المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الثاني
الجزء التقليدي

أ المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال والرسائل 
3 – المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى

 

إن رسالة بطرس الأُولى بشهادة أقوى العلماء المتخصِّصين في شرح الأسفار والطقوس باقتدار، تُعتبر بأكملها عظة موجَّهة للذين قبلوا العماد حديثاً وخرجوا وذاقوا اللبن والعسل اللذين يُعطيان للمُعمَّد وهو خارج من المعمودية، رمزاً لميراث كنعان السماوية، وكلها مشحونة بمعاني واصطلاحات المعمودية.

ونحن هنا نقدِّم مقتطفات من هذه الرسالة كنصوص مضيئة في شرح معنى المعمودية ولاهوتها وعملها في المعمَّدين:

1 – «مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ، بقيامة يسوع المسيح مِنَ الأمواتِ.» (1بط 3:1)

يكمِّلها بوضوح قوله: » فاطرحوا كل خبثٍ وكل مَكرٍ والرياء والحسد وكل مذمَّةٍ، وكأطفالٍ مولودينَ الآنَ، اشتهوا اللبن العقليَّ العديمَ الغِشِّ لكي تنموا به. «(1بط 2: 1و2)

هنا إشارة قوية لكأس اللبن الممزوج بالعسل الذي كان يُعطى للخارجين من المعمودية. ثمَّ يقول في الموضع نفسه وبخصوص اللبن والعسل: » إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالِحٌ «(1بط 3:2). هنا عودة إلى مذاقة كأس اللبن والعسل.

2 – » الذين أُعلن لهم (الآباء) أنهم ليس لأنفسهم، بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أُخبرتُم بها أنتم الآن، بواسطة الذين بشَّروكم في الروح القدس المرسل من السماء، التي تشتهي الملائكة أن تطَّلع عليها. «(1بط 12:1)

هنا بقوله: » إنه ليس لأنفسهم «(هؤلاء الآباء والأنبياء قديماً) يلغي كل الأمور القديمة بالنسبة لليهود المعمَّدين جديداً باعتبارهم يهوداً وتنصَّروا وصاروا مسيحيين. ثمَّ بقوله: «بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور»،  ينسب كل أقوال الآباء قديماً وكل أقوال الأنبياء أنها لم تكن لليهود بل لنا نحن المسيحيين، لأنها كانت تُشير للمسيح الآتي. وقوله: «التي أُخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشَّروكم في الروح القدس»: هنا الرد والتوضيح لكلمة «بهذه الأمور» فهي نفسها التي بشَّرهم
بها الرسل قبل قبول العماد، ولأنها كانت مزكَّاةٌ من الروح القدس لذلك آمنوا بها واستجابوا لها وللدعوة إلى المعمودية المسيحية: » نظير القدوس الذي دعاكم. «(1بط 15:1)

3 – «كأولاد الطاعةِ، لا تُشاكِلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم، بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كلِّ سيرةٍ.» (1بط 1: 14و15)

«كأولاد الطاعة»: وهي لقب المعمَّدين جديداً لأنهم أطاعوا الإيمان وأطاعوا دعوة العماد.

«القدوس الذي دعاكم»: واضح أنه المسيح هو الذي دعاهم للإيمان والاعتراف به، وقبلوا المعمودية كدعوة لإعلان إيمانهم عملياً بالموت مع الرب والقيامة معه. وهنا القداسة موهوبة لهم بالمعمودية والاعتماد باسم المسيح القدوس، فقدَّسهم. والقديس بطرس يعظهم بأن يحتفظوا بهذه القداسة «كونوا أنتم أيضاً قديسين».

4 – «مولودينَ ثانيةً، لا مِنْ زرعٍ يفنى، بل مما لا يفنَى، بكلمة الله الحيَّةِ الباقيةِ إلى الأبدِ.» (1بط 23:1)

هنا كشف المعنى اللاهوتي لعمادهم باسم المسيح إنه “ميلاد ثانٍ”، ومواجهة للمعمَّدين بوصفهم الجديد في المسيحية: «مولودين ثانية». ومعروف أن الميلاد الثاني هو من الماء والروح بحسب الرب.

ولكي يفرِّق بين ولادة الجسد وولادة الروح كما قال المسيح: » المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح «! (يو 6:3)، هذه يترجمها بطرس الرسول بقوله: » مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى «تماماً كما قال المسيح، حيث » مما لا يفنى «تعني من الروح من الله!! والواسطة هي كلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. هنا شرح مباشر لقوة الكلمة الفاعلة في المعمودية للميلاد الثاني.

ويُلاحَظ هنا أن ق. بطرس يعظ المولودين ثانية أي المعمَّدين جديداً.

5 – «وكأطفالٍ مولودينَ الآنَ، اشتهوا اللبن العقليَّ العديمَ الغِشِّ لكي تنموا به، إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالِحٌ.» (1بط 2: 2و3)

يُلاحَظ أن كلمة “الآن” هنا تعني أنهم اعتمدوا حديثاً جدًّا، حتى عبَّر عنها ق. بطرس بكلمة “الآن”. أمَّا قوله: «اشتهوا اللبن العقلي عديم الغش لكي تنموا به» يقصد بها بوضوح أنهم كما ذاقوا اللبن والعسل الشهي بعد خروجهم من المعمودية، الآن عليهم أن يشتهوا اللبن العقلي الذي
يعني الإنجيل وتعليم الرسل، الأمور التي تبني النفس. وقوله: » عديم الغش «يقصد به أقوال الرب الصادقة والحقَّة وأقوال الرسل غير المغشوشة بتعاليم الخارجين عن الإيمان، وما أكثرهم في تلك الأيام، وقد اشتكى منهم بولس الرسول مرّ الشكوى وهم اليهود المنازعين.

ثمَّ يقول: «إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح». هنا لعب بالألفاظ، فإنهم ذاقوا اللبن والعسل اللذيذ فيأخذها ق. بطرس ويجعلها: «ذقتم أن الرب صالح». وهذا قد نالوه بالتعليم الذي ذاقوه على أيدي الذين عمَّدوهم. أمَّا قوله: «لكي تنموا به» فهنا قوة كلمة الحق سواء في الإنجيل أو عند الرسل، القادرة فعلاً أن تبني الفكر والإيمان حتى بلوغ » قامة ملء المسيح «(أف 13:4). » أمَّا نحن فلنا فكر المسيح. «(1كو 16:3)

6 – «كونوا أنتم أيضاً مبنيِّينَ  كحجارةٍ حيَّةٍ  بيتاً روحيًّا، كهنوتاً مقدَّساً، لتقديم ذبائح روحيَّةٍ مقبولةٍ عند الله بيسوع المسيح (1بط 5:2)

هنا إشارة واضحة لبناء الهيكل بحجارته الضخمة التي كانت فخر إسرائيل، والكهنة اللاويين الذين يقدِّمون الذبائح الحيوانية. وواضح من هذا أن ق. بطرس يخاطب يهوداً تنصَّروا وقبلوا العماد.

فبعد أن صاروا مولودين ثانية بكلمة الله الحيَّة، واشتهوا اللبن العقلي عديم الغش، أي تتلمذوا لكلمة الله، وهي فرح ومسرَّة للنفس، فهنا يحضّهم القديس بطرس أن يكونوا مبنيين، ولكن هنا البناء ليس بحجارة صمَّاء ميتة بل حجارة حيَّة، وهي ذاتها كلمات الحق الثابتة والقوية.

وعوض الهيكل الذي كان مبنيًّا بحجارة ومدعواً هيكلاً للرب، يقول هنا أن الكلمات » الحية الباقية إلى الأبد «التي تعمَّدوا بمقتضاها هي نفسها التي تبني النفس، ومع بقية نفوس الذين تعمَّدوا يصنعون هيكلاً جديداً أو بيتاً حقيقياً روحياً له.

وعوض الكهنوت اللاوي الذي كان يقدِّم ذبائح حيوانية لا قيمة لها عند الله ولا مقبولة، جاء هنا «كهنوتاً مقدَّساً» في المسيح لا من سبط لاوي بل في يسوع المسيح نفسه، لتقديم ذبائح روحية التي وصفها بولس الرسول  أنها ثمر الشفاه (عب 15:13) أي التسبيح والتمجيد والصلاة والترتيل، وهي مقبولة جدًّا من الله لأنها في المسيح يسوع.

7 – «وأمَّا أنتم فجنسٌ مختارٌ، وكهنوتٌ ملوكيٌّ، أُمَّةٌ مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ، لكي تُخبِروا بفضائل الذي دعاكم مِنَ الظلمةِ إلى نورهِ العجيب.» (1بط 9:2)

 

هنا الكلمات مصوَّبة للمعمَّدين الجدد وقد تغيَّروا من مختارين في إبراهيم ويعقوب إسرائيل، إلى مختارين من المسيح في المسيح.

وقوله: » كهنوت ملوكي «يقابل كهنوت العهد القديم للاوي، أمَّا هنا فكهنوت ملوكي نسبة إلى الملك المسيح ملك المجد.

وقوله: » أُمَّة مقدَّسة «فهو يقابل بها الأُمة الإٍسرائيلية التي كانت تُدعى ظلماً أُمَّة مقدَّسة، ولكن هنا أُمة مقدَّسة لأنها تقدَّست بالمسيح نفسه – كرأس الكنيسة – إيماناً به واتحاداً في المعمودية، هنا التقديس إلهي.

وقوله: » شعب اقتناء «يعني شعب مقتنى من الله في المسيح وله الميراث الحقيقي.

وقوله: » من الظلمة إلى نوره العجيب «فالظلمة ما قبل المسيحية والنور في المسيحية لأن المسيح هو نور العالم.

8 – «الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأمَّا الآن فأنتم شعبُ الله. الذين كنتم غير مرحومين، وأمَّا الآن فمرحومون.» (1بط 10:2)

كانوا بصفتهم يهوداً فهم شعب إسرائيل وأمَّا الآن فشعب الله، مما يفيد أنهم لم يكونوا شعب الله.

وقوله: » كنتم غير مرحومين «ذلك بسبب غضب الله عليهم وسبيهم. وأمَّا الآن فدخلوا في رحمة الله بواسطة يسوع المسيح الذي صالح الاثنين في جسد واحد.

9 – «الذي مِثَالُهُ (مثال الفلك) يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ، لا إزالةُ وسخِ الجسدِ، بل سؤالُ ضميرٍ صالحٍ عن الله، بقيامة يسوع المسيح» (1بط 21:3)

» سؤال ضمير صالح «صحتها: “الاعتراف لله من ضمير صالح بقيامة يسوع المسيح” =

seineid»sewj ¢gaqÁj ™perèthma e„j qeÒn di’ ¢nast£sewj ‘Ihsoà Cristoà.

وفي الأبحاث الآبائية عند كليمندس الإسكندري([1]) قُرئت: “™perèthma = سؤال” على أنها Confessio أي اعتراف إيمان لتكون اعتراف لله بضمير صالح بقيامة يسوع المسيح لتصبح منطوق معمودية. وقد أخذ بهذا المعنى القديس كيرلس الإسكندري On Rom: 6:3 (P.G. 74. 729)

 

هنا يعطي ق. بطرس المثال الذي انحدرت منه المعمودية في المسيح وهو الفلك وخلاص مَنْ بداخله وهلاك الذي لم يدخل الفلك، وبذلك خَلُصت هذه الثمانية أنفس التي كانت فيه من الهلاك. ولكن المعمودية الآن وهي مثال الفلك([2]) لا تخلِّص من هلاك الجسد بل تخلِّص من هلاك النفس. ثمَّ يعود ويصف قيمة المعمودية في المسيح بالماء والروح إذ هي ليست استحماماً عادياً لإزالة وسخ الجسد، بل غسل النفس من الخطايا وسؤال ضمير صالح عن الله بقيامة المسيح من الأموات. لأن المعمودية هي شركة في موت المسيح على الصليب ثمَّ القيامة معه، فشركة الصليب هي شركة في الدم المسفوك الذي قال عنه ق. بولس: » دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب يطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة «(عب 14:9). هذا هو «الضمير الصالح عن الله بقيامة يسوع المسيح» الذي صالحنا مع الله فأصبح لنا ضمير قد اغتسل بدم المسيح من كل الخطايا، التي سمَّاها الأعمال الميتة والمؤدِّية إلى الموت، وقد صار ضميراً مطهَّراً بدم المسيح أي صالحاً.

إلى هنا نكون قد انتهينا من الرسالة الأُولى للقديس بطرس. والواقع أن رسالته الثانية لا تخلو من تعبيرات تكشف أنها تعليم لليهود المتنصِّرين، ولكن نكتفي بالرسالة الأُولى.

 

 

([1]) G.C.S. III. 203. 68205-17.

([2]) يشير إلى هذا المثال القديس كليمندس الروماني في رسالته الأُولى (4:9) قائلاً: إن نوحاً بما فعله «صار كارزاً بميلاد جديد paliggenes…an للعالم».

فاصل

المعمودية في كتابات القديس يوحنا كتب الأب متى المسكين مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى