كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين
الفتور الروحى
«العدو قد اضطهد نفسي، سحق إلى الأرض حياتي. أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر. » (مز 143: 3)
في تجربة الجفاف الروحي لا تقف الصلاة ولا يوجد ما يستدعي وقوفها لأن النفس تكون بكامل إرادتها منعطفة نحو الله والصلاح ؛ ولا تفقد النفس قدرتها وإرادتها على الإستمرار في الصلاة والجهاد، لأن الجفاف الروحي لا يكون له تأثير إلا من جهة توقف العزاء والمسرة والتشجيعات العاطفية التي كانت تلازم الصلاة وتنتج منها.
أما الفتور الروحي فيصيب الإرادة نفسها ، فالضربة هنا موجهة أساساً نحو القيام بالصلاة واستمرارها. فإذا وقف الإنسان في الصلاة لا يجد ما يقوله ولا يجد القدرة على متابعة الصلاة. وإذا جلس يقرأ يكون الكتاب في يده، كما يقول مار إسحق، شبه الرصاص، وربما يظل مفتوحاً أمامه يوماً كاملاً ولا يستطيع أن يستوعب منه سطراً واحداً.
العقل يكون مشتتاً فاقد القدرة على التركيز ومتابعة المعنى، والإرادة المهيمنة على كل النشاط منحلة. فالرغبة في الصلاة موجودة ولكن القدرة والإرادة منحلة ، وقد تُصاب الرغبة في الصلاة أيضاً في النهاية فيصبح الإنسان غير قادر وغير راغب في الصلاة ولكنه متألم وحزين على هذا الحال ولا حول ولا قوة له على إصلاح شيء.
إذا حاول الإنسان الدخول إلى أعماق نفسه يتوه سريعاً ، فلا يبلغ أعماق نفسه!! وكأنه قد تاه عن قاعدة روحه وتغرب عن جوهر حياته !! وإذا حاول الإنسان أن يختبر إيمانه و يقيسه سراً في قلبه ، يجد أنه غير حي وغير موجود !!
وإذا قرع باب الرجاء والتمسك بمواعيد الله التي كان يحبها و يعيش عليها، يجد الرجاء قد تجمد ووقف عند نقطة الحاضر الباردة لا يريد أن يتعداها.
و ينتهز العدو هذا الظرف المواتى له و يضرب بشدة محاولاً أن يقنع الإنسان بالفشل وضياع كل جهاده وتعبه هباءً، وأن كل منهجه الروحي لم يكن صحيحاً ولا حقيقياً بل كان مجرد أوهام وانفعالات، ويضغط على الفكر لكي ينكر الحياة الروحية كلها دفعة واحدة.
ولكن من وسط هذه الحروب الداخلية الطاحنة للنفس تحس النفس من وراء الستار أن هذا كله غير صحيح، وأن وراء هذه الظلمة يوجد شيء ! كما تحس النفس أنها لا تزال مربوطة رغماً عنها بالله الذي تخلى عنها، وأنها تعبده أيضاً دون أن تحس وحتى دون أن تريد!! وأنه لا تزال تُقام صلاة داخل القلب في الأعماق بعيداً جداً عن إحساس العقل وتمييزه بل ودون أن يتلقى عنها الضمير أي عزاء أو تأكيد.
وحينما يحاول العدو أن يضرب ضرباته الأخيرة القاضية لكي تنكر النفس إيمانها أو رجاءها لا يجد العدو أي استجابة عملية، فالنفس تتنازل بالفكر مع العدو إلى أقصى ما يريد وإلى أبعد حدود الخطأ، ولكن أن تعمل فهذا مستحيل ، فعند نقطة الإنتقال من التصورات والأفكار إلى حيز التنفيذ تنبري الإرادة كالأسد الذي يهب من رقدته فتفزع كل الثعالب المفسدة.
إذن، فوراء الفتور الروحي علاقة بالله غير عاملة ولكن موجودة، وقوية جداً أقوى من كل وساوس الشيطان ولكن نائمة لا تستيقظ إلا عند حدود الخطر!
غير أن هذه العلاقة العظيمة تكون مستورة عن النفس وعبثاً نحاول أن نقنع النفس بوجودها لكي تعتمد عليها أو تطمئن لوجودها. لأنه قد وُضع على النفس في هذه التجربة أن تقف بمفردها!!
ولكن حزن النفس الشديد والمستمر على حالها الذي صارت إليه بعد النشاط والحرارة والإجتهاد الفائق إلى هذا الحال، كفيل أن يكون دليلاً حسياً و برهاناً عملياً على بقاء النفس في مجال الله وعلى مسيرها دون أن تدري في مسارها الصالح تقودها يد لا تراها وتحملها قوة لا تحسها.
إذن ، لا يظن السائر في طريق الله أن حركة الإيمان التي ولدت يوماً داخل القلب وأشعلته بنور الله كمصباح يتقد بالحب والغيرة ليدفع النفس كلها للمسير، يمكن أن تنسحب من الأعماق وتترك الإنسان مرة واحدة فارغاً بهذا المقدار.
غير أن نور الله وحرارته لا يلزم أن يراهما الإنسان أو يحسهما دائماً فهما يظلان يعملان في نور الحياة الحاضرة وظلامها، في برودتها وحرارتها في سرورها وحزنها دون توقف.
فالطريق الروحي لا يُقاس بأوقات النور والحرارة والسرور و بالنشاط المثمر فقط ، فإن أوقات التوقف والظلمة التي تحيط بالنفس والحزن الذي يضغط على القلب والبرودة التي تشل كل حركة العواطف الروحية، هذه أيضاً جزء لا يتجزأ من الطريق الروحي الضيق . وكيفية مواجهتنا لهذه الظروف التي تبدو معاكسة ومؤلمة ومميتة، هي التي تقرر استحقاقنا للمضي في الطريق وتكميلنا للسعي المبارك حتى نتكلل.
الأسباب :
الله لا يسوق هذه التجربة على النفس جزافاً ، فهناك أسباب تحتم دخول النفس في هذه الخبرات لكي يتعدل ميزان تقديرها للروحيات و يستقيم مسيرها في الطريق الصاعد إلى فوق و يتقوى إيمانها بغير المنظور.
أولاً : الفتور الروحي حينما يكون لتهذيب النفس الطموحة :
حينما تنشغل النفس الطموحة بتقدمها فإنها تجتهد لمضاعفة سرعة مسيرها أكثر مما تحتمل وأكثر مما يوافق بناءها ، وتبتدىء تطلب المزيد من المعرفة أكثر من احتياجها الفعلي وأكثر من قامة رؤيتها الحقيقية، وتتوقح بنوع من الجرأة الروحية على اعتبار أن هذا من الإيمان، وتقتحم مجالات الخبرات العالية وتفحص في النور بدون مؤهل كاف من البصيرة ولا سند من العمل والخبرة فتكون النتيجة أنها تتوقف دفعةً واحدة.
وإن كان يبدو حسب المنطق أن هذا التوقف طبيعي بسبب استنزاف الطاقة الروحية المذخرة وعدم موازنة الرصيد الإيماني مع سرعة اقتحام هذه المناطق العالية الخطرة، إلا أن العلة الأساسية هي تدخل رحمة الله وعطفه وإشفاقه على النفس، بسحب قدرتها على الإرتفاع حتى لا ترتفع أكثر من إمكانية اتزانها واحتمالها فتسقط وتتحطم . فالفتور هنا تأمين لحياة النفس وضمان لحفظها من الكبرياء الروحي الذي لو سارت فيه خطوة واحدة بعد ذلك لأصابها ما أصاب البنائين في برج بابل.
هنا الفتور نافع للنفس لأنه يجردها من الطموح نهائياً ، و يوقف انشغالها الزائد بالتقدم الخاطيء الـنـاشـيء مـن خـداع الإرادة لتعظيم الذات و يردّها إلى الدرجات الحطيطة التي للمبتدئين، فتنحجز النفس عن المصاعد الخطرة إذ تنشغل بحزنها وغمها وهوان حالها وضياع فخر آمالها، وتعود تتحسس البداية بمذلة واتضاع هما لها ضمان الخلاصها أكثر من اجتراح الآيات وصنع المعجزات والتأملات العليا.
وعلامة هذا النوع التأديبي من الفتور الروحي الذي يكون بسبب الطموح هو الحزن المفرط والغم الذي ينتاب النفس على ما أصابها، فهذا الحزن والغم دليل على صحة العملية التي يكون قد أجراها الله للنفس لتبق في اتضاعها.
ثانياً : الفتور الروحي حينما يكون لتعديل فهم العلاقات التي تربطنا بالله:
حينما تستغرق النفس في جهادها الروحي وإتقانها للصلوات وتدقيقها في الممارسات الروحية الأخرى ينشأ فيها شعور يربط بين هذا النشاط والإجتهاد وبين علاقتها بالله، فيتهيأ للنفس كأنما اجتهادها وأمانتها في الصلوات هي التي تؤهلها لحب الله واستحقاق البنوة عنده، وإذ لا يشاء الله أن تتوه النفس في هذا المنهج الخاطيء الذي يبعدها نهائياً عن استحقاق محبة الله والحياة معه يضطر أن يحرمها من هذا النشاط والإجتهاد اللذين سيصيران سبباً في خرابها.
فبمجرد أن يسحب الله من الإنسان هذه الإمكانيات التي هي النشاط والقدرة على العمل الروحي التي كان قد وهبها من نفسه للإنسان كعربون لمحبته ورضاه ، تقعد النفس بدون قوة ولا قدرة على أي عمل روحي، وحينئذ تُصدّم بالحقيقة المذهلة، التي تظل رافضة لها وغير مستجيزة حدوثها، وهي أن الله في أبوته ومحبته لنا غير محتاج لصلاتنا وأعمالنا!!
ويظل الإنسان في البداية متشبثاً بفكرة أن أبوّة الله توقفت حتماً بسبب توقف الصلاة؟ وأن الله قد هجر النفس وأهملها بسبب أن أعمالها واجتهادها يُظهران أنها لم تكن بالقدر الكافي لتتوازن مع محبته ؟!! وتحاول النفس عبثاً أن تقوم من انطراحها وحزنها لتعاود اجتهادها ونشاطها ولكن تضيع كل عزائمها مع أدراج الرياح.
وأخيراً، وشيئاً فشيئاً، تبتدىء النفس تدرك أن عظمة الله لا ينبغي أن تُقاس بتفاهة الإنسان، وأن أبوته العالية جداً قبلت أن تتبنى أبناء التراب من فرط حنانها وجلالها وليس ثمناً لأعمال الإنسان واجتهاده، وأن بنوتنا الله حقيقة مصدرها الله وليس نحن، وهي قائمة – بالرغم من عجزنا وخطيئتنا – تشهد على جود الله وسخائه.
وبذلك يعود الفتور الروحي لمثل هؤلاء بتعديل جوهري في فهم الله وتقدير العلاقات الروحية التي تربط النفس البشرية به، وتتعدل نظرة الإنسان للإجتهاد والنشاط وكل عمل روحي فيما بعد، لا كأنه ثمن نحبة الله وأبوته بل استجابة لمحبته واستجابة لأبوته.
وعلامة هذا النوع من الفتور الروحي هي الأسئلة الحائرة التي يرددها الإنسان كل يوم وعلى مدى هذا الإختبار، هل تركني الله ؟ هل خطيئتي هي السبب ؟ هل أغضبتُ أبوته بتواني وكسلي ؟ هل رفضني الله لأن صلاتى غير مقبولة عنده ؟
فبينما أشخاص الصنف الأول الذين يصيبهم الفتور الروحي بسبب طموحهم نجدهم متألمين بسبب توقف الصلاة فقط ، إذا بأشخاص الصنف الثاني الذين يصيبهم الفتور الروحي بسبب فهمهم الخاطىء لمحبة الله وأبوته نجدهم خائفين لا من توقف الصلاة بل من ضياع مركزهم كبنين الله وفقدانهم لثقته ومحبته ، و بقدر ما يزداد خوفهم وقلقهم تزداد محنتهم وجفافهم حتى تستعلن لهم الحقيقة في النهاية فتتوثق صلات المحبة والبنوة فوق كل اعتبار.
والواقع أن وجود هذا الخوف أثناء الفتور الروحي لهو أكبر دليل على وجود صفات الأمانة البنوية الله عند النفس، غير أن النفس لا تكون حينئذ واثقة من هذه الحقيقة وتظل خائفة إلى أن تتحقق من أبوة الله لها بالرغم من كل شيء وفوق كل شيء.
ثالثاً : الفتور الروحي حينما يكون لتقوية الإيمان بالله فوق المحسوسات:
يحدث أن يكون الإنسان في غاية السعادة والسلام بسبب عناية الله . به عناية شاملة من جهة كافة أعوازه الجسدية ورعايته في الداخل والخارج وحمايته له حماية ملموسة في كل المواقف، فيطمئن الإنسان جداً أنه محفوظ بيد الله وملحوظ بعنايته ، وتزداد ثقة الإنسان و يتقوى إيمانه بالله على أساس الدليل المادي الواضح والبرهان الملموس.
فتكون النتيجة أن الله يحبس دفعة واحدة جميع معوناته المنظورة و يوقف حمايته الملموسة و يسحب عنايته الظاهرة بالإنسان، فتبتدىء الضيقات تترى على النفس و يصير الإنسان مكشوفاً لأعدائه هدفاً لكل ضارب ومتقوّل ومستهزىء ، ليس من الأعداء الظاهر ين فقط بل ومن العدو غير المنظور أيضاً مخترع كافة الشرور والمحن … فتبتدىء تقترن الأتعاب الخارجية بالأتعاب الداخلية حتى ليكاد يُذهل الإنسان من كثرة الضربات وتنوعها، وفي البداية يحسب الإنسان أنها أمور عابرة وأنه سريعاً ستنقشع الغمامة وتعود الحياة إلى سلامها واستقرارها الأول، ولكن إذ بهذه الضيقات تزداد عنفاً وتتسع حلقاتها بدلائل يتضح منها أن الأمر فوق الطاقة وفوق التصور، فيجلس الإنسان في التراب محظماً عاجزاً عن أن يفهم شيئاً من هذا كله!! ماذا حدث؟ ولماذا حدث ؟ وما هي النهاية؟
يعود الإنسان إلى نفسه لعله يجد فيها بارقة أمل لمعاودة الحياة الأولى ، فلا يجد إلا حطاماً في حطام ونفساً ممزقة مشدودة بألف تجربة. فليس هو مجرد فتور أو جفاف أو فقدان العزاء بل فقدان الإحساس الروحي كله، وضيق وتذمر وحيرة وتجديف ورعبة تغطي النفس من هول ما أصابها تحاول النفس أن تردَّ على التجاديف الصادرة في أعماقها فلا تجد قدرة على الرد، تحاول أن تستنكر شيئاً من الشرور والقبائح التي يقذفها الشيطان على الفكر فلا تملك إلا أن تتأمل فيها وتنساق معها وكأنها أسيرة لكل إثم وخطيئة ! حتى تستقر النفس على حافة اليأس، اليأس من كل شيء.
ولكن ما يُذهل النفس حقاً ليس خسائرها أو فشلها أو توقفها عن الصلاة أو الجهاد أو خوفها من هجران الله بل شعورها بوقوف الله نفسه كعدو لها يُسر بآلامها وحزنها وتمزقها!! هذه المحنة نراها على أشُدّها في تجربة أيوب الصديق ، فالذي استرعى انتباه أيوب ليس الخسائر المريعة التي أصابته في أملاكه كلها وفي أولاده كلهم وفي جسده كله وفي لهزء كل الناس منه حتى زوجته وإنما في توهمه من شدة الضيقة وظنّه أن الله قد وقف منه موقف الإهمال والعداء والشماتة!!
– «أنا أيضاً لا أمنع في أتكلم بضيق روحي أشكو بمرارة نفسي: أبحر أنا أم تنين حتى جعلت علي حارساً ، إن قلتُ فراشي يعزيني ومضجعي ينزع كربتي تر يعني بالأحلام وترهبني بالرؤى ، قد ذُبتُ … كُفَّ عني … ريثما أبلع ريقي ! لماذا جعلتني عاثوراً لنفسك ؟ حتى أكون على نفسي حملاً ؟ … لأن سهام القدير في وحُمَتها (أي سُمها ) شاربة روحي ، أهوال الله مصطفة ضدي … لماذا لا تغفر ذنبي ؟ … ذلك الذي يسحقني بالعاصفة و يكثر جروحي بلا سبب، لا يدعني آخذ نفسي ولكن يشبعني مرائر … قد كرهت نفسي حياتي . أتكلم في مرارة نفسي … فهمني لماذا تخاصمني ؟ … أحَسَنٌ عندك أن تظلم ؟ … إني شبعان هواناً وناظر مذلتي … تصطادني كأسد ؟ ثم تعود وتتجبر عليَّ ؟ … كُفَّ عني .. أبعد يدكك عني ولا تدع هيبتك ترعبني ، لماذا تحجب وجهك وتحسبني عدواً لك ؟ إليك أصرخ فما تستجيب أقوم فما تنتبه إليَّ ، تحولت إلى جاف من نحوي !! ها أنذا أذهب شرقاً فليس هو هناك وغرباً فلا أشعر به، شمالاً فلا أنظره جنوباً فلا أراه.» (أي 7: 11 – 20، 6: 4، 7: 21، 9: 17و18، 10: 1و2و15و16و20 ، 13: 21و24 ، 30: 20و21، 23: 8)
كان أيوب صادقاً جداً في وصف مشاعره ولكنه كان مخطئاً في شعوره بأن الرب تركه فالحقيقة أن الرب لم يكن بعيداً عن أيوب، فليست كل الخسارات التي خسرها وكل الضيقات والمحن التي حلت به تصح أبداً أن تكون برهاناً على تخلية الله عنه أو عن أي إنسان!! كما أنه لا يصح أبداً أن تؤخذ الخيرات والمعونات والعناية والحماية التي يتلقاها الإنسان من الله أنها دليل على رضى الله فيعتبرها سبباً ومنطلقاً للإيمان والرجاء !!
إن الإصابات التي أصابت أيوب لم تنجح كلها في جعله يتخلى عن كماله، ولكن بمجرد أن أحس إحساساً خاطئاً بأن الله نفسه تخلى عنه و واقف ضده إختل توازن إيمانه ، وهذا في الواقع تنكشف علة تجربة أيوب وعمقها وسرها الرهيب. فالله أراد أن يعلن للإنسان كله من خلال تجربة أيوب أن الإيمان به يلزم أن يحتمل كل حالات التخلّي مهما بدت مخيفة وخـطـيـرة ومؤلمة، بل و يلزم أن يرتفع الإيمان أيضاً فوق هذه التخليات جميعاً فيثق الإنسان بوجود الله و برحمته وعنايته بالرغم من كافة الشدائد التي يجوزها.
إن هذا الصنف من خبرات الجفاف الروحي لهو أقسى أنواع التجارب وقمة الإختبارات المطهرة للنفس كالموت ذاته، تلك التي لا يمكن أن يجوزها الإنسان إلا تحت عناية فائقة. القدير لأن في أثنائها تبلغ النفس إلى اشتهاء الموت حزناً وكمداً كأيوب :
– «يـا لـيـت طلبتي تأتى و يعطيني الله رجائي أن يرضى الله بأن يسحقني و يطلق يده فيقطعني !! ما هي قوتى حتى أنتظر وما هي نهايتي حتى أصبر نفسي، هل قوتى قوة الحجارة ؟ هل لحمي نحاس ؟… المساعدة مطرودة عني !! … الليل يطول وأشبع قلقاً حتى الصبح … لا أبالي بنفسي رذلتُ حياتى … قد كرهت نفسي حياتي … أصمت الآن وأسلم الروح.» ( أي 6: 8 و 9 و 11 – 13، 7: 4، 9: 21 ، 10: 1 ، 13: 19)
ولكن في كل هذا لا يعدم الإنسان المجرَّب في هذه الساعات من أن ينظر رجاءً في رحمة الله . لذلك لا يكف حتى وهو على حافة اليأس من أن يتطلع إلى الله و ينتظر خلاصاً عظيماً وعجيباً، فبقدر ما تثقل عليه التجربة بقدر ما تصفو نفسه وتنكشف الرؤيا عن عظمة القدير وشدة حبه وأمانته للنفس البشرية، فتبدو الآلام السابقة وكأنها قشور تتساقط من عين النفس، وحينئذ تبتدىء النفس تبني إيمانها بالله لا على أساس الخيرات الزمانية ولا على أساس الحماية والرعاية المنظورة ولا على أساس الأدلة الملموسة والبراهين المعقولة، بل على أساس الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى !! :
– «لأنه يعرف طريقي ، إذا جر بني أخرج كالذهب بخطواته استمسكت, ت رجلي ، حفظتُ طريقه ولم أجد من وصية شفتيه لم أبرح … لا أنتظر شيئاً، فقط أزكي طريقي قـدامـه فـهـذا يعود إلى خلاصي … أما أنا فعلمتُ أن وليي حي والآخر على الأرض يقوم، و بعد أن يُفنى جلدي هذا و بدون جسدي أرى الله – ( هنا يظهر كيف انتقل إيمان أيوب من الإعتماد على الأمور التي تُرى إلى الأمور التي لا تُرى) – أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس آخر … حي هو الله الذي نزع حقي والقدير الذي أمر نفسي، أنه ما دامت نسمتي في ونفخة الله في أنني لن تتكلم شفتاي إثماً ولا يلفظ لساني بغش … حتى أسلم الروح لا أعزل كمالي عني . » (أي 33: 10- 12 ، 13: 15و 16 ، 19: 25-27 ، 27: 2-5)
وهكذا حتماً تتزكى في النهاية كل نفس أحبت المسيح ، ومهما جازت في مرائر التجربة الروحية تظل تدرك نصيبها وتسير وهي شاخصة نحو المسيح بنظرة الجريح الذي يزحف على يديه، تناديه كحبيبة مهجورة لا تتزحزح قط عن ثقتها في حبيبها الذي اشتراها بدمه.
نعم قد تختفي الثقة ولكن لا تضيع ، قد يتوقف الإيمان ولكن لا يزول، وتغوص مشاعر الحب فلا توجد ولكنها تنحفظ في الأعماق لتنبثق في نهاية التجربة بقوة لا تقهر.
أقوال الآباء في الجفاف والفتور في الصلاة
أولاً : لمار إسحق السرياني :
في ضرورة التجارب الروحية التي يرافقها حتماً الجفاف والفتور في الصلاة :
1001 – الخليق بنا أيها الأحباء أن نتأمل في أنفسنا في وقت الصلاة إن كان لنا تصور بألفاظ المزامير والهذيذ بالصلاة لأن هذا يحدث من السكون الحقيقي ( الداخلي)، والجدير بنا أن لا نقلق في الوقت الذي يحدث فيه ظلام للنفس ولا سيما متى لم يكن السبب منا.
واعلم أن ورود ذلك إنما يكون بسياسة من الله تعالى يعلمها الله وحده، في هذه الأوقات تختنق نفسنا وتصير كأنها غارقة في اللجة تلاطم الأمواج، ويصير الإنسان في ظلام منوط بظلام، يذهب صنف و يأتي صنف ، إن قرأ في كتاب أو خدم أو مهما باشر وصنع ، وفي غالب الأمر لا يملك الإنسان قدرة أن يدنو من قراءة أو خدمة أو عمل ما … حتى أن الإنسان وهو في هذه الحالة لا يعود يؤمن البتة أنه يمكن أن يتخلص من هذه الحالة، أو أن يعود له سلامه!
هذه الساعات مملوءة من كل يأس وخوف، لا يوجد فيها ثقة بالله تعالى أو عزاء الإيمان بل يكون هناك كل شك وتقسم وجرع!
والذين امتحنوا بضغطة هذه الساعة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يعرفوا كيف يمكن أن تتحول في النهاية وتتغير!
وإذا طالت هذه الحالة فليعلم الإنسان أنه سيحدث في النهاية تغير هام للحياة.
هذا الضرب من التجارب يُمتَحن به المؤثرون أن يتصرفوا حسناً بسيرة تدبير الصلاة المشتاقون إلى عزاء الأمانة وبلوغ كمال سيرتها ، ولذلك تجلب عليهم هذه التجربة وجعاً وحزناً بسبب ـ ، تقسم الفكر، إذ يتبعها تجديف قوي حتى أنه يعرض للإنسان الشك في حقائق الإيمان كالقيامة وأشياء أخرى لا يليق وصفها هنا.
وقد تجربنا بهذه كلها مراراً عديدة والذي بعثنا على تدوين هذا الجهاد هو تعزية السائرين في الحياة الروحانية، أما الذين لا يزالون في دور الأعمال الجسدانية فإنهم لا يفقهون هذه الأمور. وعلى كل حال فإن هذا الجهاد لا يزول في ساعة ولا يذهب بسرعة، وكذا أيضاً النعمة لا تأتى بالكمال دفعةً واحدة في نهاية التجربة وتسكن في النفس بل قليلاً قليلاً إذ يعبر الإنسان في نهاية التجربة على وقت عزاء ثم وقت ضيقة ولا يزال الإنسان ملازماً لهذا التغير إلى أن يحل أوان الخروج من التجربة!
وسبيلنا أن لا نتوقع التغرب من هذه الضغطات بالكمال طالما نحن عائشون هنا ولا أن نتوقع أيضاً أن نتعزى بالكلية، فإن الله تعالى رأى أن يدبر حياتنا بهذه وتلك وأن يكون السالكون في الطريق الضيق مباشر ين دائماً هذين الأمرين .
مار إسحق (الجزء الثالث : الباب الثلاثون )
1002 – إن الفضائل يخلف بعضها البعض، فمنهج الفضيلة ليس مستثقلاً ولا باهظاً والتثقيف بها يكاد يكون على نظام واحد ، لذلك فهي تخف من هذا الوجه. وكذلك صارت المصاعب من أجل الخير مستحبة كالخير ذاته. وليس أحد يتمكن من احتمال الضوائق والصبر عليها دون أن يؤمن أن الشيء المرجو هو أشرف من الراحة الجسمانية.
إذن كل من أعد نفسه لفضيلة ما فأول ما يتحرك فيه هو محبة المحنة المقابلة لها ، وحينئذ يلم به فكر الزهد في قنايا (جمع قِنية) العالم. وكل من اقترب من الحزن فإنه يتقوى بالأمانة التي تهيؤه المباشرة الدخول فيه.
التجربة ليست أن يلاقي الإنسان الصعاب ويترصدها من غير أن يكون قد أدرك في ذاته علمها ، بل التجربة الحقيقية هي أن يحس الإنسان بمنفعتها ومضرتها إحساساً واقعياً بطول معاناته لها زماناً.
وكثيراً ما تكون التجربة في الظاهر مؤذية وأما في الحقيقة فتكون ذات منفعة.
الذي له تجربة حقيقية في كل أمر تجده لا يحب ذاته لأنه يكون قد انعتق من العوارض الجالبة التعبد ( للناس) فهو لا يخاف مذمة ولا يخشى وقيعة.
إذا وجدت في طريقك سلاماً دائماً لا يتغير، فخَفْ لأن ذلك معناه أنك سائر بعيداً عن السبل المستقيمة التي وطأتها أقدام القديسين ذات التعب!
بحسب ما تسير في طريق الملكوت وتقترب من بلدة الله تعالى لتكن لك هذه العلامة: وهي أن التجارب تلم بك إلماماً قوياً، وبقدر ما تنجح على ذلك الحد تتوفر عليك التجارب.
متى أحسست في نفسك بتغير المحن المختلفة الآتية عليك بقوة إعلم أن نفسك على وجه التحقيق قد قبلت في هذه الأوقات عينها درجة روحية عالية، قبولاً خفياً. إذ يكون ذلك علامة أيضاً أن النعمة قد ازدادت لك أكثر من الرتبة الأولى التي كنت قائماً فيها.
لأن الله بحسب قياس الموهبة يُدخل النفس إلى ضنك التجارب . لستُ أقصد بالتجارب تلك التجارب العالمية التي تكون لإلجام الرذيلة أو الأمور الأخرى الظاهرة، كما ينبغي أن لا تفهم أنها تجارب تخص إرجاف الجسد، بل أقصد المحن الروحية التي تليق بالنفوس الساعية للملكوت.
إن كانت نفس ما ضعيفة وليست كفواً لمصادمة التجارب العظيمة والتمست من الله جل اسمه أن لا يدخلها إليها واستمع الله لها ، فاعلم علماً واضحاً أنه بمقدار ما هي غير ناهضة بحمل الضيقات الصعبة على هذا الحد هي أيضاً غير كافية بالظفر العظيم للمواهب والنعم . وكما منع عنها وقود الشدائد الهائلة هكذا تنعاق عنها الفوائد الجليلة.
لأن الباري سبحانه وتعالى قد رأى بحسن حكمته أن تكون النعم بمقدار المحن، ولا تكون الموهبة عظيمة إذا كانت التجربة هيئة.
فإذاً، من الصعوبات والضوائق العارضة لك بتدبير الله عز وجل تستطيع أن تدرك نفسك ما قبلته من النعمة، والعزاء دائماً يكون على قياس الحزن.
فإذا سألت قائلاً : إذن ما الحال ؟ أجبتك :
أولاً تفيد التجربة وبعد ذلك المواهب والنعم، أو ربما تفيد النعمة أولاً ويعقبها حدوث التجربة، ولكن لا يمكن أن تفد التجربة دون أن تقبل النفس أولاً في داخلها زيادة (قوة من الله ) على منزلتها الأولى. والشاهد بحقيقة هذا تجربة الرب، وكذلك أيضاً تجارب الرسل لأنهم ما دخلوا إليها إلا بعد أن قبلوا المعزي أولاً !
والأمر منذ البدء كان على هذا النمط أن النعمة تأتى قبل التجربة، إلا أنه يتحتم ولا بد أن يتقدم الإحساس بالمحنة على الإحساس بالنعمة حتى تختبر حرية الإنسان (أي أن النعمة تُخفي ذاتها مع أنها تكون مرافقة للإنسان حتى يواجه التجربة بنفسه أولاً). لأن النعمة لا تتقدم إلى أحد البتة (تظهر ذاتها ) إلا بعد أن يذوق التجارب، فالنعمة إذن تتقدم في العقل وتبطىء في الحس !!
فجدير بنا أن نجعل في أوقات المحنة أمرين متضادين لا يتشابهان وهما الفرح والخوف !!
أما الفرح فلأننا نثق أننا ماشون على الطريق التي وطأتها أقدام محيي ! الكل وجميع القديسين بدليل المحنة التي لا تصادف إلا السائرين !!
وأما الخوف فهو أن لا تكون تجربتنا بسبب العظمة !! لأن التجارب تتميز بعضها عن بعض، فمنها ما يأتى بعثاً للسيرة وتربية النفس للنمو في الصلاح، ومنها ما ينجم عن التخلية تأديباً لتعاظم النفس. وكافة المحن الوافدة من جهة العصا الأبوية تحرك النفس على الاتضاع والنجاح والفلاح لأن بها ترتاض النفس وتدرب وتزداد خبرتها.
ومن أمثلة التجارب التي يسوقها الله على النفس السائرة في الطريق لتربيتها ونموها في الصلاح ورفع مقدار تحنكها بالأمور الروحية وتنبيهها لإيثار الله عز وجل فوق كل شيء تكون بهذا الوصف: کسل (فتور الروح)، ثقل الجسم توقف عن الصلاة إنقطاع الأمل، ظلمة الأفكار، تخبط الذهن (التشتت المستمر، ضجر، نقصان المعاضدة الإنسانية، عوز الأشياء الضرورية، وما شابه ذلك.
من هذه التجارب يقتني الإنسان نفساً متوحدة في ذاتها (الإتصال المباشر بالله )، متضعة (عدم الإعتماد على قدرتها ونشاطها ) ، وقلباً مائتاً ( فقدان الإعتماد على المسرات والمشجعات الوقتية).
وفي هذه التجارب، يتبادل العزاء مع الحزن والنور مع الظلام، والحروب مع المعونات، والضيق مع الفرح، وهذه تكون علامة المسير والنجاح في النهاية.
فأما التجارب الوافدة عن تخلية الله تعالى بسبب توقع النفس وترفعها بالصلاح، فهي تكون بإطلاق تجارب الشيطان وتكون بإحساس قوي بحركات الزنا، سرعة الغضب، الإعتداد بالذات، تنفيذ المشيئة، محبة الغلبة بالكلام، الإنتهار بشدة تهاون القلب، ضلالة العقل، أفكار تجديف، ضمائر سخيفة مملوءة ضحكاً ، الإزدراء بالناس، إحتقار كرامة الآخرين ، محبة الخلطة والتصرف في العالم، الهذر بكلام جهالة، القطع في الأمور بنبوات كاذبة، التبشير بوعود فوق المقدرة. هذه هي التجارب النفسانية.
أما التجارب التي تصيب الجسد فالإنسان يعرض له عوارض مؤلمة وعسرة الأغلال وتمكث معهد معه دائماً وتلازمه، وتصادفه شرور كثيرة، ويقع في أيدي أشرار يحزنونه، ويتحرك قلبه دائماً بالخوف الذي بلا سبب وعدم ا القدرة على الإستناد على العناية الإلهية أو الثقة بالإيمان.
هذه هي تجارب تعظم النفس التي تلم بالإنسان حينما يبتدىء يعتقد في ذاته أنه حكيم ولبيب وعالم ويتشخص لدى عينيه أنه كذلك. والإنسان الذي تتحرك فيه هذه الأفكار و يقبلها يدخل في هذه الشرور حسب مقدار قبوله لأفكار العظمة.
فإذا ابتدأ الإنسان يرفض هذه الضيقات والأحزان ولا يكون له صبر إزاءها ولا يقبل احتمالها فإنها تتضاعف عليه ! أما صبر الإنسان فيزيل مصائبه، والصبر قوة تتولد من سعة القلب، وهذه القوة عسير أن يحصل عليها الإنسان وهو في محنته بدون توسط النعمة الإلهية التي يقبلها الإنسان من مواصلة الصلاة والدموع والطلبة.
ومتى أراد الله أن يُحزن النفس كثيراً (لتنقيتها ) فإنه يسمح أن تدخل في صغر النفس، وهذا الأمر يولد في الإنسان ضجراً قوياً يذوق به الإختناق النفساني، وهذا هو ذوق جهنم . وي و يأتي عليه : روح الحيرة والإختباط ( عدم اتزان التفكير) والغضب والإفتراء ومحبة الدم ( الإنتقام)، وانقلاب الآراء والأفكار والتنقل من مكان لمكان … وإن سألت عن علة هذا كله أجبتك أنه هو توانيك لأنك ما حرصت على التماس شفاء نفسك !!
وطب هذه كلها واحد الذي به يمكن للإنسان أن يسترد عزاء نفسه وهو تواضع العقل، الذي بدونه لا يفلت الإنسان من هذه الشرور بل تتجبر عليه.
ولا تحقد علي في قولي الحق لك ، لأنك لم تطلب شفاء نفسك . فإن أردت العودة إلى الحق فاذهب إلى بلده وستعاين حينئذ كيف يُزيل عنك الشرور ، لأنه بمقدار اتضاعك ينعم عليك بالصبر في أحزانك وبحسب إحتمالك يخف عليك وقر شدائدك وتحظى بالعزاء، و بقياس العزاء تعظم محبتك الله ( هنا يشير مار إسحق إلى عودة النفس لحالة الإتصال المتضع بالله بدون افتخار الصلاح).
وأولاد الله متى أراد الله أبوهم الرؤوف أن يريحهم في تجاربهم فإنه لا يرفعها عنهم ولا ينقصها لهم بل يجود عليهم بالصبر قليلاً تكميلاً لنفوسهم ، فيحظون بكل الخيرات بصبرهم على تجاربهم. ونحن نسأل المسيح إلهنا أن يؤهلنا بجوده للصبر على الشرور بشكر قلب لأجل محبته تعالى آمين .
مار إسحق (الجزء الثالث : الباب الحادي والعشرون)
1003 – إن الله – تبارك اسمه – إنما يؤدب بمحبة لا على جهة الإنتقام، حاشا ، إنما يطلب أن يشفي صورته .
1004 – لا يظن أحد أن الإستفادة في خدمة الصلوات ونقاوة الضمير والتنعم بسرورا القلب والعزاء الذي من الدموع والحديث مع الله تُحسب أموراً روحانية إلهية فقط ، بل بالحق وبحسب رأيي أقول أنه حتى فكر التجديف والمجد الباطل وحركات الزنا السمجة التي تحدث للإنسان قهراً، وتألم الإنسان بسببها ولـو يـوجـد الإنسان مغلوباً قدامها ويصبر و يتجلد وما يخرج من قلايته (الخروج من القلاية كناية عن جحد الإنسان للجهاد وترك التمسك بالله وحده)، حتى وهذه كلها تُحسب له ذبيحة نقية وعملاً إلهياً، ما خلا العظمة فقط ( هنا إشارة إلى تجارب الفتور الروحي بكل وضوح ) .
1005 ـ بمقدار ما يتهاون الإنسان بهذا العالم ويجتهد في خوف الله تدنو منه العناية الإلهية. ويحس بمظافرتها إحساساً لطيفاً بالحقي ، وتُعطى له علامات تزيد من فهمه وحتى ولو دخل الإنسان في تجربة فقدان الخيرات العالمية كرهاً من غير إرادته فبمقدار ما يُعدّم منها تتبعه رحمة الله و ينتشله جوده.
1006 ـ الذين يقصرون في تثقيف نفوسهم وفي اقتناء الحياة الأبدية بمحض إرادتهم وعزمهم فإنه بالأحزان التي من غير إرادتهم تقوم نفسهم بالفضيلة !
1007 – أما إذا اختفى عنك حب المسيح والإشتياق إليه وألمت بك الأحزان وأحسست بانفصالك عنه ، فاعلم أن العالم لا يزال حياً فيك أكثر من المسيح !
1008 ـ أما إذا كان المرض والعوز وهلاك الجسم والخوف من الأشياء المؤذية يزعج فكرك ويخرجك عن بهجة أملك ورجائك و يصرفك عن الهذيذ بالله والثقة فيه، فاعلم أن جسدك حي فيك وليس المسيح.
1009 ـ أما إذا كنت غير معتاز لشيء وكل ما تحتاجه عندك وجسدك صحيح، وليس لك أضداد، وتقول حينئذ أنك تسير نحو المسيح سيراً طاهراً ، فاعلم أنك مريض العقل وعادم لذوق أمجاد الله تعالى، وليس قولي هذا لك على سبيل الدينونة لك بل لكي تعلم فقط مقدار ما عدمته من الكمال ( القديس مار إسحق يشير هنا إلى أن التجارب الروحية علامة على صحة المسير).
مار إسحق (أقوال متفرقة )
ثانياً : للشيخ الروحاني : في أن تجارب الجفاف والفتور بالنسبة للمجتهدين هي من عمل النعمة :
1010- فإذا ثبت يا أخي داخل الباب واحتملت الشدة حتى الموت، حينئذ فالروح القدس يعطيك ما تطلبه رتبتك … والملائكة تهديك إلى الميناء.
و يكون متى يحلو لك تكميل هذه الفضائل الصوم المرتب، الطعام الحقير، السهر المضيء، القراءة الحارة، اتضاع القلب، دموع الوجع صلوات وسجدات دائمة، فاعلم أن ذلك ليس فقط عمل النعمة بل وأيضاً طياشة الأفكار وضعف الأعضاء من التجربة التي تديرها عليك النعمة التي قد تقطع وتبطل كل فضائلك !
يا إخوة لا يكون إنسان بسبب عدم صبره يجدف في زمان صعوبة تجار به و يتذمر، بل ليطرح همه على المهتم بحياته ويقول الله: «يا رجائي ومتكلي، مثل مشيئتك دبر حياتي ، حلو هو المر الذي تريده أنت أفضل من الشهد الذي أريده أنا».
لأنه في وقت التجربة ينطق شيطان الزنا في النفس كلاماً وأفكاراً صعبة، و يبذل شهوتها الفاضلة بشهوة الكلاب . ، كثيرة هي حيل هذا الشيطان أكثر من جميع الشياطين النجسة، فهو يثير الأعضاء ويعصر القلب ويخنق النفس بظلمة حالكة ويحرمها من كل عزاء و يبردها من الصلاة والتزمير والقراءة، ويملأ الإنسان كسلاً، ويمسك الرأس بألم شديد !
أمام هذه استعمل الصبر أيها الأخ ، ولا تجاهد بقوة في صدها لئلا تشتد عليك بالأكثر ، لكن هدىء نفسك وادع المسيح بقلبك.
كما أن شيطان التجاديف يتكلم مع النفس ملامات على الله وتجاديف وشكوكاً على الأسرار الإلهية وعلى البتول الطاهرة والدة الإله مريم، ويظن الإنسان أن نفسه هي التي تتكلم بهذه التجاديف حتى تيبس عظامه من الضيقة. و يتعذب بالحزن على نفسه.
لا تضطرب يا أخي ولا تعذب نفسك فنفسك ليست هي المتكلمة ولا يمكن أن تقع في الله بل هي تسمع فقط ما يقوله الشيطان فيها، وهي لا نشاء هذا، والدليل على ذلك أنه حينما تتوقف هذه التجاديف تفرح النفس وتستنير وتثبت.
ويظهر هذا التجديف وقت الصلاة بالأكثر وإذا رتل الإنسان أو إذا قرأ … وهكذا يحس الإنسان بهذه التجاديف بينما تكون النفس راغبة في التمجيد. هذه لا تُحسب للنفس تجاديف، فالله يفرز تماجيد النفس المحبوبة الطاهرة من تجاديف الشيطان الغاش … النفس تبلغ بسبب ذلك إلى الضيقة العظيمة ومرارة القلب وتطلب الموت و يتعكر جسدها كله … ويحاول الشيطان أن يبلغ بالنفس إلى قطع الرجاء … فكل من يحتمل ولا يقطع رجاءه في هذه التجربة فطوباه ، لأنه أية عطايا عظيمة سوف يأخذ !
وهذا أيضاً عمل شيطان الغضب ذي الفعل المر، فإنه يوقظ الغضب في النفس ويسقيها من كأس السخط بكلام داخلي ، مع ا أن النفس لا تريد حتى أن تسمعه أو تنطقه، ولكنه يخطف العقل و يطيش به من مكان لمكان ومن بيت لبيت … أنظر إن أجر الثبات في الحرب هو أفضل الأعمال الفاضلة … أنظر لا تُخلي قلبك من الحزن قبل أن تحل عليك النعمة وتفكك من رباطات الأوجاع.
الشيخ الروحاني
ثالثاً : لأبا مكاريوس الكبير :
1011 – إن قوة نعمة الله الكائنة في النفس تعمل عملها بأناة وحكمة وبتدبير سري ، ولكن يحتاج عملها في بعض الأوقات إلى ما ينغص الإنسان، ولكن عليه أن يحتمل بصبر كثير. لأنه في النهاية ينكشف له كمال عمل النعمة جهراً، عندما يجوز أصناف التجارب بحزم إرادته و يظهر أخيراً أنه مرض للروح ، حيث يبرهن الإنسان على خبرته وصبره حيناً بعد حين . وسنبين كيف يكون ذلك بأمثلة من الكتب :
مضمون ما قلته يظهر من واقع حياة يوسف واضحاً جداً، فإنه بعد مدد متطاولة تمت فيه إرادة الله
وكملت له الرؤيا ، بعد أن تتابعت عليه سعايات ومصائب وضيقات تعينت لتنقيته !! أما هو فتجلد واحتملها جميعها !!
فلما وجده الله عبداً أميناً ومقبولاً في كل شيء صيَّره ملكاً على مصر وأعال عشيرته وكملت له النبوة والرؤى حسب إرادة الله بعد زمن طويل وتدابير متنوعة.
كذلك حال داود أيضاً، إذ عينه الله ليكون ملكاً على يد صموئيل النبي ، ولكنه بعد أن مسيح هرب من أمام شاول الذي طارده ليغتاله فأين كانت المسحة في هذا الوقت ؟ وأين الوعد الذي قصد الله أن يتممه فيه ؟ لأنه بعد أن مسيح، حل به كرب عظيم وصار تائهاً في القفار محروماً حتى من الخبز وهارباً ملتجئاً إلى الأمم الغريبة بسبب ما أضمره شاول ضده، فهنا نرى أن الإنسان الذي بعد مسحه الله ليكون ملكاً ألمت به هذه المصائب الشديدة، وأخيراً بعد تعاقب الأزمنة بعد أن امتحن وتضايق وتجرَّب وصبر صبراً طويلاً مؤمناً بالله مرةً واحدة واثقاً من الغاية التي وعد بها وثوقاً كاملاً ، تمت له مشيئة الله : طول أناة وبعد بلايا كثيرة وتملك داود حقاً كوعد الله ! … وحينئذ ظهرت قوة كلمة الله و تبرهنت صدق المسحة التي مسحه بها الله جهاراً … وكذلك موسى وابراهيم ونوح وغيرهم ..
وقد استخرجنا هذه البراهين من الكتب المقدسة لكي نوضح بلا نزاع أن قوة نعمة الله في الإنسان وموهبة الروح القدس لكي تُحسب النفس أمينة لقبولها يلزم أن يتبعها جهاد عظيم وصبر كثير وطول أناة مع تجارب و بلايا تمتحن بها الإرادة ليظهر صدقها بكل أصناف الشدائد الملائمة، فإذا توافقت الإرادة مع الروح القدس ولم تحزنه في شيء من الوصايا تُحسب في النهاية أهلاً لأن تُفَاً من شدائدها وتنال ملء التبني بالروح في السر مع الغنى الروحي والحكمة التي ليست من هذا العالم، وهذه جميعها يشترك فيها المسيحيون الحقيقيون !!
أبا مكاريوس الكبير (العظة التاسعة )
1012- إن النفوس التي تحب الله بالحق، وتشتهي أن تلبس المسيح: بسبب كثرة إيمانها ورجائها لا تحتاج إلى تذكير من الناس فهي لا تكون خالية من محبة الرب بشهوة إلهية، ولو أنها تصيراً أحياناً في حالة فراغ ( الجفاف الروحي). ولكن بسبب أنها تكون قد تسمرت بكليتها في صليب المسيح فإنها تستشعر يوماً فيوماً ، بإحساس اختباري، تقدمها الروحاني نحو العريس السمائي.
أبا مكاريوس الكبير (العظة العاشرة)
1013 ـ ولكن ما كُتب عن أيوب أن الشيطان طلب أن يجربه ليس هو بدون غاية، لأنه بدون إذن مخصوص ما كان يقدر الشيطان أن يفعل شيئاً من ذاته … فلأن أيوب نال العون الإلهي واستعد بعقله واحتمى بالنعمة طلبه الشيطان قائلاً للرب : إنما هو يخدمك لكونك تساعده وتعينه ، ولكن كف الآن وسلّمه لي وهو في وجهك يشتمك ! … هكذا لم يكن بد من أن النعمة التى كانت تتعزى بها النفس تمتنع وتسلم النفس إلى التجارب، فيأتي الشيطان ويجلب عليها شروراً لا نهاية لها نحو اليأس والكفر والأفكار الخبيثة ويعذب النفس لكي ينقلها إلى سلطانه ويضلها عن الرجاء بالله. وأما النفس الحكيمة فإنها تظل في وسط المصائب والشدائد قائمة ولا تيأس أبداً بل تثبت فيما تعلقت به وتتحمل كل ما يحل بها من التجارب التي لا تُحصى قائلةً على الدوام : ولو متُ فلا أطلقه!!
فإن صبر الإنسان إلى المنتهى فحينئذ يغطي الخجل وجه الشيطان ولا يعود يرد الله جواباً، وهكذا يخزى الشيطان من الذين يحتملون البلايا والتجارب.
وحرب الشيطان لا تبطل أبداً ما دام الإنسان على قيد الحياة ….. ولكن المسيحيين إذا حاربهم العدو فلهم المسيح ملجأ يتقلدون منه القوة والسلام من العلاء ولن يبالوا بالحرب … فإن ثارت الحرب من الخارج (أي الجسد فهم مكتسون بالروح القدس ومحصنون في الداخل (أي في الروح) بقوة الرب … لأن المسيحيين مملوءون في الداخل بالطبيعة الإلهية ولا يؤذَوْن، وكل من أدرك هذه الدرجات ( في المعرفة) فإنه يبلغ إلى محبة المسيح الكاملة وملء اللاهوت ، وأما من لم يبلغ إلى هذا ( اليقين) فلا تبرح الحرب من داخله فتجده تارةً يهنأ بالصلاة وأخرى في حال شدة وحرب لأن هكذا هي إرادة الرب.
ومن حيث أن النفس تكون كالطفل لذلك يدربها (الرب) بالحرب: بالنور والظلمة والراحة والشدة، ساعة صلاةٌ وهدوء وساعةً قلق عظيم.
وثورة الحرب عليك ليس هذا معناه أنه : بسبب ذنب فيك، ولكن عليك أن تبغض أعمال العدو.
فإذا رأى الرب عقلك ودفاعك على قدر جهدك ومحبتك له بكل روحك، فحينئذ يبطل الموت من نفسك في ساعة و يأخذك إلى حضنه ويُدخلك نوره ، وفي لحظة يخطفك من الظلمة وتنقل إلى ملكوته ، لأن الله يطلب من الإنسان الإجتهاد بسبب اتحاد النفس مع الطبيعة الإلهية.
أبا مكاريوس الكبير ( العظة السادسة والعشرون)
رابعاً : لأبا أنطونيوس الكبير :
1014 – إعـلـمـوا يا أولادي الأحباء بالرب أن الروح القدس أزلي سرمدي يفوح رائحة زكية لا توصف بلسان كما قيل ولا يعرف لذة الروح وحلاوته إلا الذين استحقوا أن يحل فيهم، وهذا معلوم كثيرين لم يستحقوه لا لشيء إلا لأنه روح التوبة، وهو لا يسكن في نفوس التائبين إلا بعد أتعاب كثيرة جداً، فإذا سكن فيها يحل فيها السلام ، وهو لا يسكن في نفس متكبرة بل في نفوس المتواضعين الذين أفكارهم كلها تكون قد انحصرت في الكمال، وهؤلاء يرسلون شكراً عظيماً وتمجيداً متواصلاً للرب ولسانهم لا يكف: «مبارك الرب الذي علمني».
ولكن التجارب لا تأتى بقوة إلا على الذين قبلوا الروح القدس، لأن بمجرد قبولهم الروح تأتى عليهم التجارب من الشيطان ولكن الروح القدس هو الذي يطلقه عليهم لأن العدو ليس له سلطان أن يغصب أحداً من المؤمنين إلا إذا أعطي ذلك من جهة الروح القدس، والرب يسوع المسيح نفسه لما أخذ ما يختص بنا ( الجسد ) صار مثالاً لنا لكي يعلمنا كل حين أن نعرف الحق، فإنه لما اعتمد حل الروح القدس عليه وفي الحال افتاده الروح القدس إلى البرية ليُجرَّب من إبليس، ولكن إبليس لم يقو عليه ، ولما أكمل كل التجارب مضى عنه إلى حين ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح (حيث تجربة المسيح الثانية كانت هي التخلية والصليب).
وهكذا كل الذين ينالون الروح القدس يمنحهم قوة عظيمة بزيادة ويرفعهم إلى درجات في الروح أعلى ) ويحفظهم من كل الأشياء.
فيا أولادي الأحباء أنا كنت أشتهي أن تكونوا بقربي لتعرفوا تجربتي الأخيرة التي تشبه تجربة ربنا يسوع المسيح الأخيرة (أي التخلية الإلهية والآلام والموت والنزول إلى الجحيم). لأن المسيح لما أكمل تدبيره وعرف انتقاله قال : يا أبتاه إن كان يُستطاع أن تعبر عني هذه الكأس (تجربة التخلية بكل درجاتها) ولكن ليس كإرادتى بل كإرادتك، وكان ذلك بصلوات وطلبات، ليس خوراً أو خوفاً أو عجزاً، بل مثالاً لنا في كل شيء لتعليمنا كما كانت تجربته الأولى.
فالتجربة التي أتت علي أخيراً يا أولادي كادت توصلني إلى الجحيم (تخلية و يأس) لأن أعداء الخير أرادوا أن يلقوني بكثرة تحيلهم ، لهذا كان تعبي وجهادي وضيقتي واضطرابي … ولكنه لم يتخل عني ( إلى النهاية ) بل عضّدني وخلصني من ظلمة الأعداء وردني إلى درجتي الأولى.
وتجربتي الأخيرة تشبه تجربة يوسف الأخيرة، لأن يوسف الطوباني جُرَّب أولاً بتجارب كثيرة (بغضة إخوته، إلقاؤه في البئر، بيعه كعبد مراودة امرأة رئيسه) . ولكنه لم يضطرب في هذه كلها ، ولكن في الآخر لما ألقي في السجن الذي هو شبه الجحيم وطال به الزمن) اضطرب لهذه التجربة الأخيرة، لأنه أحس بتخلية الله وهي أمر من كافة التجارب).
ولكن الله بتحننه لما رأى حسن جهاده أعطاه كرامة جزيلة وصيَّره مشيراً لفرعون ولم يرجع يوسف يتجرب بعد ذلك أصلاً !
فحقاً يا أولادي المحبوبين أنا لا أخفي عنكم مقدار ما كنت فيه من التجربة ولكن سيدي خلصني منها . وحقاً إن الذي يشترك مع المسيح في الهوان فهو يشترك معه في المجد؛ وكل من يشترك في الأتعاب والشتائم والتعيير والهوان يتمجد، والإبن الصالح يرث أتعاب آبائه كما يرث بركتهم !!
أبا أنطونيوس الكبير (الرسالة التاسعة عشرة)
1015 ـ وأنا أريكم عملاً آخر يثبت معكم من البداية إلى النهاية : وهو أن يحب الإنسان الله من كل نفسه ومن كل قلبه ومن كل نيته و يتعبد له ، فعند ذلك يعطيه الله قوة عظيمة وفرحاً وتحلو له جميع أعمال الله وتخف عليه كل أتعاب الجسد أيضاً والهذيذ بالإلهيات والسهر، وكل نير الرب يصير خفيفاً عليه وحلواً. ولكن لأجل محبة الله للبشر يطلق عليهم أشياء مضادة لهذه المسرات حتى لا يتعظم الإنسان بل يثبت مجاهداً فيزداد نموه وأثناء ذلك تصيبه أتعاب ، فعوض القوة يكون ثقل وضعف، وعوض الفرح حزن، وعوض الراحة والهدوء قلق، وعوض الحلاوة مرارة، وبكثير مثل هذه يُصاب محب الله!
ولكنه بجهاده يتقوّى، وإذا غُلب فإن روح الله يكون معه في كل شيء ويقويه فلا يعود يخاف من شيء البتة.
أبا أنطونيوس الكبير ( الرسالة الثامنة عشرة)