كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
تفسير التقليد الرسولي لقانون الإيمان على ضوء المجامع
قد يتبادر إلى ذهن الإنسان المحب للكنيسة والمحب للهدوء والسلام سؤال وهو: ما الذي استفادته الكنيسة، وبالتالي ماذا أستفيده أنا وغيري في القرن العشرين من هذا الصراع المرير الذي دخلته الكنيسة ضد الهراطقة واستمر خمسة قرون كاملة؟
ثم سؤال آخر: إن أمر هذا الصراع قديم وقد مضى عليه الآن ألف وخمسمائة سنة، فأليس من الأفضل أن نهمله ونعيش في الواقع؟
أما السؤال الثالث فهو: ألا يكفي أن نتمسك بقانون الإيمان الذي انتهت إليه الكنيسة، ونحفظه دون أن ندخل في التفاصيل؟
وللإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة يلزمنا أن نعرف ماذا كان وراء هذه الهرطقات من خطورة لا على منطوق قانون الإيمان، بل على حقيقة الفداء والخلاص الذي نعيشه الآن كما يلزمنا أن نعرف ماذا استفادته الكنيسة من هذه المحنة تلو المحنة، وكيف استخدم الله هذه المحن كلها لصقل قانون الإيمان والتعمق فيه وكشف جميع أسراره المتعلقة بحياتنا وفدائنا وتقديسنا وقيامتنا وخلودنا.
فإن قلق الكنيسة خمسة قرون وسهر قديسيها وأساقفتها على حفظ الوديعة الإيمانية كما تسلموها، وما بذلوه من عرق ودموع وسجن وتعاذيب ودم من أجل ذلك، ومن أجل صحة تفسيرها وصحة فهمها وصحة تطبيقها ، قد تحولت كلها إلى نور لإنارة طريق الخلاص والحياة والخلود.
ولكي يتضح لنا ذلك أولاً، ولكي ندرك قيمة جهاد الكنيسة الطويل في حفظ التقليد الرسولي، بل ولكي نتمسك بإقرار الرجاء والإيمان كما تسلمته الكنيسة وكما سلمته لنا فنمتلىء قوة وعزاء وسروراً، سوف نقدم قانون الإيمان ومعه . باختصار كافة المراحل التي عبرت فيها نصوصه.
بالحقيقة نؤمن بإله واحد | هذا النص يذكرنا بجهاد الكنيسة في القرنين الأول والثاني بشدة حتى القرن السادس، ضد الغنوسية بمدارسها الثلاث . وهنا نذكر القديس بولس الرسول والقديس يوحنا الرسول والآباء الرسوليين : إكليمندس و بوليكاربوس وإغناطيوس و برنابا و بابياس و يوستينوس وإيرينيئوس وجهادهم الحار المخلص الموفّق الذي على أساسه جاء الآباء وأكـمـلـوا الـتـعـلـيم بـوحدانية الله في الثالوث . |
الله الآب ضابط الكل[1] خالق السماء والأرض وكل ما يُرى وما لا يُرى | هذا النص يذكرنا بهرطقة «باسيليدس» و «فالنتين» و «مارقيون» القائلة : بوجود إلهين واحد علوي وآخر سفلي ، واحد مسئول عن خلقة العالم الروحاني وآخر مسئول عن خلقة العالم المادي. |
و برب واحد يسوع المسيح | هذا النص وضع ضد هرطقة الأقنومين التي قا بها فالنتين الغنوسي، وهرطقة الشخصين التي قال بها نسطور. |
ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور.[2] | هذا النص يقاوم هرطقة آريوس ( و بالأخص إيونوموس أحد أتباعه ) الذي قال إن المسيح يخالف الآب في كل شيء وفي كل الصفات وفي الجوهر، وهو غير مولود من الله بل مخلوق وغير أزلي. |
نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، | وهذا تعبير عن الولادة الإلهية أو الجوهرية كولادة النور من النور. النص وضع هنا ضد هرطقة آريوس التي تـنـكـر بشدة ولادة الإبن جوهر ياً من الآب، وتقول إنه « مخلوق من لا شيء مثل خلقة العالم، فهو ليس إلهاً من إله ، وبنوته الله هي أدبية فقط.»[3] |
مساو للآب في الجوهر ( من ذات جوهر الآب) أثناسيوس على القانون 19 |
هذا النص أنقذ الكنيسة من مراوغة آريوس، لأن آريوس كان مستعداً أن يقبل أي تعبير آخر ليفلت من المحاكمة إلا هذا النص الذي فضل أن يموت ولا يسمعه، لأنه يحمل أقوى وأحكم تعبير عن لاهوت المسيح المساوي الله الآب، حيث المساواة للآب هـنـا تـذكـرنـا أيضاً بهرطقة «سـابـيـلـيـوس» الذي أراد أن يلاشي أقنوم الإبن ويجعله هو نفس أقنوم الآب، ولكن الإيمان هنا يوضح مساواة أقنوم الإبن لأقنوم الآب جوهرياً. |
الذي به خلق كل الأشياء | وهنا النص وضع ضد هرطقة القائلين أن الأقانيم فيها خالق وفيها مخلوق كبدعة آريوس: أن الآب خلق الإبن (اللوغوس) ليخلق به العالم، كتعليم «فيلو». ». فكما أن الله الآب خالق كل ما يُرى وما لا يُرى ، فالإبن خالق كذلك كل شيء مع الآب بـاتـفـاق ووحدة. فالكل مخلوق بالآب مع الإبن. |
الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد[4] من الروح القدس ومن مريم وتأنس[5] | وهذا النص وضع ليثبت وجود المسيح الأقنومي السابق للميلاد الجسدي، كذلك فهو يقاوم كل الهرطقات التي تقول أن يسوع قبل اللاهوت العذراء فقط في المعمودية مثل «فالنتين» الغنوسي ؛ أو التي تقول إن اللاهوت سكن في الناسوت مثل نسطور»، كما يقاوم كل الهرطقات التي تقول إن ميلاده كان طبيعياً، مثل «الإيبونيم » ، كما يقاوم كل الهرطقات التي تقول إنه لم يكن إنساناً تاماً، مثل «أبوليناريوس» . |
وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي. وتألم وقبر. | وهذا النص يقاوم كل الهرطقات التي تقول إنه لم يُصلب ولم يتألم، مثل هرطقة الغنوستيين والدوسيتيين والأوطاخيين . |
وقام في اليوم الثالث حسب الكتب | وهذا النص يقاوم الهرطقات التي تنكر قيامته مثل «الكيرنثيون» و«الغنوستيون» و « الدوسيتيون» و«الأوطاخيون». |
وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب | وهذا النص وضع ضد هرطقة الغنوسيين الذين قـالـوا بانتهاء رسالة اللوغوس قبل الآلام وأن المسيح تألم بدون اللوغوس، لذلك فالقيامة مزيفة وكذلك بالتالي يكون الصعود في اعتبارهم. كما إنه في هذا النص أيضاً مقاومة ضد الهرطقات التي لا تعترف بالمساواة بين الابن والآب. |
وسيأتي أيضاً في مجده ليدين الأحياء والأموات
|
وهذا النص وضع ضد الهرطقات التي قالت أن يموت المسيح انتهت رسالته. |
الذي ليس لملكه انقضاء |
وهذا النص يقطع ضد القائلين بملكوت المسيح الألفي وضد هرطقة «مارسيليوس» أسقف أنقرة النصف آريوسي الذي أنكر دوام ملكوت المسيح، وحرمه مجمع القسطنطينية. |
ونؤمن بالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب نعبده ونمجده مع الآب والإبن الناطق في الأنبياء. |
هذا النص ضد الذين أنكروا الثالوث الأقدس وضد منكري لاهوت الروح القدس و بالأخص مقدونيوس وضد آريوس القائل بأن الروح القدس مخلوق دون الإبن. |
و بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية |
هذا النص ضد الهراطقة الذين كوّنوا لأنفسهم كنائس، ونظموا لأنفسهم تقليداً للإيمان مخالفاً لقانون الإيمان الرسولي، ونظموا رئاسات كنسية من نظامهم الفكري الخاص، مثل كنائس المانيين والدوناتيين. |
وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا . |
هذا النص ضد الذين كانوا يكررون معمودية الذين دخلوا الهرطقات أو أنكروا المسيح تحت الإضطهاد. فالمعمودية إذا كـانـت مـن تـسليم الكنيسة حسب التقليد الرسولي والإيمان الصحيح لا تتكرر، أما معمودية الهراطقة مثل الآريوسيين والمانيين والدوناتيين فكلها مرفوضة لأنها ليست حسب الإيمان الصحيح . |
وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى. |
هذا النص قديم وقد وضع تحـقـيـقـاً لقيامة الأجساد التي كان يـعـارضـهـا الأفـلاطـونـيـون والمانيون والوثنيون عامة. والغنوستيون الذين يقولون بأن الجسد شرير وكل المادة، فيجحدون القيامة الجسدية عامة معتبرين أن القيامة والخلاص هما للروح فقط . وقد بدأت مقاومة هذه الهرطقات بشدة منذ أيام القديس بولس الرسول ثم پولیکارپوس في خطابه (إلى فيلادلفيا) وكذلك القديس يوستينوس ( الحوار ـ 80). والقديس إيـر يـنـيـئـوس (ضد الهراطقة) – والعلامة ترتليان الذين أجمعوا جميعاً على العقيدة الرسولية بـقـيـامة الأموات التي وُجدت في أقدم القوانين، باعتبار أن الجسد مفدي أيضاً بالميلاد الجديد وقد صار هيكلاً للروح القدس، وهو يبقى في الأرض كبذرة تـنـتـظـر قـيـامة الحياة الأبدية في اليوم الأخير ليصير على شبه جسد المسيح المجيد. |
- ضابط الكل اصطلاح يفيد القدرة الكلية للحاكم وهو مذكور في سفر الرؤيا 9 مرات، وفي كورنثوس الثانية 6: 18 ، وهو موجود أيضاً في العهد القديم في الترجمة السبعينية في سفر عاموس 4: 13= رب القوات.
وهذا الإصطلاح يعني القدرة الكلية على كل شيء ويجيء هذا الإصطلاح أيضاً مشابهاً وقريناً للكلمة اليونانية والمقابل اللاتيني لها omnipotens - ابن الله الوحيد واللفظ اليوناني لها .. يقابله اللفظ اللاتيني unicus . وردت في العهد الجديد في إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا ورسالة العبرانيين. وهذا الإصطلاح معروف في العبرية قديماً وهو مشتق من وضع إسحق بالنسبة لإبراهيم أبنك وحيدك». ولكن بالنسبة للمسيح تفيد فرادة العلاقة القائمة بين المسيح والله التي لا يقابلها شبيه آخر التي شرحها المسيح نفسه بقوله إنه لا يعرف أحد الآب إلا الإبن ولا يعرف الإبن إلا الآب». فهنا الوحدانية تشمل خصوصية النوع في البنوة الفريدة في الله ، فهو الوحيد المولود والمولود الوحيد. وهذا التحديد كان المقاومة إيونوموس الذي هاجمه القديس باسيليوس بشدة (في دفاعه المشهور ضد إيونوموس 2: 20).
- في هذه يقول القديس أثناسيوس : [ كما أن الينبوع ليس هو النهر والنهر ليس هو الينبوع مع أن الإثنين هما واحد، وماء واحد يفيض من الينبوع في النهر كذلك فإن اللاهوت (الألوهة) تفيض بدون انقسام من الآب في الإبن، حيث يقول الرب نفسه : خرجت من عند الآب ومن الآب أتيت» مع أنه مع الآب دائماً أبداً فهو في حضن الآب وحضن الآب لم يخل من لاهوت الإبن ] شرح الإيمان 2) الإبن من جوهر الآب ليس بالإنقسام ولكن بالإتصال الذاتي، هذا الإتصال الذاتي الإلهي بالحب الأبوي يُكنى عنه بالولادة في قانون الإيمان، وفي الكتاب المقدس يكنى : بالآب والابن. وكلمة الآب والابن» في الله تعني هذا الإتصال الجوهري الدائم الأبدي الذاتي.
- تجسد : أي صار جسداً بحسب تعبير إنجيل يوحنا. وقد قبلها آريوس.
- وتأنس فالإبن الذي هو له جوهر الآب ومن جوهر الآب تأنس أي صار إنساناً، هذا التعبير كان إمعاناً في تأكيد ألوهيته التي كان لا يطيقها آريوس. وفي نفس الوقت تأكيد لكمال ناسوته أي لكل ما يخص الطبيعة البشرية و يلزمها.
دخول التقليد في عصر المجامع | كتب القمص متى المسكين | ||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |