كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
التقليد
مقدمة عامة
[وعلينا أن نعتبر هذا التقليد، الذي هو تعليم وإيمان الكنيسة الجامعة منذ البدء، الذي أعطاه الرب، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، والذي عليه تأسست الكنيسة وقامت ]
القديس أثناسيوس الرسولي
الكنيسة القبطية كنيسة تقليدية رسولية نيقاوية بالدرجة الأولى.
والـتـقـلـيـد فيها لا يتغير باق كما هو منذ تسلمته من المسيح على أيدي الرسل، وهو حي .
فالكنيسة، بالرغم من تصميمها الإيماني على أمانتها للماضي، فإن حاسة النمو والحياة تتفجر فيها باستمرار.
والـتـقـلـيـد في الكنيسة الأرثوذكسية ليس جزءاً من تعاليم الكنيسة أو صورة من صور حياتها، بل هو كل الكنيسة وكل حياتها. فهو يشمل إيمانها، وتفسيرها للكلمة، وفكرها، ولاهوتها وروحياتها، وأسرارها وطقوسها، وقديسيها، في وحدة كاملة لا تتجزأ ! لذلك فالتقليد في الكنيسة الأرثوذكسية هو قوام شخصيتها الحية الذي يمدها بكل مميزات الحياة الإلهية .
ونحن نؤمن أن هذا بحد ذاته من عمل النعمة، إذ لم يكن ممكناً لأي قوة أو عزيمة أو نظام بشري أن ينجح في حفظ التقليد الكنسي حياً حتى اليوم، وبكل طابعه الروحي ومميزاته الرسولية، بالرغم من الظروف الصعبة جداً التي عانتها الكنيسة بسبب الضغوط السياسية والإضطهادات الدينية وغزو العقائد الأخرى الآتية من الغرب مع بقية الطوائف التي حاولت تمزيق الكنيسة ونهب أولادها والتهكم على روحياتها ومسخ طقوسها وتقليدها ، ولا تزال .
لذلك نقول إن التقليد الأرثوذكسي في الكنيسة القبطية هو من عمل النعمة، وقد أبقاه الله شهادة حية لصورة الكنيسة الأولى ذات الإيمان الرسولي كما فسره مجمع نيقية، دون أن تضيف عليه أو تختزل منه . فتقليدنا استمرار الحياة الكنيسة الأولى في أقدم صوره وتفسيراته، والفضل الأول في ذلك يرجع إلى أن الكنيسة لم تُجز أي ثورات إصلاحية أو نهضوية من صنع أفراد أو جماعات ، فاحتفظت بذلك على نظامها وتقليدها الرصين على مدى ألفين من الأعوام . فنموها وتجديدها ظلاً ينبعثان طبيعياً وبدون افتعال من جذورها الماسكة بكل قوة في صخر الدهور، تشرب من الينابيع العميقة غير المنظورة التي لن تنضب .
فما هو التقليد إذن؟ لقد حاول كثيرون من اللاهوتيين أن ينبهوا الأذهان إلى قيمته وإلى ضرورته وإلى حيويته حتى استنفذوا كل صفات التقليد، ولكن نحن في أشد الحاجة أن نعرف ما هو التقليد ؟
هنا، وفي هذا الكتاب، سوف نقدم للقراء كل جوانب التقليد، ونبتدىء بمقدمة نقدم فيها ملامح التقليد بصورة مختصرة عامة .
أولاً : التقليد والإنجيل
إن التقليد الأرثوذكسي أول ما يشمل، يشمل الإنجيل وكل الأسفار المقدسة القانونية في العهدين. فالتقليد والإنجيل ليسا هما شيئين بل شيء واحد، وعامل الزمن الذي قدم الواحد عن الآخر لم يكن فاصلاً بينهما أبداً. فالبشارة الشفاهية والتعليم الشفاهي بالخلاص كان هو الإنجيل قبل أن يُكتب الإنجيل ، فلما ابتدأ تدوين الإنجيل، اندشت وسط أناجيله ورسائله أناجيل مزيفة ورسائل مزيفة كتبت بعد انتقال الرسل. فلما أرادت الكنيسة فصل الحقيقي منها من الباطل (أي الرسولي من غير الرسولي) كان رائدها الوحيد هو التقليد، أي ما اختزنه الآباء الرسوليون من التعاليم والمقاييس الروحية التي تسلموها من الرسل أنفسهم.
+ فالإنجيل المكتوب هو الجزء المدوّن من التقليد .
+ أما التقليد كله فهوما كتب في الإنجيل وما احتفظته الكنيسة من التعاليم والفرائض.
فالكنيسة الأرثوذكسية هي كنيسة الإنجيل» منذ البدء، بالمفهوم المتسع للإنجيل أي البشارة والتعليم الشفاهي المسلم من الرسل جنباً إلى جنب مع الإنجيل المكتوب، تستمد منه حياتها اليومية كخبز الغد المعطى يوماً بيوم؛ تقرأه ت يومياً في كل صلاة من الصلوات السبع النهارية وفي منتصف الليل لتسمع به صوت العريس إلى أن يأتى ؛ تقرأه يومياً في رفع بخور باكر وعشية بصلاة خاصة ؛ وتفسره وتعظ به ليعيش عليه و يعيش به كل من يسمعه . شعبنا انطبع على التقليد فـصـار إنجـيـلـيـاً بروحه وسلوكه ؛ وفي القداس تقدمه الكنيسة كمائدة روحية دسمة لتهييء به سر الجسد والدم .
قراءة الإنجيل وتفسيره يقدمها التقليد الأرثوذكسي على الصعيد الروحي وبروح الآباء واختباراتهم . والتقليد الأرثوذكسي لا ينزل بالتفسير إلى مستوى التحليل العقلي أو المنفعة الدنيوية بل يسمو به ليضبط به العقل والنفس والجسد والسلوك ، ليسمو بالروح إلى فوق حيث المسيح جالس، لذلك فالإنجيل في الكنيسة الأرثوذكسية لا يمكن فصله عن الحياة اليومية التي يتسلمها الإبن عن أبيه وعن الكنيسة . لذلك فالإنجيل والتقليد هما شيء واحد، حق واحد، حياة واحدة منبعثة من مصدر واحد هو المسيح لغاية واحدة هي المسيح.
والإنجيل مع التقليد قوة عظيمة، أهم صفة من صفاتها أنها قوة مجمعة ، وقوة ضابطة للحرية الفردية وللشذوذ العقلي والفردي قوة قادرة على جمع شمل القطيع الناطق والمسير به في مراعي روحية خصبة إلى أن يصل إلى الحظيرة السماوية على نفس الدرب الذي سار عليه الآباء والأجداد !
الإنجيل وحده ـ أي بدون التقليد – تنقصه هذه القوة الجامعة والضابطة والمرشدة للسير على درب واحد!! فالإنجيل يأخذ من الكنيسة أي من تعاليم الآباء وسيرتهم قوة خاصة وهيبة خاصة، فعندما يتلوه الأسقف أو الكاهن بسلطان المسيح و بروح الآباء تحل نعمة الإنجيل على الشعب كما من فم المسيح، وتربط الأبناء بالآباء.
كذلك فإن الإنجيل يأخذ نوراً خاصاً عندما يشرحه الأسقف أو الكاهن بالنعمة الحالة فيه، في حدود العقيدة وبروح الآباء وفكرهم فيفهمه الشعب و يثق في صوته ويُقبل على تعاليمه ليعيشها كما عاشها الآباء واختبروها : « ألعلك تفهم ما أنت تقرأ ؟ فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد ؟ » (أع 8: 30 و31)
فالإنجيل، لا ينكشف الحق الإلهي الذي فيه ولا تنبعث القوة الضابطة المحركة والمجددة والمرشدة التي فيه إلا بواسطة آخر ، أي بواسطة إنسان سبق وانكشف له الحق الإلهي وعاش مع قطيع الله ونال قوة وتجديداً وإرشاداً من آخر وهكذا ؛ وهذا هو الـتـقـلـيـد الأبوي كما يعبر القديس أغسطينوس : [ أما من جهتي فأنا لا أؤمن بالإنجيل إلا كما يوجهه سلطان الكنيسة . ]
وهكذا ظل تفسير الإنجيل في الكنيسة عملياً غير عقلي ، حياً من جيل إلى جيل، وفي نفس الوقت بقي ملتزماً بالفكر الآبائي، والفكر الآبائي بدوره لم يخرج قط عن التقليد الرسولي الذي انحدر إلى الرسل من الصوت الإلهي الذي سمعوه سمع الأذن ثم بعد ذلك بواسطة الروح الواحد الذي كان يسقيهم!
والتقليد الرسولي في تفسير الإنجيل يتجه من حيث المنهج الروحي حسب ما قسم الله لكل واحد منهم من عطية وإلهام :
* فالقديس يوحنا الرسول أعطى تفسيره على أساس المحبة، والتحليق بالروح في السموات، وكشف الأخرويات : فـ « الله محبة» (1 يو 4: 16)، و«هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد» (يو 3: 16)، و«نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً » ( 1يو 4: 19) ، و «إن كان الله قد أحبنا هكذا فينبغي لنا أيضاً أن نحب بعضنا بعضاً » ( 1يو 4: 11) ، و «إن أحببنا بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا» (1يو 4: 12) ، و «هذه هي المحبة أن نسلك بحسب وصاياه» (2يو 1: 6)، و «من يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه » ( 1يو 4: 16)، و «بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة في يوم الدين» ( 1 يو 4: 17)، «لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف » ( 1يو 4: 18) ، و «من يحب الله يحب أخاه أيضاً » (1يو 4: 21)، و «من لا يحب لم يعرف الله » ( 1 يو 4: 8)، و «من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة » ( 1يو 2: 10) ، و «إذا أُظهر (المسيح) نكون مثله لأننا سنراه كما هو» ( 1يو 3: 2 ) ، و «الوصية الجديدة هي أن تحبوا بعضكم بعضاً.» (أنظر 1يو 2: 8 و 10).
*والقديس بولس الرسول أعطى تفسيره على أساس الإيمان الحار المتدفق ورؤيا الخلاص في جهاد الحاضر، وملء الفرح في الألم : «وأما الآن فقد ظهر بر الله … بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون» «فأين الإفتخار؟ قد انتفى . وبأي ناموس؟ أبناموس الأعمال؟ كلا بل بناموس الإيمان.» (رو 3: 21 و 22 و 27).
«إذن نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس » (رو 3: 28)، «لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن.» (رو 10: 4).
«فـإبراهيم نال المواعيد ( ليس بسبب أعمال الناموس) بل لأنه تقوى بالإيمان معطياً مجداً لله.» (رو 4: 13و 20)
«ونحن الآن جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع . » (غل 3: 26).
« لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم، هو عطية الله ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد.» (أف 2: 8 و9)
«وإنجيل المسيح هو قوة الله للخلاص … لأن فيه معلن بر الله بالإيمان » (رو 1: 6 و7)
«فكل من يؤمن به لا يخزى» (رو 9: 33) ، و «كل ما ليس من الإيمان فهو خطية.» (رو 14: 23)
«لأن في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة . » (غل 5: 6)
«فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله.» (رو 5: 1)
لذلك أقول : « افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا » ( في 4: 4)
«لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشىء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً . » (2كو 4: 17)
* والقديس يعقوب الرسول أعطى تفسيره على أساس التمسك بالأعمال وحدود النظام والرياسات:
«فالإيمان بدون أعمال ميت و يكون كالجسد بدون روح.» (يع 2: 20 و 26)
«فما المنفعة يا إخوتى إن قال أحد إن له إيماناً ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلصه ؟ » (يع 2: 14)
«أرني إيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني . » (يع 2: 18)
«أنت تؤمن أن الله واحد ؟؟؟ حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون و يقشعرون.» (يع 2: 19)
«ترون إذن أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده !!!» (يع 2: 24)
حتى «الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء.» (يع 1: 4)
وأيضاً: «إن كان أحد سامعاً للكلمة وليس عاملاً، فذاك يشبه رجلاً ناظراً وجه خلقته في مرآة، فإنه نظر ذاته ومضى وللوقت نسى ما هو (يع 1: 23 و 24). لذلك : «كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم . » (یع 1: 22)
«ومن هو حكيم وعالم بينكم فلير أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة.» (یع 3: 13)
* والقديس بطرس الرسول أعطى تفسيره على أساس الرجاء وسرعة انحلال الزمن الحاضر:
«فالله ولدنا ثانية حسب رحمته الكثيرة لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات . » (1بط 1: 3)
«وأنتم بقوة الله محروسون بإيمان الخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير.» (1بط 1: 5)
«فالقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها عند استعلان يسوع المسيح.» (1بط 1: 13)
«إن إيمانكم ورجاء كم هما في الله.» (1بط 1: 21)
«أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس.» (1بط 2: 11)
«قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم.» (1بط 3: 15)
«لا نعيش الزمان الباقي في الجسد لشهوات الناس بل لإرادة الله.»(1بط 4: 2)
« نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقلوا واصحوا للصلوات.» (1بط 4: 7)
«و يوم الرب سيأتى كلص في الليل، الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها . فيما أن هذه كلها تنحل، أيّ أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى ؟ » (2بط 3: 10 و11)
«لذلك أيها الأحباء إذ أنتم منتظرون هذه اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام.» ( 2بط 3: 14)
وبذلك تكون الأسفار قد شملت من حيث مضمونها الكلي هذه الإتجاهات العامة الأربعة في التفسير، دون أن يكون هناك أي تقسيم واضح بينها إذ بقيت ملامح كل اتجاه غائصة في الأعماق :
– فالإنجيل حسب القديس يوحنا ينسجم مع فكر يوحنا الرسول نفسه الواضح في رسائله .
– والإنجيل حسب القديس لوقا يتحد مع فكر بولس الرسول .
– والإنجيل حسب القديس متى يتآلف مع فكر يعقوب الرسول .
– والإنجيل حسب القديس مرقس يتمشى مع فكر بطرس الرسول .
لذلك نجد أن روح التفسير حسب التقليد الكنسي وحسب الآباء يتجه نحو أحد هذه الإتجاهات الأربعة :
1- إما الإتجاه الروحي الخالص المتأسس على المحبة والذي يحلق في سماء الروح والتأمل ويربط الحاضر دائماً بالأمور الآتية.
2 – وإما الإتجاه الإيماني الذي يقوم على الثقة الوطيدة بما أكمله المسيح من أجلنا مع ربط كل الحاضر بالخلاص الذي من أجله نعيش ونحيا .
3- وإما الإتجاه العملي الذي يتمسك بطريق واحد للعبادة معتمداً على تكميل الفرائض وتطبيق وصايا الله في الحياة اليومية والتمسك بالأعمال إرضاءً للضمير وتثبيتاً للإيمان .
4 ـ وإما الإتجاه بالحياة كلها نحو الرجاء بالقيامة والتطلع بثبات و يقين إلى النصيب المعد لنا في السموات، الذي على أساسه ينبغي أن لا نتمسك أو نتعوق أو نهتم بأمور الحاضر كبيرها وصغيرها لأنها تتغير كل يوم وستنحل في النهاية .
وعلى أساس هذه الإتجاهات الأربعة المحبة والإيمان، والأعمال، والرجاء تتجه الكنيسة نحو تفسيرها العملي للأسفار المقدسة. على أن هذه الإتجاهات لم تأخذها الكنيسة في تقليدها الحي كمجرد معارف أو تأملات أو ثقافة تفسيرية، بل أخذتها على صعيد تقديس الحياة وتكريسها كلها فكراً وروحاً وجسداً . فنجد آباءنا الأوائل نهجوا في حياتهم إما ناحية التصوف أي التأمل الخالص القائم على الحب الإلهي، وإما ناحية الكرازة الملتهبة بالإيمان، وإما ناحية النسك المطقس بالأعمال، وإما ناحية الرجاء المعتمد على بساطة الحياة اليومية والإكتفاء بالقليل . ولكل من هذه الإتجاهات آباء برعوا في العبادة وبلغوا الذروة في القداسة، بآيات عملية وشهادة الروح القدس، وتركوا سيرة حياتهم نموذجاً حياً رائعاً للتعاليم الرسولية المحيية، ومن الآباء من جمع بين كل هذه الإتجاهات معاً فكان شاهداً على وحدة العطايا والمواهب و بالتالي وحدة الإنجيل والأسفار. وسوف نعود إلى هذا الموضوع بالشرح والتفصيل الدقيق مع تقديم الأمثلة والشخصيات.
ثانياً : التقليد والمجامع
المجامع ليست سلطة تشريعية يمكنها سن قوانين إلهية جديدة ولكنها سلطة قانونية لتفسير وشرح القوانين التي سبق وشرحها الرسل. فالرسل هم السلطة الوحيدة التشريعية في الكنيسة، والتقليد الرسولي الذي وضعوه هو بمثابة الدستور الكامل؛ وأما دور المجامع فهو المفسر الرسمي الشرعي للتقليد.
المسيح منطوق قانون الإيمان الأرثوذكسي هو أصلاً من تعليم الرسل، وقد استلموه من رأساً كقانون، كما يذكره الكتاب باختصار: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس». ولكن الرسل بدأوا يشرحونه في الرسائل شرحاً يوضح علاقة الأقانيم وعملهم، فصار أول تعليم عن الإيمان. وكان الرسل، والأساقفة من بعدهم، يسلمونه تسليماً خاصاً شفوياً (وسرياً ) أثناء العماد ليكون قانون حياة لكل إنسان مسيحي من بعد العماد ويكون نوراً له يهتدي به في قراءة الأسفار المقدسة .
هذا القانون ظلت الكنيسة تعمل به وتدافع عنه ضد المقاومين من جيل إلى نجيل دون أن يفقد أصالته الأولى، إلى أن قامت هرطقة آريوس الذي استمال جزءاً كبيراً من الكنيسة بل ومن الأساقفة لتعاليمه مدعياً أن المسيح مخلوق . كان هذا بمثابة هجوم سافر على قانون الإيمان الرسولي مما أزعج الكنيسة كلها، لأن تساوي الثالوث القائم على وحدة الجوهر هو تقليد الكنيسة الذي يعبر عن إيمانها بالله الواحد فهو ليس تقليدها الفكري بل حياتها !!
وعلى هذا انبرت الكنيسة في العالم كله لصدّ الهجوم وتثبيت قانون الإيمان وشرحه شرحاً وافياً تفصيلياً حسب التقليد الحي الذي تعيشه والذي تؤمن به، وذلك فيما يختص بنقطة الخلاف المطروحة وهي أزلية المسيح ووحدة الآب والابن في الجوهر، وهكذا بدأ التقليد الرسولي من جهة الإيمان المسلم للكنيسة يتحرك في اتجاهين: الإتجاه الأول نحو التفسير، والإتجاه الثاني نحو التقنين مع الإحتفاظ التام بجوهر الإيمان الأصلي.
وبنفس الصورة ولنفس السبب التأم المجمعان الثاني والثالث، فدخلت المجامع المسكونية الثلاثة في صميم التقليد الكنسي كمعبر عن يقظة الكنيسة، وكبرهان لحيوية التقليد فيها، وكحارس على جوهر الإيمان، وكان عملها قوياً ساحقاً للأعداء. وانتهت المجامع بتقنين الإيمان الرسولي في صيغته الكاملة النيقاوية، مع تقديم تراث زاخر من الإصطلاحات والتفسيرات اللاهوتية التي أخصبت فكر الكنيسة ودعمت تقليدها الإيماني على ممر الدهور.
ثالثاً : التقليد وكتابات الآباء
من الأدلة الواضحة على حيوية التقليد في الكنيسة هذا التراث الزاخر من كتابات الآباء الذي يبتدىء بكتابات الآباء الرسوليين (100-200 م) الذين خـلـفـوا الـرسـل والتلاميذ مباشرة وتتلمذوا على أيديهم، أمثال اكليمندس و بـولـيـكـار بوس وأغناطيوس و برنابا و بابیاس و يوستين وإير ينيئوس . و يكتمل بكتابات الآباء الأساقفة العظام الذين سبقوا المجامع المسكونية والذين عاصروها ومن جاء بعدهم جيلاً بعد جيل. وقد كان الدافع للكتابة إما لتعليم الشعب وشرح الأسفار والإيمان، وإما للدفاع عن الإيمان لدى الأباطرة والحكام، وإما لمقاومة البدع والهرطقات وتثبيت الإيمان الأرثوذكسي.
وقد زخـر الـتـقـلـيـد الكنسي بمجموعات كبيرة من التفسيرات والشروحات والتعليم في كل ناحية من نواحيه .
والمعروف أن الآباء الكنسيين كانوا حملة لشعلة الإيمان المسيحي المدعم بالأخلاق والسلوك والمعرفة العامة عبر العصور الأولى والوسطى كلها حتى بداية النهضة الحديثة في أوروبا، فكانوا رسل الثقافة والآداب والعلوم بالنسبة للمدنية الحديثة .
وحينما حمل الآباء الأوائل في القرن الثاني شعلة المعرفة والثقافة والفلسفة ضد فلاسفة الوثنيين وثقافاتهم وعلومهم، كان تفوق كتاباتهم ومنطقهم وتأثيرهم ساحقاً بالنسبة للوثنية مما كان مثيراً للإعجاب والدهشة بالرغم من حداثة المسيحية وعتق الوثنية.
فاكـلـيـمـندس الروماني وسميه الإسكندري و يوستينوس وأثيناغوراس وأوريجانوس وترتوليان[1] وكبريانوس يمثلون جنود العاصفة الذين شقوا الطريق في قلب المدنية الوثنية، ليعبر من خلفهم جيوش المعلمين الروحيين الذين دكوا حصون الوثـنـيـة ومعاقلها. ثم أثناسيوس وغريغوريوس وذهبي الفم وأغسطينوس و چيروم الذين خططوا ورسموا وأرسوا قواعد المدينة السماوية المنيرة. هؤلاء لم يكونوا معلمين بالمعنى الشائع ولا دكاترة بالإصطلاح اللاتيني الركيك ولكنهم كانوا أنبياء ورسل العهد الجديد وبنائين مهرة في ملكوت الله، ولكن لا يزال البناء يحتاج إلى نمو وارتفاع، والأساس كفيل أن يحمل الكثير ! فالآباء وضعوا أساساً متعدد القوى والصفات : فبوليكارب يمثل بساطة الأسقفية ورزانتها ، وإغناطيوس يمثل التقوى الكنسية ووحدة الأسقفية والكنيسة والشعب واستعداد الشهادة، و يوستين الغيرة الرسولية، وإيرينيئوس رصانة التعليم والتقليد واكليمندس الإسكندري الخصب الفكري والإتجاه الإجتماعي، وأوريجانس عبقرية المعرفة وتعمق التأمل وعنف التقشف، وكبريانوس الصرامة الكنسية، وترتوليان نشاط الفكر وصلابة الأخلاق، و يوسابيوس غزارة القراءة والبحث والتصنيف والتأريخ ، ولكتانتيوس الإبداع الأسلوبي ، وأثناسيوس أصالة الإيمان الرسولي والإلهام الإنجيلي، وباسيليوس في اللاهوت النسكي، وغريغور يوس النزينزي في اللاهوت الفكري، والنيسي في اللاهوت التصوفي، وذهبي الفم في الوعظ الإنجيلي، وكيرلس الإسكندري في اللاهوت العقائدي، قواعد لا تزال تطلب بنائين جدداً في كل جيل، وتقليد زاخر بمناهج الروح تفيض بالحياة لكل من يريد أن يحيا!!
أما الحاجة إلى تفسيرات الآباء فتبدو حتمية عند التعرف على رأي الكنيسة للإستزادة من الحق والتعمق في الروح أو عند احتدام النقاش حول النقط الإيمانية التي يثيرها الخارجون عن الإيمان أو التي تبدو غامضة في الأسفار المقدسة. لذلك فإن الـتـقـلـيـد يعتبر ذخيرة التفسيرات الآبائية لازمة من لوازم قراءة الإنجيل وتفسيره ، خصوصاً لدى المعنيين بتعليم الشعب وتهذيبه.
غير أن الإقتباسات من الآباء تحتاج إلى وعي سابق للروح الآبائية عموماً ، فليس كل من يدخل في مجال الآباء يستطيع أن يفهم عمقهم أو يفسر تفسيراتهم، أو يغتني بأقوالهم وتعاليمهم؛ فالحاجة ماسة لدراسة الفكر الآبائي بصورة عامة أولاً وبصورة خاصة ثانياً. كما أن التقليد الأرثوذكسي لا يشجع إطلاقاً أي اقتباس للآباء يخالف في مظهره أو في جوهره روح الإنجيل أو أقواله.
على أنـه يـوجـد آباء قديسون ينبغي أن تؤخذ أقوالهم حجة، كما أنه يوجد أيضاً آباء قديسون لا ينبغي أن تؤخذ أقوالهم حجة والتقليد الكنسي يقدم آباء على آباء وقديسين على قديسين، بقدر النور الذي كان عندهم وعلى أساس برهان الإنجيل الظاهر فيهم.
رابعاً : التقليد والأسرار
الإيمان الذي تسلم لنا من الرسل القديسين قبلناه على جزئين: جزء سماعي يقوم على الكلمة وله قوة تجديد الذهن والإرادة وجزء عملي يقوم على إجراءات سرائرية وصلوات لها قوة تجديد النفس.
فالإيمان بالمسيح لا يشمل معرفة من هو المسيح فقط أو حفظ وصاياه فقط ، بل يتحتم أيضاً أن نقبل المسيح في داخلنا ، إذ يلزم أن يمتزج لحمنا وعظمنا بلحمه وعظامه، ويسري دمه في دمائنا أن نعرف المسيح وأن نحفظ وصاياه هذا جزء الإيمان العلني المختص بالقراءة والفهم، هذا هو الإنجيل الذي ينبغي أن يكون ظاهراً لنا وللناس. ولكن أن نتحد بالمسيح شخصياً فهذا سر”. والسر لا يمكن أن يكون ظاهراً، فالمسيح بعد القيامة دخل العلية والأبواب مغلقة، هذا هو بداية السر المسيحي. القيامة أعطتنا فرصة للإيمان بالمسيح بدون عيان ، بدون حواس ، بدون منطق. المسيح الآن يدخل إلينا و يدخل فينا سراً : « ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17). هذا سر ولا يتم فعلاً إلا على مستوى السر وفي غيبة كاملة من الحواس.
ولكن المسيح لا يمكن أن يحل في قلوبنا إلا إذا صرنا روحيين أولاً، ولكي نصير روحانيين يلزم أن نولد من جديد لأن المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح» (يو 3: 6 ). الروح القدس يضطلع بولادة الإنسان من جديد حتى يصير روحانياً فيقبل المسيح في قلبه و يتحد به . أن يولد الإنسان من جديد هذا سر يتم داخـلـيـاً في غيبة كاملة من الحواس. سر الولادة الجديدة وسر حلول المسيح فينا أعطاهما المسيح لنا في العماد والإفخارستيا ؛ وسلمهما لتلاميذه بإجراءات وشروط وصلوات مـعـيـنـة لم يذكر الإنجيل شيئاً عملياً عنها . تسليم المسيح للأسرار هو جزء الإيمان التقليدي العملي، وفيه يتم السر الإلهي غير المحسوس لتطهير الإنسان وتجديده.
فالإيمان بدون أسرار ناقض – هذا أقل ما يمكن أن يُقال ـ والمسيح أوضح هذا الأمر من آمن واعتمد خلص (مر 16: 16)، هنا الإيمان بدون عماد يوقف عمل الخلاص.
وعلى العموم، فإن كافة الأسرار تحوي في جوهرها مستويات روحية عميقة لا يمكن أن تُقاس بمظاهرها ، أذخرها التقليد لنا من المسيح والرسل. وعلى حسب قول القديس باسيليوس الكبير [ توجد أمور استلمناها من الكتب المقدسة وتوجد أمور غيرها حصلنا عليها بالتسليم بواسطة الأسرار، وكلاهما له نفس القوة في الدين ]. فالإيمان لا يُعرف فقط بكلام الفم أو بسمع الأذن بل بالصلاة نفسها والعبادة والممارسات الدينية التي يؤديها الإنسان، معلناً بها عن إيمانه وعقيدته. وتسميتها بالأسرار يشرحها لنا القديس يوحنا ذهبي الفم : [ إنها تدعى أسراراً لأن ما نؤمن به ليس هو ما نراه لأننا نرى شيئاً ونؤمن بشيء آخر، وعندما أسمع كلمة «جسد المسيح» تذكر أمامي، فإنني أفهم ما يُقال بمعنى خاص غير الذي يفهمه إنسان غير مؤمن بالمسيح.]
أي إن إيماني بالحقيقة أصبح في صورة سرية. وهذا أخص خصائص الإيمان المسيحي، فالمسيح نفسه ظهر بهذه الطبيعة السرائرية عينها، فكان في ظاهره « إنساناً لا منظر له فنشتهيه» ( راجع إش 53: 2) ، أما في جوهره فكان الإله المالىء السموات والأرض الحامل كل شيء بكلمة قدرته . وكان مفروضاً على التلاميذ أن يدركوا جوهره الإلهي بالرغم من مظهره المحتقر ، وهذا الفرض لا يزال قائماً بالنسبة لنا في الأسرار.
كذلك فإن المسيح سلمنا الأسرار كعمل حتمي لتكميل الخلاص: «من آمن واعتمـد خلـص» (مر 16: 16) ، « إن لم تأكلوا جسد أبن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم» (يو 6: 53 ) . هنا نجد أن الإيمان الذي يوصل إلى الحياة الأبدية ينقسم إلى قسمين قسم يعتمد على الكلمة ، وقسم يعتمد على سر التناول ، ولا غنى للواحد عن الآخر، لذلك رفع التقليد قيمة الأسرار إلى نفس قيمة الإنجيل !
والله لم يشأ أن يكون عمله في الأسرار ظاهراً باهراً، له صورة المجد، بل حتم أن تجرى هذه الأسرار في إتضاع المادة حتى يرتفع إيماننا إلى نفس المستوى الذي آمن به التلاميذ بالمسيح الإله وهو في صورة عبد » . فالتقليد يقدم لنا الإنجيل لنتقابل فيه جميعنا مع المسيح على مستوى إيماني واحد منظور. أما الأسرار فيقدمها التقليد لنتقابل فيها مع المسيح شخصياً وفي سر كل واحد بمفرده ، فكل واحد يأخذه على قدر إيمانه و يتحد به على قدر حبه . فالأسرار تفيد حضور المسيح : « ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى 20:28)، إنما بصورة سرية .
خامساً : التقليد والكنيسة
الكنيسة في التقليد الأرثوذكسي كيان روحي بشري إلهي بآن واحد، فهي جسم المسيح السري؛ أم سمائية على هيئة مدينة عظمى جميلة ومزينة كأورشليم، كلها من لحمه وعظامه. وهي في حال نموها وتماسكها كرمة حقيقية، المسيح أصلها والأغصان تخرج منه وتظل ماسكة فيه، وتستمد حياتها من دمه. وهي ملكوت الله على الأرض لأن المسيح يحكمها و يدبرها بروحه الأزلي، لذلك أبواب الموت والجحيم لن تقوى عليها لأنها قديت بدم الخروف، وغلبت بكلمة شهادتها ، وكل أبرارها الآن يتهيأون للظهور مع المسيح في مجده العتيد أن يُعلن في الساعة السرية التي في علم الآب. والذي يغلب الآن ينتقل فيها إلى صفوف المنتصرين الذين في السماء، فالكنيسة الآن خورسان الخورس الأعظم والأقوى فوق في السماء حيث الملائكة محسوبون مرتلين، ويكونون مع أرواح الأبرار والشهداء الجزء المسئول عن تقديم التوسلات والصلوات والمعونات لتكميل جهاد الآخرين. أما الخورس الآخر فهو على الأرض وهو خورس التائبين، فالكنيسة على الأرض كلها خورس تائبين !!
التقليد يضع أهمية عظمى على تسلسل وضع اليد لنوال الروح القدس المعطى من المسيح، والمأخوذ من الرسل للأسقفية والقسوسية، ولإعطاء مواهب الرئاسة والتدبير والـتـعـليـم والـحـل والربط لتقرير الحق والقطع باستقامة وحفظ الوديعة المقدسة التي . التي هي قانون الإيمان وأسراره : [ الكنيسة تأسست على الأساقفة « وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات» (متى 16: 18). هكذا يصف الرب كرامة الأسقف وخدام كنيسته ] القديس کبریانوس
فما يؤهل الرئاسات الكهنوتية أن تكون رسولية هو تكوينها السري ونوالها الروح القدس، لأن التسلسل الأسقفي الذي بوضع اليد أهلها على مدى الأجيال لحفظ الوديعة الإيمانية وأسرارها بكل قوة وأمانة، والأساقفة بذلوا من أجل ذلك كل شيء حتى الدم . فبدونهم تفقد الكنيسة معناها وسرها.
والـتـقـلـيـد الأرثوذكسي يشدد على وحدة الرئاسات الكنسية، وبالأخص الأساقفة، لضمان وحدة الكنيسة. وهذا الإتجاه التقليدي تمسكت به الكنيسة غاية التمسك إزاء الإنقسامات ومقاومات الهراطقة، وقد أظهر ضرورة هذا التقليد كل من القديس أغناطيوس الأنطاكي والقديس كبريانوس بصورة ملحة للغاية : [ الأسقفيات كلها واحدة، إذا أقيم أسقف على جزء منها فكأنه أقيم على الكل، كأشعة الشمس فهي كثيرة ولكن النور واحد فإذا انفصل شعاع عن وحدته بالنور فهو لا يوجد لأن وحدة النور لا تسمح بالإنقسام ] القديس کبریانوس
[الكنيسة لا توجد منقسمة ولا منفصلة ولكن مرتبطة ومتحدة بواسطة الأساقفة الذين يكونون معاً بإتحادهم الواحد مع الآخر جسماً متماسكاً للكنيسة . ] القديس کبریانوس
أي إن الأسقف إذا فقد ألفته بالأسقفيات الأخرى فهو لا يعود يمثل الكنيسة، وبالتالي لا يعود يمثل المسيح، لأن وحدة الكنيسة هي سرية وعلى مثال وحدة الثالوث حسب قول القديس إغناطيوس ، و يكون مثل شعاع النور الذي إذا انفصل عن مصدره تلاشى من تلقاء ذاته حسب قول القديس كبريانوس.
كذلك فالتقليد يشدد على وحدة الأسقف بالكنيسة، أي بالشعب، لأن الأسقف هو أسقف في الكنيسة وبالكنيسة ومن الكنيسة ولكن ليس عليها، فوحدة الأسقف بالشعب هي مثال وحدة المسيح بالكنيسة ووحدة الرأس بالجسد. والأسقف في التقليد متزوج الكنيسة الكنيسة هي الشعب متحداً بالأسقف، رعية ملتفة حول الراعي [ فالأسقف يوجد في الكنيسة، والكنيسة توجد في الأسقف ] القديس كبريانوس
لذلك، فالكنيسة كشعب حينما تكون متحدة بأسقفها والأسقف متحداً بالأساقفة، تكون الكنيسة هي مثال المسيح على الأرض، وهذا هو الحال عند لحظة إقامة الإفخارستيا : [ أينما يكون المسيح تكون الكنيسة الجامعة ] القديس إغناطيوس
والكنيسة بالرغم من تعددها في جميع أنحاء العالم فهي واحدة، والأسقفيات بالرغم من توزعها على جميع الكنائس فهي واحدة : [ وبالرغم من أنه توجد كنيسة واحدة فقد قسمها المسيح على العالم كله إلى أعضاء كثيرة، كذلك فبالرغم من وجود أسقفية واحدة هي موزعة بكثرة منسجمة على أساقفة كثيرين.] القديس کبریانوس
ولا يمكن أن تفهم الكنيسة بدون أسرار ولا الأسرار بدون الكنيسة. فالدخول إلى الكنيسة للإتحاد بجسدها يكون من داخل المعمودية ومن تحت يد الأسقف، ودوام الإتحاد بها يكون بالإفخارستيا في سر لا ينطق به. أي إننا في سري المعمودية والإفخارستيا ننال الموت والقيامة مع المسيح :
[حيثما وُجدت الكنيسة فهناك روح الله وحيث روح الله فهناك الكنيسة وكل عمل النعمة . والذين لا يشتركون في الروح القدس لا يغتذون للحياة من ثدي أمهم ولا يرتـوون من النبع الفائض المنبثق من جسد المسيح ] القديس إيرينيئوس
والإتحاد بالكنيسة يعني الحياة فيها . والحياة نمو، وهذا يكون بالتعليم المستمر وبالخضوع لسلطان التأديب وقوانين التوبة لإزالة العثرات من طريق النمو: فالمسيحية تلمذة، والكنيسة تضطلع بدور المعلم والطبيب. وكتاب قوانين الرسل يمثل منهج التعليم والتأديب والتوبة والشفاء في الكنيسة منذ البدء.
وحينما يوفي الإنسان كل واجبات العضوية المنظورة في الكنيسة المنظورة يأخذ حق العضوية غير المنظورة في الكنيسة غير المنظورة[2] « كنيسة القديسين» ( 1كو 14: 33) كما يراها بولس الرسول ، أو «كنيسة المختارين» (كو 3: 12)، «المعروفين لدى الله فقط» (1كو 8: 3) القائمين في الكنيسة المنظورة وغير منفصلين عنها. ولا يستطيع أحد أياً كان أن يفصلهم عنها حسب قول القديس أغسطينوس[3].
والكنيسة، حسب التقليد واحدة مقدسة جامعة[4] رسولية : واحدة بجسد المسيح، مقدسة بالروح القدس الكائن في الرئاسات والأسرار، جامعة بواسطة الشعب المتحد بالإيمان والمحبة والحق في كل مكان، رسولية بالتقليد المسلم من الرسل والمحفوظ فيها على الدوام.
- بسبب عدم وجود قاعدة عقائدية محددة قبل مجمع نيقية كانت بعض الكتابات لبعض الآباء تخرج عن الأصالة العقائدية كما عرفتها الكنيسة بعد المجامع، لذلك وضعت بعض الأسماء لبعض الآباء تحت كلمة «كتاب كنسيين» بدل «قديسين» أو «معلمين» أو «آباء» بالمعنى الكنسي ، ومنهم ترتوليان وأوريجانس و يوسابيوس القيصري ولكتانتيوس وثيئودوريت وغيرهم، بالرغم من تقدير الكنيسة لهم واتخاذ الكثير من تعاليمهم حجة ومرجعاً.
- العلاقة بين الكنيسة المنظورة وغير المنظورة شديدة ولكنها غير محسوسة. وحسب فكر القديس إغناطيوس فإن الكنيسة تمثل التجسد فهي من روح وجسد متحدين . فالذي يتحد بها ظاهراً يتحد بها سراً، والذي يواظب على عضويتها الجسدية ينال عضويتها الروحية (رسائل أفسس 10 وماغنيزيا 13، وسميرنا 12)
- مجمل ما جاء في كتابه عن مدينة الله وعن الوحدة الكنسية (2:2). وحسب فكر أغسطينوس أيضاً، فإن الكنيسة في الحاضر تحوي الصالح والشرير وسريان الأسرار والنعمة فيها لا يعتمد على استحقاق الذين يخدمونها لأنها نعمة الله وليست نعمة الإنسان ؛ وإن الكنيسة الآن هي مثال الملكوت على الأرض فهي كالحقل الذي يحوي الحنطة والزوان وكالشبكة التي فيها سمك رديء وسمك طيب.
- جامعة أي « كاثوليكي». وأول من استخدم هذه الصفة للكنيسة هو القديس إغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل سميرنا (أزمير) 19:8: «أينما وجد المسيح وُجدت الكنيسة الجامعة» (أي العامة). والمعنى اللاهوتى الدقيق لصفة «الجامعة» بالنسبة للكنيسة ينصب، حسب فكر إغناطيوس، على صدق وأصالة التعليم العام حسب ملء الحق Consensus Fidelium وذلك ضد شذوذ الأفراد والهراطقة.
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |