتمام ونقاوة قلب يجب أن نراعي القواعد الآتية :- أول كل شيء يجب أن نتخلص من الإهتمام بالأمور الجسدية أثناء وقوفنا للصلاة . وثانياً : يجب أن لا نترك فرصة لأفكارنا أن تشرد في الإهتمام أو حتى مجرد ذكر أي عمل من الأعمال.

وبجانب ذلك، يجب أن نلقي عنا تماماً : كل اغتياب ونميمة، الأحاديث الفارغة، المزاح وكلام السفه، الغضب والعبوسة الكثيرة المقلقة، الشهوة الجسدانية المؤدية إلى الهلاك، الطمع. كل هذه الأوجاع والعيوب النفسية يجب أن نتحرر منها تماماً ، ونقاومها بشدة بالصلاة ونقتلعها من أصولها . فحينما نقطع هذه العلل وغيرها التي لا تخفى على أحد، حينئذ أول كل شيء، يجب أن نضع أساساً أميناً من التواضع العميق، يصلح ليكون أساساً لبرج الفضائل الذي سيرتفع نحو السماء.

ويجب أن تتدرب النفس على ضبط الفكر ، حتى تستطيع أن تدخل إلى الصلاة الهادئة وتأمل الله . ونلاحظ أن كل ما كان يفكر فيه العقل قبل ساعة الصلاة فإنه يعرض لنا أثناء الصلاة من جراء دوام نشاط الذاكرة، لذلك يجب أن نعد ذواتنا للصلاة قبل البدء بها. لأن العقل وقت الصلاة يكون متأثراً بحالته السابقة ، فحينما نتقدم للصلاة يستحضر العقل ذات الحوادث والصور والأحاديث وتبتدىء تتراقص أمام مخيلتنا لتدفعنا للغضب كسابق عهدنا، أو للكآبة والغم ، أو تسترجع لنا ذكرى شهواتنا وأشغالنا، أو تدفعنا لضحك أحمق على نادرة غبية سلفت أو نبتسم على حدث مضى، أو أن هذه جميعها تتحد معاً فتنخطف النفس بجملتها لتنهمك في أحاديثها ومواقفها السابقة.

لذلك فإذا كنا نود أن لا يطوف بنا شيء عندما نصلي علينا أن نحترس قبل الصلاة لنطهر قلوبنا بعزم من كل هذه الأشياء حتى ندخل إلى معبد القلب وحدنا لنتمم أمر الرسول : « صلوا بلا انقطاع.» (1تس 5: 17)

أما بخلاف ذلك فلا نستطيع أن نقوم بحق الصلاة الداخلية، ما لم يتطهر عقلنا من كل آثار الخطية أولاً ليُسلَّم إلى الفضيلة، حتى يكون صلاحه طبيعياً ليس عن كبت أو اصطناع، فتكون الفضيلة هي طعامه الذي يتغذى منه ليداوم على التأمل في الله.

405ـ إن طبيعة النفس تقارن بريشة في غاية الرقة والنعومة ، أو هي كجناح خفيف غاية في الخفة، فإذا لم يلحق هذه الريشة أو هذا الجناح عارض ما أو تلف بسبب الرطوبة الخارجية فإنه يُحمل عالياً حتى عنان السماء ، طبيعياً من تلقاء ذاته بعامل خفته وبمعونة نفخة بسيطة. 

أما إذا لحق به خلل أو ألمت به رطوبة فليس فقط تعجز أن تحمله خفة طبيعته إلى أي علوما ، بل إنه ينحدر إلى أسفل بثقل الرطوبة التي احتوته . هكذا أيضاً النفس، إذا لم تثقل بالعيوب التي توثر في طبيعتها الروحانية بهموم هذا العالم أو تفسدها الشهوات المؤذية، تستطيع، كما كانت في أول أمرها أن تُحمّل عالياً بمواهب نقاوتها الطبيعية بمعونة نفخة خفيفة من التأمل الروحي، تاركة وراءها كل الأمور السفلية المادية لتعبر هي إلى السموات وإلى غير المرئيات.

ومن ثم فوصية السيد تتجلى الآن أمام عيوننا بوضوح : « إحترسوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار ( تخمة الأكل) وسكر وهموم الحياة.» (لو 21: 34).

لذلك، إذا كنا نريد أن تصل صلواتنا إلى السماء، علينا أن ننقي نفوسنا ونردها إلى طهارة طبيعتها الأولى، خالية من عيوب الأرض نقية من كل ما يؤثر في خفتها الطبيعية، بهذا ترتفع صلاتنا إلى الله لا تعيقها أي خطية بلا مانع.

406 ـ وجدير بنا أن نلاحظ الأسباب والعلل التي أشار إليها السيد وأبان أنها هي التي تسبب ثقل النفس فهو لم يذكر الزنا أو الفسق أو القتل أو التجديف أو الخطف فحسب، هذه التي يعرفها كل واحد، وندرك جميعاً أنها لا تثقل فحسب، بل إنها مكروهة ومميتة ، وإنما ذكر الولوع بالأكل إلى حد التخمة ( الخُمار) والإنهماك بمشاغل وهموم هذه الحياة ، التي ينغمس فيها أهل العالم دون أن يدركوا خطورتها أو يعتبروها أموراً مرذولة، حتى أن بعضاً من الذين يسمون أنفسهم رهباناً مثقلون بهذه الأمور عينها كأنما هي أمور عادية. 

ومع أن هذه الرذائل الثلاثة، أي شهوة الأكل والسكر والإهتمام بأمور العالم، حينما نفتح لها باباً في أنفسنا كفيلة أن تفصلنا عن الله وترمينا في ظلمة الأرض، ولكن ليس عسيراً عسيراً أن نكف ونُقلع عن هذه الأمور الثلاثة، لاسيما لنا نحن الذين انفصلنا عن رجاء وأمل هذا العالم الفاني . وليس هناك من سبب يدعونا أن نرتمي في أحضان أي منها ، فلا حاجة بنا إلى السكر أو التلذذ بالأطعمة أو الإنشغال والإهتمام بأمور هذا العالم. 

ولكن هناك تخمة بغير أكل ، وشكراً بغير خمر لا تقل خطورة عن سابقتها وانشغالاً وهماً بالعالم، حتى بعد أن نكون قد نفضنا أيدينا تماماً من العالم وخيراته الزائلة. فبدون ولائم و بلا خمر و بعيداً عن العالم نقع في ذات الفخ فنثقل بها . عن هذا يقول النبي : « إسمعي أيتها البائسة والسكرى وليس بالخمر.» (إش 51: 21)

فإذا لم ننظف ذواتنا من هذه العلل – الظاهرة والخفية – ونمسك ذواتنا من الولوع بالشهوات، يتثقل قلبنا من غير سكر أو امتلاء من الطعام ولكن بشكر آخر وتخمة أخرى أشد خطورة . وحينما نتطهر، تنجلي أفكار النفس مرة أخرى وتعود من حمأة الطين إلى طهارة طقسها الأول لتحمل الصورة الملائكية. وحينئذ، وفي كل ما تأخذه وكل ما تمنحه وكل ما تعمله، تكون الصلاة نقية خالصة.

407ـ إن الذين يبحثون بالحق عن الراحة الصادقة ، وأدوية الشفاء من طبيب النفس الحقيقي لن يتركهم معتازين في شيء قط. والذين لا يستخفون بمصيبتهم ولا يسترون خطورة جرحهم بل بقلب متضع يقظ يلوذون بالطبيب السمائي من أمراضهم التي أضغطتهم، سواء عن جهل أو خطأ غير رافضين علاج التوبة، إن سهل أو صعب، فإنما يفوزون بالرعاية فوق وقبل الكل.

إذن، علينا أن نُشفى من عللنا وجراحاتنا. أما إذا لذنا بالأماكن المقدسة، لنخفي فيها أنفسنا أو عيوبنا، أو ركنا إلى العزلة والإنفراد دون أن نواجه أنفسنا لتشفى من جراحنا وأسقامنا، يكون ذلك بمثابة قمع وكبت لها وليس استئصالاً. أما الشعور بهذه الأوجاع فهو لا يهدأ ساعة واحدة، إذ أن جذر الخطية موجود لم يستأصل ، فإنه يقبع مختفياً داخلنا أو بالحري ينمو متسللاً ليظهر في حينه! 

أما كون جذر الخطية لا زال حياً فينا فندركه بالعلامات الآتية :-

(أ) إذا كنا ننتظر أحد الإخوة فتأخر عنا قليلاً لسبب من الأسباب، وابتدأ عقلنا يغضب و يلوم إبطاءه سراً و يتسبب قلقنا لهذا التأخير في انزعاج لنا، فامتحان ضميرنا يعلن أن خطيتي الغضب والضجر لا زالتا كامنتين في القلب بوضوح.

(ب) إذا طلب أحد الإخوة كتاباً ليقرأه أو أي شيء آخر منا ليستعمله فيزعجنا سؤاله و يكدرنا ، فليس هناك شك أننا لا زلنا ممسكين بقروننا في الشح والطمع.

(ج) إذا خطر ببالنا فكر عابر أو قراءة صفحة من الكتب المقدسة فاستحضرت إلى ذهننا ذكر امرأة وشعرنا بميل نحوها، فعلينا أن ندرك أن خطية الزنا ما انطفأت نارها بعد ولا انخمدت شهوتها من قلوبنا.

(د) وإذا كنا نقارن صرامتنا وتدقيقنا الروحي برخاوة وانحلال غيرنا من الناس فيتسرب إلى عقلنا فكر إعجاب بذواتنا ، فواضح ، إذن، أننا مصابون بداء الكبرياء.

وحينما نكتشف هذه العلامات التي تدلنا على أصول العلل والأسقام الدفينة داخلنا، علينا أن ندرك بوضوح أن فرصة الخطية فقط هي التي لم تسنح لنا ، إلا أن شهوتها لم تزل باقية ! وبالتأكيد إذا سنحت الفرصة وكان علينا أن نختلط بالحياة العادية بين الناس، فإن هذه الشهوات تنبعث في الحال من مكامن أفكارنا وتنفجر لتظهر واضحة عارية أمام عيوننا بعد انحباس طال أمده. 

بهذا يمكن لكل إنسان حتى ولو كان متوحداً أن يختبر ذاته و يكشف علله وجذور الخطية المنزرعة فيه، ولا يكون همنا إخفاء عيوبنا ، بل بالحري كشفها وإظهارها لمن لا تخفى عليه أسرار القلوب.

408ـ لم يكن العلاج الشافي بالأمر العسير أو النادر لمن وضعوا في ذواتهم أن يُشفوا من أمراضهم ، غير أن أنواع العلاج عديدة ويجب أن يُبحث عنها بنفس الطريقة التي اكتشفت بها علل النفس الدفينة.

لأنه، كما سبق وقلنا ، إن أخطاء الرجل العادي في الحياة ليست معدومة بين العباد أو المتوحدين، غير أن الغيرة على الشفاء من علل النفس واقتناء الفضيلة هي على أوجها بين الذين قطعوا ذواتهم من حياة هذا العالم .

وحينئذ عندما يكتشف أحد بواسطة هذه العلامات التي وصفناها سابقاً أنه مصاب بثورات من قلة الصبر أو من الغضب مثلاً ، عليه أن يدرّب نفسه على الدوام فيما هو ضدها ويقاومها ، واضعاً أمام نفسه كل علله وأوجاعه كأنما ، مقدمة إليه من إنسان آخر. و يبتدىء يقنع ذاته متصوراً أن تعدياته على الآخرين كأنما وقعت عليه هو فيحتملها باتضاع كامل ومسكنة. ويستعرض على نفسه كل أنواع الفظاظة والقسوة التي كان يعامل بها الآخرين متصوراً أنها وقعت عليه هو، و يتقبلها بحزن وانكسار قلب و يستعطف نفسه أن يعاملها بلطف و وداعة أكثر وهكذا. 

ثم يقرأ و يتأمل في جميع المشقات التي حصلت للقديسين أو بالحري على الرب نفسه وعلى رسله الأطهار و بالأخص بولس الرسول. وحينئذ يبتدىء يحتمل الضيقات والمشقات التي تقع عليه بصبر، حتى أنه يرى أن جميع التعييرات وأنواع العقاب التي تأتى عليه هي أقل مما يستحق، ويهيىء نفسه لإحتمال كل أنواع الشدائد.

وعلى الإنسان أن يتدرب كيف يكون مؤدباً لنفسه صارماً ، ليقمع شهواته وأهواءه السرية، ويواجه نفسه بكل أنواع أخطائها الثقيلة مدرّباً نفسه على إصلاحها في تأملاته اليومية ؛ ويوبخ نفسه ويزجرها أمام التجارب والضيقات، فمثلاً يقول لنفسه :
– ياصديقي الصالح أفأنت الذي تدرب نفسك على ممارسة أسس العبادة والتأمل وقد خاطرت بكل تصميم ؟ كيف انتكست سريعاً وتلاشى صبرك وخسرت أول معركة بتجربة تافهة وأمام مشكلة
بسيطة !! وأنت كنت الآن تواً تتمثل في نفسك أنك تستطيع أن تحتمل أشد التجارب هولاً متوهماً أنك كفؤ لمواجهة كل العواصف ؟ كيف استطاعت نفخة بسيطة أن تزعزع أساسات حصنك المنيع الذي توهمت أنك بنيته على صخرة ؟ أين ذلك الذي أعلنته وقت السلام حينما كنت تتشوق بثقة عمياء أن تواجه جيشاً من أعدائك؟ كيف أن روحاً حقيراً استطاع أن يفزعك و يفسد عليك استعدادك للحرب؟» 

بهذه التعبيرات والتوبيخات الصارمة يجب على كل إنسان أن يدين ضميره ولا يسمح للتجربة المفاجئة أن تأخذ منه مأخذاً ، وإذا ما أصابه منها ولو قليل من الإرتباك لا يسمح أن يترك نفسه تمر بلا عقاب، فيقتص من جسده بأنواع عقوبات الصوم والسهر و يقتص من رعونته وخفة عقله بدوام الحذر والإنتباه وضبط النفس.

409ـ إن القانون الإلهي ليس موضوعاً للنقمة والعقاب على ذات الفعل فقط بل إنه يتعدى ذلك إلى مجرد تذكار الضرر أو الشرفي القلب نحو الآخرين. وهذا قد أوضحه السيد المسيح وحرمه قطعاً، فليس مسموحاً أن يتحرك القلب بالغضب نحو الآخرين لسبب خسارة تصيبنا منهم ، لأنه أية خسارة أو ضرر أكثر من أنه بـ هذا الغضب المفاجيء تفقد النفس قدرتها على مواجهة بهاء نور الأبدية وتخسر رؤية من قال عن نفسه إنه وديع ومتواضع القلب!

أنا أسألك ماذا يكون أخطر من أن يفقد الإنسان قدرة تمييزه للخير وقياسه وحكمه على الأمور؟ هذا يفقده الإنسان أثناء غضبه وكيف لا يُعاقب الإنسان حينما يأتى أمراً وهو في كامل شعوره كما يأتيه السكير والأبله؟

حينما يتأمل الإنسان ملياً يدرك خطورة الأضرار التي تنشأ عن هذه النزعات الخاطئة والسلوك المريض، وحينئذ يهون على الإنسان التأديب في سبيل الشفاء، بل يهون عليه إحتمال كل إساءة وقصاص يلحقه من إنسان قاس ولا يسقط في حماقة الغضب، لكونه سيدرك أنه ليس أكثر مرارةً وضرراً من الغضب، وليس أثمن من سلام العقل ونقاوة القلب غير المنقسم ، هذه التي من أجلها يجب أن لا نفكر البتة في أي ربح مهما كان ليس في الأمور الجسدية فحسب بل وفي الأمور التي تظهر أنها روحية أيضاً، إذا لم يمكن عملها بغير تشويش أو تعكير لهدوئنا وسلامنا.

410 ـ إن الذين استطاعوا أن يتدربوا على الصلاة الدائمة لمغبوطون حقاً، حتى ولو كان تتميمهم الوصية الرسول صلوا بلا انقطاع » ليوم واحد . هذا الأمر يتراءى للذين انغمسوا في الخطايا الثقيلة كأنه شيء غير هام وتافه، ولا يدركون أن حكمهم هذا من وحي خطاياهم المُرَّة التي أعمت عيونهم … فالذين في طريق الكمال يدركون قيمة هذه الأشياء التي تظهر بسيطة.

وتشبيه ذلك يتضح من المثل الآتى : رجلان ، الأول ذو بصر حاد ورؤية سليمة؛ والثاني ذو بصر عليل وغشاوة من الظلمة تحجب عنه الرؤية. فإذا دخل الإثنان منزلاً فخماً مؤثثاً بالرياش الفاخر والتحف النادرة ومزيناً بكل زينة، فماذا يكون من أمر ضعيف البصر إلا أن يدعي ويجزم أنه ليس فيه إلا صناديق ومقاعد وكل ما دلته عليه أصابعه، بينما الآخر ذو النظر الحاد والرؤية السليمة يستطيع أن يعلن لك كل دقائق ما في ذلك البيت و يصف لك رونقه وزخرفه وبديع أثاثه ورياشه. هكذا أيضاً القديسون فإنهم ذوو بصيرة روحية قوية وتمييز نفساني حاد حتى أنهم بحذاقة نادرة يكتشفون دقائق العيوب والأخطاء التي في أنفسهم، وأشياء لو حدقنا فيها ملياً وأمعنا التمييز والفكر يعسر علينا أن ندرك نوع الخطأ أو الإنحراف فيها، وذلك لغشاوة الظلمة التي نسجتها يد الخطايا الثقيلة على عقولنا. فبينما هم يحكمون عليها و يدينون ذواتهم من أجلها بعنف شديد إذ بنا نحن لا نكترث بها !!! إن أجسادهم الطاهرة البيضاء التي لم تتكدر بقذر الخطية تظهر أمامهم كأنها مصبوغة بالإثم، مع أني أقدر أن أجزم وأقول أنه لا يخطر بعقلهم فكر شرير، بل إنه بمجرد ذكر المزمور يُخطف عقلهم إلى الله وقت الصلاة.

411 ـ ولكن ما هو السبب الذي يوقعنا في مثل هذا القصور – أي في عدم القدرة على كشف الخطايا الصغيرة والنزعات الخاطئة – إلا جهلنا بشروط الفضيلة وكيف أنها تخلو من كل إثم ومن كل ما هو ضد الحق. وأيضاً لأننا لا نرى في تصوراتنا المنحرفة وأفكارنا الشريرة ما يوجب الحزن أو الندم على أنها خطايا. فتكون النتيجة أن هذه الغباوة في التمييز والمعرفة تتحول إلى بلادة، فتصاب بالعمى الروحي الذي من شأنه أن يجعلنا لا نرى في ذواتنا إلا الخطايا الكبيرة والتعديات الرئيسية التي تدخل تحت العقاب المدني، حتى إذا أبصرنا ذواتنا أننا لا نأتيها كباقي الناس نعتقد أنه لم يعد فينا خطية البتة!! بل ونعتقد في ذواتنا أننا أصبحنا من فئة الذين يبصرون ويعرفون الأمور!! لأننا لا نبصر هذه الأدناس الصغيرة المتزاحمة داخلنا ، فلا نحزن بسبب الضجر الذي يملك على أفكارنا ولا نأسف لأننا مضروبون بداء الصلف، ولا نبكي على صلواتنا التي نقدمها متأخرة باردة، ولا نعتبره أمراً مخجلاً وخطية كبيرة أن يشرد فكرنا في الشر أثناء الصلاة !! ولا نرتعب من قلة خجلنا على ما نتصوره في أذهاننا من أمور مخزية يندى لها الجبين لا يمكننا التلفظ بها أمام الناس بل نکتمها في قلوبنا مع أنها مكشوفة ظاهرة أمام نظر الله ! بل وأحلامنا الدنسة لا نرى أنها تستحق الإنسحاق والدموع الغزيرة لنغسل بها وسخ طبيعتنا المنحرفة !

ولا نكتئب بسبب ترددنا المذموم في تقديم المساعدة أو الرحمة للآخرين الذي مبعثه الأنانية والشح والبخل ! ولا نرى الخسارة التي تحيق بنا حينما نترك الجلوس تحت أقدام الله ونذهب لننشغل في أمور وقتية زائلة حتى أصبحت هذه الكلمات التي تفوه بها سليمان بالروح تنطبق علينا : “ضربوني ولم أتوجع، هزأوا بي ولم أعرف.” (أم 23: 35)

الأب إسحق تلميذ أبا أنطونيوس
( في حواره مع كاسيان)

412 ـ والعابد الحقيقي الله ليس فقط يمسك شهوة بطنه ثم يدع المجد الباطل يتسلط عليه! ولا يقهر الشهوات القبيحة ويترك محبة المال تتملك عليه!

ولكن بالإجمال هو لا يسمح لذاته أن يخضع لشيء من الآلام مثل الغضب أو البغضة أو الحسد أو الكبرياء أو الشره. لأن الوصايا مرتبطة ببعضها : فمن يضبط ذاته عن المجد الباطل معروف أنه متضع ، ومن يمتنع عن محبة المال فقد أقام الزهد بالكمال ، والذي لا يتدنس بالغضب فهو الوديع . والرجل الكامل في عبادته يضبط لسانه وعينه وأذنيه عن كل ما يُغضب الله . أما الذي لم يتدرب على هذا فهو لم يصل بعد إلى العبادة الحقة . لأن الضحك مثلاً علامة انحلال النفس ولا يُقلع إلا بخوف الله . لأن خوف الله يجعل الإنسان يُظهر شعوره بابتسامة الوداعة فحسب ! فأما من يقهقه في الضحك فهو ليس بضابط لذاته، ولا نفسه هادئة . يقول عنه يشوع بن سيراخ : «إن الجاهل يرفع صوته بالضحك ، أما الحكيم فهو يبتسم» . لأن المسيح لم يوجد ضاحكاً قط وإنما وُجد باكياً.

413 – قد تكون هناك أعمال كثيرة ليست هي خطية نتساهل فيها من أجل حياتنا ، ومع ذلك يجب أن نترفع عنها إن كان في ذلك ربح لنفوسنا أو لإخوتنا كما قال بولس الرسول : «إن كان طعام يعثر أخي فلن أكل لحماً إلى الأبد لئلا أعثر أخي» (1كو 8: 13). وكذلك قال إنه كان له سلطان أن يعيش كالآخرين و يتزوج ولكن لم يستعمل هذا السلطان لئلا تعاق الخدمة وتبرد نفسه. 

414ـ العابد الحقيقي هو من يقطع كل أصول الآلام الجسدية و يتحرر منها ، حتى الطبيعية منها. فعليه أن يقلع شوكة اللذة ، لأن اللذة هي بذرة الشرير، وكأنها صنارة في يد الصياد يسقطنا بها في الخطية وتساق إلى الموت بسبب شهواتها. 

415 ـ الذي قهر كل الآلام إلا واحدة فليس هو بعد صحيحاً معافى. والذي ساد على أهوائه وشهواته إلا واحدة فهو بعد عبد مربوط.

باسيليوس الكبير

416ـ حينئذ تصير النفس صافية بعيدة عن تذكار الآلام والشرور المتنوعة ، لأنها تكون قد ضبطت كل حركات الجسد الطبيعية وذللت طبيعته الشهوانية، فتكون في هدوء وورع يليق بالصلاة فإذا صارت في المناظر الإلهية فإنها تدوم بالأكثر داهشةً في أعمال الله بفرح وخوف وهدوء، وتظل محلقة في نور الحكمة الإلهية بغير اضطراب.

أما إذا لم تكن قد ضبطت شهوتها الطبيعية ولم تزل متعلقة بأمور العالم، فآلام الجسد الطبيعية ولذة شهوة الأشياء التي في العالم تلح عليها وتقوم عليها كالكلاب المفترسة الجائعة حينما تقف للصلاة. وكل شهوة وكل لذة وكل ألم جسداني تجذب النفس إلى ما تريد، وتبقى النفس حائرة مبلبلة وقت الصلاة، لأنها توانت مع أن لها السلطان من قبل الله .

باسيليوس الكبير

417 – يجب على رجل الله أن يضبط لسانه ليس عن الكذب فقط، بل وأيضاً عن النميمة والسعاية والشتيمة والتذمر والهزء والتعيير والتبكيت والمزاح والدينونة والمماحكة والمخاصمة، وبالإجمال عن الكلام الضار والبطال الذي يعطل البنيان. فمن يتكلم فليتكلم بكلام الرب باتضاع قلب، بأعماله قبل أقواله. لأن كل من لا يعمل بكلام الناموس فقد احتقر واضع الناموس والتكلم به دون العمل جزاؤه الدينونة. لهذا قال الرب «طوبى لمن عمل وعلَّم » ، « وطوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع». ولكن اليهود أيضاً كانوا ينظرون و يسمعون ! لكن الطولى صارت لمن آمن وعمل.

سمعان العمودي

418- إذا كان الله موجوداً في كل كائن وأنت خال منه ، فالحياة هي خارج عنك فماذا ينفعك منها ؟ وإذا كنت مملوءاً حياة وتشعر أن الله فيك، فالموت هو خارج عنك. فماذا يهمك ؟ أنظر أنت لتراه في ذاتك متحداً بك ! فإذا نظرته حقاً فيك ، فانزع ذاتك من نظرك لترى الله وحده يحيا كل حين فيك.

419ـ لا يقدر إنسان أن ينظر الحُسن الذي داخله قبل أن يهين و يرذل كل حسن خارجه. ولا يمكنه التمتع بالله قبل أن يحتقر العالم كله من وضع نفسه ورذلها نال الحكمة من الله، ومن يحسب نفسه حكيماً زالت عنه حكمة الله

420 ـ يا منهمكين بالعمى ( الأمور المادية وظلمة هذا العالم) إرفعوا رؤوسكم ليشرق النور في وجوهكم ، أخرجوا من أوجاع العالم … ليخرج للقائكم النور الذي من الآب، و يأمر خدامه أن يحلوا رباطاتكم لتمشوا في ضيائه إلى عند أبيه. يا حبذا لو تقطعت رباطاتنا لنرى إلهنا.

421 ـ لا يدخل مدينة الروحانيين من كانت له صلة بالعالم وبشهوة العالم. لا يدخلها إلا كل من يمقت دالة الناس وغرور الحياة . فكل من انطلقت في نفسه وفي عظامه محبة المسيح لا يقدر أن يحتمل قذارة الشهوة المرذولة، وكل من صار رفيق الملائكة واستأنس بأسرارهم لا يقدر أن يحتمل عشرة العالم ومكائده. وكل من ربط عقله بالله والإنشغال بالسماء لا يستطيع أن يربط عقله بالعالم والإنشغال بالأرض.

422 – من ذا الذي يستطيع أن يقتل ويهلك الأوجاع والخطايا في نفسه إلا من استأنس كل ساعة بالهذيذ في الله ! وانشغل عن العالم بل انفصل منه ومن كل ما فيه من شرور ومشاغل.

423 – إذا أمات الإنسان ذاته عن الحياة الوقتية باشتهاء الله، يكون من ذلك الحين حياً بالله، ولا ينقطع جريان أنهار مياه الحياة من قلبه.

424 ـ إن كانت شهوتك في العالم فهذه أيضاً للكلاب والخنازير أي شره الأكل والزنا. وإن كانت شهوتك في الله فهذا نصيب الملائكة.

الشيخ الروحاني

425 – كلما يصغر العالم و يُهان في نظرك ؛ كلما تتزايد فيك محبة الله ، وتأتيك نعمة الروح القدس. وكلما تزيد فيك محبة العالم والتمسك به ؛ كلما تنقص منك محبة الله.

426 – الذي يشتاق إلى الروحانيات، يجب عليه أن يتهاون بالجسدانيات و يرفضها بفرح.

 427 – إذا أردت أن تخرج من العالم وتترك الأقارب والأهل والبلد وتتبع المسيح بسيرك في طريق الفضيلة، فلا ترتبك بأفكار الهم والقوت والكسوة . لأنه إذا كان عملك مع الله ، فالله هو المهتم باحتياجك وإلا فإيمانك يتساوى مع الكافر.

428ـ لا يكن، يا أحبائي، هم شيء من أمور العالم حاجزاً بيننا وبين الله ! فإذا تركنا همومنا، يتنق فكرنا في الصلاة من أجل هذا أمرنا السيد له المجد بالتجرد من العالم ومما فيه والتمسك بالمسكنة والفقر والإبتعاد عن كل هم، حتى يتحرر عقلنا من كل شيء وتخلو أفكارنا من العالم فنشتاق إلى الحديث الدائم مع الله والإهتمام به.

429- النفس المُحِبَّة للأشياء الجديدة لا تشبع. فهي تبسط قلوعها لكل ريح.

430ـ محبة العلم التي ليست مملحة بحب يسوع وفعل الروح القدس، غريبة عن العالم الجديد، وهي ليست لها قدرة على قطع الآلام من النفس.

431- لا تظن أن اقتناء الفضة والذهب فقط هو حب القنية ، بل كل ما تتعلق إرادتك بشهوته.

432ـ كما أن الزارع في الشوك لا ينتظر له حصاداً ، كقول معلمنا الصالح، هكذا الحقود ومحب المال لا يترجى فائدة ، بل يتنهد على مضجعه من فرط السهر ومواصلة الهم بالأمور.

433 – تضرع إلى الله أن يجود عليك بإحساس غرض الروح واشتياقه ، لأنها متى وفدا إلى النفس حينئذ يبتعد منك العالم وأنت تتخلف منه.

434- لا تظن ، يا هذا أن الإبتعاد عن علل الآلام وأسبابها أمر هين أو شيء يسير.

435- الحركة الأولى التي يسكبها الله في قلب الإنسان المتقدم إليه هي التهاون بالعالم، ومن هذه الحركة المباركة ينمو فيه كل عمل صالح.

436ـ بمقدار ما يتهاون الإنسان بهذا العالم ويجتهد في خوف الله ، تبتدىء العناية الإلهية ترافقه ، وهو يحس بمؤازرتها له إحساساً لطيفاً سرياً، وتتبعه رحمة الله وتعزيه.

437- إذا كان المرض والضعف وهلاك الجسم والخوف من الأشياء المؤذية تزعج فكرك ، وتصرف شوقك عن بهجة أملك ورجائك، وتعطل استلقاءك في حضن الله ، وتؤخرك عن لذة الهذيذ والحياة معه، فاعلم أن الجسد هو الحي فيك لا المسيح له المجد.

مار إسحق السرياني

438 ـ لنلتمس من الله أن يهب لنا أجنحة حمامة (مز 55: 6) أي الروح القدس، لنطير إليه ونطمئن . ونتوسل إليه أن يقصي عنا الروح الشرير و يقطعه قطعاً من نفوسنا وأجسادنا، أي الخطية الساكنة في أعضائنا الجسدية والنفسية ، لأنه هو القادر وحده على ذلك : «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم».

439 ـ والرب يطلب منك أن تغصب نفسك وتقاوم فكرك ولا تخضع لتلذذ الأفكار الشريرة ولا تراودها أو تتنازل معها ، أما استئصال . روح الشر الكائن فينا فهذا يتم بالقوة الإلهية عندما يجد الله جهادك وصبرك ضد الشر، ونيتك الصالحة للخير، لأنه لا يمكننا أن نستأصل الخطية من أعضائنا، وإنما علينا فقط أن نقاومها ونصارعها ونضارها، أما نزعها واستئصالها فهو الجزء الموضوع في يد الله يمنحه لنا . وإلا لو كان في مقدورنا أن نقاوم الخطية وننزعها أيضاً، فأي حاجة كانت، إذن، لمجيء الرب؟ فكما أن العين لا تستطيع أن تنظر بلا نور، كذلك نحن لا نستطيع أن نرى الله إلا بنوره: « بنورك يا رب نعاين النور».

440- وأما إن قلت أن القوة المعادية هي أقوى مني ؛ وأن الخطية لها على الإنسان سلطان مطلق ، فقد نسبت الظلم الله !! إذ كيف يدين إذذاك الطبيعة البشرية لإطاعتها الشيطان؟ والحق أن العدو أقوى في ذاته وقد يُخضع الطبيعة البشرية بقوته ولكن ، إن كان الله معنا فمن علينا» ؟ وداود في المزمور 44: 5 يقول : « بك تناطح أعداءنا». فالنفس التي تطلب الله ، تجد فيه عوناً ونصراً، وهو ينعم عليها بالفداء.

441- لأن النفس التي تكون في شوق كثير إلى الإيمان والمحبة تُحسب أهلاً لنوال تلك القوة العلوية ، فتنفك من كل محبة عالمية وتنحل من كل رباط الخطية.

442- وإن كان الكتاب المقدس يقول: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته» ، وذلك من أجل حفظ كيان المحبة الجسدية، فكم يكون علينا إذا أردنا أن نشترك مع الله في حياة الحب الإلهي والعشرة معه يتحتم علينا أن نتجرد من كل . حب العالم وكل الأمور الخارجية المنظورة ؟

أبا مكاريوس الكبير

443 ــ الذين يلتهبون بشهوة الروح السماوية ، الذين مرضت نفوسهم حباً بالله ، الذين اضطرمت فيهم النار التي جاء المسيح ليلقيها على الأرض ولا يود إلا اضطرامها (لو 12: 49) ، الذين التهبت نفوسهم بحب المسيح هؤلاء ينظرون إلى العالم والأشياء الفاخرة الثمينة التي فيه كأنها أشياء تافهة بل كريهة بسبب الحب المضطرم فيهم الذي لا يمكن أن يفصلهم عنه شيء مما في السماء أو على الأرض أو تحت الأرض كما ذاق بولس وشهد له ( رو 8: 35) .

444 – لم يُسمع قط أن إنساناً استطاع أن يحيا مع المسيح دون أن يتحرر عقله من هموم العالم والقيود الأرضية، سواء كانت بالحب الطبيعي المغروس فينا أو من جهة الشهوة الفاسدة التي تعمل فينا الحرماننا من الحياة الأبدية.

445 ـ فإن كانت النفس تخصص ذاتها للمسيح ، فقد التصقت بالرب وصارت معه روحاً واحداً ( 1كو 6: 17) ؛ وإن كانت قد سلمت نفسها لغرور الحياة وهموم الغنى (مت 13: 22) وسعت وراء الشهرة أو المركز العالمي والكرامة والفخر، فقد انعدمت منها القدرة على الإلتصاق بالمسيح.

446- إن الشر يعمل فينا حقاً بقوة ويحرك كافة الشهوات الدنسة والفاسدة فينا ، لأن هذه هي طبيعته، ولكن من مراحم الرب أن الشر غريب عن طبعنا ولا يمتزج بطبيعتنا قط كامتزاج الماء بالخمر مثلاً بل يكون منفصلاً كوجود الزوان مع القمح في الأرض.

447- من شاء أن يتقدم إلى الرب ويُحسب أهلاً للنجاة ووارثاً للحياة الأبدية ومسكناً للمسيح، يجب عليه أن يبتدىء بالإيمان ويثق بالرب ويسلم نفسه بكليتها ليسوع و يودع العالم وداعاً تاماً.

448ـ متحررين من كل الأهواء المشوشة للحياة الروحية، ساعين بلا انقطاع نحو الله، غير متكلين على عطية ولا على بر.

أبا مكاريوس الكبير

449ـ أول ما يجب عليك عمله أن تقاتل طبيعتك في عاداتها القديمة وشهواتها التي نمت معك . وعـنـد مـقـاومـتـك للعادة والطبع ستصادف أفكاراً مضادة من عدو الخير، تردك إلى عمل الأمر الذي تسعى للتحرر منه والذي خرجت منه بجهاد شديد، فعليك أن تضاعف حربك وتقدم لنفسك أدلة وبراهين لكشف قوة الظلام الخفية الخادعة الكائنة في القلب. واعلم أن الرب قريب من نفسك وجسدك بحيث يرى قتالك ، إلا أنه يتركك لتأخذ معرفة وكفاءة إلى أن تتقوم. وأيضاً تهديك النعمة إذا ازدادت ضيقتك . وبعد أن تصل إلى الراحة تعرفك النعمة بنفسها وتبين لك جهراً أنها تركتك تتدرب لأجل خيرك «قد علمتُ يا رب أن أحكامك عادلة . وبحق أذللتني» (مز 119: 75) ، «خيرٌ لي أنك أذللتني لكي أتعلم حقوقك.» (مز 119: 71).

450 ـ إن ربنا يسوع المسيح أتى لكي يحوّل و يغير ويجدد ويخلق النفس التي فسدت بالأهواء الدنسة والمعصية، بحيث يمزجها بروحه الإلهي . فهو يخلق عقلاً جديداً لها وعيوناً جديدة وآذاناً جديدة ولساناً روحياً جديداً، فهو يجددنا تماماً ويمسحنا بنعمته ليجعلنا آنية جديدة تصلح للخمر الجديدة، أي روحه القدوس ، لأنه هو القائل : «الخمر الجديدة تُجعل في زقاق جديدة.» (مت 9: 17).

 451- إن من يختار العيشة الإنفرادية يجب عليه أن يعتبر كل الأشياء التي صادفها في العالم بعيدة عن طريقه وغريبة عنه، لأن الذي يتبع صليب المسيح بحق ويجحد جميع الأشياء حتى نفسه ينبغي له أن يقيد عقله بحب المسيح، بحيث يفضل طريقه الذي سارفيه على الوالدين والإخوة والزوجة والبنين والأقارب والأصدقاء والأملاك (لو 14: 26).

أبا مكاريوس الكبير

452 – إن الفرق بين أولاد الله وأولاد العالم كبير، فكل ذرية تشبه أباها . فإذا سلم أولاد الله أنفسهم للعالم ولأمور الأرض ولفخر هذا الزمان الحاضر، فإنهم يذبلون ويموتون روحياً ولن يجدوا راحة في حياتهم لأنهم يكونون بعيدين عن أبيهم، حيث يخنقهم الشوك الذي هو هموم هذا العالم وغرور الغنى.

أبا مكاريوس الكبير

453- وأقول أيضاً إن النفس لها أوجاع نخبركم بها وهي كبرياء ، غضب، تعيير الناس ، قلة إيمان، عدم عفة، وبقية الآلام . ولكن إذا أسلمت النفس ذاتها للرب بكل قوتها فإن الله الصالح، يُظهر لها هذه الأوجاع والعيوب واحدة فواحدة لكي تحيد عنها.

أبا أنطونيوس الكبير

454ـ الرب عالم بطغيان الشيطان، لذلك أمر أولاده أن لا يكنزوا لهم كنوزاً على الأرض.

455- وأنا أطلب إليكم باسم ربنا يسوع المسيح أن لا تتوانوا عن حياتكم وخلاصكم ، ولا تدعوا هذا الزمان الزائل يسرق منكم الحياة الأبدية، ولا هذا الجسد اللحمي الفاني يبعدكم عن المملكة النورانية. ولا هذا الكرسي الفاني الهالك ينزلكم عن كراسي محفل الملائكة. بالحقيقة يا أولادي إن نفسي لمندهشة وروحي منزعجة لأننا أعطينا كلنا الحرية أن نكون قديسين ونحن بعمانا سكرنا بأوجاع هذا العالم.

456 – وأنا أطلب إليكم يا أولادي الأحباء أن تعلموا أننا خُلقنا ذوي سلطان على إرادتنا ، من أجل ذلك تقاومنا أرواح الشر لتضعف هذه الإرادة منا . ولكن ملاك الرب يعسكر حول خائفيه ومن جميع أحزانهم يخلصهم .

أبا أنطونيوس الكبير

***

ملخص المبادىء الهامة :

(1) يجب أن نعد ذواتنا للصلاة قبل البدء بها، وهذا يستلزم أن نتدرب على الشعور بحضور الله معنا أثناء العمل والحديث والأكل ؛ أي أن حياتنا تسير في حضرة الله.

(2) علينا أن ننقي نفوسنا ؛ وذلك بالتدقيق في حياتنا . فلا نعمل ولا نفكر ولا نتكلم إلا ونحاسب أنفسنا : لو كان المسيح أمامي الآن هل يوافق على عملي أو فكري أو كلامي ؟

(3) الإحتراس من العلل التي تثقل قلوب الأطهار: شهوة الأكل والإمتلاء من الطعام، شرب الخمر والتلذذ بالمسكر، الإشتغال بهموم العالم للإتساع والشهرة وجلب الكرامة والغنى.

 (4) لكي تميت الشوك الضار يلزم استئصال الجذور. جذور الخطية هي الإرادة التي تميل إلى الشهوة والشر. الجذر يدل على نوع الشجرة، فالتلذذ برؤية وجوه النساء وأحاديثهن يدل على خطية الزنى المختفية في القلب؛ ورفع الصوت والتشبث بالرأي يدل على الصلف والغضب؛ والتألم عند طلب ما لنا أو استعارة شيء منا يدل على البخل وعدم الرحمة؛ واحتقار الناس أو شعورنا بأننا نمتاز عن غيرنا يدل على الكبرياء. فإذا لم نقاوم هذه العلل ونقطع أصول هذه الجذور التي تظهر في مبدأها أموراً تافهة، فإنها تنمو وتصير أشجاراً كبيرة تحمل ثمار الموت.

(5) لا تحاول إخفاء عيوبك وكتم عللك وخطاياك ، مهما كانت صغيرة، ولا تظن أنك تستطيع أن تقاومها أو تقضي عليها بقوتك، فهي كالماء يظهر سهلاً ليناً لا قوة فيه إلا أنه يحمل أعظم السفن. إذن فاكشف عيوبك لمرشد نصوح وتتبعها حتى تفنيها.

(6) درّب نفسك على ما هو ضد عللك . فإذا كنت مصاباً بالغضب، وبخ نفسك بشدة على حماقتك وتسرعك . حاول أن تضع لنفسك حدوداً تتذكرها وقت الغضب فتقف تواً عندما تصل إليها ، مهما كانت الخسارة التي سوف تلحق بك. لأنه أهون علينا أن نحتمل أي خسارة كانت ولا نخسر الله وسلامنا معه. درّب نفسك على الإحتمال فهو يقطع دابر الغضب.

(7) كن مدققاً في حياتك، لأن التدقيق من أهم قواعد الحياة الروحية . فلو دققت في نفسك بأمانة لكشف الله لك ذاتك فتراها ملأى بالخطايا الصغيرة المفسدة المستترة فيك التي تمنعك عن الإنطلاق في حياة الصلاة والعبادة مثل : الضجر ـ التشبث بالفكر ـ التصلف الصلاة الباردة – التشتت والأفكار الشريرة – البخل وعدم مساعدة الناس – الضحك والقهقهة. 

(8) اللذة صنارة في يد الشيطان، إذا أمسكتها بيدك أو بفمك أو بلسانك أو بعينك أو بأذنك ، جذبك منها بجملتك إليه . قاوم اللذة، أرفضها .

(9) الخطايا سلسلة متصلة الحلقات، متى سقطت في إحداها سهل سقوطك في الأخرى. فقاوم حتى الدم جميع علل الخطايا ولا تستهن بأصغرها.

 

( 10) لا تستسلم لمحبة الأشياء الجديدة واقتناء الأشياء الحديثة، لأنها تربط قلبك بالعالم.

(11) لا تكن محباً للعلم الكثير الذي للمجد الذاتى والشهرة، لأنه قد يحرمك من الله .

(12) ابتعد عن الأماكن التي تُعثرك والأشخاص الذين لا تستطيع أن تضبط نفسك معهم فتجارهم في الشر، وكذلك الكتب والمجلات والصور، وسماع الأغاني المعثرة، فإن مجرد الإبتعاد عن علل الخطايا وأسبابها هو نصف الإنتصار.

(13) إغصب نفسك وقاوم فكرك حتى لا تخضع للتلذذ بالأفكار الشريرة التي يعرضها عليك فكرك ، واعلم أن سبب عودة الأفكار إليك راجع إلى رضائك عنها وتلذذك بها أحياناً. في اليوم الذي فيه ترفضها تماماً وتُظهر نيتك أمام الله أنك غير راض عنها، يرفعها عنك من أجل تعبك وجهادك. 

(14) ليس الشيطان أقوى منك، لأنك لست وحدك. الشر ليس من طبيعتك لكنه كالزوان يغرسه فيك العدو. فلا تيأس لأن نفسك نقية كالشمس و يوم تقلع الزوان من قلبك يظهر لك جمالها.

(15) إذا عادت نفسك إلى الشر فلا تيأس، بل ضاعف جهادك : «قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع 4: 7) ، لأن الرب واقف يرى جهادك وتعبك وسيرفع عنك ثقل الحرب في الوقت المناسب.

زر الذهاب إلى الأعلى