كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الإتحاد بالله

Θεία ἕνωσις

‏Theiahenosis

«كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (یو 17: 21)

«من التصق بالرب فهو روح واحد . » (1کو 5: 17)

الإتحاد بالله هو تعبير لاهوتى مختصر للحالة التي يطلبها المسيح لنا من الآب : « ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (يو 17: 21)

وقد تحققت لنا هذه الطلبة بموت المسيح وقيامته، فصرنا حسب قول بطرس الرسول : «شركاء الطبيعة الإلهية.» ( 2بط 1: 4)

والكنيسة تضع هذه الغاية أمام أولادها منذ اللحظة الأولى التي يدخلون فيها إلى جرن المعمودية فحسب قول القديس إيرينيئوس : [ بواسطة الروح القدس نرتفع إلى المسيح و بواسطة المسيح نرتفع إلى الآب ]، حيث الإتحاد هنا يُستعلن على ثلاثة مستويات. وبحسب قول القديس أثناسيوس الرسولي : «في ابن الله نصیر أبناء الله»، حيث هنا الإتحاد يُفهم أنه رسوخ في علاقة بنوية أبدية خالدة.

و يشترك كل زمرة آباء الكنيسة العظام في التأكيد على الإمكانية الجديدة التي اكتسبتها الطبيعة البشرية ككل – في تجسد المسيح وتأنسه ـ وقبولها خلقة جديدة سمائية بالماء و بالروح بتوسط المسيح فيها تصبح الطبيعة البشرية في حالة اتحاد بالله بالنعمة، التي يعبر عنها الآباء بكلمة «تأله» : [ لأن ابن الله تأنس لنتأله نحن]. 

ولأهمية هذه العقيدة اللاهوتية القائلة بإمكانية «تأله» الإنسان نشير هنا باختصار إلى بعض المواضع التي ورد فيها شرح هذه الصيغة اللاهوتية عند الآباء الأوائل :

(1) يوستين الشهيد

(2) إير ينيئوس :

(3) كليمندس الإسكندري :

(4) هیپولیتس

(5) أثناسيوس:

(6) غريغور يوس اللاهوتى :

(7) غريغوريوس النيسي :

وإليك بعض مقتطفات لاهوتية فيما يختص بهذه العقيدة الأرثوذكسية الكبيرة :

266- إني أصلي حتى يكون بينهم إتحاد قائم على أساس جسد وروح يسوع المسيح، الذي هو حياتنا الأبدية، إتحاد بالإيمان والحب لا يفوقه ولا يعترضه أي شيء آخر، إتحاد خاص بيسوع والآب. إغناطيوس الإنطاكي – الرسالة إلى ما جنيسيا

267- كان يستحيل علينا أن نعرف أمور الله لولا أن المعلم والسيد الذي هو كلمة الله صار إنساناً. إذ أن أي كائن مهما كان لا يقدر أن يعلن لنا أمور الله إلا كلمته الخصوصية. لأنه أي شخص يقدر أن يعرف فكر الله؟ أو من صار له مشيراً؟ (رو 11: 34).

هكذا كان لا يمكن أن نتعلم بأية وسيلة أخرى سوى أن نرى المعلم ونسمع صوته الإلهي بآذاننا ، حتى إذا استطعنا أن نقتدي بأعماله وننفذ وصاياه تصبح لنا شركة معه ثم نزداد نمواً في هذه الشركة من الله الكلي الكمال ….

ثم بواسطة الفداء الذي أكمله لنا بدمه، مسلّماً ذاته فدية عوض الذين وقعوا في الأسر بواسطة العدو… فاستردهم الخاصته … معطياً نفسه لنفوسنا وجسده لأجسادنا، وساكباً روح الله الآب علينا لتكميل الإتحاد والشركة بين الله والإنسان، واهباً اللاهوت بالحقيقة للبشرية بواسطة هذا الروح، ومن ناحية أخرى يُجري بنفسه للبشرية ارتباطاً والتحاماً مع الله بواسطة تجسده، واهباً لنا، بذلك، الخلود المزمع أن يمنحه لنا بالحق وإلى الأبد عند مجيئه ، بتكميل شركة اتحادنا مع الله الآب .

إيرينيئوس (ضد الهراطقة 5: 1)

268- المجد لك أيها النور الحقيقي الذي أشرق فينا نحن المدفونين في الظلمة المحبوسين في ظل الموت. لقد أشرق لنا النور من السماء، أنقى من الشمس، وأطيب من الحياة التي على الأرض، لأنه هو الحياة الأبدية وكلُّ من يشترك فيه يحيا ، هذا هو معنى الخليقة الجديدة … يذلك النور الذي حول غرو بنا إلى شروق الذي بالصليب رفع الموت إلى حياة، وأنقذ الإنسان من الهلاك، وأصعده إلى السموات …. واهباً لنا ميراثاً إلهيا مع الآب، مؤلّها الإنسان بالعلم السمائي، جاعلاً نواميسه في أذهاننا مكتوبة في قلوبنا ….

كليمندس الإسكندري

269- لقد تأنس ابن الله لكي نتأله نحن، واستُعلن في جسد إنسان منظور لكي نتقبل نحن صورة الآب غير المنظور، واحتمل ظلم و وقاحة الإنسان لكي نحتمل نحن ميراث الخلود.

أثناسيوس الرسولي (تجسد الكلمة : 54)

270ـ حينما نشترك في المسيح «الكلمة » نشترك في الآب، لأن «الكلمة» هو كلمة الآب.
 فلو كان المسيح هو في الآب بالمشاركة وليس من الآب بالجوهر لما استطاع أن يؤلهنا إذ يكون هو نفسه مؤلهاً وحسب. فإذا كان الذي يملكه المسيح هو بسبب المشاركة ـ مع الآب ـ لاستحال عليه أن يعطيه للآخرين، لأن الذي له لا يكون حينئذ ملكه ، بل يكون ملكاً للذي وهبه . أثناسيوس الرسولي (الرسائل الفصحية : 51)

 

271- كان لا يمكن للإنسان أن يتأله إذا كان إتحاده بالمسيح هو مجرد إتحاد مخلوق بمخلوق، أو إذا لم يكن المسيح هو من جوهر الله بالحق. كذلك ما كان ممكناً للمسيح أن يُحضر الإنسان أمام الآب وفي حضرته لو لم يكن هو كلمة الله بالطبيعة والحق ….

هكذا لا يمكن للإنسان أن يتأله ، إذا لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو بالحقيقة من جوهر الآب وأنه كلمة الآب الخاصة.

لذلك أصبح المسيح قادراً أن يكمل إتحاداً من هذا النوع بحيث يوحد طبيعة الإنسان بطبيعته الإلهية التي هي طبيعة الآب وهكذا أصبح خلاص الإنسان وتألهه مؤكداً .

أثناسيوس الرسولي (العظة الثانية : 70)

272 – المسيح لم يكن إنساناً ثم صار إلهاً ، ولكنه إله صار إنساناً وذلك لكي يؤلهنا …. لذلك فكل الذين دعاهم الله أبناء فهؤلاء اختارهم وألههم بواسطة « الكلمة» الإبن بالجوهر. أثناسيوس الرسولي (العظة الأولى : 22)

273ـ من الذي لا يتعجب و يكرم هذا؟ … فلولا أن أعمالاً إلهية للمسيح الكلمة قد حدثت بالفعل بواسطة الجسد ما كان ممكناً للإنسان أن يتأله.
كذلك وبنفس المعنى، فلولا أن خواص الطبيعة البشرية الضعيفة ( كالموت مثلاً) قد أسندت «للكلمة» ما كان ممكناً للإنسان أن يتخلص منها.

أثناسيوس الرسولي (العظة الثالثة : 33)

274 ـ وكما أن الرب قد صار إنساناً (تأنس) لما لبس جسداً ، هكذا نحن نتأله «بالكلمة» حينما نتحد بجسده وحينئذ نرث الحياة الأبدية معه.

أثناسيوس الرسولي ( العظة الثالثة : 34)

275 ـ لقد صار إنساناً لكي يؤلهنا في نفسه، وهو حبل به وولد من امرأة عذراء حتى ينسب لنفسه جنسنا الخاطىء، لكي نصير نحن جنساً مقدساً «شريكاً في الطبيعة الإلهية» كما كتب بطرس الرسول.

أثناسيوس الرسولي ( رسالة إلى أدلفوس : 4)

276 – نحن لا نتأله إن كنا نشترك في جسد إنسان عادي، ولكننا نتأله لأننا نأخذ جسد المسيح الكلمة بذاته.

أثناسيوس الرسولي ( رسالة 71 إلى مكسيموس : 2)

+++

وهكذا نجد أن أكثر الآباء استخداماً لهذا الإصطلاح اللاهوتي هو القديس أثناسيوس الرسولي الذي أورده كثيراً جداً في مواضع عديدة، شارحاً وموضحاً في كل مرة الإرتباط الصميمي بين تأنس الله وتأله الإنسان.

التاله ولكن مفهوم Θεωσις الذي يقصده الآباء لا يعني تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية، ولكن تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله في شركة المحبة، وذلك برفع الحاجز الخطير الذي يفصل حياة الإنسان عن حياة الله أي الخطيئة ؛ وذلك بتوسط غسل وتقديس دم المسيح لنا وتناولنا من جسده. لذلك فالتأله أو الإتحاد بمفهومه الكامل كحياة مع الله لا يمكن أن يتحقق إلا بالقيامة من الأموات، ولكن لأنه قد أعطي لنا منذ الآن وسائط نعمة ووصايا وقوة إلهية لكي نغلب بها الخطيئة والعالم وحياة هذا الدهر، لذلك فقد انفتح أمام الإنسان باب إمكانية تذوق الإتحاد بالله بشركة المحبة والطاعة منذ الآن.

إذن، فاتحاد الإنسان بالله أي التأله هو هدف شرعي بموجب سبق اتحاد اللاهوت بالناسوت في التجسد الذي جعله المسيح غاية لنا أيضاً، حيث يشمل الإتحاد كل وسائط النعمة المجانية وهي المعمودية والتناول والتوبة الدائمة، كما يشمل جهادات كالصوم والعفة وضبط اللسان والفكر والصلاة باستمرار وكل أعمال المحبة والإتضاع، كما يشمل حتماً معونة الله الخفية للمجاهدين. فبالرغم من أن الإتحاد بالله هو الغاية النهائية التي لا يمكن أن تكمل لنا إلا في القيامة، إلا أنه حصيلة الإيمان والعمل الذي ينبغي أن يكمل هنا في هذا الدهر.

وبالإختصار، فإن الإتحاد بالله في مفهومه الحاضر في هذه الحياة يعني التحول المستمر من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح الذي نجوزه بالإيمان والجهد والدموع كل يوم وكل ساعة وفق مشيئة الله وحسب شروط الملكوت التي أعلنها الإنجيل.

ولكن الذي ينبغي أن يوضع نصب أعيننا باستمرار إزاء إمكانية الإتحاد بالله هو شخص يسوع المسيح، لأن من خلال طاعته وحبه يكمل الإتحاد بالله لأنه هو الذي أكمل اتحاد اللاهوت بالناسوت في نفسه أولاً لكي يعطيه لنا بسر الحب الفائق.

فالإتحاد حقيقة عملية في المسيحية نذوقها في عبادتنا وحبنا للمسيح، ولكن لا يمكن أن نفهمها أو ندركها بعقلنا ، فهي من حيث المنطق العقلي أمر مستحيل، أما من حيث سر التجسد وخبرة المحبة والإيمان، فهي أمر حقيقي وواقع مذاق.

والإتحاد بالله ليس موضوعاً ثانوياً في الإيمان أو العقيدة بل هو أساس كل الإيمان والعقيدة، فهو غاية الله النهائية التي من أجلها أرسل ابنه الوحيد إلى العالم متجسداً: «إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك (المسيح).» (أف 1: 9 و 10)

أي أن سر اتحاد البشرية بالمسيح هو أقصى غايات التجسد والصلب والقيامة بل والخليقة كلها.

إسمع ما يقوله القديس مكاريوس الكبير في ذلك : 

277- لأنه إن لم تنل النفس في هذه الحياة تقديس الروح القدس بالإيمان القوي و بالصلاة، وتشترك في الطبيعة الإلهية إذ تختلط بالنعمة التي بها تصير بلا عيب وتعمل بكل وصية بنقاوة، فلا تكون أهلاً للملكوت !!

فالنفس، إذن، هي صنيع إلهي عظيم مملوء عجباً، … والحاصل إنه خلقها من نوع يصيرها له عروساً ورفيقة حتى يمتزج بها فتصير معه روحاً واحداً.

أبا مكاريوس الكبير ( عظة 44 ، 46)

هكذا نرى أن الإتحاد بالله هو أساس الكنيسة وسر الإنجيل، لأن عمل الكنيسة أو غاية الإنجيل هي دعوة البشرية للإيمان بشخص الرب يسوع وعمل الإيمان بالمسيح وغايته النهائية هما إتحاد البشرية في جسد المسيح السري، وغاية الإتحاد هو إستعلان ملكوت المسيح وظهور مملكة القديسين التي ستملك فيه وسيملك فيها.

وفي هذا الملك المتبادل أو الميراث المتبادل الذي يعبر أقوى تعبير عن مفهوم الإتحاد بالله، يقول القديس مكاريوس الكبير : 

278- كذلك الله الذي يعتني بالإنسان ويتراءف عليه ، فإن النفس التي تأتى باشتياق إليه ، ينقاد هو إليها بالمحبة وبتحننه الطبيعي المختص به ، و يتحد بعقلها ( أي نفسها)، ويصير معها روحاً واحداً، كقول الرسول . لأن النفس بالتصاقها بالرب وبمداومة العقل في نعمة الرب بلا انقطاع، يتراءف الرب عليها ويسكب محبته عليها و يلازمها، وبذلك فإن النفس تصير هي والرب روحاً واحداً وامتزاجاً واحداً وعقلاً واحداً ، وإن يكن جسدها على الأرض فإن عقلها يكون بكليته في أورشليم السمائية، يعلو إلى السماء الثالثة (الروحية) ويتحد بالرب إتحاداً شديداً ويخدمه هناك . وكذلك أيضاً هو، لما يكون جالساً على كرسي العظمة في العُلا فهو يكون معها بكليته، لأنه وضع صورتها فوق في المدينة السماوية مدينة القديسين أي أورشليم، وأما صورته الخصوصية أي صورة نور لاهوته الفائق الوصف فإنه وضعها فيها، هو يتولاها في مدينة جسدها وهي تخدمه في مدينته السماوية، هي وريثته في السماء وهو وارثها على الأرض، فالرب يصير ميراثاً للنفس والنفس تصير ميراثاً للرب.

أبا مكاريوس الكبير ( عظة 46)

وهكذا نجد في تراثنا الكنسي أن كل الحقائق اللاهوتية التي استلهمها الآباء اللاهوتيون العظام المملوءون بالروح القدس، تحقق منها الآباء النساك البسطاء بالفعل وعلى صعيد الحياة اليومية والسلوك والخبرة الشخصية، بصورة حية ناطقة تجعلنا نثق ونتيقن أن الروح القدس يدعونا إلى هذه الشركة المقدسة المباركة مع الآب والابن والروح القدس.

+++

أقوال الآباء في الإتحاد بالله:

يتحدث القديس أوغسطينوس عن اختباره لهذه الدرجة الفائقة من النعمة بتعبير رقيق فيقول : « إنه نوع من الإتصال الروحي بالنور الثابت». ويقول أيضاً: «نحن نجاهد ونمتد، وفي ومضة فكر نتلامس مع ذات الحكمة الإلهية الساكنة في الأعالي (الأقنوم الثاني)».

و يتحدث أيضاً عن فاعلية هذه الحكمة في النفس وأثر النور الذي يملأها :

279- ما هذا الذي يومض في أحشائي و يقرع قلبي دون أن يؤلمني؟ فأرتجف هلعاً أحياناً وألتهب حباً أحياناً … أرتجف بقدر ما أرى نفسي أني لست أشبهه، وأطمئن بالقدر الذي فيه أرى نفسي أشابهه ! إنها الحكمة هي التي تومض في أحشائي.

أوغسطينوس

كذلك يتحدث غريغوريوس الكبير عن هذا الإتحاد معبراً عنه بنفس تعبيرات القديس أوغسطينوس فيقول :

280- إن موضوع التأمل الناضج هو الحكمة الإلهية حينما يدركها العقل المطلق فيتلامس معها .

غريغور يوس الكبير

ولكن يقيناً يُعتبر القديس مكاريوس المصري الكبير أول من أدرك هذا الإتحاد العجيب الحادث بين النفس والله ، فهو أول من اختبره وأول من تحدث عنه وأول من علمه لأولاده.

وكذلك هو أول من عبر عن هذا الإتحاد الروحاني الطاهر بأنه زيجة النفس المقدسة بالله ، واصفاً النفس بالعروس والمسيح بالعريس السمائي، والإتحاد بينهما بالزيجة المقدسة. والأمر ليس مجرد تشبيه ولكنه حقيقة السر الذي يتم بين النفس المقدسة وبين الله لتصير معه روحاً واحداً. وإليك أقواله في هذا الموضوع :-

281- إن النفس حينما تأتى إليه باشتياق، فإنه من فرط حبه يتحد بعقلها ويصير معها روحاً واحداً كما يقول الرسول. لأن النفس التي التصقت بالرب يكون الإثنان واحداً، وبمداومة العقل في نعمة الرب بلا انقطاع تصير هي والرب روحاً واحداً وامتزاجاً واحداً وعقلاً واحداً، وإن يكن جسدها ملقى على الأرض فإن عقلها بكليته يكون في أورشليم السمائية، عالياً في السماء الثالثة، يتحد بالرب إتحاداً شديداً ويخدمه هناك ….

أبا مكاريوس الكبير

282 – … هذا ما عناه الرسول بقوله: « لكي تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق وتعرفوا أيضاً محبة المسيح التي تفوق العلم لتمتلئوا بكل ملء الله » (أف 3: 18 و 19). فلنتأمل في الأسرار الفائقة عن الوصف التي لتلك النفس التي ينزع الرب عنها الظلمة المحيطة بها، ويكشفها عنها ويكشف لها نفسه أيضاً، وكيف أنه يمد و يوسع أفكار عقلها إلى الأعراض والأطوال والأعماق التي في الخليقة المنظورة وغير المنظورة. فالنفس هي إذن صنيع إلهي عظيم مملوء عجباً، لأنه حين صنعها الرب، صنعها من جنس لا يختلط بطبيعته اختلاط فساد، بل صنعها على شبه فضائل الروح. ووضع فيها سنن الفضائل والبصيرة والمعرفة والفطنة والإيمان والمحبة . وكشف الرب نفسه لها ، وقد وضع فيها فهماً ، ونظام أفكار ، ومشيئة ،وعقلاً ، وصيَّرها خفيفة متحركة وليست خاضعة للتعب، وأنعم عليها بالإستطاعة على المجيء والذهاب في لحظة، وأن تخدمه في أفكارها برقي الروح. والحاصل أنه خلقها من نوع يصيّرها له عروساً ورفيقة – حتى يمتزج بها فتصير معه روحاً واحداً (كما قال الرسول).

283- حتى كما أن الله نفسه محبة وفرح وسلام وإحسان وصلاح كذلك تكون النفس في الإنسان الجديد بالنعمة .

284ـ لأن النفوس التي تطلب تقديس الروح ، تُعلّق حبها كله بالرب وتركز أفكارها فيه وتسعى لتصل إليه. هؤلاء يمكنهم أن يعبروا هذه الحياة بلا سقوط لأنهم يكونون مقبولين تماماً لدى العريس السمائي.

285– إن الله غير المحصور الذي لا يمكن لإنسان أن يدنو منه، غير المخلوق، اتخذ لنفسه جسداً بصلاحه الذي لا يُحد. وتخلى عن ذلك المجد الذي لا يستطاع الدنو منه، لكي يصير بذلك قابلاً للإتحاد مع خلائقه المنظورة كالنفوس، أعني نفوس القديسين لكي يقدروا هم أيضاً أن يشتركوا في حياة اللاهوت.

والنفس على لطافتها تصرفت في أعضاء الجسد في العين والأذن واللسان واليدين – لترى وتسمع وتنطق وتعمل، وبالإختصار في الجسد كله وبأعضائه جميعاً. كذلك الله غير المحصور تنازل، صلاحاً منه، ولبس أعضاء هذا الجسد واتحد بها ليأخذ إليه النفوس المقدسة المقبولة الأمينة ويصير معها روحاً واحداً، ونفساً في نفس وجوهراً في جوهر، لتعيش النفس باتفاق تام، وتذوق الحياة الخالدة، وتصير شريكة في المجد الذي لا يفسد – أعني النفس المستحقة المقبولة لديه.

وهكذا بقدرة حكمته غير المحصورة تشبه بنا، بحيث أنه إذا شاء تجسّم في النفوس القديسة ، فيُختبر صلاحه، ومتى شاء صار ناراً آكلة، ومتى . شاء صار راحة فائقة، ومتى شاء صار فرحاً وسلاماً وتعزية ومعايقاً للنفس . 

286ـ إن كانت النفس تخصص ذاتها للرب، وتتمسك به ،وحده، وتسير بوصاياه، وتعطي روح المسيح حقها إذا هي أتت عليها وظللتها ، حينئذ تُحسب أهلاً لتصير روحاً واحداً وتركيباً واحداً معه، كما نص على ذلك الرسول في ( 1كو 6: 17).

287- ومن حيث أن النفس تكون مجروحة بمحبة الروح السماوي، وكثيرة الإشتياق الحار إلى العريس السماوي بالنعمة الساكنة فيها، وتشتهي دواماً أن تدخل بالتمام إلى الشركة السرية معه الفائقة الوصف بتقديس الروح. حينئذ يكشف نظرها فترى العريس السماوي بعين نقية وجهاً لوجه في ذلك النور الروحاني الذي لا يوصف، فتختلط به في ثقة كاملة، وتصير مطابقة لموته ، وتنتظر دائماً بالشوق الوافر أن تموت من أجل المسيح، وتترجى بثقة الإيمان الفداء الكامل من الخطية وظلام الشهوات، حتى إذا تطهرت هكذا بالروح وتقدَّست نفساً وجسداً ، تُحسب أهلاً لأن تصير إناءاً نقياً معداً لقبول المسحة السماوية، وحلول المسيح الملك.

288- النفس التي يخطبها المسيح العريس السماوي لنفسه لأجل شركته السرية الإلهية، بعد أن تذوق الغنى السماوي ولو مرة يجب عليها بكل الجهد والميل العقلي أن ترضي المسيح حبيبها . وترفع نفسها إلى هذا العريس السماوي بسيرتها الحسنة.

289ـ وكذلك فإن قيمة النفس عظيمة وجوهرها العقلي كثير القيمة. لا تشك في ذلك ! لأن الله لم يقل عن ا الملائكة هلم نصنعهم على شبهنا ومثالنا ، بل قال ذلك من أجل الإنسان. والأرض والسماء تزولان ولكن الإنسان مخلد ليكون مع الله إبناً له وعروساً . لأن في الأمور المادية المنظورة عندنا، يصير للعروس كلُّ ما للعريس، وكذلك . جميع ما للرب هو محفوظ لك.

أبا مكاريوس الكبير

هكذا يحدثنا القديس مكاريوس عن أعظم هبة ينالها الإنسان المسيحي الذي تقدس بالحق واستحق هذا الإتحاد السري العجيب مع المسيح في اتحاد زنجي مقدس بالروح لنوال الشركة مع العريس والميراث المذخر له في مجده.

وإليك بعض تأملات القديسين في هذا الإتحاد العجيب :

290ـ حينما يطلع العقل على ذلك النور ( في التأمل) تقف حركته و ينسى ذاته . ومن غمام ذلك النور الذي يُقال إن الله ساكن فيه تشرق إشعاعات من النور على العقل المستحق بالرحمة، فتنظر النفس وجه ربها وتنذهل بذوق حلاوته وتستنشق رائحته الطاهرة … وتدخل إليه إلى أن تلتصق به ولا تعرف كيفية الخروج من هناك، إذا لم يُلقها هو من اتحاده. إذ أنها تشعر في ذاتها أنها محبوسة كما في جبل أو لجة من النور تغطيها من كل جهة. هكذا يكون في الإختطاف الذي يُنعت بأنه نظر مجد الله.

الشيخ الروحاني

291 – هؤلاء يكون لهم اتحاد مع أزليتك مثل الأعضاء مع رأسهم، ولكن نعمة هذا الإتحاد هي مع مجدك وليست مع حقيقة أزليتك، فهو إتحاد بالمجد وليس بالجوهر وذلك لتنعيمهم ، لأنهم يكونون تائقين ليتغيروا إلى شبه مجدك.

292- «أنت يا أبي في وأنا فيك وأيضاً هم ليكونوا واحداً فينا » طوبى لمن ذاق طعم هذه الطولى … طوبى لمن صارت نفسه مع لحمه وعظامه في هذه اللذة.

293 ـ كل واحد ينظرك في داخله و يفرح بحُسنك و يتعجب و يظن أنك حال فيه هو وحده ، مع أنك حال بكمالك في كل واحد … فكل واحد يراك في عقله أنك هناك بالتمام، مع أنك أنت هكذا حال فيهم كلهم بالتمام.

294- حينئذ لا يكونون لابسي النور بل يكونون هم بأقنومهم نوراً: «حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم»، هناك لا تكون نظرة الشبه وإنما ينظرون مجد ربوبيته.

 295 – متحدين به ولكن كإتحاد النار بالحديد، فيصير الحديد ناراً، وهو محتفظ بطبيعته. ولكن الحديد يصيركشبه طبيعة النار. هكذا الأبرار يصيرون شبه طبيعة الله. بالحقيقة أقول أنا بالدالة التي لي عند الله ولا أكذب، إنه مراراً كثيرة، الذين اقتنوا حباً نحو الله نظروا أعظم من هذا وأكثر وأرفع.

296- إذا أشرق النور الإلهي في النفس ، وإذا اتحدت هي به، تعبر بالفعل في كل الطبائع سواء في السماء أو الأرض أو الجبال أو البحار، أو الناس أو الأجساد الكثيفة، وتنظرهم كما هم، وتكون معهم بنظر وإتحاد … ومن هذه التاور يا ترتفع إلى تاورية الطبائع المعقولة (غير المادية ) ثم تلج في النور القدوس العالي وتُبتلع بنظرته فيرتفع كل ما عداه من أمامها كأنه لم يكن، وتنسى ذاتها بإتحادها بمجد عظمته. 

297 – من يستطيع أن يعلم سر إتحاد العقل بالله حينما ينحبس فيه متشبهاً بالله صانعه و يتحد معه بانبساطه المتخلل الكل، وفوق الكل بما لا يُدرك . أي كلام يستطيع أن يفسر كيفية هذا الإتحاد الذي يلبس العقل فيبعده من كل طياشة وفكر وحركة عالمية!

298ـ يتحرك العقل بفعل الروح القدس بلذة فيتفرس في الله وينبسط معه و يتحد به … فيتعجب بحسن المجد المتحد بعقله وإشراق شعاع النور الممتزج بأقنومه، وهو حامل وداعة وعفة في كل حركاته.

299- وكما أن انبساط نظر العين أوسع وأعرض من العين ذاتها كذلك نظر النفس التي اتحدت بالله ، فإنها تنبسط بنظرتها فيه بلا مانع ولا عائق. 

300- إذا اتحدت القوة الإلهية بالإنسان يمتلىء جميعه بلهيب محرق ولذة مع نسيان، ورفض لكل ما في العالم بدهشة تفوق الطبع والقوة النفسية والروحية تبطل بالكمال ويكون مثل من هو ليس بحي.

301- إذا ما وصل الإنسان بنعمة الله إلى هذه الدرجة، فإنه يقتني وحدانية مع ذاته وتهدأ حركات الجسد للنفس، وحركـ ، وحركات النفس للعقل، و ينبسط العقل لمعرفة الله و ينظر الرب وجهاً لوجه فيستضيء به ويتغير إليه … هذا هو الإتحاد الكامل بالله حيث كل معرفة وإستعلان ونبوة وتكلم بألسنة ومواهب شفاء.

302- حينما يضيء على النفس حُسن طبعها، وتنظر هي حقيقة ذاتها، وترى النور الإلهي مشرقاً فيها، ويبدلها إلى شبهه فيرتفع طبعها من أمام نظرها ، حينئذ تنظر ذاتها شبه الله بإتحادها بالنور الذي لا شبه له، الذي هـو نـور الثالوث المشرق فيها . وبذلك ترتفع نظرة العقل، فترى نوراً إلهياً لابساً الكل ومتخللاً الكل بغير مانع حتى أنها ترى به أقصى الخليقة وما هو خارج عن أقصاها، وما هو فوق السماء وما في أعماق البحار، ويرتفع العقل ويتداخل من نور إلى نور حتى تكشف النفس كل نفس أخرى ثم ترتفع فتكشف طبع الملائكة، ثم تستمر في رفعتها حتى تنتهي إلى غمام المجد الذي يحيط بمن سبی قوة شهوتها واشتياقها .

الشيخ الروحاني

303- إن العقل في هذه الحالة ( الرؤية) لا يستطيع أن ينظر شيئاً، حتى ذاته، لأن روحانيته تكون متحدة بذلك النور الطاهر الملتحف به.

الأسقف فيلوكسينوس

***

إن الإتحاد بالله هو هدف حياة الصلاة والعبادة المقدسة، وهو سبق لتذوق حياة المجد العتيدة التي سينالها المسيحيون في الدهر الآتى . فالتلامس مع الحكمة التي اختبرها أوغسطينوس، والشركة السرية في الزيجة المقدسة التي تحصل عليها النفس مع العريس السمائي والتي تذوّقها القديس مقاريوس الكبير، والإتحاد الشديد الذي يربط العقل بالله الذي اختبره الشيخ الروحاني، والنور الذي يستولي على العقل فيبهره والذي وصل إليه فيلوكسينوس، كل هذه . فاعلية عمل الإتحاد الذي يكون بين النفس والله ليصير روحاً هي واحداً. وهذا هو ملكوت السموات داخلنا الذي يوجهنا إليه الإنجيل المقدس، الذي إذا ما وصلنا إليه نستطيع أن نتذوق معنى حب الله الكامل من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر، والقريب كالنفس تماماً .

بالإتحاد مع الله ، نكون قد تخطينا حدود المادة ووصلنا إلى ما وراء هذا العالم المنظور. وهذا ما كان يقصده السيد الرب في صلاته للآب : «لستُ أسأل من أجل العالم … لستُ أنا في العالم … أنا لستُ من العالم العالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم … لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم – أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن … أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد …» (يو17)

بالصلاة، نسير في طريق الملكوت. وبالإتحاد مع الله ، نصل إلى الملكوت الذي هو ليس بعيداً عنا ، بل في داخلنا. فالإتحاد مع الله الذي اختبره الآباء القديسون هو نهاية كل جهاد وسعي، سواء في تتميم الفضائل بالجسد أو جهاد النفس أو المثابرة على التأمل الروحي: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي ، حفظت الإيمان وأخيراً قد وضع لي إكليل البر…» (2تی 4: 7)

إذن، فالسعي في الطريق الروحي لنوال حياة روحية في عشرة مقدسة قوية مع الله تفوق العالم الحاضر، هو من صميم حقوق المفديين بدم العريس السمائي.

والمواهب الروحية هي أمر موهوب لنا ، ومطلوب منا أن نجاهد ونسعى لنوالها بكل قوتنا وإرادتنـا وفـكـرنـا ، بمؤازرة النعمة الحاضرة معنا وفينا على الدوام « إتبعوا المحبة ولكن جدوا للمواهب الروحية، هكذا أنتم أيضاً إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا» (1كو 14: 1 ، 12) وليست الهبة الروحية هي أن نعمل المعجزات والآيات، وإنما هي أن نحيا للروح ونختبر ونتذوق ثماره . وقد سُمِّيت هبة لكونها تفوق العالم الحاضر، غير أنها ليست فائقة بالنسبة للحياة الأخرى، وإنما هي طبيعة حياة الدهر الآتى . فإن كنا حقاً لسنا من هذا العالم – كما يودنا المسيح أن نكون ـ إذن فسلوكنا يجب أن يكون مطابقاً لحياة الدهر الآتى، وسعينا منصباً على السير بمبادىء الروح معرضين عن كل ما في هذا العالم، بل واشتياقنا يجب أن يكون دائماً هو الوصول إلى الله والإتحاد به.

« إن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهَبَ لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة . ولهذا عينه وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة، وفي الفضيلة معرفة وفي المعرفة تعففاً، وفي التعفف صبراً وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة . لأن هذه إذا كانت فيكم وكثرت تصيركم لا متكاسلين ولا غير مثمرين لمعرفة ربنا يسوع المسيح. لأن الذي ليس عـنـده هـذه هـو أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة . لذلك بالأكثر إجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين لأنكم إذا فعلتم ذلك لن تزلوا أبداً. لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي . » ( 2بط 1: 1- 11)

وهذه الشركة في الطبيعة الإلهية التي يدعونا إليها بطرس الرسول هي ذات السر الذي يعلنه لنا يوحنا الرسول بعبارة عُرس الخروف : « لنفرح ونتهلل ونُعطه المجد لأن عُرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها وأعطيت أن تلبس بزَّا ( حريراً) نقياً بهياً ، لأن البر هو تبررات القديسين» (رؤ 19: 8،7) . وما هو هذا العُرس ومن هي العروس المزينة بالحرير النقي البهي الذي هو تبررات القديسين ؟ « هلم فأريك العروس امرأة الخروف. وذهب بي بالروح … وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة … لها مجد الله.» ( رؤ 21: 9 – 11)

ومن هي أورشليم التي لها مجد الله إلا الكنيسة ؟ ومن هي الكنيسة إلا جماعة القديسين ؟ وما هو المجد الذي يحيط بهم إلا فاعلية إتحادهم بالمسيح ؟ هكذا اتخذت الكنيسة المسيحية منذ عصورها الأولى هذا التقليد في التعبير عن الصلة السرية الكائنة بين النفس الطاهرة والمسيح. فالنفس هي ا العروس المبررة المزينة بالقداسة، والعريس هو الخروف المذبوح من أجل النفوس التي خطبها لنفسه ! « وأخطبكِ لنفسي إلى الأبد» (هو 2: 19)، «خطبتكم لرجل واحد …» (2كو 11: 2) ، أما العُرس فهو الإتحاد الكائن بين النفس والمسيح.

304- جميل حقاً أن تفرز النفس ذاتها الله بالتمام وتلتصق به وحده فقط ، فتستريح في وصاياه، وباستحقاق تمجد المسيح الذي حل بروحه فيها وظللها، فيسمح لها بأن تكون روحاً واحداً وتركيباً واحداً معه كما يقول الرسول : «أما من التصق بالرب فهو روح واحد. » (1کو 6: 17)

أبا مكاريوس الكبير

305ـ إن النفوس التي خطبت ذواتها لله بالحب والحق والتي تتوق على الدوام أن تكون بكليتها له ، لا ترى في ذاتها حاجة ما تشغلها بذكر الآخرين، ولا تقدر أن تحتمل ولا إلى لحظة أن تكون محرومة من حبها المتأجج للرب أو تكفَّ عن اشتياقها السمائي له بل بالحري تود لو تكون مصلوبة دائماً بكليتها على صليب ربنا يسوع المسيح.

هذه النفوس تشعر في ذاتها يوماً فيوماً بالتقدم الروحي نحو العريس السمائي.

306- والنفس التي تحب الله بالحق ولو أنها تعمل عشرة آلاف من أعمال البر، فهي تعتبر ذاتها أنها لم تعمل شيئاً بسبب أنها لا تشبع من إلهام الله.

وعلى الرغم من أنها تجهد الجسد بأصوام وأسهار كثيرة، إلا أنها ترى درجتها بالنسبة إلى الفضائل كأنها لم تبدأ بعد بأي عمل جدي فيها.

و بالرغم من عطايا الفضائل الروحية الكثيرة والإستعلانات والأسرار السماوية التي ينعم بها عليها، فهي تشعر في ذاتها أنها لم تحصل على شيء البتة. وذلك بسبب حبها غير المحدود لله الذي ترى أنها لم تشبع منه قط.

 طول النهار تجوع وتعطش بسبب الحب والأمانة، تصلي بمداومة وتستمر في تتميم الفضائل وفي التنعم بالأسرار بغير شبع، يدفعها حبها المتأجج للروح العليا … باستمرار تتحرك بلا هدوء في داخل نفسها بالإلهام والنعمة نحو العريس السماوي متشوقة أن تصل إلى ملء الإتحاد معه بالقداسة لتستريح . وقليلاً قليلاً يرتفع الحجاب الثقيل عن وجه الروح فتحدّق في العريس السماوي وجهاً لوجه في نور الروح الذي لا يُعبر عنه فتتلامس معه بكمال الثقة. وإذ تتشكل به ترقب حائرة بشوق عظيم أن تموت للمسيح لتكون معه على الدوام … وهي تعتقد واثقة أنها ستنال بالنعمة انعتاقاً كاملاً من الخطية ومن ظلمة الشهوات، حتى إذا ما اغتسلت بالروح وتقدست بالنفس والجسد يُسمح لها حينئذ أن تكون إناءاً طاهراً معداً لاستقبال المسحة السمائية لضيافة الملك الحقيقي يسوع المسيح. وحينئذ تؤهل للحياة الأبدية، إذ تكون قد صارت إلى الأبد مكاناً طاهراً لسكنى الروح القدس.

أبا مكاريوس الكبير

307ـ حينما تُخطب عذراء لرجل غني تتلقى منه هدايا كثيرة قبل الزواج، من حلي وملابس وآنية ثمينة، ولكنها لا تقنع حتى يحين موعد الزفاف لتصير له ومعه كلية … هكذا أيضاً النفس حينما تخطب كعروس للعريس السمائي تتلقى – كعربون من الروح – عطايا روحية : معرفة وفهماً وإستعلاناً وربما أشفية، ولكنها لا تقنع بهذه حتى تدرك الإتحاد التام به ، بصداقة لا يمكن أن تتغير أو تسقط أبداً، وفي حرية كاملة بلا شكوك أو تردد.

أو قل إنها تشبه طفلاً جائعاً قلد باللآلىء والملابس الغالية، فتجده لا يلتفت إلى شيء مما عليه بل يزدري بالكل متطلعاً فقط إلى ثدي أمه كيف يستحوذ على نصيبه من الرضاعة … هكذا أتوسل إليكم أن تقيسوا بذات القياس حالة النفس مع الله الذي له المجد إلى الأبد.

أبا مكاريوس الكبير

308- إعلم أيها الإنسان قيمتك من حيث كونك أخاً للمسيح (عب 2: 11)، وصاحباً للملك (يو 15: 14، 15) ، وعروساً للعريس السماوي (2كو 11: 2)، لأن كل من استطاع أن يطلع على قيمة نفسه يستطيع أيضاً أن يطلع على قوة الطبيعة الإلهية وأسرارها، وبذلك يزداد إتضاعاً لأن بقوة الله يرى الإنسان ضعفه (2كو 12: 5) ، فيجوز الآلام مع المسيح (رو 8: 17)، ويصلب ذاته ثم يتمجد معه ( رو 8: 17) ، ويقوم معه ويجلس معه (أف 2: 6) ، و يتحد بجسده ويملك معه في ذلك العالم.

أبا مكاريوس الكبير

ها هو ذا العريس قد أقبل، فانظري يا نفسي لا تنعسي … بل اسهري متضرعة لكي تلتقي المسيح الرب بدهن دسم، فينعم عليكِ بعرس مجده الإلهي الحقيقي .

الأجبية (من قطع الخدمة الأولى من صلاة نصف الليل)

زر الذهاب إلى الأعلى