وضع قانون ونظام المحاكمات لدى قضاء الله

 إنجيل يوم الثلاثاء من الأسبوع الأول من الصوم المقدس

المزمور: «اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ (منفرد) وَمِسْكِينٌ أَنَا. اُفْرُجْ ضِيقَاتِ قَلْبِي. مِنْ شَدَائِدِي أَخْرِجْنِي.» (مز 25: 16 ، 17).

الإنجيل: «

فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«يَارَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضًا؟» فَقَالَ الرَّبُّ: «فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ طُوبَى لِذلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هكَذَا! بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. وَلكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ الْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ، فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. يَأْتِي سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ. وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ. «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لو 12: 41-50)

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ، آمين

إنجيل هذا اليوم يا أحبائي إنجيل المحاكمات والرب يضع في هذا الإنجيل “قانون المحاكمات”، وما أخطره قانونًا.

يبدأ الكلام قبل هذا الإنجيل بقول الرب: «وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُناسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيْدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ الْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ». وبعدها سأله بطرس الرسول: «يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضًا؟»، فردّ عليه المسيح: «هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ (عبيده)» (لو 12: 36 ،41 ،42).

هنا، في الحقيقة سؤال بطرس الرسول نَقَل الموضوع من صفة العمومية إلى الصفة الخصوصية: “الوكلاء”. ولكن مَنْ هُم الوكلاء؟

مَنْ هم “الوكلاء ” ؟

يهمنا أن نفهم معنى كلمة “الوكالة”. فالجميع أعطي أمانات، واستأمن الله أصحاب الأمانات على عطاياه وطبعا استأمنهم على بيته «وَبَيْتُهُ نَحْنُ» (عب 3: 6)، بمعنى أن “بيته” ليس مجرد مساكن، وإنما بيته هو نحن: “أولاده”.

لقد أعطى السيّد لعبيده الأمانات، ثم ذهب في مهمة: «مَتَى يَرْجِعُ مِنَ الْعُرْسِ». وواضح نها مهمة سعيدة، ولكنها ستستغرق زمانًا طويلًا، يقول عنها القديس لوقا في سفر الأعمال: «وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ (الرب يسوع) وَهُمْ (التلاميذ) يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسِ أَبْيَضَ، وَقَالَا: أيُّهَا الرَّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ» (أع 1: 9-11). هذه هي البداية!

والقديس بطرس يُكمل هذه المهمة بعد ذلك قائلا: «تُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشِّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللَّهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ» (أع 3: 19-21).

بحسب المَثَل ذهب المسيح في رحلة طويلة ولكن بحسب الحقيقة فإنَّ السماء قبلته إلى زمان ردّ كل شيء. وعبارة: “ردّ كل شيء” في أصلها وفي معناها بحسب اللغة اليونانية هي “تكميل أو رجوع كل شيء إلى وضعه الكامل”.

والقديس بولس قرأها بمعنى آخر ليس فقط “ردّ كل شيء”، وإنما “الارتداد“: «لا يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا لأَنَّهُ لَا يَأْتِي (“يوم المسيح”) إِنْ لَمْ يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلًا» (2تس 2: 3) وهي تحمل المعنيين: لأن الذي يُكْمَل أو يُكَمَّل، يُكْمِل أولاد الله الصالحين؛ أما الذين لا يُكْمَلون، فهؤلاء هم “المرتدون”. ولكن من المهم أن نعرف ما هي الأمانات؟

ما هي “الوكالة ؟ وما هي “الأمانة” ؟

كلنا “وكلاء”. ولكن ما هي “الوكالة”؟ وما هي “الأمانة”؟
الأمانات التي سلّمها السيد لعبيده هي: “الإنجيل”، “الإيمان الثمين” الذي دفع المسيح ثمنه وهو دمه الكريم، سر الخلاص”، “سر الفداء”، “أسرار الكنيسة”، “الكنيسة كلها كأم لنا أو كجسد نحن أعضاء فيه”، كل هذه أمانات.

كذلك أيضًا المواهب الروحية التي يهبها الرب لكل من يؤمن به، إذ يعطي إنسانا “طول أناة”، ولإنسان آخر يُعطي صبرا ، ولآخر “محبة”، ولآخر “بدل وخدمة”، ومواهب أخرى متعددة. هذه كلها بعد أن تسلمناها صارت أمانات، وصرنا وكلاء عليها، ولكنها ليست ملكا لنا بالكامل. وكل وكيل لا بد أن يُسأل عن وكالته.

وقد أوضح القديس بطرس هذه الحقيقة بمنتهى الإبداع قائلا: «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةٌ يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَوْكَلاءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُتَنَوِّعَةِ» (1بط 4: 10).

لقد جعل السيد عبيده وكلاء، وهكذا جعل المسيح كل مَنْ يؤمن به وكلاء ولكننا لن نفهم هذا المثل الذي قاله المسيح ولا المحاكمات ونظامها التي كشفها إنجيل هذا اليوم، إلَّا إذا رجعنا لما قاله المسيح في مثل الوزنات (مت 25: 14-30): «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ وَآخَرَ وَزُنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزُنَةٌ. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ». وذهب العبيد ليُتاجروا بالوزنات، «وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ». فالذي أخذ خمس وزنات ربح فوقها خمس وزنات أخر، وهكذا الذي حصل على وزنتين ربح فوقهما وزنتين أخريين، فسمع كل منهما حكم السيّد وتنفيذ هذا الحُكْم: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِينَا فِي الْقَلِيلِ فَأَقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. أَدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».

هذان هما العبد الأول الذي أخذ خمس وزنات وتاجر وربح خمس وزنات أُخر، والعبد الثاني الذي أخذ وزنتين وتاجر بهما وربح وزنتين أخريين. فهما على مستوى متساو في الأمانة. فكل واحد على قدر ما أخذ من موهبة تاجر بها وربح.

الطامة الكبرى هي في العبد الثالث، إذ قال لسيده عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعُ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرُ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزُنَتَكَ فِي الْأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ». فهو قد أخذ الوزنة (الموهبة) وذهب وطمرها في التراب، فسمع حُكم السيد: «عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِينِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا (أي ربح)»؛ بمعنى: “إن لم تكن على قدر المتاجرة والربح فكان ينبغي أن تضع الوزنة عند الصيارفة، وعند مجيئي كنت سأخذ الوزنة مع ربحها”!

ولكن، ماذا يعني أن تضع الوزنة عند الصيارفة ؟ معناها: أن تُسلّم نفسك لأب حكيم أو لأناس صالحين، يُعلمونك ويُدبِّرون حياتك، ويُعرّفونك كيف تتاجر بالموهبة وتربح. فلا أنت تاجرت بنفسك بالذي اقتنيته، ولا سلّمت الموهبة التي أُعطيت لك لمن يمكنه أن يُتاجر بها لك، فتكبر وتنمو في القامة الروحية.

وفي إنجيل هذا الصباح، نجد أنَّ المَثَل قسم الوكلاء إلى أربعة أقسام، أي أن القانون نُفذ على أربع درجات

الدرجة الأولى: الوكلاء الأمناء:

«فَقَالَ الرَّبُّ فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ (عبيده)… طُوبَى لِذلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا!».

كان رد الرب هذا تعقيبا على كلام بطرس الرسول: «يَا رَبُّ، أَلنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضًا؟». وقد سبق الرب وقال قبل هذه الآيات: «طُوبَى لِأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيْدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ».

هنا السهر هو نوع من المتاجرة ، وهو أساس الربح: «الْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ»؛ والمقابل لهذه الآية هو ما قاله الرب للذي أخذ الخمس الوزنات وربح فوقها خمس وزنات أخر، وكذلك الذي أخذ الوزنتين وربح فوقهما وزنتين أخريين: «كُنتَ أَمِينَا فِي الْقَلِيلِ فَأَقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ» (مت 25: 21، 23) والمعنى واحد في الآيتين، لأن في اللغة العبرية لا توجد كلمة بمفهوم “الجميع” أو “الكل”. فكلمة “الكثير” تعني “الكل”.

الدرجة الثانية: وكلاء على غير مستوى الأمانة:

+ «وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ الْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْعِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. يَأْتِي سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ».

ما قاله ذلك العبد هو أصل المرارة: «سَيّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ»، بمعنى “تسويف العمر باطلا”. وهو ما يقوله أي مدعو: “أنا ما زلتُ صغيرًا. أنا شاب وعندما أكبر في السِّنّ سوف أتنسك وأعبد وأصمت… إلخ”. وكنتيجة لِمَا يُردّده ذلك العبد: «سَيْدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ»، أنه «يَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ» ، أي يبتدئ يتعدى على الآخرين بأي شكل من الأشكال بالكلمة، بالنظرة بالطمع بسلب المال، والعرض… إلخ. وبعد التعدي على الآخرين، «يأكل»، أي تهيمن عليه شهوة الدُّنيا: الأكل والشرب والحنجرة والبطن؛ ثم «يشرب»، أي يستمتع ويرتاح ؛ وبعد ذلك يسكر»، أي ينسى الله نهائيا.

أما الحكم على هذا الإنسان فيكون “بالقطع”. لماذا؟ لأنه قد أعطيت له الوكالة وكذلك الأمانة مثله مثل الوكيل الأول الأمين تماما. وكان يعرف كل شيء عن أصول الوكالة، ولكنه لم يَرْضَ أن يسهر ولا أن يحترم أوامر سيّده، ثم بعد ذلك سوف وقال: « سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ»، وهذا يتضمن استخفافًا بالسيّد واحتقارًا لكرامته. فالسيد عندما علم بما فعله ذلك الإنسان لم يقطعه فقط، وإنما جعل نصيبه مع الخائنين”.

الدرجة الثالثة: الوكلاء الذين يعلمون إرادة سيدهم ولا يفعلون بحسب إرادته:

«وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيّدِهِ وَلَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا».

هذه الدرجة من الوكلاء ليست أحسن حالا من سابقتها، ولكنها درجة بائسة. فهذا الإنسان يعلم إرادة سيّده، أي عارف بالإنجيل وعارف بالكنيسة وحافظ آيات، ويُدرك الخلاص ويتكلم عنه، ويعلم الفداء، ومُدرك تماما لدم المسيح، فيتكلم ويعظ؛ ولكنه لا يستعد ولا يفعل بحسب إرادة سيّده. هو يعلم إرادة سيده ، ويُدركها جيدا، ويتكلم عنها، ويعقلها؛ ولكنه لا يستعد لمجيء السيد، ولا يفعل بحسب إرادة سيده التي يعلمها تماما. ولذلك جاء الحُكْم على ذلك الإنسان أنه: «يُضْرَبُ كَثِيرًا».

الدرجة الرابعة: الوكلاء الذين لا يعلمون إرادة سيدهم

وبالتالي لا يفعلون بحسب إرادته

+ «وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلًا».

هذه الدرجة من الوكلاء: “العبد الذي لا يعلم إرادة سيّده” هي درجة متدنية، ولكنها غير موجودة تقريبًا في أيامنا هذه؛ لأنه من ذا الذي لا يعرف الخلاص؟ ومن ذا الذي لا يُدرك الفداء ودم المسيح والتطهير؟ ومن الذي لا يعرف المعمودية؟ أو من الذي لا يعلم شيئًا عن الإفخارستيا؟ أي الجسد المقدَّس الذي يأكله، والدم الكريم الذي يشريه؟! هذا أمر غير معقول بالنسبة للوكلاء الذين استأمنهم السيد على وكالته ومنحهم الأمانات

فإذا ادعى إنسان أنه لا يَعْلَم إرادة سيده ويفعل ما يستحق عليه ضربات، بمعنى أنه يعمل أعمالا يتعدى بها على الأصول والواجبات التي يدعي أنه لا يعرفها، فإن القانون الذي وضعه المسيح هنا هو ما أخذته المحاكم في قانون المرافعات، وهو: “عدم المعرفة لا يعفي من المسئولية تماما مثلما يقول محامي المتهم للقاضي: “إن هذا المتهم رجلٌ بسيط، لا يعرف القراءة، ولم يتصفّح الجرائد، ولم يطلع على قانون العقوبات”، ولكن القاضي لا يتأثر بهذه المرافعات لأنّ “عدم المعرفة لا يعفي من المسئولية”.

لقد حكم السيّد على هذا الإنسان الذي لا يعلم إرادة سيده ويفعل ما يستحق ضربات أن يُضْرَبُ قَلِيلًا». والضرب هنا في الحقيقة، يعني الحرمان، وهذا الحرمان هو أقسى من الضرب، وكذلك الذي يُضرب كثيرًا سيكون حرمانه كثيرا.

الحرمان مرّ بالنسبة للعارفين إرادة الله لأن هذا الإنسان كان يعرف جيدا الواجبات التي عليه أن يؤدّيها، وكذلك ما سيناله إذا فعل إرادة سيّده. أما الذي لا يعرف إرادة سيده سيكون حرمانه بقدر عدم معرفته لأنه لا يُدرك ما عليه من واجبات، ولم يئن في الحال لما آل إليه حاله؛ ولكنه لا يعي ما سيكون عليه من مجد!

الحقائق التي نخرج بها من إنجيل هذا الصباح: 

+ إنَّ المسيحية هي عطايا ومواهب ونعم وأسرار تُعطى كأمانة للإنسان الذي يؤمن بها، ويلزم أن يُتاجر بها لكي تُرَدَّ مع الربح.

+ إننا وكلاء على هذه الأمانات، وسنحاكم على قدر ما نريحه أو تبدده.

+ إن العدو يحاول أن ينزع هذه الأمانات والنّعم والوصايا والإرادة، أو يطمسها في قلوبنا لكي لا نراها.

+ المسيح يُنبهنا بضرورة “السهر”: «وَأَنْتُمْ مِثْلُ أَنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيْدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ الْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيْدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ» السهر هو الإطار العام الذي من خلاله نحصد الأرباح من متاجرتنا، لأن الذي يسهر هو الذي يُتاجر السهر يحفظ الأقوال، يحفظ المعرفة في القلب، وبالتالي الالتزام بها.

وسوف أذكر آيتين تُركّزان على “السهر” لكي ألمس بهما قلوبكم
+ « طُوبَى لِمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثِيَابَهُ لِئَلاً يَمْشِي عُرْيَانًا فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ » (رؤ ١٦ : ١٥).
+ «كُنْ سَاهِرًا وَشَدِّدْ مَا بَقِيَ الَّذِي هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَمُوتَ (الجسد الذي أنهك من كثرة الخطايا، الذي استهلك بسبب الخطية، ولذلك يقول الرب: “كفاك وشدّد ما بقي”)، لأنِّي لَمْ أَجِدْ أَعْمَالَكَ كَامِلَهُ أَمَامَ اللهِ . فَاذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمِعْتَ، وَاحْفَظْ وَتُبْ، فَإِنِّي إِنْ لَمْ تَسْهَرْ، أَقْدِمْ عَلَيْكَ كَلِص ، وَلَا تَعْلَمُ أَيَّةً سَاعَةٍ أَقْدِمُ عَلَيْكَ» (رؤ ۳: ۳،۲).

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى