تفسير سفر صموئيل الاول ٢٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث والعشرون
شاول يطارد داود
هاجم الأعداء قعيلة فتطلع الشعب إلى داود ورجاله القلائل (نحو ستمائة رجل) كملجأ لهم بينما تجاهلوا الملك الرسمي بكل جيشه إذ فقدوا الثقة فيه وخاب أملهم من جهته. لقد أدرك الكثيرين أن داود الطريد يعمل من أجل بناء الجماعة المقدسة بينما شاول الملك لا همّ له إلا مقاومة داود ومطاردته بلا سبب. فإن الأشرار لا يطيقون أولاد الله. وكما يقول العلامة ترتليان: [إن العالم لا يطيق الكنيسة فيضطهدها بينما تحب الكنيسة العالم وتخدمه].
داود ينقذ قعيلة [1-13].
سمع داود عن مهاجمة الأعداء لمدينة “قعيلة”[170]، وهي مدينة في سهل يهوذا بالقرب من تخم الفلسطينيين (يش 15: 44) فوق وادي البطم (السنط)، تبعد حوالي ثلاثة أميال من مغارة عدلام، وثمانية أميال ونصف شمال غرب حبرون، تدعى حاليًا خربة كيلا.
كلمة “قعيلة” عبرية معناها “قلعة” أو “محاط بسور”[171].
لم يتحرك شاول ربما لعجزه عن حراسة مملكته من الأعداء، إذ ضاعت كل طاقاته الفكرية والنفسية والعسكرية في التخطيط لقتل داود بسبب الغضب الذي يعكر العينين، إذ يرى الإنسان أصدقاءه والمعينين له أعداء يلزم مقاومتهم والخلاص منهم، بينما يتغاضى عن العدو الحقيقي المحطم لحياته.
كان قلب داود ملتهبًا بالحب نحو إخوته، لذا سأل الرب – ربما عن طريق جاد النبي وأبأثار الكاهن- إن كان يذهب ليخلص قعيلة من الأعداء، فجاءته الإجابة بالإيجاب. وإذ خاف الرجال الذين معه بسب قلة عددهم ونقص السلاح عاد يسأل الرب ثانية ليتحقق الأمر، فجاءت الإجابة كالمرة الأولى. تحرك داود ورجاله ليخلصوا قعيلة ويغلبوا الأعداء ويتمتعوا بغنيمة عظيمة.
الآن أدرك داود ورجاله لماذا طلب الرب منهم مغادرة الحصن والذهاب إلى أرض يهوذا، إذ استخدمهم الرب لخلاص أولاده مهيئًا بذلك الطريق لكي يملك داود.
فقد شاول كل تمييز وحكمة، فقد كان يليق به أن يستغل فرصة غلبة داود على العدو ليطلب مصالحته فيكون سندًا له ضد الأعداء؛ لكنه على العكس ظن أن الله قد رفض داود، إذ قال: “قد نبذه الله إلى يدي لأنه قد أغلق عليه بالدخول إلى مدينة لها أبواب وعوارض” [7]. حسب دخوله إلى قعيلة، المدينة المحصنة (يش 11: 13) فرصة إلهية يقدمها الله له ليسلمه عدوه داود. قوله “نبذه الله” في العبرية تعني “جعله أجنبيًا”، أي صار غريبًا مرفوضًا من الله.
إنه لأمر خطير أن يفقد الإنسان روح الحكمة، فيرى الأمور بمنظار مقلوب، مضاد للحقيقة، فماذا يكون الحال إن فقد القائد الروحي هذه الروح، ليدفع بنفسه كما بقطيع المسيح إلى الهلاك عوض الأمام. لهذا يشترط القديس يوحنا الذهبي الفم في الكاهن: [أن يكون حكيمًا ومحنكًا في أمور شتى، وأن يكون خبيرًا بشئون العالم بأقل من القوم المتصرفين فيه. وفي نفس الوقت متحررًا من العالم أكثر من الرهبان سكان البراري[172]].
ظن شاول أن داود لن يفلت من يده فقد أغلق الرب عليه، إما أن تسقط المدينة عند المحاصرة أو يسلمه أهلها، ولم يدرك أن الله الذي أعطاه الغلبة على جليات بحجر أملس صغير قادر أيضًا أن يخلصه. لقد دعا شاول جميع الشعب، أي رجال الحرب؛ بينما التجأ داود إلى الرب؛ إذ طلب من أبيأثار أن يقدم الأفود التي تستخدم عند دخول الكاهن إلى القدس أمام الرب (خر 28: 29) وعند سؤال الرب في أمر ما (خر 28: 30). بعد سؤال الرب عرف داود أنه يمكن لشاول أن ينزل قعيلة وأن أهلها يمكنهم أن يسلموه له.
عجيبة هي عناية الله بنا ورعايته الفائقة، لقد أعطى النصرة لداود ضد الأعداء ليخلص مدينة قعيلة. لكنه طلب منه الهروب منها حتى لا يقتله شاول وهو أضعف من الأعداء؛ لماذا؟
أ. لكي يدرك داود أن نصرته هي من الرب، به يغلب العدو القوي لكنه بذاته يعجز عن الغلبة على شاول الضعيف… وكأن الله أراد لداود أن يعيش في اتضاعه على الدوام.
ب. لكي لا يدخل في حرب مع شاول وجيشه فيكون مقاومًا لشعبه، ويحسب هذا عارًا عليه. الله في رعايته طلب منه الذهاب إلى قعيلة ليحارب، وبذات الرعاية طلب منه أن يهرب ليعيش مع رجاله في البرية كتائهين، إذ قيل: “وخرجوا من قعيلة، وذهبوا حيثما ذهبوا”.
الله في عنايته أحيانًا يهبنا الغلبة والنصرة، وبذات العناية يفتح لنا بابًا للهروب في مرة أخرى.
داود في برية زيف [14].
غادر الراعي الأمين من وجه الأجير الذي يهتم بنفعه الخاص ولو على حساب غنم رعيته. وكان الزيفيون أيضًا مستعدين لتسليم داود، وإذ أرشدوا عن موضعه في برية معون وكان شاول ورجاله يطاردونه سمح الله بهجوم الوثنيين على المملكة حتى يرجع شاول عن مطاردة داود.
ربما نعطي عذرًا لأهل قعيلة لأنها مدينة صغيرة ولم يكن ممكنًا لها أن تقف أمام جيش شاول، أما أهل زيف فخافوا داود وأبلغوا عن موضعه حيث التجأ إلى حصون طبيعية هناك. كان يمكنهم أن يطلبوا من داود أن يفارقهم عن أن يغدروا به.
“زيف” مدينة في المنطقة الجبلية ليهوذا (يش 15: 55) بالقرب من برية وغابة، حصّنها رحبعام (2 أي 11: 8). تدعى الآن “تل زيف”، وهي هضبة ترتفع 2882 قدمًا فوق سطح البحر، وتبعد أربعة أميال جنوب شرقي حبرون[173].
إذ جاء الزيفيون إلى شاول يقولون له: “أليس داود مختبئًا عندنا؟!” نطق بالمزمور 54:
“اللهم باسمك خلصني، وبقوتك احكم لي.
اسمع يا الله صلاتي، أصغَ إلى كلام فمي،
لأن الغرباء قد قاموا عليّ، وعتاه طلبوا نفسي،
لم يجعلوا الله أمامهم. سلاه…” (مز 54).
يرى القديس أغسطينوس بأن “زيفًا” معناها “مزخرف” أو “مزدهر”. وكأن الذين خانوا داود كانوا كالعشب الذي يزهو وينمو لكن سرعان ما يذبل. لقد ظن الزيفيون أنهم ازدهروا بخيانتهم داود لكن خطتهم فشلت وهلكوا بينما خرج داود من الضيقات غالبًا ومنتصرًا.
v لم تكن خيانتهم لصالحهم، ولا هي أضرت داود.
v كان داود في البداية مختبئًا وأما أعداؤه فكانوا مزدهرين.
لاحظ داود المختبئ في قول الرسول عن أعضاء المسيح: “قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (كو 3: 3). كانوا مختبئين (مستترين في المسيح) فمتى يزدهرون؟ يقول: “متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 4). عندما يزدهر هؤلاء (المستترون في المسيح) يذبل أولئك الزيفيون.
لاحظ بأية زهرة قورن مجد (الزيفيين): “كل جسد عشب وكل جماله كزهر (الحقل)” (إش 40: 6). ما هي نهايتهم؟ “يبس العشب، ذبل الزهر”. ما هي نهاية داود؟ لاحظ ما قيل بعد ذلك: “وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد” (راجع إش 40: 8).
أتريدون أن تكونوا زيفيين؟ إنهم يزهرون في العالم ويذبلون في الدينونة، وإذ يذبلون يلقون في نار أبدية؛ أتختارون هذا؟!…
لقد كان (ربك) مختبئًا هنا، وكل الصالحين مختبئين هنا، لأن صلاحهم داخلي ومخفي في القلب حيث يوجد الإيمان والحب والرجاء حيث يكون كنزهم… كل هذه الأمور الصالحة مخفية، ومكافأتها مخفية.
القديس أغسطينوس[174]
عهد مع يوناثان [15-18].
تم اللقاء الأخير بين داود النبي يوناثان في وسط المحنة [15-18]. وقد ظل الأخير صادقًا في حبه وإخلاصه لصديقه داود، إذ خاطر بحياته ليلتقي به في وقت بلغت
كراهية شاول لداود أشدها.
لم يكن ممكنًا ليوناثان أن يقدم شيئًا لصديقه، فقد جاء خفية بمفرده، إنما قدم له حبه الذي لا يقدر بثمن. وأعلن له أن سلاحه الوحيد هو معية الله ومواعيده، طالبًا أن يكون هو الثاني بعده، مقدمًا داود أمامه بفرح وسرور، إذ قيل: “شدَّد يده بالله، وقال له: لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانيًا. وشاول أبى أيضًا يعلم ذلك”.
جددا العهد معًا أمام الرب ليفترقا إلى غير لقاء في هذا العالم.
لقد مات يوناثان قبل أن يتبوأ داود العرش، إذ كان صعبًا لا على يوناثان بل على داود نفسه أن ينتزع المُلك من صديق مخلص يضحي بحياته لأجله.
لسنا نعرف ماذا كان يحدث لو أن شاول مات وحده ليبقى داود ويوناثان الحبيبان اللذان ما كانا يتصارعان على استلام العرش… لكن الله سمح فأراح داود من الدخول في هذا المأزق.
شاول يطارد داود [19-29].
لا نعرف لماذا غدر الزيفيون بداود فأبلغوا عنه لدي شاول لتسليمه إياه، هل خوفًا من شاول؟ كان يمكن أن يطلبوا من داود أن يترك منطقتهم كي لا يحرجوا مع الملك؛ أم تراهم فعلوا هذا كراهية وبغضة نحو داود؟!
لقد أخبروا شاول أن داود مختبئ في حصون الغاب في تل حخيلة، حاليًا تدعى “بكين”، وهي رأس مرتفع يشرف على البرية، خلالها يرى الإنسان شواهق عين جدي والبحر الميت وجبال موآب[175].
“حخيلة” معناها “مظلم” أو “كئيب”.
سُر شاول بتصرفهم هذا، وحسبه تصرفًا من قبل الله الذي ينصفه من ظلم داود إذ قال لهم: “مباركون أنتم من الرب لأنكم قد أشفقتم عليّ” [21]. هكذا فسدت بصيرته فحسب نفسه مظلومًا وداود ظالمًا ومفتريًا، وأنه هو عبد الرب وداود الإنسان المنبوذ من الرب، لذا فهم مباركون إذ أشفقوا على المظلوم عبد الرب!
طلب منهم أن يتعقبوا آثار رجليه على الرمال، مشبهًا داود بالوحش البري، الذي يتعقبه الصيادون بواسطة أثر أرجله.
أنطلق الزيفيون وراءهم شاول ورجاله للتفتيش عن داود، فانطلق داود إلى برية معون (حاليًا تدعى معين تبعد حوالي ثمانية أميال جنوبي حبرون (يش 15: 55)، كانت مسكن نابال (25: 2). كلمة “معون” معناها “سكن”).
ذهب شاول إلى جانب الجبل وداود على الجانب الآخر، بينهما صخور كثيرة وعرة لا يمكن عبورها. كانا ينظران الواحد الآخر لكن لا يمكن وصول شاول إليه إلا من خلال دوران طويل. أرسل شاول فريقًا من جانب وفريقًا آخر من جانب آخر حتى لا يفلت داود من أيديهم، فيُحاط من كل ناحية. لكن الله أوجد لداود منفذًا، إذ جاء رسول إلى شاول يقول: “أسرع وانزل لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض” [27]. يقُال إنهم اقتحموا أرضه الخاصة، لولا ذلك لما تحرك.
دُعي الموضع “صخرة الزلقات”، إذ فيه زلق شاول أي تغير فلم يمسك داود.
صعد داود من هناك وأقام في حصون عين جدي، وهي حصون طبيعية كالصخور والمغاير، كانت قبلاً تدعى “حصون ثامار” (تك 14: 7، 2 أي 20: 2)، على الشاطئ الغربي للبحر الميت، تبعد 35 ميلاً من القدس، وعلى بعد ميل من شاطئ البحر الميت. ارتفاعها 400 قدم عن سطح البحر. لا تزال تسمى عين جدي، وهو نبع فياض تنحدر مياهه من علو شاهق على جبل صخري، أسفله أرض خصبة[176].