كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

نواحى النشاط الداخلى للصلاة

+ «الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر. » (عب 5: 14)

+ « في تعب وكد، في أسهار مراراً كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة، في برد وعُري . » (2كو 11: 27)

قدمنا في الباب الأول بفصوله الخمسة كل ما يختص بالصلاة في ذاتها، وفي هذا الباب نقدم كل ما يختص بالمصلي في ذاته؛ من حيث العوامل التي تؤدي إلى نجاح الصلاة والعوامل التي تؤدي إلى التعويق عن الصلاة. وإن كنا سنعرض شيئاً من ممارسة أنواع من الفضائل، أي النسك، فنحن لن نخوض في هذا المضمار إلا بالقدر الذي يتصل بالصلاة اتصالاً وثيقاً لا غنى عنه، كنوع من النشاط الداخلي الذي يكون للصلاة بمثابة جمر النار للبخور.

وأنواع الإماتة المختلفة، أي النسك كالصوم والسهر والصمت واليقظة الدائمة بالصلاة، كل هذه من ألزم ما يكون لحياة الصلاة، لأنها تُميت شهوة الحياة الآدمية وإرادة الخطيئة الكائنة في أعضائنا. وقد سبق أن أخذنا حق هذا الموت الطبيعي عن حياة العالم في المعمودية، لأننا بالمعمودية نموت عن آدميتنا لنأخذ مسيحيتنا، وذلك كهبة مجانية من هبات الفداء والموت الذي جازه المسيح عنا.

فإذا كنا نمارس حياة النسك والتقشف، فما ذلك إلا امتداداً للموت عن العالم الذي ابتدأناه في المعمودية.

وعلى قدر ما لهذه الإماتة أو النسك من أهمية عظمى، فهي لا تخلو من خطورة ليست بقليلة . لذلك رأينا أن نقدم بعض الإرشادات في مقدمة هذا الباب بخصوص ممارسة النسك حتى لا ينحرف بنا فنضل الطريق:-

(1) لا ننظر إلى وسائل التقشف أو أنواع النسك كهدف أو غاية نفرح ونُسر بتتميمها، فتلهينا عن متابعة السير نحو الله للإتصال به بالحب الكامل .

(2) أنواع النسك لا تخرج عن كونها وسائل نُميتُ بها الإنسان العتيق ونصلب بها إرادتنا مع أهوائنا وشهواتنا التي تعمل فينا للخطية، وتظهر بها عواطفنا وحبنا الله.

(3) الإستمرار في ممارسة أنواع النسك المختلفة، بعد تجديدنا وامتلائنا من النعمة، يكون لمنع تحرك الشهوة نحو العالم ولضبط الإرادة من الميل نحو الخطية.

(4) يجب أن لا يكون هذا النسك سبباً لغرورنا عندما نتقدم فيه، فينمي فينا روح البر الذاتي الذي من شأنه أن يمنع أي نمو أو تقدم في الحياة الروحية.

(5) لا تستطيع أقسى أنواع النسك أن تغفر لنا خطية واحدة أو تكفّر عن ذنب بسيط اقترفناه، إذا كانت خالية من الحب نحو الله، وتوسط النعمة المجانية التي أخذناها بدم المسيح.

(6) يجب أن لا ننحرف بهذا النسك ونقسو على أجسادنا إلى الدرجة التي فيها نُعاق عن تأدية واجبات الحياة بنشاط.

(7) يجب أن يكون تركيزنا كله داخلياً موجهاً إلى الإرادة التي تسوقنا إلى الشهوة والخطيئة. فإرادتنا المنحرفة تطلب ما لنفسها وأهدافها كلها، تنتهي عند ذاتها. هذا هو عدونا الذي يجب أن نصارعه بأصوامنا وأسهارنا و يقظتنا حتى يموت تماماً ، وحينئذ نأخذ الإرادة الجديدة التي تعمل مشيئة الله فقط !

(8) النسك لا يجب أن يكون أنواعاً من الضغط والكبت الجسدي الذي عندما يزول مؤثره يكون له رد فعل أقوى، فيعود الإنسان إلى حالته الأولى أكثر انحلالاً، بل يجب أن يكون باتزان وحكمة ليس عن حزن وألم بل بفرح وسرور.

وحدوده يجب أن توضع بترتيب وإرشاد أب حكيم حتى لا تنقص أو تبطل لتفوقها عن حدود استطاعة الإنسان فتنعدم الثمرة المرجوة منها، بل يجب أن تبتدىء بسيطة أقل من استطاعة الإنسان ثم تنمو وتزداد طبيعياً إلى أن تتحول إلى صفات طبيعية للشخص، وتدخل كجزء هام في أسلوب حياته.

(9) إذا خلت التقشفات وأنواع النسك من عامل الحب والفرح بالرب، تكون سبباً للكآبة والعبوسة وثورة النفس والإعتداد بالبر الذاتي.

(10) كثيرون جاهدوا وحرروا أنفسهم من العالم بأنواع من النسك القاسية للغاية، ولكن لأنهم لم يسلموا ذواتهم ليد الله وعمل النعمة بمسكنة واتضاع ، ضلوا الطريق. فإذا تحررنا من العالم يجب أن نتحرر أيضاً من أنفسنا ليتسلمها الله و يعمل بنا ما يشاء.

المفهوم الكنسي لمعنى النسك
في الأرثوذكسية

إن كلمة النسك – كما سبق وقلنا ـ تفيد عموماً كل نشاط إيجابي لتحرير النفس تقاوم به النشاط السلبي، أي هو التمرين على الفضائل لقطع دابر الرذائل والعادات الشريرة.

والحقيقة أن استخدام هذه الكلمة في الكنيسة قديم جداً، فأول ما نصادفها في الحياة المسيحية نصادفها في وصف العلامة فيلو اليهودي لأول جماعة مسيحية مصرية متعبدة في ظاهر الإسكندرية حول بحيرة مريوط الذين أسماهم : «نُساكاً».

ولكن أول تحديد لعمل النسك في المفهوم المسيحي نجده واضحاً في محاجاة العلامة أوريجانوس مع الوثنيين، الذي فيها يشرح اختلاف مفهوم النسك وعمله بين المسيحيين عنه بين الوثنيين ، إذ يقول :
[ أما النسك عندنا فهو ضبط الجسد وقمعه لإماتة أعضائه التي على الأرض التي هي الزنا والنجاسة والشهوة وكل الإنحرافات في الغريزة والعاطفة ] .

أوريجانوس

( في المحاجاة ضد كلسوس )

و يبدأ هذا الإصطلاح يأخذ صفته الكنسية في قوانين الرسل في القانون رقم 51 : أيما أسقف أو قس أو شماس أو من كان من زمرة الكهنوت بالجملة أو أي فرد من الشعب امتنع من الزيجة واللحوم والخمر ، لا لقصد النسك بل لكونه يشمئز منها على أنها دنسة مرذولة ، ناسياً ما قيل بأن كافة الأشياء هي حسنة جداً ( 1تى 4: 4) … فإما أن يتقوم أو أن يُقطع و يُطرح من الكنيسة].

ومن هذا يتضح أن كل امتناع صحيح عن الزيجة أو عن أكل اللحم أو عن شرب الخمر كلية برضى القلب، كتقوى أو نذر حياة أو من أجل تقويم الجسد، هو محسوب في تعاليم الكنيسة وقوانينها الرسولية أنه « نسك » ، سواء كان ذلك بالنسبة للكهنة أو الرهبان أو العلمانيين على حد سواء.

ثم يأتي مفهوم كنسي أكثر اتساعاً لكلمة « نسك»، حيث يشمل الإمتناع عن مجرد الأكل مدداً طويلة – كما يصف القديس إير ينيئوس المسيحيين الأوائل.

وهكذا يبتدىء يتسع معنى النسك في الكنيسة ليشمل كل ممارسة صادقة لأي وصية إنجيلية. فالصبر على الآلام والتعذيب والسجن حفظاً للإيمان، يعتبره يوسابيوس القيصري نسكاً (شهداء فلسطين : 10) ، كما يعتبره القديس أثناسيوس الرسولي « أعظم نسك.»

والذي يداوم على الصلاة والطلبة مثل حنة النبية تعتبره الكنيسة «ناسكاً» (القديس كيرلس الأورشليمي: عظة 1: 19).

والذي يهب ممتلكاته للفقراء ويختار حياة الفقر لنفسه تعتبره الكنيسة «ناسكاً» ( العلامة چیروم: تاريخ الكنيسة 76: 41).

والذي يعيش منكراً لذاته تعتبره الكنيسة «ناسكاً» (القديس كيرلس الكبير الإسكندري : شرح إنجيل يوحنا 13: 35) .

والذي يمارس الفضيلة الإنجيلية هو في الحقيقة ناسك لأنه يدرب و يضبط نفسه ( القديس يوحنا ذهبي الفم : شرح أعمال الرسل 2 : ب ).

والذي يتخصص في خدمة الفقراء حباً في التقوى تعتبره الكنيسة «ناسكاً» (المؤرخ یوسابيوس : شهداء فلسطين : 11).

والذي يتخصص في دراسة الكتاب المقدس واهباً حياته لهذه الدراسة يعتبره العلامة ترتليان «ناسكاً». 

ولكن على الرغم من هذا المعنى المتسع لكلمة « ناسك»، فإنها يمكن بكل سهولة اقتصارها على كل مسيحي يجاهد ليحفظ وصية المسيح بإيمان وحب ، أياً كان وأينما كان وكيفما كان !! وهذا المعنى الموضوعي المحدد نجده واضحاً في تعليم كليمندس الإسكندري إذ يعتبر أن المسيحية من حيث واقعها العملي هي «نسك»، فالعمل النسكي في عرفه هو برهان صدق الإختيار.

أما الذين أرادوا أن يتوفروا على تطبيق الحياة النسكية، أي الحياة المسيحية ، توفراً دقيقاً كاملاً : فيصبح عليهم أن ينزحوا من الدنيا و يسكنوا القفار والجبال ، فيعتبرهم كليمنضس أنهم هم الذين يشهدون بأنهم «مختارون أكثر من المختارين» . حيث صارت لهم قوانين نسكية خاصة (قوانين القديس باسيليوس مثلاً).

أما القوانين النسكية بالنسبة للمسيحي العادي فهي وصايا الإنجيل.

وأما القوانين النسكية بالنسبة للرهبان والمتوحدين فهي ضمانات إضافية تكفل تنفيذ وصايا الإنجيل الأساسية.

زر الذهاب إلى الأعلى