كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

القسم التعليمي النظري من التقليد الكنسي

‏KHPYTMA

تمهيد

لقد ظل الرسل يتقبلون من الروح القدس، حتى بعد كتابة الأناجيل، كثيراً من الإلهامات بخصوص الحق الإلهي الذي أعلن لهم و بخصوص شرح وتوضيح الإيمان والقضايا المتعلقة بظروف المؤمنين في كل مكان. وقد اضطر الرسل منذ البدء إلى تحديد بعض معاني الوصايا والكلمات حتى لا يستخدمها المؤمنون إلا حسب معناها الأصيل كما استلموها هم من الرب أو بالروح القدس ( أع 16: 4) : «وإذ كانوا يجتازون في المدن كانوا يسلمونهم القضايا τὰ δόγματα التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم ليحفظوها».

وبمرور الزمن ازدادت الحاجة جداً إلى هذا الشرح والتحديد مما اضطر أساقفة الكنيسة المؤتمنين على هذه الوديعة إلى عقد مجامع مسكونية لجعل هذه التحديدات في صورة قانون كنسي يلتزم به المؤمنون .

ومثالاً لذلك نجد أن الإنجيل أعلن فقط في البداية سر الثالوث في قانون العماد «باسم الآب والابن والروح القدس». ولكن عندما بدأت الكرازة بالإنجيل اضطر الرسل إلى تحديد العلاقة بين الآب والابن والروح القدس تحديداً مبدئياً بسيطاً حتى يدرك المؤمنون قوة وعمل كل من الآب والابن والروح القدس.

ولكن بظهور المقاومات الفكرية والمبتدعين، اضطر الآباء إلى تحديد أكثر في العلاقة. وهكذا استمرت هذه التحديدات تأخذ مداها في الدقة للتعبير عن الحقيقة الأولى التي قصدها المسيح في آخر إنجيل متى حتى استغرقت من الكنيسة أربعة قرون كاملة وثلاث مجامع مسكونية ومئات من الرسائل والحجج والمدافعات والبراهين إلى أن استقر المعنى الأصيل، وذلك عن طريق القانون الكنسي القاطع .

هذا هو التقليد الكنسي النظري بقيمته الفائقة .

فلولا مجمع نيقية الذي مثل الكنيسة الحية ودفاع القديس البابا أثناسيوس الرسولي، لصار العالم كله آريوسياً ولتحطمت قيمة الفداء وتلاشى رجاء الإنسان في الحياة مع الله ـ ولكن حاشا لله. 

ولولا المجمع الثالث ودفاع القديس كيرلس الإسكندري لصار العالم كله نسطورياً فاقداً لقيمة التجسد الإلهي وقوته وفاعليته في الإنسان لرفعه إلى حالة إتحاد حقيقي مع  الله ـ وحاشا لله .

إذن، فالتقليد الكنسي بشقيه العقائدي العملي والعقائدي التفسيري النظري يقف مع الإنجيل موقفاً غاية في الأهمية. فهو من الناحية العملية يضع الإنجيل موضع العمل و يتنازل به إلى بؤرة القوة والحركة السرية من داخل الطقوس والأسرار، ومن الناحية النظرية يسنده و يؤمن معانيه بالقانون الكنسي ضد الإنحرافات الفكرية ويشرح أسفاره بسلطان الروح وإلهامه؛ كما كان التقليد أهم عامل في تحديد قانونية أسفار العهد الجديد ــ أي الإنجيل ذاته .

ولقد أخصب التقليد الكنسي الإنجيل باصطلاحات وألفاظ غاية في القوة والعمق والنور والحياة، فكلمة « الثالوث » وكلمة « الأقنوم» وكلمة « المساواة في الجوهر»  و «المساواة في الكرامة» و «وحدة الرئاسة والإنبثاق » « والذوكصا » لتمجيد الثالوث وتسبيحه، هذه كلها أوضحت أعماق اللاهوت وقرَّبت الحقائق الإلهية من فكر الإنسان .

 

قيمة التقليد الكنسي عند الآباء

حيثما يُذكر التقليد، نذكر في الحال جماعة الآباء الأوائل الذين عاشوا في التقليد الرسولي بلمساته الأولى الحية وأحبوه وعشقوه واغتنوا به ، وطبعوه على قلب الكنيسة التي حملته إلينا بحيويته الأولى مع نفثات عطرة من كل قطر وكل بلد من بلاد العالم. فالقديس إير ينيئوس من فرنسا، وهيبوليتس من الإسكندرية وإيطاليا، وترتليان من أفريقيا، والقديس أثناسيوس من مصر، والقديس كيرلس من أورشليم، والقديس باسيليوس من قيصرية، والقديس يوحنا ذهبي الفم من القسطنطينية، هؤلاء وغيرهم جعلوا التقليد الكنسي زاخراً بشتى أنواع المواهب التي أفاضها الروح القدس عليهم.

[وإذا لم يكن الرسل قد تركوا لنا كتاباتهم ، ألم نكن مضطرين أن نعتمد على التعاليم التي في التقليد كما سلموها للذين وُضعت الكنائس في عنايتهم . ] القديس إيرينيئوس

[ الذي يزدري بالتقليد الكنسي لا يعود يحسب من أولاد الله.] العلامة كلمنضس الإسكندري 

[ لا يُعتبر أي أمر أنه حق إلا إذا كان لا يتناقض قط مع التقليد الكنسي الرسولي.] العلامة أوريجانس 

[ وعلينا أن نعتبر جداً هذا التقليد الذي هو تعليم وإيمان الكنيسة الجامعة الذي أعطاه الرب منذ البدء، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، والذي عليه تأسست الكنيسة وقامت.] القديس أثناسيوس الرسولي

[للمعمد: إننا الآن نسلمك «سراً» الذي هو رجاء الحياة الآتية، أحرس السر من أجل هيبة الله الذي يعطي الجزاء. ] القديس كيرلس الأورشليمي

[أنا لا أؤمن بالإنجيل إلا كما يوجهني . سلطان الكنيسة.] القديس أغسطينوس

[ وهنا ربما يسأل إنسان : إن كانت الأسفار المقدسة قد تحددت قانونياً وهي كاملة وكافية في ذاتها لكل شيء بل وأكثر من كافية أيضاً، فما الحاجة أن نضيف إليها سلطان الكنيسة من جهة تفسيرها؟ والرد على ذلك هو أنه بسبب عمق الأسفار المقدسة صار مستحيلاً أن يفهمها الجميع أو يقبلوها بمعنى واحد ، فواحد يفهم الكلمات بطريقة، والآخر بطريقة أخرى ، حتى بدت وكأنها قابلة لأن تشرح بطرق تساوي عدد الشراح أنفسهم .
 فـنـوفـاتـيـان (المبتدع ) يشرحها بطريقة، وسابيليوس رفيقه بطريقة أخرى، وهكذا دونـاتـوس وآريوس وإينوميوس ومقدونيوس وفوتينوس وأبولينار يوس. وبريسكليان وإيفونيان و بيلاجيوس وسيلستيوس وأخيراً نسطوريوس. لهذا أصبح من الضرورة المحتمة بسبب هذه الإنحرافات المشوشة الخطيرة أن يُفرض قانون يحدد شرح وفـهـم الأنبياء والرسل في إطار التفسيرات الكنسية الأصيلة الجامعة . على أن تتخذ كافة الإحتياطات لأن نتمسك بالإيمان الذي ساد على مدى الزمن وقبله الجميع في كل مكان . فهذا حقاً هو الإيمان الكنسي الجامع» بالمعنى الدقيق.] القديس فانسان من ليرين 

ومن هذا التفسير لقيمة التقليد اتخذت الكنيسة عموماً والكنيسة الغربية خصوصاً مضمون قانون التقليد العام المسمى بـ «قانون فنسنت» ومؤداه هكذا : [التقليد الإيماني يرسو على ثلاثة أعمدة: الإيمان الذي ساد في «كل مكان»، الإيمان الذي ساد في كل زمان»، الإيمان الذي «ساد على كل المسيحيين». ]

[وإنه جدير أن نعرض بالتفصيل لما قاله الرسول بولس لتيموثاوس : «يا تيموثاوس احفظ الوديعة معرضاً عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الإسم الذي إذ تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان . » ( 1تى 6: 20)

«أحفظ الوديعة » ـ ما هي الوديعة ؟ هي ما استؤمنت عليه وليس ما تقترحه أنت . هي ما تعلمته وليس ما تخترعه بذكائك وحكمتك، هي التقليد العام وليس ما يتبناه فكرك ، هي ما انحدر إليك ووصلك وليس ما تخلقه من نفسك هي ما. أنت ملزم أن ترتبط به لتحفظه لا أن تؤلفه، حتى تبقى من تحتها تلميذاً لا معلماً من فوقها.

«أحفظ الوديعة» ! أي احفظ موهبة الإيمان العام بغير دنس بغير غش، وما اؤتـمـنــت عـلـيـه فاحتفظ به دائماً حتى تُسلّمه للآخرين – لقد تسلمت ذهباً سلّمه ذهباً .

يا تيموثاوس ! أيها الكاهن ! أيها الشارح ! أيها المعلم ! إن كانت الموهبة الإلهية التي تسلمتها قد زادتك حكمة وزادتك مهارة وزادتك علماً، فكن كبصلثيل لأنك أؤتمنت على الخيمة الروحية . فرصعها أنت بالجواهر الثمينة بالتعاليم الإلهية المتقنة، زينها بمهارة لتزداد بواسطتك مجداً وجمالاً ونعمة. وكل التعاليم التي قبلتها بالإيمان وكانت سابقاً مفهومة فهماً غير صحيح اشرحها جيداً لتفهم بواسطتك فهماً صحيحاً. هييء للأجيال الصاعدة أن تتقبل وتفهم بوضوح ما تقبله الأسلاف قديماً و وقروه وكرموه دون أن يفهموه .

علم بنفس الحقائق التي تعلمتها حتى ، بينما تتكلم أنت بطريقة حديثة ومنهج جديد، يكون ما تعلم به وتتكلم عنه ليس جديداً.] 

القديس إير ينيئوس :
[وحينما نعتمد على التقليد الذي انحدر إلينا من الرسل محفوظاً بالتسليم على التتابع بيد الشيوخ ( والكهنة والأساقفة) في الكنائس، نجدهم يقاومون التقليد نفسه (الهراطقة فالنتينوس ومارسيون وكيرنثوس) مدعين إنهم أكثر حكمة من الشيوخ بل ومن الرسل أيضاً متوهمين أنهم قد وجدوا الحق الأصيل … والذي حدث هو أنهم لن يتفقوا مع الإنجيل ولا مع التقليد.
إن مثل هؤلاء، أيها الحبيب، ينبغي أن نقاومهم لأنهم كالحيات الناعمة يحاولون أن يفلتوا دائماً من أيدينا، فعلينا أن نحاصرهم من كل جهة حتى إذا قطعنا عليهم منافذ الهروب نستطيع أن نجتذبهم إلى الحق مرة أخرى… ولو أنه صعب على النفس التي أُمسكت في الخطأ أن تعود وتتقهقر إلا أنه إذا أبرزنا الحق إزاء الخطأ فليس من العسير أن تُجبر الخطأ على الفرار.

فالتقليد الرسولي واضح الآن في كل العالم يُرى بنفس الوضوح في كل كنيسة، إنما لدى الذين يريدون أن يقبلوا الحق فقط .

وإن كان الرسل قد احتفظوا بمعرفة الأسرار في الخفاء والتي علموها للكاملين سراً وفي الخفاء أيضاً بعيداً عن أنظار الآخرين، فإنهم سلموها بتدقيق للذين استأمنوهم على الكنائس ذاتها لأنهم أرادوا أنَّ الذين سيخلفونهم في نفس مراكزهم و بنفس تعاليمهم يكونون كاملين بكل تأكيد بلا لوم . إذ أن سلوكهم إن كان صحيحاً وسليماً يصبح ذا منفعة عظمى للكنيسة، أما إخفاقهم فيكون الطامة الكبرى عليها.] 

[ونحن لا ينبغي قط أن نفتش عن الحق أو نطلبه من الآخرين ( الخارجين من الكنيسة)، لأنه يسهل الحصول عليه بواسطة الكنيسة. لأن فيها استودع الرسل وديعتهم، كما يصنع الأغنياء ، إذ سلموها بكل ما يتعلق بالحق، حتى أن كل من أراد يستطيع أن يأخذ منها ماء الحياة. فالكنيسة هي باب الحياة والآخرون هم شراق ولصوص. وعلينا أن نتجنبهم ونلتصق بكل غيرة الحب لكل شيء داخل الكنيسة ونتمسك بالتقليد الحق.] 

العلامة ترتليان :
[وقد نقلها بالحرف من هیپولیتس الذي يعيب على ترتليان تمسكه بالمنطق و برهان العادة، مع أن التقليد يقوم على الإيمان العام فقط .

[فإذا كانت الأسفار المقدسة لم تصفها ( هذه الممارسات)، فالعادة عادة التي انحدرت بالتقليد المسلم تدعمها بكل تأكيد. لأنه كيف يمكن أن يدخل شيء في الإستعمال داخل الكنيسة ــ إذا لم يكن قد تسلّم سابقاً؟ وحينما نطالب بضرورة الرجوع إلى سلطان الأسفار المقدسة، إذا أردنا أن نلتجيء إلى التقليد فنحن نسأل هل يمتنع علينا استخدام التقليد إذا لم يكن مدعماً بالكتاب؟ هذا يكون حقاً إذا لم نكن نمارس أموراً أخرى لا توجد لها أية أدلة من الكتاب ولا تقوم إلا على التقليد فقط ، وحكم العادة يوفر لنا دليل السابقة .

ولكي نفسر هذا الأمر باختصار نبدأ بالمعمودية : فعندما نقترب من النزول في الماء في محضر من الجماعة وتحت يد الرئيس نعترف رسمياً أننا نجحد الشيطان وكل كبريائه وملائكته ، وعندئذ نغطس في الماء ثلاث مرات، وبذلك يصير تعهدنا أكثر مما نص عنه الرب في الإنجيل. وعندما نخرج يُذيقوننا عسلاً بلبن، ونمتنع من ذلك اليوم عن الإستحمام اليومي لمدة أسبوع . وقبل انبثاق الفجر في وسط الجماعة نتناول من يد الرئيس (الأسقف) سر الإفخارستيا مع أن الرب قد أمر أن تؤكل في وقت العشاء و يأكلها الكل سواء .

وعندما تأتى الذكرى السنوية (للأموات) نوزع التقدمات عن الأموات كما يليق بيوم الميلاد ( الحقيقي). وكذلك نعتبر أن الصوم وإحناء الركب أثناء العبادة في يوم الرب أمر ممنوع وغير قانوني. على أن هذا الإمتياز عينه يسري أيضاً في كل أيام  الخمسين من بعد الفصح حتى يوم حلول الروح القدس.

ونحن نحترس جداً ونتألم إذا سقط من أيدينا أي جزء من الخبز أو الخمر على الأرض عند التناول

وفي كل خطوة تخطوها للأمام وكل خروج ودخول ، وعندما نلبس ملابسنا وأحـذيـتـنـا ، وعندما نستحم ، وعندما نجلس على المائدة، وعندما نشعل المصابيح، وعـنـدمـا نـسـتـلقي على الفراش أو على المقعد ومع كل أعمال النهار العادية، نرشم علامة الصليب على جبهتنا.

فإذا صممت على أن تحصل على الدليل الكتابي لهذه الأعمال وغيرها، فلن تجد شيئاً .

فالتقليد يقوم لك كمصدر لها جميعاً، والعادة تقوم مقام الموثق، والإيمان کشاهد.

وكون المنطق العقلي يسند التقليد ويسند العادة و يسند الإيمان، فهذا إما تدركه أنت بنفسك وإما تلتجىء لآخر يكون له هذا المنطق ليعلمك فليفتكر هذا جميع الكاملين منا وإن افتكرتم شيئاً بخلافه فالله سيعلن لكم هذا أيضاً. وما قد أدركناه فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه ونفتكر ذلك عينه . » ( في 4: 15 و 16)

هذه الأمثلة كفيلة بأن تجعل موضوع التقليد غير المكتوب محققاً ومصدقاً، الذي تقوم حجته الآن على العادة المسلمة وطول الممارسة.]

كان التقليد في الكنيسة الأولى هو بالدرجة الأولى، عنصراً توضيحياً للإيمان والطريق الرسولي المؤتمن لشرح وتفسير مواضيع الإيمان الواردة في الأسفار.

فالكتاب المقدس بعهديه كان لا يمكن الدخول إلى معانيه ومقاصد الله فيه إلا على ضوه التقليد الرسولي الحي وإبراز القرائن والأدلة المسلمة من الرسل. لذلك كانت الأسفار تصنع مع التقليد الرسولي وحدة متكاملة هي أساس الوجود المسيحي الذي لا زلنا نعيشه حتى اليوم.
ولم يكن من خصائص التقليد قط أن يضيف شيئاً على الإيمان المعلن في الأسفار المقدسة، وإنما كان من أهم خصائصه تقديم الأدلة والقرائن القوية الحية من سيرة الرسل وأعمالهم وأقوالهم وتعاليمهم المسلمة بالتقليد لإبراز الحقائق الإيمانية وشرح وتوضيح الإستعلانات الإلهية وقبولها .

فالتقليد لم يكن أبداً مجرد نقل وتسليم أعمال وتعاليم وأقوال موروثة ، بل هو امتداد الحياة إيمان عبر الأجيال الحية وليس عبر الزمان الميت. ومن هذا أصبح الكتاب المقدس ليس مجرد تعاليم أو آيات نقتبسها منفصلة لتدلل بها على فكرة أو رأي خاص، وإنما الكتاب المقدس من خلال التقليد المقدس أصبح هو بالتالي أيضاً حياة، أما بدون التقليد المقدس فلا يمكن أن يصبح الكتاب المقدس حياة بل علماً ومعرفة ومحاجاة ونزاعاً.

حينما يتدخل التقليد و يشرح الكتاب المقدس، يدعمه بالحياة المستمدة من الرسل والمسيح التي عاشت عليها الأجيال المتعاقبة بمقتضى هذا التقليد ولا زالت تعيش!

ولذلك فإن الشرح الحقيقي للكتاب المقدس لا يكون إلا بتقديمه كحياة حسب
الإيمان الحق، أو بمعنى آخر هو التقليد المسلم إلينا. والشرح الحقيقي للكتاب المقدس لا يمكن أن يكون حقيقياً إلا إذا كان حياً مستمداً من حياة سابقة – آباء عن آباء ـ مستمدة من الرسل والمسيح، وهذا لا يمكن ولن يكون إلا من خلال الكنيسة و بواسطتها. 

والمعنى الصحيح لأي آية في الكتاب المقدس هو جزء لا يتجزأ من الآية، أما صحة المعنى لأي آية فهو يلتزم بحدود الحياة الإيمانية بها التي عاشتها الكنيسة من أب لأب و يدخل مباشرة فيها !!

إذن، فالمحاجاة والنقاش والجدل والإقتباسات سواء من الكتاب المقدس أو التقليد أمر لا يكفي ولا يبني الإيمان المسيحي الصحيح، إذ لا بد من شرح الكتاب المقدس بالتقليد، وشرح التقليد بالحياة حسب أصول الإيمان، والتأكد من الحياة أنها مستلمة من داخل الكنيسة !

وأوضح مثل لذلك هو ما قدمه لنا القديس باسيليوس في محاجاته عن ألوهية الروح القدس مع بقايا الآريوسيين في بلاده. حيث يستخدم القديس باسيليوس التقليد الحي والممارس في الكنيسة لإثبات مساواة الروح القدس في المجد مع الآب والإبن حيث تعبير ( الهوموتيميا» هو بعينه عند القديس باسيليوس « الهومو أوسيوس» أي المساواة في الجوهر.

وهو يبتدىء نقاشه على أساس أن الفرائض والتعاليم المحفوظة في الكنيسة، بعضها حصلنا عليه كتابة ( الإنجيل)، وبعضها حصلنا عليه من ( التقليد) الرسولي الذي سلموه إلينا عن طريق الأسرار»، وكلاهما له نفس القوة في أمور العبادة.

والقديس باسيليوس لا يفصل بين الإنجيل والتقليد ولكن يجمع بين ما تسلّم شفاهاً وما تسلّم عن طريق القلم.

والقديس باسيليوس يحدد بدقة كلمة عقيدة Dogma في التقليد الشفاهي بأنه ما قد استقر في مذهب الكنيسة من عوائد وفرائض وممارسات إيمانية سرية غير مدونة . وهذه تشمل في الواقع قوام الحياة السرائرية والمواصفات القانونية للخدمات الليتورجية بكافة دقائقها التي لم يكن يعرفها إلا الأخصاء الممارسون لها فقط . وهذا المعنى يخالف قليلاً المعنى الحديث لكلمة dogma الآن.

كما يقصد القديس باسيليوس بكلمة «تعاليم وعظية» Kerygmata في التقليد الشفاهي التعاليم الرسمية المضبوطة ذات السلطان الكنسي فيما يختص بشرح وتحديد وإعلان أمور الإيمان عامة وعلنياً بصورة وعظ أو دفاع عن الإيمان .

كما يقصد القديس باسيليوس بكلمة عن طريق الأسرار استلامنا هذه التعاليم والعقيدة ليس بطريق الكتابة إنما في صورة طقوس وممارسات ليتورجية وعادات خاصة كنسية، حيث « العادة هنا تشير إلى تسليم أمور الإيمان عملياً كفريضة حية دائمة .

  • «حيث جرت العادة أن تكون صلاة.» (أع 16: 13)
  • «فليس لنا نحن عادة مثل هذه ولا لكنائس الله.» (1کو 11: 16)
  • «و يسوع,, كعادته ،، كان أيضاً يعلمهم.» (مر10: 1)

ويركز القديس باسيليوس في محاجاته على طقوس وممارسات وعادات سري الـعـمـاد والإفـخـارسـتـيـا بنوع مخصوص بصفتها من التسليمات الرسولية التي تحوي دقائق الإيمان : « وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم» (1كو 11: 2). «لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي … وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها» (1كو 11: 23-34)، «وما تعلمتموه، وتسلمتموه، وسمعتموه، ورأيتموه في فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم.» ( في 4: 9)

وقد جمع القديس بولس الرسول كل وسائل التقليد الشفاهي بهذه الأفعال الأربعة : تعلمتموه، تسلمتموه، سمعتموه، رأيتموه ؛ ثم الإستجابة لهذه الأفعال الأربعة في كلمة «هذا افعلوه» !!

وفي دفاع القديس باسيليوس عن التقليد كحارس أمين لدقائق الإيمان يشدد على أهمية الممارسات التقليدية بصفتها تسجيلاً حياً للعقيدة ، يقول : فإذا حاولنا أن نرفض هذه العوائد بحجة أنه لا يوجد ما يدعمها كتابة أو على أساس أنها ذات أهمية بسيطة، فنحن دون أن ندري نسيء إلى الإنجيل في صميم حيويته حيث يصبح ترديدنا العام لمنطوق الإيمان مجرد جمل وكلمات.] 

ثم يعود القديس باسيليوس يقدم أمثلة من حياتنا اليومية في ممارستنا للعبادة مأخوذة بالتقليد وليس هناك ما يدعمها من نصوص الإنجيل : وعلى سبيل المثال نأخذ أول الأعمال وأكثرها عمومية وهو رسم إشارة الصليب، فمن الذي علمنا بالكتابة أن نمارسه نحن الذين آمنا باسم يسوع المسيح ربنا ؟ وما هي الكتابة التي تُعلمنا أن نتجه ناحية الشرق في الصلاة؟ ومَنْ مِنْ القديسين كتب لنا الكلمات التي نستدعي بها الروح القدس على خبز الشكر وكأس البركة ؟ وهكذا يظهر أننا لم نكتف بما دونه الإنجيل والرسل في ذلك، فأضفنا كلمات على ما كتبه الإنجيل والرسل وهي كلمات في غاية الأهمية لإجراء السر. وهذه الكلمات استقيناها من مصادر غير مكتوبة.

وأيضاً نحـن نـقدس ماء المعمودية وزيت المسحة وأيضاً نقدس الموعوظ المزمع تعميده، فبأي سلطة كتابية نمارس هذه الأعمال؟ أليس هو سلطان التقليد الذي يبدو صامتاً وسرياً؟

نعم وأيضاً ما هي الكلمات المكتوبة التي تعلمنا كيف نمارس مسحة الزيت المقدس، ومن أين استقينا عادة التعميد ( بالتغطيس) ثلاث مرات ؟ و بخصوص بـقـيـة عـوايـد العماد ما هي الأسفار التي تُعلمنا جحد الشيطان وملائكته ؟ أليست هذه كلها قد انحدرت إلينا من التعاليم السرية غير المكتوبة التي حفظها آباؤنا في صمت بعيداً عن متناول الفضوليين والمتقصّين وراء المستغربات ؟]

فرائض العقيدة والتعاليم الوعظية هما شيئان متميزان، فالفرائض تراعى في صمت ولكن التعاليم يمكن أن تذاع على كل العالم.] 

«التعليم السري» طريقة تسليم التقليد : Disciplina Arcani

وهو اصطلاح جاري في البحوث الآبائية ويوضح القديس باسيليوس أن الـتـقـلـيـد ظل بدون أية كتابة في الكنيسة، وذلك عن قصد حتى لا يصل إلى أيدي الفضوليين والذين يستقصون وراء كل أمر غريب وبذلك ظلت جميع الممارسات الخاصة بالأسرار والليتورجيا وشروط الصلاة ومواصفات الخدمة في طقوسها داخل الكنيسة لا تسلّم إلا للذين تقبلوا سر الإيمان أو سر الإستنارة أي المعمدين ، وذلك عن طريق التلقين الشفاهي فقط، أما كيفية ممارسة الأسرار فحفظت في طي السرية الكاملة ولا تسلّم إلا للكهنة فقط.

فقانون الإيمان مثلاً، وهو معتبر من أهم أسرار التقليد، كان لا يُسمح للموعوظ معرفته أو حفظه إلا بعد نجاحه في كافة الإجراءات اللازمة لقبوله العماد وقيد أسمه . وكان الأسقف يلقنه له أمام المعمودية كلمة كلمة، وكان على المعمد أن يردده بعد ذلك من الذاكرة، فلم يكن يُسمح له إطلاقاً أن يكتبه على ورقة أو يلقنه لأحد آخر، إنما ينقشه في قلبه فقط .
 
وفي هذا يعلم القديس كيرلس الأورشليمي المعمد الحديث قائلاً:
[ إذا سألك موعوظ (أي لم يصر بعد مؤمناً): ماذا يقول لك المعلمون ( في الكنيسة )؟ فلا تخبره ، ولا أحداً من الخارج، بشيء قط . لأننا إنما نسلّمك الآن سراً» الذي هو رجاء الحياة الآتية .
أحرس السر من أجل هيبة الله الذي يعطي الجزاء ولا تسمح لأحد قط يقول : ماذا يضيرك إذا عرفتُ أنا أيضاً هذا – لأن الموعوظ إذا سمعه لا يفهمه ويحسبه عثرة و يتهكم عليه، والمؤمن إذا باح به يُدان كخائن وها أنت الآن واقف على حافة الأمان فاحترس! وصل حتى لا يفلت منك قول في الخارج، ليس لأن ما تقوله مُخز أو لا يستحق القول، ولكن لأن أذن السامع – في الخارج – لا تستحق قبوله. فأنت كنت موعوظاً سابقاً ولم تخبرك بما عُلَّمته الآن وما هو حادث أمامك. والآن إذ قد أدركت بالإختبار مقدار سموه هذه التعاليم فأنت ستدرك أن الموعوظين لا يليقون لسماعها.] 
 

وكذلك يعلم القديس كيرلس في هذا الموضوع قائلاً :
[هذه الأسرار التي تشرحها الكنيسة الآن لكم، أنتم الذين عبرتم مرحلة الموعوظين، فليكن في علمكم أن ليس للكنيسة عادة أن تشرحها للوثنيين، فالوثني لا يليق أن نخبره أو نشرح له الأسرار المختصة بالآب والابن والروح القدس. وحتى أمام الموعوظين لا ينبغي أن نتكلم عن الأسرار علانية، ففي مثل هذه المواضيع نتكلم بطريقة مستورة حتى لا يفهم إلا المؤمنون فقط، أما الذين ليست لهم دراية فلا ينالهم عثرة.]

و يوضح هذه الحقيقة في الغرب أيضاً كل من القديس أغسطينوس والمؤرخ روفينوس مشددين أنه لا ينبغي حتى كتابة قانون الإيمان على الورق. ولأجل هذا نجد أن المؤرخ سوزومين يمتنع عن تسجيل قانون الإيمان النيقاوي في كتابه، مشيراً أنه قاصر فقط على المستنيرين (المؤمنين ) وعلى الذين تقبلوا سر المسحة في العماد إذ هم وحدهم لهم الحق أن يقولوه أو يسمعوه.]

والقديس باسيليوس يعود فيقرر مرة أخرى أن هذه الممارسات السرية بقوانينها المحفوظة واصطلاحاتها ليست شيئاً جديداً على نصوص الإيمان التي في الأسفار المقدسة، غير أنها تضع هذه النصوص في بؤرة القوة والحركة !

وقد استعان القديس باسيليوس في التحقيق اللاهوتى الذي أجراه عن الروح القدس بالتقليد غير المكتوب الممارس عملياً في المعمودية بصفته دعامة الإيمان الحي في الكنيسة موضحاً أنه بدون هذا الإيمان الممارس عملياً يمتنع فهم حقيقة قصد الأسفار المقدسة. ليس كأن التقليد الشفاهي شهادة أخرى غير الإنجيل، ولكنه شهادة حية. فالإنجيل يبقى بعد التقليد المعيار الأعلى للتعليم، ولكن الإنجيل لا يمكن أن يعطينا مواصفات كاملة لممارسة الأسرار المسلمة إلينا بل التقليد.

كذلك لا غنى إطلاقاً عن الأسرار العملية لفهم الإنجيل، كما يقول القديس باسيليوس، فالكتاب المقدس سر بحد ذاته «سر تدبير الله لخلاص الإنسان»، وهو سر عميق لا يستقصى، لذلك فالكتاب المقدس كتاب ملهم بكافة أسفاره، هو كتاب مكتوب بوحي الروح القدس. لذلك أصبح من الضرورة الحتمية لكي يكون شرحه وفهمه حسب القصد الذي فيه ، أن يكون بالروح أيضاً وبالإلهام أي يحتاج إلى موهبة للتمييز والإستنارة: [ لأن وزن الكلمات والحكم عليها ينبغي أن يستعد له الإنسان بنفس الإستعداد الذي جازه المؤلف وإني أرى أن نطق الروح القدس هناك استحالة لفحص أعماق مقاصده من كلمته إلا للذين عندهم الروح الذي يهبهم الفهم والتمييز.]

أما الروح فيعطى في الأسرار التي تقدمها الكنيسة؛ أي أن الكتاب المقدس ينبغي أن يُقرأ في نور الإيمان ومن داخل الجماعة المؤمنة التي يخاطبها الروح، أي من داخل الكنيسة .

لهذا، فإن القديس باسيليوس يرى أن التقليد بصفته قانوناً حياً للإيمان ممتداً عبر الكنيسة كلها يعتبر مرشداً ورفيقاً لا يُجارَى في فهم وفحص الكتاب المقدس.

وهكذا يسير القديس باسيليوس على نفس خطوات القديس إير ينيئوس والقديس أثناسيوس الرسولي ، و يشترك معه في ذلك أيضاً القديس أغسطينوس والقديس چيروم بكل إخلاص. 

وهكذا يستحيل فصل الأسفار المقدسة عن الكنيسة [ لأن في الكنيسة قد تجمع كل الحق عبر الرسل.] القديس إير ينيئوس

والحقيقة إن الكتب المقدسة هي الوديعة العظمى المسلمة من الرسل، والكنيسة أيضاً . هي الوديعة العظمى المسلمة من المسيح !! [ خارج الكنيسة لا يوجد إنجيل إلهي.] .جيروم . ولكن يوجد بديل بشري واجتهاد وذكاء.

ونفس هذا الكلام يقوله أيضاً القديس أغسطينوس بفم المؤمن البسيط : [ فأنا لا أؤمن بالإنجيل إلا كما يوجهه سلطان الكنيسة.]

وهذا يعني أنه ليس على المؤمن البسيط إلا أن يقبل الإنجيل كما تعلمه الكنيسة وحسب تفسيرها، كما أن عليه بالأكثر أن يلتجىء إلى الكنيسة إذا أعثر في شيء أو دخل في مواجهة مع الخارجين عن الإيمان ، لأن من الكنيسة استلم الإنجيل و بالكنيسة يفهمه.

الكنيسة لا تحتكر الإنجيل، ولكن تحتفظ بفهمه، كما علمه الرسل وحسب الروح القدس !

التقليد الكنسي مصدر حياة : القديس أثناسيوس الرسولي في خطابه إلى القديس سيرابيون يقول : [حسب الإيمان الرسولي المسلَّم إلينا بالتقليد من الآباء قدمت هذا التقليد دون أن أستحدث عليه شيئاً خارجياً من نفسي. فما تعلمته هو ما كتبته مطابقاً للأسفار المقدسة.]

والإنجيل هو بمثابة عقل الكنيسة والتقليد حياتها ، فالإثنان معاً هما لها مصدر الحق والحياة، فيما يختص بالإستعلان الإلهي الذي سجلته الأسفار المقدسة .

أما نسبة الأسفار المقدسة للتقليد فهي كنسبة الحق إلى معناه، أو كنسبة الإستعلان الإلهي وقبوله ، أو كنسبة الإيمان الحي والحياة به .

الكنيسة تقوم وتبنى على الأسفار المقدسة، ولكنها غير مستعبدة أو مقتولة للحرف منه ، بل حية بروح الكلمة فيه، لأنها تستمد معرفتها وحياتها من المسيح الذي هو هو الكلمة !

الكنيسة تفهم الإيمان الحي بالكتاب المقدس ولكنها تحيا الإيمان بالتقليد!

والإيمان والحياة وحدة واحدة متداخلة لا يمكن تجزئتها.

إن أول حركة للحياة أو أقل علامة على أن الإنسان قد أصبح حياً بالإيمان الله أو حياً بالمسيح أو حياً بالإنجيل، يستلمها الإنسان من داخل المعمودية!!

إن أول قطرة يشربها وأول لقمة يتناولها الإنسان من شراب الحياة السمائي أو خبز الحياة السمائي لقوام الحياة الإلهية الجديدة في الإنسان، يتناولها من داخل الإفخارستيا !!

إن أول اعتراف علني بالإيمان الحي الذي هو بمثابة نبضة الحياة الإلهية الأولى في الإنسان، يتممه الإنسان في المعمودية و يكمله في الإفخارستيا !!

إن أول عمل ينبثق عن الحياة الجديدة هو الصلاة والتسبيح باسم الثالوث = الذوكصا .

وبهذا تبرز معالم التقاليد الأصيلة كجواب حيا لسؤال الإنجيل !! فالإنجيل يسأل: هل أنت مؤمن ؟ – والمعمودية والإفخارستيا هي الإجابة .

والإنجيل يسأل: هل أنت حي ؟ – والصلاة والتسبيح للثالوث هما الإجابة !

بالمعمودية عُرف أول قانون للإيمان في الكنيسة كلها حينما كان يعلن المعمد إيمانه بالثالوث المقدس. وبالإفخارستيا عُرفت أول شهادة بموت الرب وآلامه وقيامته، وكشف لأول مرة سر الفداء بكل معناه ومبناه، و بالإجتماع للعبادة والصلوات والتسابيح عُرف العهد الجديد وظهر ككتاب للحياة الأبدية، حيث كان يقرأ الكتاب أولاً للتعبير عن العبادة وكصلاة وتسبيح وحياة !!

القديس أثناسيوس يكشف بغاية الوضوح أن أساس الكنيسة يتوقف على ممارسة قانون الإيمان عملياً في المعمودية حسب التقليد المسلم للرسل من الرب نفسه، وهو في إحدى رسائله عن الروح القدس يقول :
[لقد أمر الرب الرسل أن يضعوا هذا الأساس للكنيسة قائلاً لهم عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس… وهكذا ذهـب الـرسـل وعـمـلـوا وهكذا علموا.]

فإن كانت الكنيسة بجملتها هي «عمود الحق وقاعدته » ، كما يقول القديس بولس الرسول ، بما تحويه من أسرار الحياة الأبدية، فإن أساس الكنيسة الأول الذي سلمه الرب للتلاميذ وقامت عليه الكنيسة بالفعل منذ البدء هو «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس الذي يقول عنه القديس أثناسيوس الرسولي في إحدى رسائله للقديس الأسقف سيرابيون تلميذ أنبا أنطونيوس) : [ وعلينا أن نعتبر جداً هذا التقليد الذي هو تعليم وإيمان الكنيسة الجامعة الذي منذ البدء، الذي أعطاه الرب، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، والذي عليه تأسست الكنيسة وقامت.] 

وهنا يتضح أن تعليم الرسل، الذي هو التقليد في جملته، يُبنى أصلاً على «قانون الإيمان»، وقانون الإيمان الأول الذي انبثق منه كافة التعريفات الإيمانية على مدى العصور والمجامع هو «قانون إيمان المعمودية» الذي لا يمكن أن يأخذ قيمته إلا أثناء العماد بالنطق القلبي والعلني.

وكأنما الإنجيل كله يتوقف على قانون الإيمان، وقانون الإيمان لا يكون حياً صحيحاً إلا في المعمودية. ومن هنا يسطع التقليد كنور وهاج يضيء الإنجيل كله.

وأما في سر الإفخارستيا، فيجد قانون الإيمان – الذي نطق به في العماد – تعبيره العملي، فإن كان الإنسان يولد بالإيمان في المعمودية ، فهو يحيا بمقتضى هذا الإيمان في الإفخارستيا و يكرز به يوماً بعد يوم بشهادة واعتراف: «كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموتى وتعترفون بقيامتي وتذكرونني إلى أن أجيء: » (القداس الإلهي)

ومن هذه الأفعال الثلاثة «تبشرون» و «تعترفون» و«تذكرون » المختصة بحقائق الموت والقيامة والمجيء الثاني للرب تقوم أركان قانون الإيمان الكامل الذي شرحه مجمع نيقية وما بعده. أي أن ليتورجية الإفخارستيا وبقية الأسرار هي في الواقع، التي حددت معالم قـانـون الإيمان الذي تؤمن به الكنيسة وتعيش عليه وتكرز به.

إذن، فخدمة العماد مع ليتورجية الإفخارستيا اللتان تكونان معاً قلب التقليد الرسولي، هما التحقيق العملي لقانون الإيمان أو بتعبير حقيقي، هما الإنجيل نفسه حياً ومعاشاً .

كذلك نجد أن خدمة هذه الأسرار المقدسة داخل الكنيسة هي هي العبادة، وهي مصدر الصلاة والتسبيح والشكر كل يوم وفي كل زمان ومكان .

حي للإيمان فالعبادة بالصلاة والشكر والتسبيح هي بدورها أيضاً استعلان . القلبي، أو هي المظهر الحي الجوهر قانون الإيمان الذي تقبلناه في المعمودية وعشناه في الإفخارستيا .

ومن داخل العبادة والصلاة والشكر والتسبيح داخل الكنيسة يبرز الإنجيل و بقية أسفار العهد القديم، كدليل للعبادة ومادة للصلاة والشكر وأداة للتسبيح !!

فالإنجيل ذاع أول ما ذاع عن طريق القراءة ( قداس الموعوظين = قداس الكلمة) كعبادة تلازم خدمة الأسرار ـــ أي من داخل التقليد.

ولا يزال الإنجيل يحتاج إلى كنيسة حارة في عبادتها حتى يُسمع جيداً بالصلاة، كما يحتاج إلى أسرار فعالة لكي يُعاش كقوة تلازم الإنسان وتقوم خطواته . « وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه وبه أيضاً تخلصون . » (1کو 15: 1 و 2)

المضمون العام للتقليد الكنسي

كتب القمص متى المسكين

التطورات التي مر بها التقليد التعليمي

كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى