التعليم عن المعمودية في رسائل بولس الرسول
من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية
للأب متى المسكين
الفصل الثاني
الجزء التقليدي
أ – المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال والرسائل
5 – التعليم عن المعمودية في رسائل بولس الرسول
+ » جسدٌ واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ، كما دعيتم أيضاً في رجاءِ دعوتكم الواحد. ربٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ، إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكلِّ، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم. «(أف 4: 4-6)
الآيات الواضحة عن المعمودية في رسائل بولس الرسول – بالرغم من أنها مملوءة نفائس – إلاَّ أنها قليلة في العدد. وهذا لا يثير عجبنا إذا التفتنا إلى الغاية التي من أجلها كُتبت هذه الرسائل.
والمعروف عن بولس الرسول أن أهمية العقائد عنده لا تُقاس بعدد المرَّات التي يذكرها، فالمعمودية عقيدة أساسية عنده على الرغم من أنه قليلاً ما يذكرها. وربما كان لقوله إن الله قد أرسله ليُبشِّر وليس ليُعمِّد دخل في هذا الأمر. إنها حقيقة معروفة أن ق. بولس في الرسائل حتى الكبرى منها والأساسية لا يُقدِّم تعليماً منهجياً للاهوت المسيحي، حتى في رسالتَيْ رومية أو أفسس.
فبينما نجد أن التوبة والمعمودية يردان بكثرة في تعاليم الأناجيل المتناظرة وفي سفر الأعمال، ولكن لأن الذين كان يخاطبهم بولس الرسول كانوا قد أكملوا توبتهم ومعموديتهم، لذلك نجده نادراً جدًّا ما يذكر لهم التوبة (ذكر اسم التوبة 3 مرات والفعل مرَّة واحدة فقط). وبالمقارنة بذلك يكون ذكره للمعمودية ليس بقليل إذ أنه ذكر اسم المعمودية 3 مرَّات وأمَّا الفعل “يُعمِّد” فقد ذكره أكثر من 13 مرَّة!
وعند القديس بولس تأخذ المعمودية عملاً له أهمية تاريخية في حياة الإنسان، فهو كثيراً ما يرجع بالمؤمنين إلى زمن معموديتهم وكيفية التحامهم واتحادهم في جسد المسيح.
ولكي نسهِّل البحث في الموضوع نُقسِّم المعمودية عند ق. بولس إلى ثلاثة أقسام:
( أ ) أربعة نصوص ذكر فيها المعمودية في الرسالة الأُولى لأهل كورنثوس.
(ب) ثلاثة نصوص من الرسائل الأخرى وفيها تعرَّض لمعنى المعمودية بأكثر تفصيل.
( ج ) نصَّان في الرسالة إلى أفسس.
( د ) ثلاثة نصوص أخرى استخدم فيها الفعل يختم sfrag…zomai مشيراً به إلى المعمودية.
( أ ) التعاليم الواردة في الرسالة الأُولى إلى أهل كورنثوس عن المعمودية:
(1كو 1: 13–17):
+ » هل انقسم المسيح؟ ألعلَّ بولس صُلب لأجلكم، أم باسم بولس اعتمدتم؟ أشكر الله أني لم أُعمِّد أحداً منكم إلاَّ كريسبس وغايس، حتى لا يقول أحدٌ إني عمَّدت باسمي. وعمَّدت أيضاً بيت استفانوس. عدا ذلك لست أعلم هل عمَّدتُ أحداً آخر، لأن المسيح لم يُرسلني لأُعمِّد بل لأُبشِّر، لا بحكمة كلام لئلاَّ يتعطَّل صليب المسيح «
القديس بولس الرسول كان قد عَلِمَ بأن هناك مشاجرة في كنيسة كورنثوس بين قادة مسيحيين انقسموا، بعضهم تشايع لبولس والآخر تشايع لأبُولُّس وآخرون إلى كيفا أي بطرس. لهذا خصَّص بولس الرسول الجزء الأول من رسالته لفض هذه المشاجرة. ولكنه أثار موضوعاً هاماً يخصنا جدًّا وهو كيف يتشايعون لاسمه؟ هل صُلب بولس من أجلهم حتى يستخدموا اسمه وكأنهم اعتمدوا لاسم بولس وليس لاسم المسيح؟ هنا يثير ق. بولس اختراع صلة الذين يعتمدون بالذي يُعمِّدهم، كما ذكر العالِم موفات([1]) أن في بعض طقوس غير المسيحيين يُكرِّم المعتمد الذي عمَّده كأب.
هذا مما أرعب بولس الرسول أن ينحرف أهل كورنثوس في تعليم المعمودية وفي أخطر عناصرها، وهو أن المعمودية هي باسم يسوع المسيح، هذا جعل ق. بولس يصرخ: » المسيح لم يرسلني لأُعمِّد بل لأبشِّر بالإنجيل « فعمله هو الإنجيل أساساً كرسول. والتركيز هنا على أن المسيحية قائمة على اسم المسيح وليس اسم آخر … به ينبغي أن نخلص (أع 12:4)، والمعمودية لا تصح ولا تجوز إلاَّ إذا كانت بدعاء اسم يسوع المسيح.
وفي الحال الحادث هنا لمَّا انقسم القوم بين المتشيعين لبولس ولأبُولُّس ولصفا صارت هذه الأسماء طاغية على العبادة والطقس.
(1كو 6: 9–11):
بولس الرسول يذكر هنا العماد باسم الثالوث الأقدس:
+ » أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله: لا تضلوا، لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طمَّاعون ولا سكِّيرون ولا شتَّامون ولا خطَّافون يرثون ملكوت الله. وهكذا كان أُناس منكم؛ لكن اغتسلتم بل تقدَّستم
بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا «
هذا موضع من المواضع التي بلغ فيها بولس الرسول الحسم القاطع بين أخلاق الحياة القديمة والحياة الجديدة. وهو هنا يضغط بشدَّة لدعوى أخلاقية مذكِّراً القرَّاء أن الإنسان المسيحي إنسان قد تعمَّد!! ويذكر هنا مجموعة من القبائح والشذوذ التي كان يمارسها غير المسيحيين والتي كان يُقشعرّ منها حتى في عين الوثنيين، والتي كان يمارسها بعضهم. ولكن الآن كل هذا انتهى، فالأمور تغيَّرت جدًّا حينما صاروا مسيحيين:
( أ ) لقد اغتسلتم ¢peloÚsasqe : وذلك بمياه المعمودية. وهي تعني الاغتسال من الخطية.
(ب) بل تقدَّستم: أي تكرَّستم لخدمة الله، إذ قد صاروا أبراراً في عين الله. بمعنى أن المسيحي الذي يعيش عيشة لا أخلاقية فهو ينكر معموديته.
وملاحظتنا على هذا المثل هي:
1 – أنه يذكر العماد باسم الرب يسوع، ويذكر روح إلهنا باهتمام كأحد مفاعيل المعمودية والغسيل والتقديس والتبرير.
2 – يربط المعمودية بالتبرير والتقديس (ع 11) وهما من مدركات ق. بولس العظمى عن عمل الصليب.
3 – يذكر ميراث الملكوت (ع 10).
4 – يذكر أن الله قد أقام الرب وسيقيمنا نحن أيضاً بقوته (ع 14).
ق. بولس يقدِّم اعترافاً للمعمودية باسم الثالوث مبكِّراً جداً:
» اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا «(1كو 11:6)
هنا ثلاثة مفاعيل:
اغتسل، تقدَّس، تبرَّر
لثلاثة أسماء:
باسم الرب يسوع، وروح، إلهنا.
الاغتسال بالإيمان باسم الرب يسوع.
التقديس في الروح القدس.
التبرير أمام الله الآب.
وقد علَّق عليها ثيؤدوريت بقوله([2]):
tÍ g¦r ™pikl»sei tÁj ¡g…aj Tri£doj ¡gi£zetai tîn Ød£twn ¹ fàsij kaˆ corhge‹tai tîn ¡marthm£twn ¹ ¥fesij.
وترجمتها:
[لأنه باستدعاء الثالوث الأقدس، تتقدَّس طبيعة المياه، وتُمنح مغفرة الخطايا].
(1كو 10: 1–4):
+ » فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح «
هنا ق. بولس يمزج خبرة شعب إسرائيل القديم بشعب المسيح الجديد، والاثنان طبعاً هما شعب الله. فكما أن المسيحيين يعتمدون في المسيح، هكذا الآباء الأول القدامى اعتمدوا لموسى. وكما أن المسيحيين يشتركون في طعام وشراب على مائدة الرب في عشاء الرب بعد المعمودية، كذلك آباء إسرائيل أكلوا طعاماً وشراباً روحياً.
ولكن النتيجة أن بأكثرهم لم يُسرّ الله وهلكوا في القفر!!
هنا يستخدم ق. بولس هذا المثل وهذه الخبرة المؤلمة لتحذير شعب المسيح، إسرائيل الجديد! فطقوسهم لا تسعفهم أو تخلِّصهم من الهلاك. فالأسرار Sacraments ليست حماية لحياة منحلة آثمة، ولكن فقط إذا مورست بروح الله، فروح الله وحده هو الذي يحفظهم ويحميهم ويقودهم في الطريق الصحيح.
(1كو 12: 12و13):
+ » لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الوحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً. لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد، يهوداً كنَّا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سقينا روحاً واحداً «
هنا يذكر بولس الرسول في معرض ذكره للمعمودية عطايا روحية كمواهب التكلُّم بألسنة أو النبوَّة أو الشفاء، مما جعل بعض الأعضاء يتكبَّرون. هنا بدأ يمثِّل الكنيسة بجسد له أعضاء كثيرة ولكن الجسد واحد، لأنهم حينما اعتمدوا اتحدوا في جسد المسيح أي الكنيسة. هذا هو المعنى الحقيقي للمعمودية وهو من عمل الروح، ثمَّ قدَّم تعبيراً جديداً عن استقبال المعمودية في كياننا بأننا » سُقينا روحاً واحداً « بمعنى أنهم لمَّا اعتمدوا وانضموا إلى الكنيسة، وكان هذا هو انضمامهم الحقيقي لجسد المسيح كأعضاء بالمعمودية، كانت هذه العمليات الأولية كلها بفاعلية الروح الواحد.
والملاحظات الهامة في هذا المثل:
1 – أن المسيحيين يعتمدون «إلى جسد واحد»: هذا الاصطلاح وبمقتضى ما قاله في (عدد 12)، فالقديس بولس يعني في المسيح كما جاءت في (غل 27:3، رو 3:6).
2 – يقدِّم لنا المعمودية كسرِّ الوحدة: أي المعمودية هي الرمز أو المعيار الفعَّال الذي يجمع كل المسيحيين إلى واحد في المسيح. حيث تتلاشى كل المفارقات العنصرية والجنسية والاجتماعية.
3 – ونلاحظ أن من بين المواهب الروحية المذكورة في عدد ( 9): الإيمان.
(ب) التعاليم الواردة في الرسائل الأخرى:
(غل 3: 26-29):
+ » لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح (أو في المسيح e„j CristÒn) قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى. لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة «
1 – يضع ق. بولس هنا اصطلاحين في المعمودية في غاية الأهمية والعمق:
الأول: في المسيح e„j CristÒn: حينما يخلعون ثيابهم ويدخلون الماء عرايا يعتمدون في المسيح فيصيرون تبع المسيح.
الثـاني: يلبسون المسيح: حينما يخرجون من الماء يلبسون ثياباً جديدة بيضاء، هذا بمعنى أنهم يلبسون المسيح.
2 – يعطي ق. بولس هبة جديدة للمعمودية من خلال الإيمان: » لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع « هذه البنوَّة تبدأ بإعلان الآب من السماء لما انشقَّت السماء بعد خروج المسيح من الماء والإعلان عن البنوَّة الفائقة للمسيح، ثمَّ تسحَّبت على المعمَّدين باسم يسوع
المسيح إذ ينالون بالمثل، ولكن بالتبنِّي([3]) حالة بنوَّة لله إذ قبلوا المسيح بالإيمان واعتمدوا له. ولأن الحياة الجديدة في المسيح هي حياة حرَّة وهي عكس حياة عبد، فهي حياة ابن:
+ » ولكن لمَّا جاء ملءُ الزمان، أرسلَ الله ابنه مولوداً من امرأةٍ، مولوداً تحت الناموسِ، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني. ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ. إذاً لستَ بعدُ عبداً بل ابناً. وإن كنتَ ابناً فوارثٌ لله بالمسيح. «(غل 4: 4-7)
3 – هنا إرسال الله روح ابنه إلى قلوبنا هو عمل الآب في المعمودية، إذ يعطينا التبني على مثال ما أعلنه عن ابنه في المعمودية مثالاً لنا.
4 – يكشف لنا ق. بولس عن عطية جديدة مخفية في المعمودية، لأنه إن كنَّا في المعمودية نعتمد في المسيح ونصير أعضاءً في جسده، فقد صرنا بالتالي أبناءً معه وورثة، ورثة حسب الموعد لإبراهيم، وورثة بحسب التبني لله بآن. هنا تُحسب المعمودية سرًّا أخروياً بمعنى تحقيق ما هو آت، بميراث الحياة الأبدية. فالمعمودية باب التبنِّي والميراث. وقوله: “لبستم المسيح” بهذا الفعل السرِّي أي دخلنا في عمق حياة المسيح وأخذنا مخصَّصاته، يحتِّم أن نكون أبناءً وورثة معه، وأن نقبل الروح العامل في قلبه للشهادة بأبوة الله “يا أبا الآب”، فهي حياة بنويَّة تحت رضا الآب.
(رو 6: 1–8):
+ » فماذا نقول؟ أنبقَى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا! نحن الذين مُتنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أننا كل مَنِ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطَلَ جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي مات قد تبرَّأَ من الخطية. فإن كنا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه «
هنا يضغط بولس الرسول على الحياة الجديدة في المسيحية من زاوية جديدة. فهو يركِّز بوضوح على لحظة المعمودية باعتبارها تجمع كل ما تعنيه المسيحية، وكما ركَّز في رسالته إلى غلاطية
(26:3-29) على أنَّ من يعتمد يلبس المسيح، بلبسه الجديد بعد خروجه من الماء، هكذا يركِّز هنا على لحظة الانغمار تحت الماء أنها لحظة موت حقيقي بل ودفن (ثلاثة أيام بثلاث مرَّات مع المسيح).
فالمسيحي في لحظة العماد والانغمار تحت الماء يمارس بالإيمان حالة شركة حقيقية في موت المسيح. ولكن المسيح مات من أجل الخطية ليدوسها ويميتها بموته، هكذا نحن لمَّا متنا معه متنا بسبب الخطية كعقوبة قديمة حلَّت بآدم وذريَّته، وبالتالي متنا عن الخطية ومات الجسد العتيق تماماً كما مات المسيح ودفن في القبر ثلاثة أيام. هنا المعمودية تشمل حالة موت ¢peq£nomen، فكيف نعيش بعد في الخطية.
وبولس الرسول يستخدم هذه الحقيقة ردًّا على بدعة سرت في رومية يرد عليها في الأصحاح الخامس دون أن يُعلن مضمونها: أنه إن كنَّا قد حصلنا على نعمة، والنعمة شيء عظيم فلا تحسب معها الخطية بعد، بمعنى خاطئ: أن نبقى في الخطية. فردَّ عليهم: فماذا نقول؟ أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ أم تجهلون أننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته … كما جاء عاليه.
هنا يعطينا ق. بولس معياراً جديداً أو قياساً جديداً نقيس به المعمودية، وهو التطبيق العملي لِما تمَّ للرب يسوع على الصليب وفي القبر. فإذا نحن آمنا تماماً أننا متنا مع المسيح ودفنا معه، لأن المسيح يحملنا في جسده وقد حمل خطايانا في جسده على الخشبة ومات فمتنا معه، فبهذا الإيمان نحن ننزل إلى ماء المعمودية ونُدفن فيه تحقيقاً سريًّا واعترافاً إيمانياً لما تمَّ بالفعل على الصليب وفي القبر. لذلك حُسبت المعمودية: أننا «اعتمدنا في المسيح»، و«اعتمدنا لموته»، و«دُفنَّا معه»، و«قمنا معه» » كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب « وبناء على ذلك نسلك نحن أيضاً كبني قيامة في جدَّة الحياة.
لأنه بحسب محاجاة ق. بولس: » لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه (مثال) موته، نصير أيضاً بقيامته « وحجة ق. بولس في هذا أنه بموت المسيح أمات الخطية وأبطلها بقيامته ونحن فيه، في موته وقيامته. إذن، فنحن أيضاً قد متنا عن الخطية وأبطلناها بحياتنا الجديدة معه! بهذا أصبح القول بإمكانية الخطية في الحياة الجديدة باطلاً ومنافياً لواقع الإيمان والمعمودية التي نلنا فيها الحياة الجديدة.
وحجَّته الختامية في هذا: » أن الذي مات قد تبرَّأ من الخطية «بمعنى أنه بموته بالإيمان وبالمعمودية مع المسيح يكون قد دفع ثمن العقوبة القديمة، ويكون قد تبرَّأ أو صار بريئاً من دينونتها وفعلها.
ثمَّ يستطرد ق. بولس بعد ذلك في نفس الأصحاح ويقول: » فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن (بفاعلية سر المعمودية أيضاً) أننا سنحيا أيضاً معه، عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت
أيضاً «(رو 6: 8و9). بمعنى أنه يستحيل أن يحمل الخطية مجدَّداً ليموت بها! ويشرح ذلك أيضاً: » لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرَّة واحدة (الصليب) والحياة التي يحياها فيحياها لله «(رو 10:6). بمعنى أننا نحيا الآن مع المسيح لله وليس للخطية.
وفي موضع آخر في رسالة غلاطية (5: 24و25) يقول ق. بولس: » ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواءِ والشهواتِ. إن كنَّا نعيش بالروح، فلنسلك أيضاً بحسب الروح « وإن كان هذا النص لا يخص المعمودية ولكنه ينطبق على ما يقوله هنا في رسالة رومية في أمر المعمودية أننا متنا معه والآن نحيا معه بحياته!!
فقول ق. بولس في (غل 24:5): «الذين هم للمسيح» هو قائم على خلفية قوله: «إننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح» (رو 3:6)، وأيضاً قوله: » لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح «(غل 27:3). فخلفية ق. بولس حينما يتكلَّم عن علاقتنا بالمسيح هي خلفية المعمودية.
(كو 2: 9–13)
+ » فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًّا. وأنتم مملوؤون فيه، الذي هو رأس كل رياسةٍ وسلطانٍ. وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيدٍ، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح. مدفونين معه في المعمودية، التي فيها أُقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله، الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع الخطايا «
وأيضاً في هذا النص نجد الرباط يمتد بين المعمودية والحياة الجديدة للمسيحي. ففكر ق. بولس هنا يتماشى مع فكره الذي رأيناه في (رو 1:6-8)، حيث كان ق. بولس يقدِّم المعمودية المسيحية على أنها إعادة درامية فعلية لموت ودفن وقيامة المسيح. كذلك فكره هنا، حيث النتيجة العملية هي أن الله الذي أقام يسوع قادرٌ أن يقيمنا معه نحن الذين اعتمدنا في المسيح، ويعطينا القوة لنحيا حياة جديدة ذات أخلاق جديدة. هذه الحياة الجديدة ذات الأخلاق الجديدة التي للمؤمنين هي كامتداد لحياة المسيح الفادي القائم من الأموات.
ولكن هنا في رسالته إلى كولوسي ينبِّه ق. بولس ذهننا إلى ناحية أخرى وهي أن المعمودية تُحسب بمثابة ختانة اليهود، حيث كانت الختانة تعني ليس أكثر من إشارة مسبقة للمعمودية في العهد الجديد. حيث كانت الختانة هي قطع الجزء المنجس من الجسد، والمعمودية قطع أو موت الإنسان العتيق الفاسد. وقد أخذ إبراهيم الختان كعلامة للإيمان الذي آمن به بالله وكهبة له للتبرير
المجاني. وهكذا نأخذ المعمودية في المسيح هبة التبرير المجَّاني نتيجة أو مجازاة للإيمان الذي آمنا به بالمسيح.
وقبل الختان كان إبراهيم إنساناً عادياً، وبعد الختان صار باراً مؤمناً بالله بختم. وهكذا قبل المعمودية كان المسيحي رجلاً خاطئاً غير بار، وبعد المعمودية صار باراً بلا خطية. إبراهيم لم يعمل أي عمل، ولكنه آمن فتبرَّر وأخذ الختان علامة برِّ، والإنسان المسيحي لم يعمل أي عمل بل كان في الخطية، ولكنه آمن فتبرَّر وأخذ المعمودية ختم إيمان وبر.
ولكن العنصر المهم في المعمودية هو “الموت”، موت الإنسان العتيق الذي يتساوى مع الختان. وقول بولس الرسول هنا: » وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح « هنا عبَّر عن موت المعمودية الذي هو المثيل المتحد بموت المسيح بختان غير مصنوع باليد، حيث خلعنا الإنسان العتيق مع خلع المسيح جسد خطايا البشرية مع الصليب، الذي نرمز إليه بخلع الملابس عند النزول إلى المعمودية.
أمَّا ما هي ختانة المسيح؟ فهي موت الجسد الحامل للخطايا بالصليب والدفن وقيامة المسيح كإسرائيل الجديد مبرَّراً.
- ويضيف بولس الرسول معلومة جديدة أن الإيمان بعمل الله سواء في موت المسيح أو قيامته هو العامل الأساسي في إماتتنا نحن أيضاً مع المسيح وإقامتنا معه (12).
- كما يضيف بولس الرسول أن الآب أحيانا مع المسيح بعد أن كنا معتبرين أمواتاً بالخطايا ونجاسات الجسد (13).
- كما يضيف العامل الأول والأساسي في نوال بر الله وهو » مسامحاً لكم بجميع الخطايا « على أساس صليب ابنه: » هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. «(يو 16:3)
+ وهكذا حُسبت المعمودية عملية موازية للصليب والقيامة، وتضمَّنت مسامحة الله لنا من جميع الخطايا = «إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًّا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمِّراً إيَّاه بالصليب» (كو 14:2). فكما سمَّرت الخطية يدي المسيح ورجليه على الصليب، هكذا سمَّر الله سجل خطايانا كله ومحاه على الصليب. فالخطية أماتت المسيح على الصليب، ولكن على نفس الصليب أمات المسيح الخطية وأنهى على سلطانها.
( ج ) التعاليم الواردة في رسالة أفسس:
(أف 4:4–6)
+ » جسدٌ واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ، كما دعيتم أيضاً في رجاءِ دعوتكم الواحد. ربٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ، إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكلِّ، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم. «أولاً: أن يضع ق. بولس المعمودية الواحدة مع الإيمان والله الآب الواحد كتفاً بكتف شيء مذهل للعقل، يجعل الإنسان يفكر مائة مرَّة في قيمة المعمودية عند ق. بولس أولاً، ثمَّ قيمة المعمودية ماذا تكون عندنا.
ثانياً: والذي يثير العجب في هذا النص الفريد أنه لا يحوي الإفخارستيا، مع أن ق. بولس يقول في رسالة كورنثوس: » فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسدٌ واحد، لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد «(1كو 17:10). هكذا كنا نظن أنه يورد هذا هنا في هذا النص!
لم يورد نص (1كو 17:10) هنا في (أف 4:4-6) يجعلنا أكثر تأثراً.
لهذا إذا أخذنا نص (أف 4:4–6) بجزئياته نجد أنه لا يوجد أي نص آخر للمعمودية له مثل هذه القوة والبلاغة والاختصار في وصف وتقييم المعمودية ومعناها وهيبتها في العهد الجديد، بل وفي كل القرن الأول المسيحي.
فإذا بحثنا في ما كان السبب في إيراد هذا النص لهذه الجماعة، نجده أنه جاء كتعقيب لدعوته لهم: » أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها «
فضخامة النص الذي رفع من شأن المعمودية الواحدة هو ليقنع أهل أفسس بمدى خطورة وأهمية السلوك الذي يحق لهذه الدعوة أي المعمودية.
(أف 25:5–27)
+ » أيها الرجال، أحبُّوا نساءَكُم كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلِها، لكي يقدِّسها، مطهِّراً إِيَّاها بغسلِ الماءِ بالكلمةِ، لكي يُحضِرها لنفسه كنيسةً مجيدةً، لا دنَسَ فيها ولا غضنَ أو شيءٌ من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسةً وبلا عيبٍ «
القديس بولس أراد أن يصوِّر محبة المسيح للكنيسة (التي هي جسده) بمحبة الرجل لامرأته! لماذا؟ لأن المرأة أصلاً غريبة عن الرجل، فالحب الذي طرأ عليهما هو بالرغم من عدم وجود علاقة سابقة،
هذا الحب ظهر إلى الوجود بسبب رغبة الرجل للارتباط بالمرأة وإنجاب البنين منها، هذه هي علة حب الرجل للمرأة. ق. بولس يرى أن هذه العلَّة واردة بين المسيح والكنيسة، فالمسيح إله ولكنه تنازل وأخذ جنس المرأة (الكنيسة) وصار إنساناً ليناسبها، ثمَّ وجد أنه لكي يحبّها حبًّا صادقاً يؤدِّي فعلاً إلى وحدة واتحاد، التزم التزاماً أن يموت على الصليب من أجلها، وجرى دمه على الصليب وعلى جسده الذي احتوى البشرية، جسده الذي تجسَّد به والكنيسة منه وفيه، فقدَّس الجسد أي قدَّس الكنيسة. ووضع لها سر المعمودية بالماء والكلمة ليطهِّرها من كل دنس لتكون مقدَّسة وبلا عيب!
ونلاحظ ما يلي:
1 – أن ق. بولس قد أورد اصطلاحين: “أحب ºg£phsen”، والاصطلاح الآخر: “أسلم paršdwken”. فبالبحث عن هذين الاصطلاحين في أقوال ق. بولس وجدناهما يعبِّران عن محبة الله للقديس بولس نفسه:
+ » مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياهُ الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأَسلَمَ نفسه لأجلي. «(غل 20:2)
فالقديس بولس دون أن يدري سابقاً أعطى نفسه مثالاً فردياً لما عمله المسيح في الكنيسة ككل. ولكن أضاف في حب المسيح للكنيسة أنه أسلم نفسه لأجلها » لكي يقدِّسها مطهِّراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة «
2 – والمعنى في ذلك عميق وسامٍ سمو السماء، إذ أن هذا يعني أن المسيح لكي يدشِّن حبه الإلهي للكنيسة ويوثِّقه دشَّنه ووثَّقه بدم العهد!! وهذا منتهى التقديس الذي جعله في متناول يدها بالمعمودية التي عبَّر المسيح عنها سابقاً تعبيراً مأساوياً هكذا:
+ » ولي صبغة (أي معمودية) أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمل. «(لو 50:12)
وهنا حسناً أعطانا المترجم اسماً آخر للمعمودية وهو الصبغة والاصطباغ، فجعلت المعنى أقرب وأقوى، وأظهر فيها الدراما أي المأساة، إذ أن الصبغة تفيد هنا الدم كما تفيد المعمودية. فالمسيح عَبَرَ معمودية الصليب للموت فاصطبغ الجسد بالدم وقدَّسه تقديساً – وأسكن روحه فيه – إعداداً للموت وللنزول إلى القبر، تمكيناً للجسد (الكنيسة) الذي فيه روح الرب من القيامة بقيامته! جسداً روحانياً جديداً خليقة جديدة مبرَّرة ببر المسيح!
3 – نستفيد من هذا أن تسليم المسيح نفسه هو الذي أعطى المعمودية فعلها المؤثِّر الإلهي.
4 – هذا يفيد إفادة قاطعة أن أي إنسان مسيحي قد تعمَّد صحيحاً يكون وراءه موت المسيح.
5 – كذلك فإن وراء كل معمودية إنسان مسيحي حُب المسيح الذي ألزمه بتسليم نفسه بالآلام.
6 – هذا أوجب للمعمودية أن تكون سرًّا sacrament رهيباً.
7 – وهذا هو الذي أوجب على ق. بولس أن يقول: » إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته «(رو 3:6). وأيضاً: » مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه «(كو 12:2).
8 – هنا أيضاً أعطى ق. بولس للمعمودية سمة إلهية لا تُمحى، ورفع من سر الماء فيها بقوله: » لكي يقدِّسها مطهِّراً إيَّاها بغسل “الماء بالكلمة” « فالتطهير الذي يفعله ماء المعمودية يرجع أصلاً للكلمة الفاعل فيه وهو النطق الإلهي، الذي هو هو قوة الإيمان.
9 – وكنتيجة لحبه وتسليم نفسه للصليب بإرادته من أجلها، الذي أنشأ تقديساً لها، ثمَّ تطهيرها بغسل الماء بالكلمة، فإنه في النهاية يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة œndoxon، بهذا يكون قد أعطى للمعمودية بعداً أخروياً سيظهر في المجد.
10 – وبالنهاية لكي تكون بلا عيب، حيث الكلمة بلا عيب ¥mwmoj أو بلا لوم تعني بلوغها منتهى الاستحقاق أن تتقدَّم للوقوف أمام الله، كما جاء في رسالة أفسس (4:1):
+ » كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم ¢mèmouj قدامه في المحبة «
وكما جاءت أيضاً في الرسالة إلى كولوسي (1: 21و22):
+ » قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه «
( د ) النصوص التي تحتوي على الفعل “يختم”:
(2كو 1: 21و22):
+ » ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا «
(أف 13:1و14):
+ » الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم
بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدحِ مجدهِ «
(أف 30:4):
+ » ولا تُحزِنُوا روحَ الله القدوس الذي به خُتِمْتُم ليومِ الفداءِ «
في هذه التسجيلات توجد كلمة مشتركة وهي الفعل خَتَمَ sfrag…zomai ويقصد به بولس الرسول الختم الذي يناله المعمَّد باعتباره صار من رعية المسيح.
وقد ذكرها هرماس (الراعي) Sim., IX, vvi، كما ذُكرت أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني 2 Clem. 7.6; 8.6 – وقد استخدمها بولس الرسول في الرسالة إلى أهل رومية (11:4) للتعبير عن الختانة، باعتبار أن الختان هو ختم الإيمان عند إبراهيم. والكلمة متداولة في الكنيسة من القرن الثاني ومنذ ذلك التاريخ وهي تستعمل كرمز للمعمودية. ولكن بتاريخ سابق كانت تُستخدم للتعبير عن الختان، وانتقلت من التراث اليهودي إلى المسيحية الأُولى. والقديس بولس استخدمها لقربها من اصطلاح الختانة كختم الله، مما دعاه أن يعتبر المعمودية كنوع من الختانة المسيحية غير مصنوع باليد كما سبق وقال ذلك.
والذي يرجِّح بالأكثر أن المقصود بالختم عند بولس الرسول هو المعمودية، هي الكلمات الواردة مع النصوص، فمثلاً في (2كو 22:1) وردت كلمة المسحة وأيضاً عربون الروح وهي خاصة بالمعمودية، وأيضاً: “في المسيح”.
ومع أن المسحة في الأناجيل وسفر الأعمال قد جاءت فقط للتعبير عن حلول الروح على المسيح وقت العماد (أع 10: 37و38)، ولكن هنا يجيء القول: » الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله « ذلك لأن الذين اتحدوا في جسد المسيح هكذا أيضاً استلموا مسحته، كما عبَّر عنها القديس يوحنا في رسالته: » وأمَّا أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء «(1يو 20:2). وهذه أيضاً تزيد اليقين أن كلمة ختم في (2كو 1: 21و22) هي تعبير عن المعمودية.
أمَّا في النص الثاني (أف 1: 13و14): «الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدحِ مجدهِ».
فلكي نحدِّد الوارد هنا عن المعمودية يلزم أن ندرك أن الموضوع يبدأ من العدد (3)، ذاكراً أعمال
الله في الأزلية من الأعداد 3-14، والقصد هو الاختيار الأزلي للتبني، حيث يبدأ الكلام في العدد (3) ببركة الله لنا منذ الأزل (نحن المسيحيين) في المسيح، ثمَّ عدد (4) الله الآب اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم في المحبة، ثمَّ (5) التبني إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، ثمَّ (6) الفداء بموت المسيح، ثمَّ (7) غفران الخطايا، ثمَّ مدح مجده، وفي عدد (13) ختم الروح القدس إذ آمنتم، ثمَّ الميراث جاء في (11)، (14) كما جاء في النص عاليه.
والذي يلفت نظرنا هنا أن من عدد (13) يبدأ بذكر سماع الكلمة » كلمة الحق إنجيل خلاصكم « هذا يطابق ما جاء كثيراً في سفر الأعمال عن “سماع الكلمة والعماد”. وهكذا نرى هنا أن الختم بروح الموعد القدوس يأتي مباشرة نتيجة لسماع إنجيل خلاصكم، فهو يقابل المعمودية في سفر الأعمال.
بهذا يتضح لنا أن استخدام ق. بولس لكلمة خُتمتم يقصد بها المعمودية دائماً.
6 – تعقيب على تعاليم بولس في كل رسائله عن المعمودية
وإلى أي مدى يُعتبر تعليماً سرائرياً Sacramental
1 – كانت نظرة ق. بولس للمعمودية دائماً أنها طقس مهيب: حيث يتحد الموعوظون في الكنيسة في جسد واحد: (1كو 13:12)، أو في المسيح يسوع (رو 3:6) أو في المسيح (غل 27:3)، (2كو 21:1).
2 – وأن المعمودية فعل يتم بواسطة الروح القدس: ومن خلالها يقبل المعتمد الروح (1كو 11:6، أف 13:1 وأيضاً: غل 2:3، رو 15:8).
3 – أن الروح الذي يقبله المعمَّد كان أيضاً يسمَّى “روح ابنه”: (غل 6:4) معطياً للمعتمد المسيحي إحساساً بأبوَّة الله (يا أبا الآب) = (غل 6:4، رو15:8).
4 – عطية أو هبة الروح القدس تُعطى من خلال الإيمان: (غل 26:3و23-25، كو 12:2، أف 13:1 و5:4، رو 8:6، 1كو 9:12).
5 – اهتم ق. بولس بذكر عمل الله الآب في المعمودية: (رو 4:6، 2كو 21:1و22، كو 12:2، أف 6:4 و3:1 وغل 6:4).
6 – الصلة بين المعمودية والروح، والروح والتبني: قادت بولس الرسول أن يذكر الصلة بين المعمودية والتبني: (غل 26:3و27) مع (غل 6:4).
7 – الثلاثة مدركات: المعمودية والروح والتبني: موجودة في الأصحاح الأول من الرسالة إلى أهل أفسس، ولو أن التبني (عدد 5) منفصل بعدة أعداد عن المعمودية والروح (13)، غير أن النص كله يُعتبر جملة واحدة.
علماً بأن الروح والبنوَّة مرتبطان بوضوح في قصة عماد المسيح.
8 – هناك اتصال بين المعمودية والتقديس والتبرير باسم الرب يسوع وروح إلهنا: (1كو 11:6).
9 – وأيضاً اتصال بين المعمودية والتبرير: (غل 24:3، رو 7:6).
10 – واتصال بين مغفرة الخطايا والمعمودية: (كو 13:2، أف 7:1 و32:4).
11 – أفعال المعمودية غاية في الأهمية وتعطي للطقس معناه:
( أ ) خلع الملابس قبل الانغمار في المعمودية: يعتبرها ق. بولس رمزاً لخلع الإنسان العتيق (كو 11:2، أف 22:4).
(ب) لبس الملابس البيضاء بعد الخروج من المعمودية: (غل 27:3) يعتبرها أننا » لبسنا المسيح «(كو 11:2)، (كو 8:3و12 ولكن هذه بدون ذكر المعمودية).
12 – التغطيس الكلِّي تحت الماء: يوضِّح أن المسيحي يموت ويُدفن ويقوم مع المسيح:
( أ ) المسيحي في المعمودية يموت مع المسيح: (رو 3:6، كو 3:3، غل 24:5).
(ب) المسيحي في المعمودية يندفن مع المسيح: (رو 4:6، كو 12:2).
( ج ) ويقوم في المعمودية مع المسيح: (رو 4:6، كو 12:2 و1:3).
13 – كل هذا من خلال الإيمان بالله الذي أقام المسيح من الأموات: (كو 12:2، 1كو 14:6).
14 – القيامة مع المسيح تعني حياة أخلاقية للدخول في صفات جديدة: (رو 4:6 و13و19، كو 6:2 و1:3 إلخ و12 إلخ، أف 4:1 و1:4و2و32، 1كو 9:6-11).
15 – وأحياناً بدون ذكر المعمودية يذكر ملابساتها ونتائجها: إننا متنا وقمنا مع المسيح (رو 10:8و11)، ونحيا حياة جديدة في الروح (رو 9:8 إلخ).
16 – ليس الموت والقيامة مع المسيح فقط بل وأيضاً التمثُّل بمحبته وبذل ذاته هي التي تعطي المعمودية قوتها للتطهير والتقديس بالنسبة للكنيسة: (أف 25:5-27، أف 30:4 ؛2:5).
17 – نصوص كثيرة يُرى فيها الصلة الوثيقة بين المعمودية المسيحية والكنيسة كإسرائيل الجديدة:
( أ ) المعمودية في المسيحية هي كالختانة لليهود: (كو 11:2).
(ب) استخدام كلمة ختم وختمتم (sfrag…zomai): (2كو 22:1، أف 13:1 و30:4).
( ج ) بالمعمودية في المسيح (غل 27:3) يصير المعمَّد جزءاً من نسل إبراهيم ووارثاً حسب الموعد (غل 29:3 و7:4، 1كو 9:6و10، أف 14:1، رو 17:8). حيث شرط في المسيح أو بالمسيح أو مع المسيح فيها جميعاً.
( د ) يؤرِّخ لبدء انتماء الإنسان للمسيح والمسيحية من لحظة المعمودية – (كمثيل للختان): (غل 26:3و27، كو 10:2-12) ™n aÙtù وأنتم مملوؤون فيه = في المسيح!! (رو 11:6 و1كو 11:6و17).
18 – عند القديس بولس الإفخارستيا طقس أخروي [… إلى أن أجيء] وفي المعمودية ما يفيد ذلك كما في (أف 30:4): » خُتمتم “ليوم الفداء” «أي أن نظرة ق. بولس في تسجيلاته للمعمودية أنها هي طقس أخروي لأن الحياة الجديدة في المسيح ممتدة إلى كمال الأخروية:
( أ ) لهذا يربط ق. بولس المعمودية بهبة الروح القدس: [ومعروف أن تعاليم اليهود ترهن انسكاب الروح القدس بأنه هو علامة الدهر الآتي (يؤ 28:2) كما هو مذكور في (أع 16:2-18)].
(ب) في كثير من تسجيلات المعمودية يذكر “المجد” حيث ملكوت المسيَّا (رو 4:6، أف 14:1).
( ج ) يشرح ق. بولس الكلمات الواردة في (2كو 5:5): » ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا أيضاً عربون الروح « أن هذا العربون للروح هو المأخوذ في المعمودية (2كو 22:1)، وهذا العربون هو لضمان الميراث الآتي كما في (أف 13:1): » ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى (تكميل فداء أجسادنا المقتنى لمدح مجد نعمته) «= » نحن الذين لنا باكورة الروح (بالمعمودية) نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقِّعين التبني فداء أجسادنا «(رو 23:8) = منتهى الأخروية!
( د ) فالروح والتجديد الأخلاقي للحياة الجديدة بالقيامة والخروج من المعمودية ولبس الثياب السمائية هذه كلها سَبْق مذاقة البركات التي تنتظرنا في الحياة الأخرى، حيث الثياب الجديدة ترمز أيضاً إلى بيتنا السماوي الجديد، لأن خلع الملابس لدخول المعمودية يعتبرها ق. بولس نقض بيتنا الأرضي أو خيمتنا الأرضية (2كو 1:5)، ولبس ثوب المعمودية الجديد هو كناية عن البناء في السموات من الله: بيت غير مصنوع بيد، أبدي = مسكننا الذي من السماء. فإن كنا نئن في أنفسنا مشتاقين أن نلبس مسكننا الذي من السموات كما يقول ق. بولس، لذلك أعطانا أيضاً عربون الروح! لنتأكَّد من الآتي!
(هـ) المعمودية طقس أخروي بدأه المسيح منذ أن بدأ يربط المعمودية بموته [الذي بدأه المسيح نفسه بقوله: » لي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمَل «(لو 50:12)]، وفي الحال جعل الخروج من المعمودية كاشتراك في قيامة الرب، الأمر الذي صار معياراً لاهوتياً شاملاً جامعاً لكل لاهوت العهد الجديد كالمعمودية، حيث الأخروية تربط نظرنا لا للمعمودية فقط بل للاهوت العهد الجديد. فالمسيحية بكل أسرارها تحقيق أخروي في الحاضر الزمني! فإذا أدخلنا هذا في اعتبارنا انفتحت كل أبواب فهم ومعرفة كل الأناجيل والرسائل.
هذا كله نابع من المعمودية التي تعطي خليقة جديدة وروح عربون الميراث المعد!
لذلك رأينا سابقاً أن في هبة المعمودية كل شرح لكل شيء.
19 – المعروف الآن لاهوتياً أن قول ق. بولس وبإصرار إننا » نعتمد في المسيح «Into = e„j هو تجميع لكل ما يخص المسيح من أعماله الخلاصية من موت ودفن وقيامة وتخصيصه لنا، فهي ليست مجرَّد أوصاف أو رموز بل حقائق لاهوتية يستقيها ق. بولس من التراث القائم ويشرحها.
20 – ففي الفكر اللاهوتي للقديس بولس أن المعمودية هي الشرح العملي الظاهري للإنجيل! لأن موت الرب وقيامته هو الأمر الذي قامت وانبنت عليه المعمودية، والذي أعطى المعمودية معناها المميَّز المتخصِّص! لذلك فكل ما استخرجه ق. بولس من المعمودية لا يُشكِّل أي اجتهاد أو تصوُّر شخصي، ولكن هو ملء وعاء المعمودية بما هو لها وبما هي تعنيه من واقع التقليد اللاهوتي. والدليل على ذلك أن اعتماد ق. بولس الأساسي في التعرُّض للمعمودية قائم على أساس تصريح المسيح نفسه » لي معمودية أعتمد بها وكيف أنحصر حتى تكمل « التي ترجمها المترجم إلى “صبغة”. فإن كانت معمودية المسيح هي الموت فمعموديتنا هي موت المسيح.
21 – والذي عمله ق. بولس وأصرَّ عليه أنه دشَّن العلاقة بين موت الرب والمعمودية، معتبراً بعد ذلك أن المعمودية تحمل في عملها ومفهومها تعاليم الرسل للخلاص.
22 – كذلك فإن الطقس في نظر بولس الرسول يجمع أهم وأخطر عمليات تعبِّر عن الحقيقة الأساسية للتسليم الرسولي. فوراء كل معمَّد موت وقيامة المسيح، عمل الله الذي افتتح به العهد الجديد. فالمعمودية تفتح أمام المعمَّد فجر حياة جديدة، وتجعله وريثاً للملكوت وتسلِّمه الروح عربوناً لميراثه. وتجعل كل الأخرويات بالنسبة له أموراً متوقَّعة! (وليست محقَّقة بعد).
23 – فالمسيح أمامه عاش (في الإنجيل) ومات على الصليب وقام، وأعطى الروح القدس
للكنيسة، وجعل ملكوت الله أمراً متوقَّعاً وصارت للمعتمد شركة فيه لم تكمل بعد. فالدهر الآتي الجديد أشرق له مع المسيح، وفي المعمودية بلغته بركات هذا الدهر الآتي.
24 – ولم يكفّ بولس الرسول في كل رسائله من أن ينظر إلى تكميل المستقبل جنباً إلى جنب مع الحياة الحاضرة ذات صفات سماوية: فيكتب إلى فيلبي (20:3): » فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها أيضاً ننتظر مخلِّصاً هو الربُّ يسوع المسيح « وأيضاً في كولوسي (3:3و4): » لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيحُ حياتُنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضاً معه في المجد « هذه أفكار رسولية موضوعية تنتظر بفارغ الصبر الاستعلان الأخير!
- المعمودية تشير في معناها إلى موت آتٍ: » الذي به ختمتم ليوم الفداء! «(أف 30:4)
- في نظر ق. بولس أننا نعيش تحقيق الرجاء جزئياً، وتكميل الرجاء ننتظره في المستقبل بفارغ الصبر.
- بالمعمودية اعتمدنا لإنجيل خلاصنا وننتظر تكميل الخلاص بمجيء المخلِّص من السماء الذي ننتظره.
- موت الرب وقيامته: الأعمال الخلاصية التي أتمَّها ليست أخباراً عن حقائق لماض في التاريخ، ولكن وُهِبَ للكنيسة أن تحقِّقها وتعيد عملها في المعمودية والإفخارستيا، فالقديس بولس لا يقف عند عطية الروح القدس والتكلُّم بألسنة ولكنه يمتد إلى طريق أفضل ومواهب حسنى.
- المعمودية حقيقة مسيحية لا تُشرح للمعتمد ولكن تُعمل له، يقبلها بالإيمان ليُقبل كمسيحي.
- عند القديس بولس الطقس الذي تجرى به المعمودية ومعناه اللاهوتي هو وحدة واحدة لا تنفصل. فالمعمودية كإجراء خارجي للإيمان بالمسيح له في كل أجزائه وحركاته عمق المعنى الروحي بلا فرق.
([1]) J. Moffatt, I Corinthians, Moffatt New Testament Commentary, 1938, p. 11.
([2]) Theodoret, PG. 86, 268, cited by Joseph H. Crehan, SJ, Early Christion Baptism and Creed. p. 15
([3]) أمَّا بنوَّة المسيح لله فهي بحسب الجوهر الإلهي والطبيعة الإلهية الواحدة، وأمَّا نحن فنلنا التبني كهبة.
مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس | كتب الأب متى المسكين | ختم الروح القدس (سر التثبيت) |
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية | ||
المكتبة المسيحية |