المدينة التي لها الأساسات
العظة الرابعة والثلاثون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
( عن مجد المسيحيين الذي ستوصل إليه أجسادهم في القيامة
وتستنير به مع النفس )
1- كما أن الأعين الجسدية تنظر كل شيء جليّا ، هكذا أيضا محاسن اللاهوتية تكون ظاهرة ومنظورة لنفوس القديسين، تلك المحاسن التي بها يمتزج المسيحيون وفيها يتفكرون. غير أن ذلك المجد قد أخُفي عن الأعين الجسدية، وأما للنفس المؤمنة فإنه ينكشف جليّا ، تلك النفس التي بعد أن ماتت يقيمها الرب من الخطيئة كما يقيم أيضا الأجساد المائتة، ويعد لها ” سماء جديدةً وأرضاً جديدةً “[1] وشمس البر، ويغدق عليها كل شيء من لاهوته. فثمة عالم حقيقي وأرض حية وكرمة مثمرة وخبز حياة وماء حي كما هو مكتوب : « أومن أني أعاین خیرات الرب في أرض الأحياء » ( مز26 : 13 س )، وأيضا : « وستشرق لخائفي الرب شمس البر ، والشفاء في أجنحتها » ( ملا ۳ : ۲۰ س – حسب النص ) ، وقد قال الرب : « أنا هو الكرمة الحقيقية » ( یو ۱5 : 1 ) ، وأيضا : « أنا هو خبز الحياة » ( يو 6 : 35)، وأيضا : « من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه ، سيصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية » ( يو 4 : 14 ) .
۲ – لأن كل مجيء الرب كان من أجل الإنسان الذي قد أُميت في قبر الظلمة والخطيئة والأرواح النجسة والقوات الشريرة ، لكي يقيم الإنسان ، الآن في هذا الدهر ، ويحييه ويطهره من كل سواد وينيره بنوره الخاص ويلبسه ثيابه هو – ثياب اللاهوت السماوية. أما عند قيامة الأجساد التي قد قامت نفوسها قبلا وتمجدت، فحينئذ تتمجد الأجساد أيضا معها وتستنير مع النفس التي قد استنارت منذ الآن وتمجدت ، لأن الرب يكون بيتهم وخيمتهم ومدينتهم . فلقد لبسوا « المسكن الذي من السماء غير المصنوع بيد«[2] ، أي مجد النور الإلهي ، کونهم صاروا أبناء للنور ، فلن يرمقوا بعضهم بعضا بعين شريرة ، لأن الشر يكون قد انتفي. هناك « ليس ذكر وأنثی ، عبد وحر » [3]، إذ يتغير الجميع إلى طبيعة ذات صفات إلهية [4]، صائرین مسحاء والهة[5] وأولاداً لله . هناك سيتكلم الأخ حينئذ بلا خجل مع أخته بالسلام، لأن جميعهم وجميعهن يكونون واحدا في المسيح ، مستريحين في نور واحد. سيتطلع الواحد إلى الآخر ، وفيما هم يتطلعون سیشعون[6] للوقت مرة أخرى بالحق ، برؤيتهم الحقيقية للنور الذي لا يعبر عنه.
٣- هكذا بأشكال كثيرة وأمجاد إلهية عديدة ومتنوعة ينظرون بعضهم بعضاً، وكل واحد سيأخذه العجب ويبتهج ابتهاجا لا ينطق به حين يتطلع إلى مجد الآخر . فها أنت ترى كيف أن أمجاد الله تجلُّ عن الوصف والإدراك ،فهي أمجاد النور الذي لا يُعبر عنه والأسرار السرمدية والخيرات التي لا تحصی. فكما أنه في الأمور الظاهرة لا يمكن لأحد أن يدرك عدد مزروعات الأرض أو البذور أو الزهور المتنوعة ، ويتعذر عليه أن يقيس كل غنى الأرض أو يعرفه ؛ أو كما أنه لا قبل لأحد من البشر بأن يدرك الأحياء التي في البحر أو عددها أو أجناسها أو تنوعها أو حجم الماء فيه أو مقدار اتساعه ؛ أو كما أنه ما من أحد بقادر أن يعرف عدد الطيور في الهواء أو أجناسها أو تنوعها ؛ أو كما أنه ليس مستطاعا إدراك عظمة السّماء أو مجموعات النجوم »[7] أو مسارها كما هو كذلك أيضا ليس ممكنا أن نتكلم عن غنى المسيحيين غير المحدود وغير المدرك أو نستجليه ، لأنه إن كانت هذه المخلوقات قد امتنعت هكذا على فهم البشر وإدراكهم ، فكم بالحري الذي خلقها وأعدها. فيجب على الإنسان بالأحرى أن يبتهج ويفرح لأن غنى وإرثا مثل هذا قد أعد للمسيحيين ، حتى إن أحدا لا يمكنه أن يتكلم عنه أو يستجليه . فينبغي لنا إذا بكل همة وتواضع أن نحث الخطى نحو میدان جهاد المسيحيين وننال ذلك الغنى . لأن ميراث المسيحيين ونصيبهم هو الله نفسه ، لأنه يقول : « الرب هو نصيب ميراثي وكأسي » ( مز ۱۰ : 5 س ) . فالمجد إلى الدهور لمن يعطي ذاته ويمزج طبيعته القدوسة بأنفس المسيحيين ، آمين .
- رؤ ۱ : ۲۱ .
-
۲ کو 5 :1 ،2
-
غل ۳ : ۲۸
-
ويلاحظ أن الكلمات اليونانية تعني : من له صفة كذا ، فمثلا : ’ ’ الإنسان الروحاني “ ( 1کو 15:2) تعني “الإنسان الذي له صفات روحية ، دون أن يفهم من ذلك أنه تحول إلى الروح القدس ! كما يلاحظ أيضا أن أنبا مقار لم يستعمل هنا أداة التعريف، أي إلى الطبيعة الإلهية ، بل تركها نكرة بمعنى : إلى طبيعة ذات صفات إلهية، ولكن مفهوم ضمنا أنها ليست الطبيعة الإلهية بالألف واللام ( عن أحد آباء الدير(ابو مقار))
- انظر : مز 82: 6 ، يو 10: 34 .
- الفعل المستخدم هنا ورد مرة واحدة في العهد الجديد ( وبنفس حالته هنا – زمن المستقبل للغائب الجمع ) ، حين كان يصف الرب أيضا حالة الأبرار في ملكوت السماوات ( « حينئذ سيُضيء الأبرار گالشمس في ملكوت أبيهم » ( مت 13: 43 ) . والفعل ، بإلحاق حرف الجر به ، يفيد إشعاع النور إلى خارج لا مجرد الإضاءة ، فالأدق : ” يُشعون “ ، أو ” يُشرقون ” .
- حك ۱۹:۷ ، ۲۹
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار