تفسير سفر أيوب ٣٣ للقمص تادرس يعقوب

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ
الوسيط الواحد!

يُعتبر هذا الأصحاح من أروع ما كُتب في العهد القديم، حيث يكشف بعمقٍ عن نظرة رجال العهد القديم، في عصر الآباء، نحو الحاجة إلى الوسيط الإلهي، الشفيع، الذي يصالح الآب مع الناس، ويدخل بالخطاة إلى الحياة الجديدة المقدسة البارة عوض الانحدار إلى جهنم الأبدية. إنه عرض رائع لطريق الخلاص كما أُعلن للآباء والأنبياء.

كان موقف أليهو لا يُحسد عليه، فهو أصغرهم سنًا، وفي نفس الوقت يحترق قلبه في داخله، إذ يرى الشيخ البار في ضيقةٍ شديدةٍ من كل جانب، حتى من أصدقائه، وفي نفس الوقت لم يحتمل عتاب أيوب لله بأسلوب شديد اللهجة. يود أليهو أن ينطق بالحق الذي قد يجرح مشاعر الطرفين: أيوب وأصدقائه.

الآن يقترب أليهو من أيوب ويوجه حديثه إليه، أما غاية حديثه معه، فهي أن ينطق بما هو لبنيان أيوب. فهو يحبه جدًا ومقتنع ببرِّه، لكنه كان يود أن يراه في وسط محنته في ذات الصورة البهية التي رآها فيه قبل التجربة، لا ينطق بكلمة واحدة ينسب فيها لله القسوة.

ومن جانب آخر، يتكلم على لسان الله، فيعاتبه على كلماته التي وجهها لاتهام الله بالقسوة أثناء الحوار الساخن بينه وبين أصدقائه.

وأخيرًا كان يسعى لإقناعه بأخطائه.

  1. باسم الله يدعو أيوب للحوار معه           1 – 7.
  2. عتابه لأيوب على استخدام عبارات عنيفة  8 – 11.

 

  1. باسم الله يدعو أيوب للحوار معه

وَلَكِنِ اسْمَعِ الآنَ يَا أَيُّوبُ أَقْوَالِي،

وَأصْغَ إِلَى كُلِّ كَلاَمِي [1].

لم يجسر أحد الشيوخ أن يوجه حديثه لأيوب، ذاكرًا اسمه، أما هذا الشاب فمع فارق السن يقول: “اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي” (أي1:33). يوجد فارق في السن، لكن كليهما مخلوقان، ويليق بكل منهما أن ينصت للآخر.

إن كان يليق بالصغار سنًا أن يطيعوا الكبار، فإنه يلزم أن ينصت الكل لبعضهم البعض. فلا نعجب أن يبدأ أليهو الشاب حديثه مع الشيخ التقي أيوب قائلاً: “اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي” (أي 1:33). كما يقول بشجاعةٍ وأدبٍ: “ها إنك في هذا لم تُصب” (12:33). يعود فيكرر: “فأصغِ يا أيوب، واستمع لي. أنصت، فأنا أتكلم، فإني أريد تبريرك” (31:33-32).

صورة رائعة من الجانبين، رجل الله التقي الشيخ ينصت لشابٍ دون تشامخٍ من جانبه أو استخفافٍ بصغر السن. ومن جانب الشاب الصغير فمع حواره مع الشيخ بصراحةٍ وانفتاح قلبٍ وشجاعةٍ، كان في غاية الأدب والرقة. إنه يريد أن يبرر من هو في سن والده!

إذ يقدم أليهو التماسه لأيوب يسأله أن يصغي إليه كصديقٍ مخلصٍ يحبه، ولا يتكلم لينتقده أو يرعبه.

اقتبس أليهو بعض عبارات من أيوب، وأوضح له أن الله أعظم من الإنسان، وليس من حق الأخير أن يطلب تفسيرًا من الله على تصرفاته. ما يليق بأيوب أن يدركه هو أن الله يطلب خلاص الإنسان لا هلاكه.

يبدأ أليهو بتوجيه حديثه إلى أيوب، وفي الأصحاح التالي يوجه الحديث إلى أصحاب أيوب.

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة ليهيئ قلوب هؤلاء الأصدقاء الثلاثة للاستماع إليه. وهو في هذا لم يفترِ على أيوب، إنما وجه إليه اللوم من واقع كلماته في الحوارات السابقة.

يسأله أن يصغي إلى كلماته، أو أحاديثه، ليس فقط ما يوجهه إليه، بل وإلى “كل كلماته”، فإنه ينطق بالحق الإلهي لمنفعة الجميع. يطلب منه أن يطيل أناته، فيسمع الحديث حتى آخره، وأن يضع في ذهنه أن ما يُقال ليس غايته نقده وإلقاء اللوم عليه وإنما نفعه.

هَأَنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي.

لِسَانِي نَطَقَ فِي حَنَكِي [2].

جاء في ملاحظات Barnes على هذه العبارة، أن أليهو يتحدث بالكلمات التي في فمه والناطق بها بلسانه الذي يتحرك نحو سقف حلقه، لأن النطق باللغة العبرية يستخدم بالأكثر الحنجرة والحلق واللسان، أما اللغات الأوربية (اللاتينية والإنجليزية) فيستخدم فيها بالأكثر الأسنان والشفاه.

إنه يتحدث معه من حلقه، كمن يخرج الكلمات تحمل طعمًا خاصًا وتذوقًا مملوء حبًا. كل البشر يتكلمون بأفواههم، لكن قليلين من يتذوقون كلماتهم ويفحصونها أولاً، فينطقون بما هو صالح للبنيان.

لقد صمت أليهو طوال فترة الحوار، وكان يتفاعل في الداخل مع الحوار. لم يتسرع بالنقد أو الإجابة على بعض التساؤلات، لكن بحكمةٍ وفي روية اختبر ما في فكره من كلمات، لينطق بما هو يليق.

في حديث رائع يوجهنا القديس مار يعقوب السروجي لنتدرب على الصمت المقدس والكلام المقدس. حيثما انشغلنا بالكلمة الإلهي يقودنا روحه القدوس للصمت البنَّاء كما للحديث البنّاء.

v     أنت هو الكلمة التي تعطى كلمة للمتكلمين،

بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك.

شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيما أشرق فيّ، فأنظر إليك.

فبنظري لك، تستضيء النفس فتقتني الصلاح.

وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا، وإذا ما تفرست فيك لبست النور لتنطق بكلام خبرك…

الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني.

يا رب دبر حياتي كإرادتك.

إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي (للكلام). أصمت في دهشة، وليس بطغيانٍ باطلٍ.

وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك.

عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهشٍ بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءً بكل منفعة. وإذا ما تحركت النفس لتمجدك بمحبة… فبالحب أتحرك، وأتحرك لأمجدك. وفي دهش أصمت ولا اهدأ من تمجيدك.

هب لي يا رب الدهش (بالصمت) والكلمة فأغتني. وفي كل يوم أدهش، وفي كل يوم أتحرك بالكلام!

القديس مار يعقوب السروجي

اِسْتِقَامَةُ قَلْبِي كَلاَمِي،

وَمَعْرِفَةُ شَفَتَيَّ هُمَا تَنْطِقَانِ بِهَا خَالِصَةً [3].

يقول أليهو إن الله الذي وهبه روحه يعطيه أن ينطق بقلبٍ نقيٍ، ويُقدم معرفة صادقة غير غاشةٍ. وكأنه يطلب من أيوب أن يتطلع لا إلى الكلمات مجردة، بل إلى ما في قلب أليهو من نقاوة من نحوه، واستقامة في هدفه في الحوار. كلماته تصدر عن حبٍ خالص، بلا رياء؛ يتكلم في إخلاصٍ من قلبه، ولا يستعرض كلمات جوفاء. ما ينطق به يعبر بصدقٍ عما في قلبه.

أراد منه ألاَّ يضمه مع الأصدقاء الثلاثة حتى وإن تشابهت الكلمات، لأن النيات مختلفة تمامًا.

v     يريد أن يقول: ليس عن حسدٍ أو غيرةٍ أستخدم هذه الوسيلة. وإن كان الثلاثة يقولون نفس الأمور كما يقولها هو، لكن يبدو أنهم لم يتكلموا بذات الروح، ولا فعلوا هذا دفاعًا عن الله. فيهوذا والاثنا عشر عبروا جميعًا بنفس الطريقة بخصوص قارورة الطـيب (يو 5:12-6)، ولكن ليس بذات الروح. لذا يليق بنا لا أن نفحص الكلمات، بل النية التي بها عبٌَر كل منهم عن نفسه: كيف أراد البعض تحطيم أيوب بينما الآخر أراد العكس.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي،

وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي [4].

استخدم كثير من آباء الكنيسة هذه العبارة لتأكيد لاهوت الروح القدس بكونه الخالق واهب الحياة. فإن كان الآب هو الخالق وواهب الحياة، فإن الأقانيم الثلاثة يشتركون معًا في كل عمل إلهي. هنا يتحدث مع أيوب بروح الأخوة الصادقة، فيوضح له أنه من صنع روح الله، الذي وهبه الحياة. فهو أداة في يد الله الذي خلق أيضًا أيوب ووهبه الحياة. فلا يليق بأيوب أن يخشى الحوار مع زميله في الخلقة والحياة، إذ الاثنان مدينان لروح الله بوجودهما وحياتهما. يؤكد له أن الاثنين خليقة الله، لهما ذات الطبيعة، ولها ضعفاتها التي تسللت إلى الطبيعة البشرية.

v     كيف أظهر (سفر) أيوب بوضوح أن الروح خالق، قائلاً: “روح الله خلقني“؟ في عبارة قصيرة أظهر أنه إلهي وخالق. إن كان الروح هو الخالق، فبالتأكيد ليس مخلوقًا، لأن الرسول يفصل الخالق عن المخلوق، قائلاً: “عبدوا المخلوق لا الخالق” (رو 25:1)[1269].

 القديس أمبروسيوس

v     اشترك الروح القدس مع الابن في العمل، سواء في الخلقة أو القيامة، كما يُظهر هذا الكتاب المقدس: “بكلمة الرب صُنعت السماوات، وكل قواتها بنسمة فمه” (مز 6:33). وأيضًا: “روح الله صنعني، ونسمة القدير تعلمني” (أي 4:33). وأيضًا: “ترسل روحك فَتُخلق وتجدد وجه الأرض” (مز 30:14)[1270].

 القديس غريغوريوس النزينزي

v     عندما تمتزج كلمات الجهالة مع الأقوال الحكيمة، فإنه حتى الحكمة لا تُحفظ في الذهن، لأن جهالتهم تكون موضع احتقار السامع… إنه يتكلم هنا بترتيبٍ لائقٍ بخصوص خلقته وقبوله الحياة. يقول إنه قد خُلق بواسطة الروح، وتقبل الحياة بنسمة الله. مكتوب عن آدم عند خلقته: “نفخ في وجهه نسمة حياة، وصار الإنسان نفسًا حية”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إِنِ اسْتَطَعْتَ فَأَجِبْنِي.

أَحْسِنِ الدَّعْوَى أَمَامِي.

انْتَصِبْ [5].

يؤكد له أليهو أنه إن أراد أن يدخل معه في حوار، فليعلم أنه لم يدخل كمن ينتهر ويعلّم، وإنما كشخصين متعادلين من صنع روح الله. يتكلم لا لينتصر أو يتسلط، وإنما بروح الأخوة. كأنه يقول له: أنا إنسان مثلك، أود لك ما أوده لنفسي. اقبل كلماتي بروح المودة.

هَأَنَذَا حَسَبَ قَوْلِكَ عِوَضًا عَنِ اللهِ.

أَنَا أَيْضًا مِنَ الطِّينِ جُبِلْتُ [6].

يترجمها Umbreit: “أنا مثلك من عند الله”، وNoyes: “أنا مثلك خليقة الله”، وWemyss: “أنا مساوٍ لك في عيني الله” وCoverdale: “انظر، فإنني أمام الله كما أنت، فقد تشكلت من ذات الطين”. وجاء ترجمة الفولجاتا: “انظر، فإن الله خلقني كما خلقك، ومن ذات الطين أنا تشَّكلت”. والترجمة السبعينية: “من الطين تشَّكلت كما أنت، تشكلنا نحن من ذات الطين”[1271].

يرى البعض أن معنى العبارة في العبرية: “أنا بحسب فمك إنسان الله”، أي إنني أتكلم باسمه كممثلٍ له، سفير عنه.

إذ كان أيوب يتوسل إلى الله أن يدعوه للمحاكمة حتى يجد فرصته للدفاع عن نفسه، فقد جاءه أليهو يسأله أن يتكلم بكل صراحة كما في محكمة أمام الله.

يعود فيطمئن أليهو أيوب، بأنه وإن تحدث باسم الرب؛ ألاَّ أنه مخلوق من طين هش مثله، من تراب الأرض. إن كان الله يتكلم من خلاله، إلاَّ أنه ليس في ذاته ما يخيف أو يُرعب.

v     يلزمنا حينما نُحث على ممارسة فضيلة ما ألاَّ نقول إن هؤلاء كانوا شركاء لطبيعة غير طبيعتنا، أو إنهم ليسوا بشرًا. لهذا قيل عن العظيم إيليا: “كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا” (يع 5: 17). هل تدركون أن إيليا قد أظهر من ذات شركته للآلام أنه إنسان مثلنا؟ مرة أخرى قيل: “إني أنا أيضًا إنسان لي ذات الآلام مثلكم” (راجع حك 7: 1). هذا يعطي طمأنينة من جهة شركة الطبيعة[1272].

v     لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر.

الآن، أين هؤلاء المعترضون على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟

فهذا الرجل يدينهم بكلماته: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدىٍ” (2 كو17:4).

فإن كانت ضيقاته مُحتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟[1273]

القديس يوحنا الذهبي الفم

هُوَذَا هَيْبَتِي لاَ تُرْهِبُكَ،

وَجَلاَلِي لاَ يَثْقُلُ عَلَيْكَ [7].

في شغف شديد كان أيوب يود أن يعرض قضيته أمام الله مباشرة، لكنه كان يشعر بمهابة الله، مما يجعله عاجزًا عن الحديث في صراحة معه. يقول: “أبعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني” (أي 13: 21)، كما يقول: “ليرفع عني عصاه، ولا يبغتني رعبه” (أي 9: 34).

يقول أليهو: “إننا متساويان، ليس من خوفٍ يحل عليك، وليس من رهبةٍ ليّ تباغتك، حتى تعجز عن أن تأخذ موقف الدفاع معي. لن تثقل يدي عليك، لأني ضعيف مثلك، لا سلطان لي عليك”.

كلمة “يثقل” هنا تستخدم للإنسان وهو يسحب حيوانًا يحمل أثقالاً، كما تشير إلى شخصٍ مثقل جدًا، فينحني بسبب ثقل الحمل.

لعله بسبب هذا المعنى شعر البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو تعدى حدود اللياقة. فمع اعترافه أنه يحمل ذات طبيعة أيوب، وأنه مساوٍ له، لكنه يتكلم بجسارة فائقة، مطالبًا أيوب أن يجاوب ويحاور بلا خوف ولا رعدة.

  1. عتابه لأيوب على استخدام عبارات عنيفة

إِنَّكَ قد قُلْتَ في مَسَامِعِي،

وَصَوْتَ أَقْوَالِكَ سَمِعْتُ [8].

واضح أن أليهو قد حضر كل الحوارات، وكانت أذناه مصغيتين لكل كلمة بكل انتباه. الآن يبدأ بالتعليق على ما يظن أن أيوب قد أخطأ فيه في محاولته لتبرير نفسه. لقد اقتبس العبارات الثلاث القادمة من كلمات أيوب في أحاديثه.

قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ.

زَكِيٌّ أَنَا، وَلاَ إِثْمَ لِي [9].

أول خطأ أثار أليهو هو تبرير أيوب نفسه. حقًا لقد قال أيوب لله إنه يعرف أنه ليس بشريرٍ، وإنه متمسك بالبرّ وغير ذلك من العبارات المشابهة، لكنه في نفس الوقت اعترف انه خاطئ، وأنه لن يتبرر أمام الله (أي 7: 21؛ 9: 29، 30؛ 13: 23، 26).

لم يقتبس أليهو كلمات أيوب كما هي، كما لم تحمل كلماته تبرير نفسه، إنما مواجهة الاتهامات التي ضده أنه مرائي، وأنه شرير.

زكي أنا”: الكلمة العبرية هنا chap، مشتقة من Chopap، وتعني يغطى، يحمي، كما تعني يغسل أو ينقي.

هُوَذَا يَطْلُبُ عَلَيَّ عِلَلَ عَدَاوَةٍ.

يَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَهُ [10].

يتهمه أليهو بأنه قال عن الله غنه يتلقط له الأخطاء، فيتحين كل فرصة ضده كما لو كان عدوًا. لعله استنتج هذا من قول أيوب لله: “أما الآن فتُحصي خطواتي؛ ألاَّ تحافظ على خطيتي؛ معصيتي مختوم عليها في صُرة، وتلفق علي فوق إثمي” (أي 14: 16-17). “لماذا تحجب وجهك، وتحسبني عدوًا لك؟” (أي 13: 24). “وأضرم علي غضبه، وحسبني كأعدائه” (أي 19: 21).

وَضَعَ رِجْلَيَّ فِي الْمِقْطَرَةِ.

يُرَاقِبُ كُلَّ طُرُقِي [11].

هذا الاتهام نقله عن قول أيوب: “فجعلت رجليَّ في المقطرة، ولاحظت جميع مسالكي، وعلى أصول رجليَّ نبشت” (أي 13: 27).

هكذا يصور أيوب الله كمن ينشغل بخطيته ويدقق فيها ويختم عليها، لتقف شاهدة عليه، وأنه يتعامل معه كعدوٍ، يحمل غضبًا عليه؛ يربطه في المقطرة حتى لا يهرب من الدينونة العتيدة والحكم الإلهي ضده.

  1. أليهو يحاول إقناع أيوب بعناية الله

أ. الله صاحب السلطان على الإنسان

هَا إِنَّكَ فِي هَذَا لَمْ تُصِبْ.

أَنَا أُجِيبُكَ.

لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ [12].

من لا يعرف أن الله أعظم من الإنسان، فإن هذا القول يبدو كما لا حاجة إلى سرده، لكن أليهو قاله لمغزى خاص. فقد وجهه إلى إنسانٍ يعاني من نكبات خطيرة متوالية، دون أن يعرف أيوب ما وراء هذه النكبات. ما عناه أليهو أن أيوب الإنسان الضعيف يلزمه أن يخضع للتأديبات الإلهية، حتى وإن لم يدرك أحكام الله من جهة هذه التأديبات. كل ما يليق به أن يعرفه أن الله عادل، وليس فيه ظلم، وأن ما حلٌ بأيوب هو ثمرة أخطائه.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب إذ صرخ نحو الله قائلاً: “لا تجاوبني” (أي 15:9)، أجابه أليهو: “أخبرني، ذاك الذي توبخه بأنه لا يصغِ بأذنه إلى توسلك، ما هو الدليل أنه لا يسمع لك؟ إنه يؤدب ويعاقب! هذا هو قانونه لإصلاح حال البشر”.

v     التزم النبي داود – تحت ثقل الضربات – أن ينطق بكلمات مُبالغ فيها، حيث عاد يتأمل في أصله، قائلاً: “صمت، لا أفتح فمي، لأنك أنت خلقتني” (مز 9:39). فقد تأمل في أية رتبة خُلق، وتعلم عدالة الضربة التي حلت به.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لو لم يكن لنا خصوم لما كانت توجد معركة ولا مكافأة مخصصة للمنتصرين، ولًما قُدم لنا ملكوت السماء. “خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديًا” (2 كو 4: 17). ولَما كان لأحدٍ منّا رجاء في المجد العظيم في الحياة العتيدة نتيجة الصبر في الضيقات المحتملة[1274].

v     لم يكن بالأمر الهيّن الحزن المؤقت لكل أحدٍ، إذ لهم المحبة الكاملة لله في المسيح يسوع بالروح القدس منسكبة في قلوبهم[1275].

العلامة أوريجينوس

لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟

لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا [13].

يعاتب أليهو أيوب لأنه يدخل في خصومه مع الله؛ يسأله وينتظر إجابة سريعة.

الله يحب الإنسان بكونه خليقته التي على صورته، ويفعل ما يسر (الله) حتى وإن لم يدرك الإنسان خطته الإلهية. يفعل الله ما لبنيان الإنسان، وإن كان الإنسان في أحوال كثيرة لا يدرك ما وراء التصرفات الإلهية.

يليق بالإنسان أن يثق في حب الله وأبوته الفائقة وحكمته وقدرته، فيقبل كل شيء من يد الله بفرح وثقة، كما يقبل الطفل من يدي والديه ما يمارسونه معه، حتى يتفهموا يومًا فيومًا خطة الوالدين نحوه.

يليق بنا عوض الدخول في خصومة مع الله، أن نثق أنه لن يخطئ، وأنه صانع خيرات؛ وأننا يومًا ما ننضج روحيًا ونتعرف على خطته من نحونا.

دورنا هو الخضوع والطاعة بفرحٍ وثقةٍ في حكمته، لا الدخول معه في خصومه. فالويل لمن يخاصم جابله، خزف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان” (إش 45: 9).

ب. باستخدام الأحلام والرؤى

لَكِنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً،

وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَان ُ[14].

لعل أليهو يقصد أن الله تكلم مع أيوب حين كان في وسع ولديه خيرات كثيرة، وإذ لم يسمع لله تكلم معه بلغة الضيقات المتوالية، ومع هذا لم يدرك أيوب مقاصد الله ولم يفهم كلماته. هكذا يكلمنا الله أحيانًا بلغة الألم والضيق لكي ينقينا، فنسمع صوته، ونراه متجليًا في حياتنا.

“كل ما يأتي بثمرٍ ينقيه ليأتي بثمرٍ أكثر” (يو 15: 2).

“مرة واحدة تكلم الرب، وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله” (مز 62: 11).

يستخدم كل وسيلة ليتحدث معنا، تارة خلال الخيرات الكثيرة التي يهبنا إياها، وتارة خلال كلمته المقدسة، وأحيانًا خلال الأحلام والرؤى، وإذ لا نسمع له يحدثنا بلغة الضيقات والآلام، كالأمراض أو المتاعب في العمل أو الخسائر المادية أو المعنوية الخ.

ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أنه لأمر طبيعي للقلب المتألم، إذ يرى الأمور تسير على خلاف ما يشتهيه، يشتاق أن يسمع إجابة من الله لماذا تسير الأمور في هذا الطريق، وليس في ذاك. يشتاق أن يجد تفسيرًا للأحداث التي تمر به. يجيبه أليهو أن الله لا يجيب الإنسان في حديث خاص منفرد مع قلب الإنسان، إنما يقدم الإجابة خلال الأسفار المقدسة مرة وليس مرتين، أي لا حاجة أن يقدم لنا الله الإجابة مباشرة كأنه يكرر ما سبق فأعلنه خلال الكتاب المقدس، لكن الإنسان لم يلاحظ إجابة الله له. يليق بنا أن ندرك إجابة الله خلال معاملاته مع من سبقونا بكونهم أمثلة للآتين من بعدهم، ولا نتوقع أن يكرر الإجابة للمرة الثانية (أي 14:33)..

يقدم لنا مثالاً لذلك أنه إذ تحل بنا ضيقة نجد تعزيتنا فيما حلّ بالقديس بولس حيث كان يعاني من ضعف الجسد، وقد سمع الصوت الإلهي: “تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل” (2 كو 9:12). لقد قيل هذا للقديس بولس حين عانى من الألم، لكي لا يُقال هذا لكل واحدٍ بمفرده، بل يُحسب هذا القول مُقدمًا لكل متألمٍ.

لقد تكلم الآب مرة، حيث وُلد الكلمة الإلهي أزليًا، وليس من كلمة أخرى يلدها تشاركه الجوهر الإلهي وتساويه في ذات الجوهر.

فِي حُلْمٍ فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ،

عِنْدَ سُقُوطِ سُبَاتٍ عَلَى النَّاسِ،

فِي النُّعَاسِ عَلَى الْمَضْجَعِ [15].

يقصد بالنعاس slumbering النوم الخفيف، فيكون الإنسان في حالة ما بين النوم واليقظة.

سبق فقال أيوب: “تريعني بالأحلام، وترهبني برؤى” (أي 7: 14). وكان يليق به أن يدرك أن الله يود أن يقدم له رسالة معينة خلال هذه الأحلام المريعة والرؤى المرهبة. جاء في النسخة السريانية: “ليس بالشفاه يُعلم، وإنما بالأحلام والرؤى في الليل”.

حينما يكون الإنسان في هدوء، بعيدًا عن ارتباكات الحياة والمشاغل اليومية، كمن هو في غفوة نومٍ، يمكنه أن ينصت إلى الصوت الإلهي وسط هدوء أفكاره وانفعالاته الداخلية.

v     ماذا يُقصد بكلمة الله أنه يُعرف لنا في حلمٍ إلا أننا لا نتعلم أمور الله السرية مادمنا في يقظةٍ في الشهوات العالمية. ففي الحلم تستريح الحواس الخارجية، ويمكن تمييز الأمور الداخلية. إذن، إن أردنا التأمل في الأمور الداخلية، فلنسترح من الانشغالات الخارجية. بالحقيقة يُسمع صوت الله كما في حلمٍ، عندما تكون الأذهان في راحة، نستريح من ضجيج هذا العالم، فنفكر في الوصايا الإلهية في أعماقها، في السكون العميق للذهن.

هكذا إذ يُلزم القديسون خلال ضرورة الالتزامات أن ينشغلوا في أمور خارجية، يعودون دومًا في شغفٍ لدراسة أسرار قلوبهم. بهذا يصعدون إلى علو الفكر الخفي، ويتعلمون كما لو إلى الناموس الذي على الجبل، عندما يضعون جانبًا قلاقل الأعمال الزمنية، ويتأملون في أحكام الإرادة الإلهية. هكذا موسى نفسه كثيرًا ما انسحب إلى خيمة الاجتماع في أمورٍ متشكك فيها، يسأل الله خفية، ويتعلم القرارات التي يلزم أن يتخذها… هكذا في نشيد الأناشيد، العروس القائلة: “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ” (نش 2:5) سمعت صوت العريس في أحلامٍ…

ولما كان جميع القديسين – ماداموا في هذه الحياة – ينظرون أسرار الطبيعة الإلهية فقط خلال تشبيهات (إذ لم يقتنوا بعد نظرة أكثر وضوحًا عنها ليروها كما هي)، لذلك بعدما قال أليهو إن الله يتكلم معنا في حلمٍ، بحقٍ أضاف: “في رؤيا الليل“. لأن الليل هو الحياة الحاضرة، ومادمنا نحن فيها، نتغطى بضبابٍ خفيفٍ من التصورات غير الأكيدة قدر ما نهتم بالأمور الداخلية. أضاف بطريقة لائقة: “ينعسون في مضاجعهم“. لأنه بالنسبة للقديسين النعاس في مضاجعهم هو أن يستريحوا في حجال العقل. هكذا مكتوب: “ليبتهج القديسون بمجدٍ، ليفرحوا على مضاجعهم” (مز 5:149).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يأمر الرب أن يترك (الإنسان) حياته المرتبكة ويلتصق بالواحد، يقترب من نعمة ذاك الذي يقدِّم الحياة الأبديَّة[1276].

القدِّيس إكليمنضس السكندري

v     كانت مرثا تهتم أن تُطعم الرب، وأما مريم فاهتمت أن يُطعمها الرب. بواسطة مرثا أُعدَّت الوليمة للرب، هذه الوليمة التي ابتهجت فيها مريم[1277].

v     أقول إنه في هاتين المرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة…

ماذا تحمل هذه الحياة؟ لست أتكلَّم عن حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها… وأقول إن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة…

في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة.

ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملاً[1278].

القدِّيس أغسطينوس

v     الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنما في التأمَّل في الرب، الذي هو بالحقيقة هو “الأمر الواحد”… أما قوله: “لا ينزع عنها”، فقد كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن يُنزع عنها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا، أمًا اشتياق مريم فلن يكون له نهاية[1279].

الأب موسى

ج. بالإلهامات الخفية

حِينَئِذٍ يَكْشِفُ آذَانَ النَّاسِ،

وَيَخْتِمُ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ [16].

في وسط هدوء النفس، بعيدًا عن ارتباكات الحياة يفتح الله أذني الإنسان ليسمع مع صموئيل النبي الصوت الإلهي الذي لم يسمعه عالي الكاهن. في هدوء الليل يرفع صموئيل قلبه، قائلاً: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع”.

يفتح الله أذني الإنسان ليسمع ما لا يسمعه من هم حوله. يُعلن له الله بعض أسراره الإلهية، ويكشف له عن الحق، ويُظهر له إرادته الإلهية. “ويختم على تأديبهم”، أي يضع ختمًا على تحذيراته وتأديباته لهم، بمعنى أنها ثمينة في عيني الله من أجل نفعها، يعتز بها لأجل بنيان أولاده فيختم عليها كمن يثبتها.

كانت العقود قديمًا يُختم عليها حتى تكون كما في الصون، ليس من يد تمد إليها لتغييرها. هكذا يحسب الله التأديب أشبه بميثاق حب بين الله وأولاده، يختم عليها بختمه السماوي، كما لو ختم على وصية قدمهما لهم للتمتع بميراثٍ أو نصيب منه.

يختم الله على تأديبهم، أي يعد بأن وراءها الكثير من البركات التي لا رجوع فيها. وراء الضيقات وعود إلهية مختومة لا تتغير.

v     “حينئذ يكشف آذان الناس وتعليمهم، ويدربهم بالتأديب” [16]. توجد أربع طرق بها يتأثر الإنسان بقوة لممارسة الندامة:

عندما يتذكر خطاياه، ويتطلع أين هو.

أو عندما يخشى أحكام دينونة الله، ويفحص نفسه، فيعرف أين سيكون.

أو عندما يلاحظ بدقة شرور الحياة الحاضرة، فيأسف على أين هو قائم.

أو عندما يتأمل بركات وطنه السماوي، إذ لم يتمتع بعد بها، فيتأسف أنه لم يبلغ بعد إليها.

تذكر بولس خطاياه وحزن على ما كان عليه، إذ قال: “أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (1 كو 19:15).

مرة أخرى إذ قيٌَم بدقة الحكم الإلهي، خشي لئلا يكون موقفه سيئًا في هذا الأمر، إذ يقول: “حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 27:9) .

مرة أخرى كان يتأمل شرور الحياة الحاضرة، إذ قال: “ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب” (2 كو 6:5). و”أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي، ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو 23:7-24).

أيضًا كان يتأمل في بركات وطنه السماوي، إذ يقول: “فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذٍ وجهًا لوجهٍ. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرف كما عُرفت” (1 كو 12:13)، “لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبدي” (2 كو 1:5). بالتطلع إلى بركات هذا البيت يقول لأهل أفسس: “لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا المؤمنين حسب عمل شدة قوته” (أف 15:1-16).

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيُحَوِّلَ الإِنْسَانَ عَنْ عَمَلِه،ِ

وَيَكْتُمَ الْكِبْرِيَاءَ عَنِ الرَّجُلِ [17].

إذ فسدت طبيعة الإنسان صار ما يشغله هو الخطية، وما يسيطر عليه هو الكبرياء. فإن الله يسمح بالتأديبات ويختم عليها لكي يسحب المؤمن من خطيته ويتمتع ببرّ الله، ويخفى عنه الكبرياء كي لا يتسلل إلى قلبه وفكره، وإنما يحيا بروح التواضع.

“الكبرياء” حفرة خطيرة كثيرًا ما يسقط فيها حتى المتدينون كالفريسيين، لذلك فإن الله يغطي الحفرة ويردمها، حتى لا يسقط المؤمنون فيها.

v     ما هو عمل الإنسان بنفسه سوى الخطية؟ بحق يُقال إذن أنه إذ يٌَحول الإنسان مما يعمله، سيتحرر من الكبرياء. أن نعصى وصايا خالقنا بالخطية، إنما نتعالى عليه. وكأن الإنسان ينزع نير سلطان الله متى استنكف من الخضوع له بالطاعة. من الجانب الآخر، من يرغب في تجنب ما يفعله، يستدعي في عقله مما قد خُلق بواسطة الله، وفي تواضع يعود إلى نظام خلقته عندما يطير من أعماله الذاتية، ويحب نفسه كما خلقه الله في البداية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْحُفْرَةِ،

وَحَيَاتَهُ مِنَ الزَّوَالِ،

بِحَرْبَةِ الْمَوْتِ [18].

بينما يبذل الأشرار كل الجهد لتحقيق أهدافهم الشريرة وإشباع كبريائهم، إذا بنفوسهم تسقط في حفرة الكبرياء فتهلك في هذا العالم الحاضر وفي الدهر الآتي. لكن الله يتدخل بكل وسيلة، خاصته بالسماح بالتأديبات لإنقاذهم من هذا الموت الأبدي.

كلمة “نفس soul تشير الإنسان بكليته، فالموت يلحق بالجسد كما بالنفس، بكيان الإنسان كله.

كلمة “حفرة[1280] shaachat” ربما تعني فخًا يقيمه الصيادون لتسقط فيه الحيوانات المفترسة (مز 7: 15؛ 9: 15)، أو جوفًا مملوء بالوحل (أي 9: 31)؛ أو سجنًا (إش 51: 14)، أو قبرًا على شكل كهفٍ كبيرٍ (أي 17: 13؛ مز 30: 9). واضح أنه يُقصد به هنا القبر حيث تنتهي حياة الإنسان على الأرض.

v     “منقذًا نفسه من الفساد، وحياته من الزوال بالسيف” [18]. فإن كل خاطي، بسبب فساده هنا بالخطية، يلتزم أن يعبر إلى سيف العقوبة، فبعدلٍ يُعاقب في ذاك العالم بذات الخطايا التي ابتهج بها في هذا العالم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

د. بالأحزان

أَيْضًا يُؤَدَّبُ بِالْوَجَعِ عَلَى مَضْجَعِهِ،

وَمُخَاصَمَةُ عِظَامِهِ دَائِمَةٌ [19].

يسمح الله بالآلام تحل ببعض مؤمنيه حتى يلزموا الفراشً وهو في هذا لا يطلب آلامهم، إنما لكي يكبح رغبتهم نحو الخطية. في لحظات الضيق يعيد الإنسان التفكير في حياته، وتُقدم له الفرصة للتفكير في المصير الأبدي.

أليهو يوضح هنا أن الضيق هو عمل تأديبي للبنيان، يستخدمه الله بروح الأبوة الحانية، من أجل توبة أولاده، ورجوعهم إليه، وتمتعهم بشركة الأمجاد.

يشير السرير أو الفراش أو المضطجع إما إلى الملذات الجسدية أو الراحة بممارسة الأعمال الصالحة أو الراحة المؤقتة. عندما شفى السيد المسيح المفلوج سأله أن يحمل سريره ويمشي (مت 6:9)، أي لا يعود ينام في ملذات الجسد، بل بكلمة الرب يحمل سرير مرضه، ويتخلص من خطاياه.

هنا يعلن أن الله يؤدب الإنسان الساقط في ملذات الجسد على سريره، فتصير الملذات نفسها مصدر آلامه وتأديبه. ما يظنه سرٌ بهجته يصير بالنسبة له علة حزنه.

أما العظام التي تنبري، فتشير في الكتاب المقدس إلى الفضائل، حيث كُتب: “الرب يحفظ كل عظامهم، وواحدة منها لا تنكسر” (مز 20:34). لا تشير هنا إلى عظام الجسد بل إلى قوى العقل. فإن الكثير من عظام الشهداء انكسرت وذلك بالمفهوم الجسدي، كما كُسرت ساقا اللص الذي قيل له: “اليوم تكون معي في الفردوس” (يو 32:19، لو 23: 43). فإنه إذ يؤدبنا خلال شهواتنا الجسدية، يتبدد فينا الافتخار بفضائلنا، ونعترف بضعفنا. خلال التأديب ندرك ضعفنا، وبدونه نحسب أنفسنا أقوياء في حياة الفضيلة بقدراتنا الذاتية.

فَتَكْرَهُ حَيَاتُهُ خُبْزًا،

وَنَفْسُهُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ [20].

من التأديبات التي يستخدمها الله السماح بالمرض الذي يُفقد الإنسان شهيته حتى عن أكل الخبز، إذ تمقته نفسه، وهو تأديب نافع للمتألمين، إذ لا يعودوا يستطيبون الملذات والترف.

يشمئز الإنسان من الأطعمة الفاخرة التي كان يشتهيها ويعافها.

يقول المرتل عن الجهال الذين تذلهم آثامهم: “كرهت أنفسهم كل طعامٍ، واقتربوا إلى أبواب الموت” (مز 107: 18). ويصف الحكيم حال الميت: “والشهوة تبطل، لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي، والنادبون يطوفون في السوق” (جا 12: 5).

بعد أن تحدث عن قوة التأديب الإلهي، الذي يرفع الإنسان عن سرير الملذات الجسدية، ويبدد افتخاره بالحياة الفاضلة كأنها من عمل يديه، يقول هنا إنه يجعل خبزه دنسًا في شفتيه، فتكره حياته الخبز، وتُعاف نفسه الطعام الشهي. ماذا يعني بالخبز والطعام الشهي سوى الملذات التي كان يجد فيها لذة خاصة لا يقدر أن يستغنى عنها؟ خلال التأديب يتحول خبزه بالنسبة له إلى دنسٍ كريهٍ، حيث يدرك بطلان الملذات الجدسية، وتتحول العذوبة من الطعام الشهي إلى مرارة لا يطيقها.

فَيَبْلَى لَحْمُهُ عَنِ الْعَيَانِ،

وَتَنْبَرِي عِظَامُهُ فَلاَ تُرَى [21].

الجسم الذي كان يعتز به الإنسان ويفخر بجماله وقوته يبلى كأنه قد اختفى، ويصير كأنه غير موجود، والعظام التي كانت مختفية حيث يكسوها اللحم برزت من شده النحافة والمرض، وكأنها صارت عارية.

يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة التي جاءت ترجمته لها في كتاباته: “يبلي جسده، وعظامه التي كانت مغطاة تتعرى” بأن الجسد هنا يشير إلى شهوات الجسد، والعظام إلى فضائل النفس. فخلال عصا التأديب تبلى شهوات الجسد، ولا يكون لها سلطان علينا وتنكشف الفضائل التي كانت مستترة، فتتجلى وسط التأديب الإلهي.

v     لا يتعلم أحد عن مدى التقدم الذي صار له إلا وسط الضيق لأنه في الرخاء لا يمكن تمييز الشهوات عن القوة الروحية. عندما تأدب الرسل طُلب منهم ألا ينطقوا بعد باسم يسوع. أما هم ففرحوا فرحًا عظيمًا، أنهم حُسبوا أهلاً أن يهانوا من أجل اسم يسوع. وبثقة أجابوا خصومهم قائلين: “ينبغي أن نطيع الله أكثر من الناس” (راجع أع 29:5). ها أنتم ترون قوة الإيمان تشرق بأكثر حيوية في وسط الضيق. ها أنتم ترون سلامة (شهوات) الجسد تقطع، وعظام فضائلهم تُكشف. قيل عنهم بواسطة الحكمة: “الله زكٌاهم، ووجدهم أهلاً له” (حكمة 5:3). فإنهم إذ يُمتحنون بواسطة نفخات الخصم يًجدون أهلاً بتعرية عظامهم”. فإن قوة كل إنسان تُعرف فقط بالضيق.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

وَتَقْرُبُ نَفْسُهُ إِلَى الْقَبْرِ،

وَحَيَاتُهُ إِلَى الْمُمِيتِينَ [22].

هنا يعني الإنسان الساقط في ضيقة يصير كمن يعاني من الآم مبرحة تكاد تنهي حياته، فينقاد إلى المميتين، أي ملائكة الموت، أي الملائكة المنوطين من قبل الله ليأخذوا أرواح الناس.

v     “تقرب نفسه إلى الفساد، وحياته إلى المخربين” [22]. بقدر ما يُقاد بالضيق ويدرك أن قوته تقترب من الموت، يعمل ليجد حلاً، يجد الأساس الحقيقي للحياة، بالطيران إلى الحماية القادمة من الثقة بالله.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

هـ. يرسل البرّ

إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ،

لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ [23].

اختلفت الآراء في تفسير هذه العبارة. وقد جاءت في الترجمة السبعينية: “إن وجد ألف ملاك للموت لا يقدر واحد منهم أن يجرحه بطريقة مميتة. إن صمم في قلبه أن يرجع إلى الرب عندما يظهر للإنسان اتهامه ضده، ويظهر غباوته، فسيعينه حتى لا يسقط في الموت، ويجدد جسده مثل لصق أملس على حائط، وسيملأ عظامه بالنخاع، ويجعل جسمه غصن مثل طفل”. وجاءت الترجمة الفولجاتا: “إن وُجد له ملاك يتحدث عنه، واحد من ألف، يعلن برّ الإنسان فسيشق عليه ويقول: خلص ذاك الذي يسقط في الفساد، وجدته هذا الذي أنا مناسب له”. وجاء في النسخة الكلدانية: “إن وُجد استحقاق فيه يُعد ملاك، معزي، واحد بين ألف من المتهمين، يعلن للإنسان استقامته؛ لقد وجدت فدية”.

  1. الرأي الأول: هو أن هذا الملاك هو إنسان يرى Munster واسيدورس أنه معلم ممتاز مُرسل إلى المرضى يعلم إرادة الله. ويرى Junius و Termillius أنه نبي. يرى Codurcus أنه يشير هنا إلى حالة أبيمالك الذي أصيب بمرضٍ بسبب سارة وأن الملاك هو نبي أرسل ليُعلن له أن الله بار (تك 20). ويرى Umbreit ان الملاك هنا هو أليهو نفسه، أرسله الله إلى أيوب ليعلن الحق الخاص بالتدبير الإلهي وسرّ السماح بالأحزان أن تحل بالناس. وآخرون يرون أن الحديث هنا يخص خادم الله الأمين الذي يفتقد المرضى والمتألمين ويعلن لهم خطة الله، دون تحديد اسم معين.
  2. الرأي الثاني: إن الحديث خاص بإرسال الله ملائكته لاعلان إرادته للبشر، خاصته للمتألمين، وأن يؤكد لهم أن الله يريد أن يعلن رحمته لهم إن رجعوا إليه بالتوبة يرى القديس جيروم على سبيل المثال أن الحديث هنا يشير إلى ملاك واقف في حضرة الله، عمله إرشاد البشرية وإصلاح أمرها.
  3. الرأي الثالث: وهو أن الحديث هنا هو نبوة عن شخص السيد المسيح، من بين الذين نادوا بهذا الرأي القديس أغسطينوس[1281].

v     من هو هذا المُرسل (الملاك)، إلا ذاك الذي دعاه النبي: “ملاك المشورة القدير”؟

v     طبيبنا من فوق، إذ وجدنا تحت ثقل أمراض كثيرة كهذه… جاء إلينا كإنسانٍ، ولكن بكونه بارًا للذين هم في الخطية. اتفق معنا في حقيقة طبيعته (ناسوته)، واختلف عنا من جهة قوة برٌَه.

لا يمكن إصلاح إنسانٍ خاطئ إلا بواسطة الله. ولكن كان من الضروري أن ذاك (المسيح) الذي يقوم بشفائه أن يكون منظورًا مدركًا بالحواس، لكي ما يصلح حياتنا السابقة الشريرة بوضع نموذجٍ لنا نقتدي به. لم يكن ممكنًا لله أن يُرى بواسطة إنسان. لذلك صار إنسانًا لكي ما يُرى. ظهر الله القدوس غير المنظور كإنسانٍ منظورٍ مثلنا، حتى إذ يبدو كمن هو مثلنا يعلمنا بقداسته، ويضع نهاية لمرضنا بقدرة مهارته…

إذ ليس فيه أي مزيج من الخطية لم يخضع لأية عقوبةٍ كأمرٍ حتميٍ. لقد اخضع معصيتنا بغلبة عليها. لقد خضع لعقوبتنا من أجل حنوه علينا، وكما يقول بنفسه: “لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها” (راجع يو 18:10). مرة أخرى لم يقم مثل سائر الناس فإن قيامتنا تتحقق في نهاية العالم، أما قيامته فاحتفل بها في اليوم الثالث. نحن بالحق نقوم بواسطته، أما هو فيقوم بنفسه.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

و. بالفداء

يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ،

قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً [24].

إذ يشير أليهو إلى الوسيط، ربنا يسوع المسيح، يتحدث عن دوره في خلاص الإنسان وتمتعه بالفداء، منقذًا إياه من الانحدار إلى هاوية مملكة الظلمة، ويهبه الحياة الأبدية عوض الهلاك الأبدي.

v     سيتراءف عليه، ويقول: “خَلصه من الهبوط إلى الفساد، وجدت طريقًا لفديته” [24]. الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، إذ أخذ شكل إنسان. بحنوه يقول أبيه لحساب الإنسان المُخلص: “خلصه من الهبوط إلى الفساد“.

نتحرر ببرّ المخلص القدير، إذ يقول بنفسه: “فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو 8: 36). حسنًا يُقال لحساب هذا الإنسان المفدي: “تقترب نفسه من الفساد” (راجع أي 33: 22)، والآن يعلن أنه لا يهبط إلى الفساد. وكأنه يقول: إذ هو مدرك خلال إحساسه بضعفه أنه ليس ببعيدٍ عن الفساد، لهذا ليته لا يهبط إلى موت الفساد، فإنه بحقٍ يهبط إلى الفساد إن حسب نفسه أن بقوته ابتعد بعيدًا عنه. لكنه إذ يقترب في تواضعٍ يلزم قبوله بالرحمة. فكما اعترف بضعفه بالطبيعة يتقوى ضد الخطايا التي تصارعه. فمن يفتخر بنفسه فوق ما هو عليه يهبط بثقل كبريائه، يغطس إلى أعماق أكثر…

إذ أخذ الرب لنفسه الضعف، واحتمل عقوبتنا بموته، ردٌ فسادنا بقيامته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

“أطلقه”، الترجمة الحرفية للكلمة العبرية “خلّصه”، بأن ينقذ الشخص بفدية أو دفع ثمن عنه، والكلمة اليونانية تعني دفع ثمن أو فدية، استخدمت في (مت 20: 28). “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين”.

الحديث هنا نبوة واضحة عن الفداء الأبدي الذي دفع السيد المسيح ثمنه بدمه الثمين. وكما يقول الرسول بولس: “وليس بدم تيوسٍ وعجولٍ، بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا” (عب 9: 12).

وجدت فدية”، فقد أوجد ربنا يسوع هذا الفداء. تعبير “أوجد” يشير إلى غيرته المتقدة على خلاص العالم، وأمانته، وفرحه، وسعيه نحو خلاص الإنسان. إنه يعمل كمن يبحث حتى يجد فيفرح!

“يذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحًا” (لو 15: 4-5).

“افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال” (لو 15: 6).

“أية امرأة… إن أضاعت درهمًا واحدًا… تفتش باجتهاد حتى تجده” (لو 15: 8).

“افرحي معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته” (15: 9).

“وجدت داود عبدي، بدُهن قدسي مسحته” (مز 89: 20).

v     الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، يظهر رحمة على الإنسان إذ أخذ شكل إنسانٍ. خلال حنوه، يقول لأبيه لحساب الإنسان المٌَخلص: “أطلقه عن الهبوط إلى الفساد”…

  1. عذوبة التمتع بخلاص الله

يَصِيرُ لَحْمُهُ أَنْضَرَ مِنْ لَحْمِ الصَّبِيِّ،

وَيَعُودُ إِلَى أَيَّامِ شَبَابِهِ [25].

إذ تحدث أليهو عن المسيح الفادي، رفع نظرنا من الضيقات والأحزان والأمراض إلى ما ننعم به خلال هذا الفداء العجيب. عوض الحديث عن الأمراض يدهش أليهو إذ يرى بروح النبوة الإنسان الذي كان منحدرًا نحو الهلاك الأبدي لا يتمتعٍ بالصحة فحسب، بل يصير جسمه أغض من جسم صبي، يتحول من حالة الشيخوخة العاجزة إلى الشباب القوي المملوء حيوية ونشاطًا.

خلال الفداء يتمتع بميلاد جديد، ويصير المؤمن خليقة جديدة على صورة خالقه. يصير ابنًا لله في مياه المعمودية، باتحاده بالابن الوحيد الجنس. يصير نعمان الجديد، الذي قيل عنه: “فنزل وغطس في الأردن سبع مرات حسب قول رجل الله، فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر” (2 مل 5: 14). يتحقق فيه قول السيد المسيح لنيقوديموس: “الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو” (يو 3: 5-6).

v     “جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه” [25]. عندما سقط الإنسان الأول من الله، طُردنا من مباهج الفردوس، وارتبطنا بمآسي هذه الحياة الفانية. ونشعر بألم عقوبتنا مدى خطورة خطأنا الذي ارتكبناه بغواية الحية. فإننا إذ سقطنا إلى هذه الحال، لا نجد شيئًا خارج الله سوى الحزن… فإننا نعاني يوميًا من الحزن في الجسد، وفيه العذاب والموت، لذلك فإن الرب بتدبيره العجيب يغير ما حلٌ بنا بارتكابنا الخطية وذلك بوسائط العقوبة….

جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه“. كأنه يقول: خلال عقوبة موت (موت الإنسان) هبط بعمره المسن، فليرتد إلى أيام صباه، أي ليتجدد إلى كمال حياته السابقة، ولا يبقى في الحال الذي سقط إليه، بل بخلاصه يرجع إلى مباهج حالته التي خُلق عليها أصلاً… إذ أُحضرنا إلى هذه القوة للحياة الجديدة، ليس بقوتنا، وإنما بواسطة المخلص، ليت الرسول (السيد المسيح) يقول في وساطته لهذا الإنسان الذي تحت العقوبة: “ليعود أيام صباه”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ،

وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ،

فَيَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ بِرَّهُ [26].

بهذا الميلاد الجديد يدخل المؤمن في علاقة مع الله، كابن له دالة لدى ابيه؛ يصلي ويعترف ويسبح ويشكر، مقدمًا بخورًا طيبًا يشمته الله رائحة سرور ورضا في استحقاق ذبيحة المسيح. يتطلع الله أبيه ببهجة قلب، معانيًا وجهه بهتافٍ وتهليلٍ. لا يخشى اللقاء معه، إذ يدرك حقيقة المصالحة التي تمت بالصليب.

يسكب الله على مؤمنيه من ثمار الروح بفيض فيحمل أيقونة المسيح وبرَّه.

هكذا ينقلنا أليهو من الصراخ بسبب الأحزان، إلى الهتاف كأبناء للآب السماوي، نحمل الطبيعة الجديدة المكللة بالمجد، ونتمتع برؤية وجه الله، ونشارك السمائيين تسابيحهم وهتافهم، ونستتر في برّ المسيح الذي نرتديه ثوبًا بهيًا سماويًا.

v     “سيصلي إلى الله، فيرضي عنه” يقول بأن الرسول (الشفيع الكفاري) يتوسط أولاً وبعد ذلك الإنسان، فلو لم يتوسط الرب لدى أبيه خلال تجسده، وصلي لأجل حياتنا، ما كان لجمودنا الحي أن يتحرك، فنطلب الأبديات… لكن لأن نور الحق ينفجر بالفرح السري في قلوبنا بعد التجارب، غالبًا بعد أحزانٍ عظيمة، بحق أضيف عن هذا الإنسان المُجرب والمتوسل لدي الله: “ويعاين وجهه بهتاف” [25]. لقد قيل سابقًا كيف يعمل الله بإعلان ذاته لنا، أما هنا فيُظهر كيف أنه يبهجنا عندما يجعل نفسه معروفًا.

هكذا فإن يعقوب بعد صراعه مع الملاك قال: “نظرت الله وجهًا لوجه” (تك 32: 3)، كمن يقول: “أعرف الرب لأنه هو نفسه يتنازل ليعرفني”. لكن بولس يعلن أن هذه المعرفة ستتم بأقصى الكمال في النهاية، حيث يقول: “سأعرف كما عُرفت” (1 كو13: 12). بعد النضال في الأتعاب وأمواج التجارب غالبًا في تُسبى النفس متهللة حيث تتأمل معرفة الحضرة الإلهية (التي يمكنها أن تشعر بها لكنها لا تقدر أن تتمتع بكمالها). لذلك حسنًا قيل عن هذا الإنسان المُجرب بعد أتعاب كثيرة: “يعاين وجهه بهتافٍ” [26]. كلما تأمل الإنسان في الإلهيات يستعيض أفعاله الأرضية بنعمة التأمل، لذلك لاق به أن يضيف بُر لأعماله: “فيردٌ على الإنسان برَُه” [26].

يُدعى “برنّا” ليس كما لو كان ذلك من أنفسنا، إنما صار لنا بالهبة الإلهية، كما نقول في الصلاة الربانية: “خبزنا اليومي أعطنا اليوم”. انظروا إننا ندعوه “خبزنا” مع أننا نصلي لكي نناله. إذ يصير لنا عندما نتقبله، ولكن هو خاص بالله، لأنه هو الذي يعطيه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ:

قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيم،َ

 وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ [27].

جاءت العبارة في العبرية: “يغني بين الناس”، وقد اختلفت الترجمات للكلمة العبرية Shiyr وتعني “يغني”. يتحول الإنسان من صراخه من شده التجارب والآلام التي حلت به إلى التهليل والتسبيح متغنيًا بنعمة هذا الوسيط الذي فداه وجدد طبيعته بروحه القدوس ووهبه الحياة الأبدية. إنه أخطأ وعوج الطريق المستقيم لكن النعمة غطته فنال المغفرة ولم يجاز على ماضيه.

رأى البعض أن الكلمة العبرية مشتقة من Shuwr وتعني “يتطلع حوله” أو “يهتم بـ”، أو “يلاحظ”. لذلك جاءت الترجمة الانجليزية (KJV ): “تطلع إلى البشر، وإن قال أحد إني أخطأت وأفسدت ما هو حق ولم أنتفع شيئًا. وكأن هذا العبارة تشير إلى الوسيط الإلهي، مخلص العالم يتطلع إلى البشرية التي فسدت، فإن اعترف أحد أنه أخطأ وأفسد ما هو صالح من طاقات وإمكانيات ومن مراحم وبركات قُدمت له من قبل المخلص وان هذا لا ينفعه شيء، فسيعمل المخلص فيه[1282].

تحت ضغط التجارب أو تحت التمتع برؤية الوسيط إن اعترف أحد بخطايا واعوجاج سلوكه يتمتع بالمراحم الإلهية.

بهذا يقدم لنا أليهو نظرته إلى التجارب بكونها تأديبًا من الرب غايته أن يرجع الإنسان إلى نفسه ويكتشف أخطاءه ويشعر باحتياجه إلى الفادي فينعم بالمراحم الإلهية.

بقوله: “عوجت المستقيم” قد يعني أخطأت النظر إلى خطة الله من نحوي، فلأجل استقامة حياتي يُسمح ليّ بالتجارب، لكنني بفساد قلبي أتطلع إليها كظلمٍ حلّ عليّ. ولهذا “لم أجازَ عليه” أو “لم أنتفع منه”. فالخطأ ليس في حلول التجارب وإنما في عدم انتفاعي منها بسبب تذمري على الرب، وحسبت أنني لا استحق كل هذه الآلام القاسية.

v     “يتطلع إلى الناس ويقول: وأخطأت” [27]. ما كان يمكنه أن يعرف أنه خاطى ولو لم يكن قد صار له البرّ. فإنه لا يكتشف أحد عيوبه ما لم يكن قد بدأ أن يكون مستقيمًا. فمن هو مشوه تمامًا لا يقدر أن يدرك حقيقة نفسه. أما الذي يشعر أنه خاطئ، فقد بدأ إلى حد ما أن يصير مستقيمًا. بكونه مستقيمًا يلوم سلوكه حيث لا يزال بعد غير بار. وباتهامه لنفسه يبدأ يلتصق بالله. وإذ يعبر إلى اتهام نفسه بحق، يدين نفسه فيما يدرك أنه لا يسر الله.

أما إذا تطلع خاطي إلى نفسه دون أن يتعلم سمة البار، فإنه لا يستطيع بأية وسيلة أن يدرك أنه خاطي…

البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المؤمن إذ يتطلع إلى الناس (القديسين) يقرأ في حياتهم كما في كتاب مفتوح فيدرك أنه خاطي، ويقدم توبة ليحيا في برٌ المسيح. ففي تعليقه على هذه العبارة يقول: [حياة الصالحين هي دراسة حية، لهذا ليس عن غير استحقاق دعي الأبرار “كتبًا” في لغة الكتاب المقدس، كما هو مكتوب: “وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار حسب أعمالهم”

 (رؤ 2: 12)… لكي نقتني معرفة السماويات ندرس الأمثلة التي للقديسين الذين سبقونا. لقد قيل إنهم يرعون بين السوسن (راجع نش 4: 5-6). فإنه ماذا يُقصد بالسوسن سوى سلوك أولئك الذين يقولون بكل صدقٍ: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله” (2 كو 2: 15)… فإننا مادمنا نعبر في ظلال هذه الحياة الفانية حتى نبلغ فجر اليوم الأبدي، نحتاج أن نشبع بأمثلة الأبرار.]

v     “يتطلع إلى الناس ويقول: أخطأت، وعٌَوجت المستقيم، ولم أجاز عليه كما أستحق” [27]. حتى الذين لا يعتقدون أنهم يخطئون يعترفون بطريقة عامة أنهم خطاة. فالأمر هكذا بالنسبة للبشر. غالبًا ما يعترفون علانية أنهم خطاة، ولكن متى سمعوا من يذكر بالصدق عن خطاياهم عندما يهاجمونهم، يدافعون عن أنفسهم بجسارة ويسعون نحو اظهار أنفسهم أبرياء. من كانت له هذه السمة، فإنه إذ يقول إنه يخطئ فهو لا ينطق بالحق، إذ يعلن عن نفسه أنه خاطي، لكنه ليس من عمق قلبه، إنما مجرد ينطق بكلمات، لأنه مكتوب: “الصديق من البداية يتهم نفسه” (راجع أم 18: 17). وإنه يود أن ينال سمعة طيبة، لا أن يتواضع باعترافه بخطيته. إنه يرغب باتهامه لنفسه أن يظهر متواضعًا بينما هو ليس كذلك… أما الصديق فإذ يتهم نفسه على سلوكه يعرف عمق قلبه، خلال أمثلة القديسين أنه بالحق هكذا كما يعترف. وفي ألم يكمل أنه لم يجازَ كما يستحق.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ،

فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ [28].

هذه هي أغنية القادمين من الضيقة العظيمة (رؤ 7: 14)، إذ يسبحون الله على مراحمه الفائقة الذي رفعهم من حفرة جهنم إلى أورشليم العليا؛ وعبر بهم من مملكة الظلمة ليستقروا في أحضانه أبديًا في النور إلهي. وكما قيل عن أورشليم العليا: “والمدينة لا تحتاج إلى الشمس، ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والحمل سراجها” (رؤ 21: 23).

v     “فدى نفسي من العبور إلى الدمار” [28]. إذ تتقدمنا النعمة الإلهية في أعمال صالحة، تتبعها إرادتنا الحرة، وإذ نُخضع موافقتنا لله الذي يخلصنا يُقال عنا إننا نفدي أنفسنا. يقول بولس: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم” (1 كو 15: 10). وإذ يخشى أن ينسب أتعابه لنفسه للحال أضاف: “ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي”. فإنه إذ تبع بإرادته الحرة نعمة الله السابقة والواقية فيه، بصدق أضاف: “التي معي”، حتى لا يكون جاحدًا للنعمة الإلهية، ولا يبقى متغربًا عن التأهل للإرادة الحرة…

“فترى حياتي النور” [28]، بمعنى نور الحق الذي لم يكن قادرًا أن يراه حين كان ميتًا في قلبه، أو يعني الرب القائل: “أنا هو نور العالم ” (يو 8: 12)…

البابا غريغوريوس (الكبير)

هُوَذَا كُلُّ هَذِهِ يَفْعَلُهَا اللهُ مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا بِالإِنْسَانِ [29].

يترجم البعض “مرتين وثلاثًا” “مرات كثيرة”، إذ تعني لا يتوقف الله عن أن يعمل من أجل خلاص مرة ومرتين وثلاثًا وبكل الوسائل حتى يجتذب الأشرار إلى الخلاص، يتمتعون بالنبوة له، وينعمون ببره وقداسته وسماواته.

يرى البعض أن أليهو يذكر “ثلاثًا” اشارة إلى عمل الله مع الخطاة، حيث يستخدم ثلاثة طرق:

أولاً يفيض بالخيرات لعل الإنسان يتلامس مع حب العاطي، فإن لم يرجع إلى الله يستخدم الإلهامات الإلهية سواء خلال الأحلام أو الرؤى أو الوحي الإلهي، فإن لم يرجع يستخدم الأحزان والضيقات لكي يعيد النظر في حياته ويدرك حقيقة موقفه.

v     “هوذا كل هذه يفعلها الله ثلاثًا بكل إنسانٍ” [29]… إن لاحظنا بعناية، فسنجد أنه توجد ثلاث مراحل للحزن والفرح الواحدة تتبع الأخرى، في هدايته، وفي تجربته، وفي موته.

ففي المناسبة الأولى لهدايته… يكون حزن الإنسان عظيمًا، وذلك لأنه يضع في حسبانه خطاياه، ويرغب في نزع قيود الاهتمامات العالمية بقوة، والسير في طريق الله طول فترة هدايته. يود أن يزيل ثقل الاضطرابات الزمنية الثقيلة، ليحمل نير الرب الهين. في عبودية تحمل حرية… ولكن يأتي عند ذلك ألم القلب واضطرابه، إذ يدعو الروح من جانب، ويدعوه الجسد من الجانب المخالف… بحق ويقال عن هذا الإنسان المتمرر: “فتكره حياته خبزه وتقترب نفسه من الفساد، وحياته إلى المميتين”(راجع 2، 22) لكن النعمة الإلهية لا تسمح لنا أن نتعرض لهذه المصاعب لمدة طويلة. فإنها تحل قيود خطايانا وتقودنا بسرعة إلى تعزيات حرية حياتنا الجديدة. الفرح الذي يتبعها ينزع الحزن السابق. وهكذا فإن عقل الذي يهتدي بفرح كثيرًا جدًا أكثر مما يشتهي…

ولئلا يظن الإنسان أنه قديس، فإنه في الحال عند اهتدائه… يسمح له بتدبير الله أن يعاني من هجمات التجارب باهتدائه يعبر البحر الأحمر، لكن الأعداء يستمرون في مقاومته في برية هذه الحياة الحاضرة. لقد تركنا خطايانا الماضية خلفنا، إذ مات المصريون على الشاطئ، لكن الرذائل المدمرة لا تزال تهاجمنا كأعداء جدد لتعوق طريقنا الذي به ندخل أرض الموعد… عدونا أكثر غيرة على غلبتنا مادمنا نحن في هذه الحياة، كلما أدرك أننا متمردون عليه. لا يهتم أنه يلطم الذين يدرك أنهم في ملكيته. إنما هو في حالة هياج أشد ضدنا، إذ أُستبعد من قلوبنا كما من حقه أن يمتلكنا مسكنًا له… بالحق توجد ثلاث مراحل للمهتدين: البداية، المنتصف، النهاية. في البداية يختبرون سحر العذوبة، وفي منتصف الوقت مقاومة التجارب، وأما في النهاية ففيض الكمال…

بعد عبور هاتين المرحلتين من الاهتداء والامتحان في حزن وفرح تبقى المرحلة الثالثة، التي لا يزال يخشى أحزانها، لكنه ينال مسراتها… يقول داود: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر إنسان أمامك” (مز 143: 2). ويقول بولس بعد ذلك: “فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا” (1 كو 4: 4). يقول يعقوب: “لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا” (يع 3: 2) ويقول يوحنا: “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا” (1يو 1: 8)

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيَرُدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْحُفْرَةِ،

لِيَسْتَنِيرَ بِنُورِ الأَحْيَاءِ [30].

يؤكد أليهو هنا ما سبق أن أشار إليه كأغنية يترنم بها الإنسان التمتع بخلاص الله (أي 33: 28)، أنها عطية مقدمة لكل إنسان بغير محاباة، فإن الله “لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة” (2 بط 3: 9)، فيتغنى كل مؤمن: “لأنك نجيت نفسي من الموت، نعم ورجلي من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء” (مز 56: 13).

v     لأن عقل كل مختار يعاني في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث، أي من ألم الاهتداء، أو تجارب الامتحان، أو رعب الانحلال، فيتطهر ويتحرر بذات الأم، قيل: “ليرد نفسه من الفساد، ليستنير بنور الأحياء” [30].

فإن هذا هو نور الأموات التي نعاينه بأعيننا الجسدية… أما الذين يستنيرون بنور الأحياء. فيحتقرون نور العالم ويعودون إلى سمو البهاء الداخلي. حتى يعيشوا في ذلك الموضع الذي يرون فيه النور الحقيقي ويشعرون به، حيث لا يكون اختلاف بين الحياة والنور، فحيث يوجد النور توجد الحياة أيضًا…

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. توسل إلى أيوب للاستماع إليه

فَأصْغَ يَا أَيُّوبُ وَاسْتَمِعْ لِي.

أنْصُتْ فَأَنَا أَتَكَلَّمُ [31].

يسأل أليهو أيوب أن يفحص بعمق ما قاله، وينصت بانتباه شديد إلى ما سيقوله. فإن لديه الكثير ليقوله، وهو أمر يمس حياته، يستحق أن يطيل أناته ويصبر في حدية ليستمع إلى ما سيقوله له.

إِنْ كَانَ عِنْدَكَ كَلاَمٌ فَأَجِبْنِي.

تَكَلَّمْ. فَإِنِّي أُرِيدُ تَبْرِيرَكَ [32].

قبل أن يكمل أليهو حديثه الوارد في الأصحاح التالي أراد أن يتوقف متأنياً، سائلاً أيوب أن يجيبه أو يقدم تعليقاته عما قاله.

هنا يبرز هدوء أليهو، فإنه وإن بالغ في اتهام أيوب لكنه يتوقف ليسمع تعليقاته بروح طيبة. فإن غايته لا أن يوبخ ولا أن يكيل الاتهامات بل يفتح باب الخلاص والبرّ ليتبرر أيوب أمام الله. هكذا يليق بنا في كرازتنا أن ندرك حقيقة رسالتنا، لا النقد والتوبيخ بل المساندة والحنو مع الصراحة وعدم المداهنة. لقد سبق فقال أليهو لأيوب إنه مثله خُلق من ذات الطين، فكلاهما يحتاجان إلى المخلص المعين. ويقول الرسول بطرس في كرازته لأول أممي: “أنا أيضًا إنسان” (أع 10: 26).

لا يحتاج الإنسان إلى من يرعبه، بل إلى من يحنو عليه ويترفق، ويُشعر أنه رفيق معه في الضعف البشري، ومحتاج معه إلى العون الإلهي.

في تواضع وحب وحنو يسأل أليهو أيوب إن كان لديه اعتراض أو يطلب استيضاح أن يتكلم بحرية، فإنه يود أن يوضح بمحبة كل ما في ذهنه، لأجل تبريره.

كما طلب أليهو من أيوب أن يسمع بطول أناة وصبر لما قاله أليهو وما سيقوله، فإنه يعلن استعداده هو أيضًا أن يسمع بصدرٍ رحب وبطول أناة.

بقوله “أريد تبريرك” خشي أليهو أن يكون قد أساء فهم عبارات أيوب أو نسب إليه أقوالاً بمعانٍ لم يقصدها أيوب، لهذا يعطيه الفرصة ليتكلم في صراحة.

وَإِلاَّ فَاسْتَمِعْ أَنْتَ لِي.

أنْصُتْ فَأُعَلِّمَكَ الْحِكْمَةَ [33].

إن لم يكن لدي أيوب ما يعترض به على كلمات أليهو، يطالبه الأخير أن يستمع إليه ويصغي بانتباه، فيعّلمه الحكمة.

إذ التزم أيوب الصمت، ولم يتدخل أحد من الأصدقاء الثلاثة، أراد أليهو ان يكمل حديثه (كما ورد في الأصحاح التالي).

 


 

من وحي أيوب 33

لتهتف نفسي لك،

يا من عبرت بيّ من الجحيم إلى السماء!

v   تهتف أعماقي بروح التهليل قائلة لك:

خلقتني من تراب، لكنك وهبتني نسمة من عندك.

أعرف ضعف طبيعتي، وأدرك قوة عملك فيّ.

هب ليّ ألاَّ انتقد إخوتي فأوجه إليهم اتهامات مُرّة.

فأنيّ شريك معهم في الضعف.

أطلب خلاصهم لينعموا معيّ بغنى نعمتك.

تئن نفسي لسقطاتهم،

ويحترق قلبي لعثراتهم!

v   لتتكلم أنت يا رب معهم،

تكلم معهم بلغة الخيرات والعطايا الكثيرة.

تكلم معهم خلال كلمتك القديرة،

وإن لم يقبلوا نعمتك تكلم معهم بلغة الآلام.

فأنت تطلب خلاص الكل بكل وسيلة!

في آلامهم تئن أنت معهم كأب مترفق يؤدب.

وتئن نفسيّ معهم، أشاركهم أحزانهم.

لتعمل فيهم وفيّ حسبما تشاء يا مخلص الجميع!

v   من يحملني وإياهم إلى الأحضان الإلهية،

سواك يا أيها الشفيع العجيب.

بدمك تطهرنا وبروحك تقدسنا.

تطلقنا من ظلمة الخطية إلى نور برك.

تعبر بنا من هوة الجحيم إلى أورشليم العليا.

تحول صراخنا المُرَّ إلى هتاف.

تحول مراثينًا إلى أغانٍ وتسابيح.

تغذي نفوسنا بدمك،

وتقدمنا لله أبيك أبناء له!

لك المجد يا أيها المخلص محب البشر!


 

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ

الوسيط الواحد!

يُعتبر هذا الأصحاح من أروع ما كُتب في العهد القديم، حيث يكشف بعمقٍ عن نظرة رجال العهد القديم، في عصر الآباء، نحو الحاجة إلى الوسيط الإلهي، الشفيع، الذي يصالح الآب مع الناس، ويدخل بالخطاة إلى الحياة الجديدة المقدسة البارة عوض الانحدار إلى جهنم الأبدية. إنه عرض رائع لطريق الخلاص كما أُعلن للآباء والأنبياء.

كان موقف أليهو لا يُحسد عليه، فهو أصغرهم سنًا، وفي نفس الوقت يحترق قلبه في داخله، إذ يرى الشيخ البار في ضيقةٍ شديدةٍ من كل جانب، حتى من أصدقائه، وفي نفس الوقت لم يحتمل عتاب أيوب لله بأسلوب شديد اللهجة. يود أليهو أن ينطق بالحق الذي قد يجرح مشاعر الطرفين: أيوب وأصدقائه.

الآن يقترب أليهو من أيوب ويوجه حديثه إليه، أما غاية حديثه معه، فهي أن ينطق بما هو لبنيان أيوب. فهو يحبه جدًا ومقتنع ببرِّه، لكنه كان يود أن يراه في وسط محنته في ذات الصورة البهية التي رآها فيه قبل التجربة، لا ينطق بكلمة واحدة ينسب فيها لله القسوة.

ومن جانب آخر، يتكلم على لسان الله، فيعاتبه على كلماته التي وجهها لاتهام الله بالقسوة أثناء الحوار الساخن بينه وبين أصدقائه.

وأخيرًا كان يسعى لإقناعه بأخطائه.

  1. باسم الله يدعو أيوب للحوار معه           1 – 7.
  2. عتابه لأيوب على استخدام عبارات عنيفة  8 – 11.
  3. باسم الله يدعو أيوب للحوار معه

وَلَكِنِ اسْمَعِ الآنَ يَا أَيُّوبُ أَقْوَالِي،

وَأصْغَ إِلَى كُلِّ كَلاَمِي [1].

لم يجسر أحد الشيوخ أن يوجه حديثه لأيوب، ذاكرًا اسمه، أما هذا الشاب فمع فارق السن يقول: “اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي” (أي1:33). يوجد فارق في السن، لكن كليهما مخلوقان، ويليق بكل منهما أن ينصت للآخر.

إن كان يليق بالصغار سنًا أن يطيعوا الكبار، فإنه يلزم أن ينصت الكل لبعضهم البعض. فلا نعجب أن يبدأ أليهو الشاب حديثه مع الشيخ التقي أيوب قائلاً: “اسمع الآن يا أيوب أقوالي، وأصغِ إلى كلامي” (أي 1:33). كما يقول بشجاعةٍ وأدبٍ: “ها إنك في هذا لم تُصب” (12:33). يعود فيكرر: “فأصغِ يا أيوب، واستمع لي. أنصت، فأنا أتكلم، فإني أريد تبريرك” (31:33-32).

صورة رائعة من الجانبين، رجل الله التقي الشيخ ينصت لشابٍ دون تشامخٍ من جانبه أو استخفافٍ بصغر السن. ومن جانب الشاب الصغير فمع حواره مع الشيخ بصراحةٍ وانفتاح قلبٍ وشجاعةٍ، كان في غاية الأدب والرقة. إنه يريد أن يبرر من هو في سن والده!

إذ يقدم أليهو التماسه لأيوب يسأله أن يصغي إليه كصديقٍ مخلصٍ يحبه، ولا يتكلم لينتقده أو يرعبه.

اقتبس أليهو بعض عبارات من أيوب، وأوضح له أن الله أعظم من الإنسان، وليس من حق الأخير أن يطلب تفسيرًا من الله على تصرفاته. ما يليق بأيوب أن يدركه هو أن الله يطلب خلاص الإنسان لا هلاكه.

يبدأ أليهو بتوجيه حديثه إلى أيوب، وفي الأصحاح التالي يوجه الحديث إلى أصحاب أيوب.

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة ليهيئ قلوب هؤلاء الأصدقاء الثلاثة للاستماع إليه. وهو في هذا لم يفترِ على أيوب، إنما وجه إليه اللوم من واقع كلماته في الحوارات السابقة.

يسأله أن يصغي إلى كلماته، أو أحاديثه، ليس فقط ما يوجهه إليه، بل وإلى “كل كلماته”، فإنه ينطق بالحق الإلهي لمنفعة الجميع. يطلب منه أن يطيل أناته، فيسمع الحديث حتى آخره، وأن يضع في ذهنه أن ما يُقال ليس غايته نقده وإلقاء اللوم عليه وإنما نفعه.

هَأَنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي.

لِسَانِي نَطَقَ فِي حَنَكِي [2].

جاء في ملاحظات Barnes على هذه العبارة، أن أليهو يتحدث بالكلمات التي في فمه والناطق بها بلسانه الذي يتحرك نحو سقف حلقه، لأن النطق باللغة العبرية يستخدم بالأكثر الحنجرة والحلق واللسان، أما اللغات الأوربية (اللاتينية والإنجليزية) فيستخدم فيها بالأكثر الأسنان والشفاه.

إنه يتحدث معه من حلقه، كمن يخرج الكلمات تحمل طعمًا خاصًا وتذوقًا مملوء حبًا. كل البشر يتكلمون بأفواههم، لكن قليلين من يتذوقون كلماتهم ويفحصونها أولاً، فينطقون بما هو صالح للبنيان.

لقد صمت أليهو طوال فترة الحوار، وكان يتفاعل في الداخل مع الحوار. لم يتسرع بالنقد أو الإجابة على بعض التساؤلات، لكن بحكمةٍ وفي روية اختبر ما في فكره من كلمات، لينطق بما هو يليق.

في حديث رائع يوجهنا القديس مار يعقوب السروجي لنتدرب على الصمت المقدس والكلام المقدس. حيثما انشغلنا بالكلمة الإلهي يقودنا روحه القدوس للصمت البنَّاء كما للحديث البنّاء.

v     أنت هو الكلمة التي تعطى كلمة للمتكلمين،

بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك.

شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيما أشرق فيّ، فأنظر إليك.

فبنظري لك، تستضيء النفس فتقتني الصلاح.

وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا، وإذا ما تفرست فيك لبست النور لتنطق بكلام خبرك…

الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني.

يا رب دبر حياتي كإرادتك.

إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي (للكلام). أصمت في دهشة، وليس بطغيانٍ باطلٍ.

وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك.

عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهشٍ بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءً بكل منفعة. وإذا ما تحركت النفس لتمجدك بمحبة… فبالحب أتحرك، وأتحرك لأمجدك. وفي دهش أصمت ولا اهدأ من تمجيدك.

هب لي يا رب الدهش (بالصمت) والكلمة فأغتني. وفي كل يوم أدهش، وفي كل يوم أتحرك بالكلام!

القديس مار يعقوب السروجي

اِسْتِقَامَةُ قَلْبِي كَلاَمِي،

وَمَعْرِفَةُ شَفَتَيَّ هُمَا تَنْطِقَانِ بِهَا خَالِصَةً [3].

يقول أليهو إن الله الذي وهبه روحه يعطيه أن ينطق بقلبٍ نقيٍ، ويُقدم معرفة صادقة غير غاشةٍ. وكأنه يطلب من أيوب أن يتطلع لا إلى الكلمات مجردة، بل إلى ما في قلب أليهو من نقاوة من نحوه، واستقامة في هدفه في الحوار. كلماته تصدر عن حبٍ خالص، بلا رياء؛ يتكلم في إخلاصٍ من قلبه، ولا يستعرض كلمات جوفاء. ما ينطق به يعبر بصدقٍ عما في قلبه.

أراد منه ألاَّ يضمه مع الأصدقاء الثلاثة حتى وإن تشابهت الكلمات، لأن النيات مختلفة تمامًا.

v     يريد أن يقول: ليس عن حسدٍ أو غيرةٍ أستخدم هذه الوسيلة. وإن كان الثلاثة يقولون نفس الأمور كما يقولها هو، لكن يبدو أنهم لم يتكلموا بذات الروح، ولا فعلوا هذا دفاعًا عن الله. فيهوذا والاثنا عشر عبروا جميعًا بنفس الطريقة بخصوص قارورة الطـيب (يو 5:12-6)، ولكن ليس بذات الروح. لذا يليق بنا لا أن نفحص الكلمات، بل النية التي بها عبٌَر كل منهم عن نفسه: كيف أراد البعض تحطيم أيوب بينما الآخر أراد العكس.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي،

وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي [4].

استخدم كثير من آباء الكنيسة هذه العبارة لتأكيد لاهوت الروح القدس بكونه الخالق واهب الحياة. فإن كان الآب هو الخالق وواهب الحياة، فإن الأقانيم الثلاثة يشتركون معًا في كل عمل إلهي. هنا يتحدث مع أيوب بروح الأخوة الصادقة، فيوضح له أنه من صنع روح الله، الذي وهبه الحياة. فهو أداة في يد الله الذي خلق أيضًا أيوب ووهبه الحياة. فلا يليق بأيوب أن يخشى الحوار مع زميله في الخلقة والحياة، إذ الاثنان مدينان لروح الله بوجودهما وحياتهما. يؤكد له أن الاثنين خليقة الله، لهما ذات الطبيعة، ولها ضعفاتها التي تسللت إلى الطبيعة البشرية.

v     كيف أظهر (سفر) أيوب بوضوح أن الروح خالق، قائلاً: “روح الله خلقني“؟ في عبارة قصيرة أظهر أنه إلهي وخالق. إن كان الروح هو الخالق، فبالتأكيد ليس مخلوقًا، لأن الرسول يفصل الخالق عن المخلوق، قائلاً: “عبدوا المخلوق لا الخالق” (رو 25:1)[1269].

 القديس أمبروسيوس

v     اشترك الروح القدس مع الابن في العمل، سواء في الخلقة أو القيامة، كما يُظهر هذا الكتاب المقدس: “بكلمة الرب صُنعت السماوات، وكل قواتها بنسمة فمه” (مز 6:33). وأيضًا: “روح الله صنعني، ونسمة القدير تعلمني” (أي 4:33). وأيضًا: “ترسل روحك فَتُخلق وتجدد وجه الأرض” (مز 30:14)[1270].

 القديس غريغوريوس النزينزي

v     عندما تمتزج كلمات الجهالة مع الأقوال الحكيمة، فإنه حتى الحكمة لا تُحفظ في الذهن، لأن جهالتهم تكون موضع احتقار السامع… إنه يتكلم هنا بترتيبٍ لائقٍ بخصوص خلقته وقبوله الحياة. يقول إنه قد خُلق بواسطة الروح، وتقبل الحياة بنسمة الله. مكتوب عن آدم عند خلقته: “نفخ في وجهه نسمة حياة، وصار الإنسان نفسًا حية”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إِنِ اسْتَطَعْتَ فَأَجِبْنِي.

أَحْسِنِ الدَّعْوَى أَمَامِي.

انْتَصِبْ [5].

يؤكد له أليهو أنه إن أراد أن يدخل معه في حوار، فليعلم أنه لم يدخل كمن ينتهر ويعلّم، وإنما كشخصين متعادلين من صنع روح الله. يتكلم لا لينتصر أو يتسلط، وإنما بروح الأخوة. كأنه يقول له: أنا إنسان مثلك، أود لك ما أوده لنفسي. اقبل كلماتي بروح المودة.

هَأَنَذَا حَسَبَ قَوْلِكَ عِوَضًا عَنِ اللهِ.

أَنَا أَيْضًا مِنَ الطِّينِ جُبِلْتُ [6].

يترجمها Umbreit: “أنا مثلك من عند الله”، وNoyes: “أنا مثلك خليقة الله”، وWemyss: “أنا مساوٍ لك في عيني الله” وCoverdale: “انظر، فإنني أمام الله كما أنت، فقد تشكلت من ذات الطين”. وجاء ترجمة الفولجاتا: “انظر، فإن الله خلقني كما خلقك، ومن ذات الطين أنا تشَّكلت”. والترجمة السبعينية: “من الطين تشَّكلت كما أنت، تشكلنا نحن من ذات الطين”[1271].

يرى البعض أن معنى العبارة في العبرية: “أنا بحسب فمك إنسان الله”، أي إنني أتكلم باسمه كممثلٍ له، سفير عنه.

إذ كان أيوب يتوسل إلى الله أن يدعوه للمحاكمة حتى يجد فرصته للدفاع عن نفسه، فقد جاءه أليهو يسأله أن يتكلم بكل صراحة كما في محكمة أمام الله.

يعود فيطمئن أليهو أيوب، بأنه وإن تحدث باسم الرب؛ ألاَّ أنه مخلوق من طين هش مثله، من تراب الأرض. إن كان الله يتكلم من خلاله، إلاَّ أنه ليس في ذاته ما يخيف أو يُرعب.

v     يلزمنا حينما نُحث على ممارسة فضيلة ما ألاَّ نقول إن هؤلاء كانوا شركاء لطبيعة غير طبيعتنا، أو إنهم ليسوا بشرًا. لهذا قيل عن العظيم إيليا: “كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا” (يع 5: 17). هل تدركون أن إيليا قد أظهر من ذات شركته للآلام أنه إنسان مثلنا؟ مرة أخرى قيل: “إني أنا أيضًا إنسان لي ذات الآلام مثلكم” (راجع حك 7: 1). هذا يعطي طمأنينة من جهة شركة الطبيعة[1272].

v     لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر.

الآن، أين هؤلاء المعترضون على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟

فهذا الرجل يدينهم بكلماته: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدىٍ” (2 كو17:4).

فإن كانت ضيقاته مُحتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟[1273]

القديس يوحنا الذهبي الفم

هُوَذَا هَيْبَتِي لاَ تُرْهِبُكَ،

وَجَلاَلِي لاَ يَثْقُلُ عَلَيْكَ [7].

في شغف شديد كان أيوب يود أن يعرض قضيته أمام الله مباشرة، لكنه كان يشعر بمهابة الله، مما يجعله عاجزًا عن الحديث في صراحة معه. يقول: “أبعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني” (أي 13: 21)، كما يقول: “ليرفع عني عصاه، ولا يبغتني رعبه” (أي 9: 34).

يقول أليهو: “إننا متساويان، ليس من خوفٍ يحل عليك، وليس من رهبةٍ ليّ تباغتك، حتى تعجز عن أن تأخذ موقف الدفاع معي. لن تثقل يدي عليك، لأني ضعيف مثلك، لا سلطان لي عليك”.

كلمة “يثقل” هنا تستخدم للإنسان وهو يسحب حيوانًا يحمل أثقالاً، كما تشير إلى شخصٍ مثقل جدًا، فينحني بسبب ثقل الحمل.

لعله بسبب هذا المعنى شعر البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو تعدى حدود اللياقة. فمع اعترافه أنه يحمل ذات طبيعة أيوب، وأنه مساوٍ له، لكنه يتكلم بجسارة فائقة، مطالبًا أيوب أن يجاوب ويحاور بلا خوف ولا رعدة.

  1. عتابه لأيوب على استخدام عبارات عنيفة

إِنَّكَ قد قُلْتَ في مَسَامِعِي،

وَصَوْتَ أَقْوَالِكَ سَمِعْتُ [8].

واضح أن أليهو قد حضر كل الحوارات، وكانت أذناه مصغيتين لكل كلمة بكل انتباه. الآن يبدأ بالتعليق على ما يظن أن أيوب قد أخطأ فيه في محاولته لتبرير نفسه. لقد اقتبس العبارات الثلاث القادمة من كلمات أيوب في أحاديثه.

قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ.

زَكِيٌّ أَنَا، وَلاَ إِثْمَ لِي [9].

أول خطأ أثار أليهو هو تبرير أيوب نفسه. حقًا لقد قال أيوب لله إنه يعرف أنه ليس بشريرٍ، وإنه متمسك بالبرّ وغير ذلك من العبارات المشابهة، لكنه في نفس الوقت اعترف انه خاطئ، وأنه لن يتبرر أمام الله (أي 7: 21؛ 9: 29، 30؛ 13: 23، 26).

لم يقتبس أليهو كلمات أيوب كما هي، كما لم تحمل كلماته تبرير نفسه، إنما مواجهة الاتهامات التي ضده أنه مرائي، وأنه شرير.

زكي أنا”: الكلمة العبرية هنا chap، مشتقة من Chopap، وتعني يغطى، يحمي، كما تعني يغسل أو ينقي.

هُوَذَا يَطْلُبُ عَلَيَّ عِلَلَ عَدَاوَةٍ.

يَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَهُ [10].

يتهمه أليهو بأنه قال عن الله غنه يتلقط له الأخطاء، فيتحين كل فرصة ضده كما لو كان عدوًا. لعله استنتج هذا من قول أيوب لله: “أما الآن فتُحصي خطواتي؛ ألاَّ تحافظ على خطيتي؛ معصيتي مختوم عليها في صُرة، وتلفق علي فوق إثمي” (أي 14: 16-17). “لماذا تحجب وجهك، وتحسبني عدوًا لك؟” (أي 13: 24). “وأضرم علي غضبه، وحسبني كأعدائه” (أي 19: 21).

وَضَعَ رِجْلَيَّ فِي الْمِقْطَرَةِ.

يُرَاقِبُ كُلَّ طُرُقِي [11].

هذا الاتهام نقله عن قول أيوب: “فجعلت رجليَّ في المقطرة، ولاحظت جميع مسالكي، وعلى أصول رجليَّ نبشت” (أي 13: 27).

هكذا يصور أيوب الله كمن ينشغل بخطيته ويدقق فيها ويختم عليها، لتقف شاهدة عليه، وأنه يتعامل معه كعدوٍ، يحمل غضبًا عليه؛ يربطه في المقطرة حتى لا يهرب من الدينونة العتيدة والحكم الإلهي ضده.

  1. أليهو يحاول إقناع أيوب بعناية الله

أ. الله صاحب السلطان على الإنسان

هَا إِنَّكَ فِي هَذَا لَمْ تُصِبْ.

أَنَا أُجِيبُكَ.

لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ [12].

من لا يعرف أن الله أعظم من الإنسان، فإن هذا القول يبدو كما لا حاجة إلى سرده، لكن أليهو قاله لمغزى خاص. فقد وجهه إلى إنسانٍ يعاني من نكبات خطيرة متوالية، دون أن يعرف أيوب ما وراء هذه النكبات. ما عناه أليهو أن أيوب الإنسان الضعيف يلزمه أن يخضع للتأديبات الإلهية، حتى وإن لم يدرك أحكام الله من جهة هذه التأديبات. كل ما يليق به أن يعرفه أن الله عادل، وليس فيه ظلم، وأن ما حلٌ بأيوب هو ثمرة أخطائه.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب إذ صرخ نحو الله قائلاً: “لا تجاوبني” (أي 15:9)، أجابه أليهو: “أخبرني، ذاك الذي توبخه بأنه لا يصغِ بأذنه إلى توسلك، ما هو الدليل أنه لا يسمع لك؟ إنه يؤدب ويعاقب! هذا هو قانونه لإصلاح حال البشر”.

v     التزم النبي داود – تحت ثقل الضربات – أن ينطق بكلمات مُبالغ فيها، حيث عاد يتأمل في أصله، قائلاً: “صمت، لا أفتح فمي، لأنك أنت خلقتني” (مز 9:39). فقد تأمل في أية رتبة خُلق، وتعلم عدالة الضربة التي حلت به.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لو لم يكن لنا خصوم لما كانت توجد معركة ولا مكافأة مخصصة للمنتصرين، ولًما قُدم لنا ملكوت السماء. “خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديًا” (2 كو 4: 17). ولَما كان لأحدٍ منّا رجاء في المجد العظيم في الحياة العتيدة نتيجة الصبر في الضيقات المحتملة[1274].

v     لم يكن بالأمر الهيّن الحزن المؤقت لكل أحدٍ، إذ لهم المحبة الكاملة لله في المسيح يسوع بالروح القدس منسكبة في قلوبهم[1275].

العلامة أوريجينوس

لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟

لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا [13].

يعاتب أليهو أيوب لأنه يدخل في خصومه مع الله؛ يسأله وينتظر إجابة سريعة.

الله يحب الإنسان بكونه خليقته التي على صورته، ويفعل ما يسر (الله) حتى وإن لم يدرك الإنسان خطته الإلهية. يفعل الله ما لبنيان الإنسان، وإن كان الإنسان في أحوال كثيرة لا يدرك ما وراء التصرفات الإلهية.

يليق بالإنسان أن يثق في حب الله وأبوته الفائقة وحكمته وقدرته، فيقبل كل شيء من يد الله بفرح وثقة، كما يقبل الطفل من يدي والديه ما يمارسونه معه، حتى يتفهموا يومًا فيومًا خطة الوالدين نحوه.

يليق بنا عوض الدخول في خصومة مع الله، أن نثق أنه لن يخطئ، وأنه صانع خيرات؛ وأننا يومًا ما ننضج روحيًا ونتعرف على خطته من نحونا.

دورنا هو الخضوع والطاعة بفرحٍ وثقةٍ في حكمته، لا الدخول معه في خصومه. فالويل لمن يخاصم جابله، خزف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان” (إش 45: 9).

ب. باستخدام الأحلام والرؤى

لَكِنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً،

وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَان ُ[14].

لعل أليهو يقصد أن الله تكلم مع أيوب حين كان في وسع ولديه خيرات كثيرة، وإذ لم يسمع لله تكلم معه بلغة الضيقات المتوالية، ومع هذا لم يدرك أيوب مقاصد الله ولم يفهم كلماته. هكذا يكلمنا الله أحيانًا بلغة الألم والضيق لكي ينقينا، فنسمع صوته، ونراه متجليًا في حياتنا.

“كل ما يأتي بثمرٍ ينقيه ليأتي بثمرٍ أكثر” (يو 15: 2).

“مرة واحدة تكلم الرب، وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله” (مز 62: 11).

يستخدم كل وسيلة ليتحدث معنا، تارة خلال الخيرات الكثيرة التي يهبنا إياها، وتارة خلال كلمته المقدسة، وأحيانًا خلال الأحلام والرؤى، وإذ لا نسمع له يحدثنا بلغة الضيقات والآلام، كالأمراض أو المتاعب في العمل أو الخسائر المادية أو المعنوية الخ.

ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أنه لأمر طبيعي للقلب المتألم، إذ يرى الأمور تسير على خلاف ما يشتهيه، يشتاق أن يسمع إجابة من الله لماذا تسير الأمور في هذا الطريق، وليس في ذاك. يشتاق أن يجد تفسيرًا للأحداث التي تمر به. يجيبه أليهو أن الله لا يجيب الإنسان في حديث خاص منفرد مع قلب الإنسان، إنما يقدم الإجابة خلال الأسفار المقدسة مرة وليس مرتين، أي لا حاجة أن يقدم لنا الله الإجابة مباشرة كأنه يكرر ما سبق فأعلنه خلال الكتاب المقدس، لكن الإنسان لم يلاحظ إجابة الله له. يليق بنا أن ندرك إجابة الله خلال معاملاته مع من سبقونا بكونهم أمثلة للآتين من بعدهم، ولا نتوقع أن يكرر الإجابة للمرة الثانية (أي 14:33)..

يقدم لنا مثالاً لذلك أنه إذ تحل بنا ضيقة نجد تعزيتنا فيما حلّ بالقديس بولس حيث كان يعاني من ضعف الجسد، وقد سمع الصوت الإلهي: “تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل” (2 كو 9:12). لقد قيل هذا للقديس بولس حين عانى من الألم، لكي لا يُقال هذا لكل واحدٍ بمفرده، بل يُحسب هذا القول مُقدمًا لكل متألمٍ.

لقد تكلم الآب مرة، حيث وُلد الكلمة الإلهي أزليًا، وليس من كلمة أخرى يلدها تشاركه الجوهر الإلهي وتساويه في ذات الجوهر.

فِي حُلْمٍ فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ،

عِنْدَ سُقُوطِ سُبَاتٍ عَلَى النَّاسِ،

فِي النُّعَاسِ عَلَى الْمَضْجَعِ [15].

يقصد بالنعاس slumbering النوم الخفيف، فيكون الإنسان في حالة ما بين النوم واليقظة.

سبق فقال أيوب: “تريعني بالأحلام، وترهبني برؤى” (أي 7: 14). وكان يليق به أن يدرك أن الله يود أن يقدم له رسالة معينة خلال هذه الأحلام المريعة والرؤى المرهبة. جاء في النسخة السريانية: “ليس بالشفاه يُعلم، وإنما بالأحلام والرؤى في الليل”.

حينما يكون الإنسان في هدوء، بعيدًا عن ارتباكات الحياة والمشاغل اليومية، كمن هو في غفوة نومٍ، يمكنه أن ينصت إلى الصوت الإلهي وسط هدوء أفكاره وانفعالاته الداخلية.

v     ماذا يُقصد بكلمة الله أنه يُعرف لنا في حلمٍ إلا أننا لا نتعلم أمور الله السرية مادمنا في يقظةٍ في الشهوات العالمية. ففي الحلم تستريح الحواس الخارجية، ويمكن تمييز الأمور الداخلية. إذن، إن أردنا التأمل في الأمور الداخلية، فلنسترح من الانشغالات الخارجية. بالحقيقة يُسمع صوت الله كما في حلمٍ، عندما تكون الأذهان في راحة، نستريح من ضجيج هذا العالم، فنفكر في الوصايا الإلهية في أعماقها، في السكون العميق للذهن.

هكذا إذ يُلزم القديسون خلال ضرورة الالتزامات أن ينشغلوا في أمور خارجية، يعودون دومًا في شغفٍ لدراسة أسرار قلوبهم. بهذا يصعدون إلى علو الفكر الخفي، ويتعلمون كما لو إلى الناموس الذي على الجبل، عندما يضعون جانبًا قلاقل الأعمال الزمنية، ويتأملون في أحكام الإرادة الإلهية. هكذا موسى نفسه كثيرًا ما انسحب إلى خيمة الاجتماع في أمورٍ متشكك فيها، يسأل الله خفية، ويتعلم القرارات التي يلزم أن يتخذها… هكذا في نشيد الأناشيد، العروس القائلة: “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ” (نش 2:5) سمعت صوت العريس في أحلامٍ…

ولما كان جميع القديسين – ماداموا في هذه الحياة – ينظرون أسرار الطبيعة الإلهية فقط خلال تشبيهات (إذ لم يقتنوا بعد نظرة أكثر وضوحًا عنها ليروها كما هي)، لذلك بعدما قال أليهو إن الله يتكلم معنا في حلمٍ، بحقٍ أضاف: “في رؤيا الليل“. لأن الليل هو الحياة الحاضرة، ومادمنا نحن فيها، نتغطى بضبابٍ خفيفٍ من التصورات غير الأكيدة قدر ما نهتم بالأمور الداخلية. أضاف بطريقة لائقة: “ينعسون في مضاجعهم“. لأنه بالنسبة للقديسين النعاس في مضاجعهم هو أن يستريحوا في حجال العقل. هكذا مكتوب: “ليبتهج القديسون بمجدٍ، ليفرحوا على مضاجعهم” (مز 5:149).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يأمر الرب أن يترك (الإنسان) حياته المرتبكة ويلتصق بالواحد، يقترب من نعمة ذاك الذي يقدِّم الحياة الأبديَّة[1276].

القدِّيس إكليمنضس السكندري

v     كانت مرثا تهتم أن تُطعم الرب، وأما مريم فاهتمت أن يُطعمها الرب. بواسطة مرثا أُعدَّت الوليمة للرب، هذه الوليمة التي ابتهجت فيها مريم[1277].

v     أقول إنه في هاتين المرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة…

ماذا تحمل هذه الحياة؟ لست أتكلَّم عن حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها… وأقول إن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة…

في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة.

ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملاً[1278].

القدِّيس أغسطينوس

v     الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنما في التأمَّل في الرب، الذي هو بالحقيقة هو “الأمر الواحد”… أما قوله: “لا ينزع عنها”، فقد كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن يُنزع عنها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا، أمًا اشتياق مريم فلن يكون له نهاية[1279].

الأب موسى

ج. بالإلهامات الخفية

حِينَئِذٍ يَكْشِفُ آذَانَ النَّاسِ،

وَيَخْتِمُ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ [16].

في وسط هدوء النفس، بعيدًا عن ارتباكات الحياة يفتح الله أذني الإنسان ليسمع مع صموئيل النبي الصوت الإلهي الذي لم يسمعه عالي الكاهن. في هدوء الليل يرفع صموئيل قلبه، قائلاً: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع”.

يفتح الله أذني الإنسان ليسمع ما لا يسمعه من هم حوله. يُعلن له الله بعض أسراره الإلهية، ويكشف له عن الحق، ويُظهر له إرادته الإلهية. “ويختم على تأديبهم”، أي يضع ختمًا على تحذيراته وتأديباته لهم، بمعنى أنها ثمينة في عيني الله من أجل نفعها، يعتز بها لأجل بنيان أولاده فيختم عليها كمن يثبتها.

كانت العقود قديمًا يُختم عليها حتى تكون كما في الصون، ليس من يد تمد إليها لتغييرها. هكذا يحسب الله التأديب أشبه بميثاق حب بين الله وأولاده، يختم عليها بختمه السماوي، كما لو ختم على وصية قدمهما لهم للتمتع بميراثٍ أو نصيب منه.

يختم الله على تأديبهم، أي يعد بأن وراءها الكثير من البركات التي لا رجوع فيها. وراء الضيقات وعود إلهية مختومة لا تتغير.

v     “حينئذ يكشف آذان الناس وتعليمهم، ويدربهم بالتأديب” [16]. توجد أربع طرق بها يتأثر الإنسان بقوة لممارسة الندامة:

عندما يتذكر خطاياه، ويتطلع أين هو.

أو عندما يخشى أحكام دينونة الله، ويفحص نفسه، فيعرف أين سيكون.

أو عندما يلاحظ بدقة شرور الحياة الحاضرة، فيأسف على أين هو قائم.

أو عندما يتأمل بركات وطنه السماوي، إذ لم يتمتع بعد بها، فيتأسف أنه لم يبلغ بعد إليها.

تذكر بولس خطاياه وحزن على ما كان عليه، إذ قال: “أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (1 كو 19:15).

مرة أخرى إذ قيٌَم بدقة الحكم الإلهي، خشي لئلا يكون موقفه سيئًا في هذا الأمر، إذ يقول: “حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 27:9) .

مرة أخرى كان يتأمل شرور الحياة الحاضرة، إذ قال: “ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب” (2 كو 6:5). و”أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي، ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو 23:7-24).

أيضًا كان يتأمل في بركات وطنه السماوي، إذ يقول: “فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذٍ وجهًا لوجهٍ. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرف كما عُرفت” (1 كو 12:13)، “لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبدي” (2 كو 1:5). بالتطلع إلى بركات هذا البيت يقول لأهل أفسس: “لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا المؤمنين حسب عمل شدة قوته” (أف 15:1-16).

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيُحَوِّلَ الإِنْسَانَ عَنْ عَمَلِه،ِ

وَيَكْتُمَ الْكِبْرِيَاءَ عَنِ الرَّجُلِ [17].

إذ فسدت طبيعة الإنسان صار ما يشغله هو الخطية، وما يسيطر عليه هو الكبرياء. فإن الله يسمح بالتأديبات ويختم عليها لكي يسحب المؤمن من خطيته ويتمتع ببرّ الله، ويخفى عنه الكبرياء كي لا يتسلل إلى قلبه وفكره، وإنما يحيا بروح التواضع.

“الكبرياء” حفرة خطيرة كثيرًا ما يسقط فيها حتى المتدينون كالفريسيين، لذلك فإن الله يغطي الحفرة ويردمها، حتى لا يسقط المؤمنون فيها.

v     ما هو عمل الإنسان بنفسه سوى الخطية؟ بحق يُقال إذن أنه إذ يٌَحول الإنسان مما يعمله، سيتحرر من الكبرياء. أن نعصى وصايا خالقنا بالخطية، إنما نتعالى عليه. وكأن الإنسان ينزع نير سلطان الله متى استنكف من الخضوع له بالطاعة. من الجانب الآخر، من يرغب في تجنب ما يفعله، يستدعي في عقله مما قد خُلق بواسطة الله، وفي تواضع يعود إلى نظام خلقته عندما يطير من أعماله الذاتية، ويحب نفسه كما خلقه الله في البداية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْحُفْرَةِ،

وَحَيَاتَهُ مِنَ الزَّوَالِ،

بِحَرْبَةِ الْمَوْتِ [18].

بينما يبذل الأشرار كل الجهد لتحقيق أهدافهم الشريرة وإشباع كبريائهم، إذا بنفوسهم تسقط في حفرة الكبرياء فتهلك في هذا العالم الحاضر وفي الدهر الآتي. لكن الله يتدخل بكل وسيلة، خاصته بالسماح بالتأديبات لإنقاذهم من هذا الموت الأبدي.

كلمة “نفس soul تشير الإنسان بكليته، فالموت يلحق بالجسد كما بالنفس، بكيان الإنسان كله.

كلمة “حفرة[1280] shaachat” ربما تعني فخًا يقيمه الصيادون لتسقط فيه الحيوانات المفترسة (مز 7: 15؛ 9: 15)، أو جوفًا مملوء بالوحل (أي 9: 31)؛ أو سجنًا (إش 51: 14)، أو قبرًا على شكل كهفٍ كبيرٍ (أي 17: 13؛ مز 30: 9). واضح أنه يُقصد به هنا القبر حيث تنتهي حياة الإنسان على الأرض.

v     “منقذًا نفسه من الفساد، وحياته من الزوال بالسيف” [18]. فإن كل خاطي، بسبب فساده هنا بالخطية، يلتزم أن يعبر إلى سيف العقوبة، فبعدلٍ يُعاقب في ذاك العالم بذات الخطايا التي ابتهج بها في هذا العالم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

د. بالأحزان

أَيْضًا يُؤَدَّبُ بِالْوَجَعِ عَلَى مَضْجَعِهِ،

وَمُخَاصَمَةُ عِظَامِهِ دَائِمَةٌ [19].

يسمح الله بالآلام تحل ببعض مؤمنيه حتى يلزموا الفراشً وهو في هذا لا يطلب آلامهم، إنما لكي يكبح رغبتهم نحو الخطية. في لحظات الضيق يعيد الإنسان التفكير في حياته، وتُقدم له الفرصة للتفكير في المصير الأبدي.

أليهو يوضح هنا أن الضيق هو عمل تأديبي للبنيان، يستخدمه الله بروح الأبوة الحانية، من أجل توبة أولاده، ورجوعهم إليه، وتمتعهم بشركة الأمجاد.

يشير السرير أو الفراش أو المضطجع إما إلى الملذات الجسدية أو الراحة بممارسة الأعمال الصالحة أو الراحة المؤقتة. عندما شفى السيد المسيح المفلوج سأله أن يحمل سريره ويمشي (مت 6:9)، أي لا يعود ينام في ملذات الجسد، بل بكلمة الرب يحمل سرير مرضه، ويتخلص من خطاياه.

هنا يعلن أن الله يؤدب الإنسان الساقط في ملذات الجسد على سريره، فتصير الملذات نفسها مصدر آلامه وتأديبه. ما يظنه سرٌ بهجته يصير بالنسبة له علة حزنه.

أما العظام التي تنبري، فتشير في الكتاب المقدس إلى الفضائل، حيث كُتب: “الرب يحفظ كل عظامهم، وواحدة منها لا تنكسر” (مز 20:34). لا تشير هنا إلى عظام الجسد بل إلى قوى العقل. فإن الكثير من عظام الشهداء انكسرت وذلك بالمفهوم الجسدي، كما كُسرت ساقا اللص الذي قيل له: “اليوم تكون معي في الفردوس” (يو 32:19، لو 23: 43). فإنه إذ يؤدبنا خلال شهواتنا الجسدية، يتبدد فينا الافتخار بفضائلنا، ونعترف بضعفنا. خلال التأديب ندرك ضعفنا، وبدونه نحسب أنفسنا أقوياء في حياة الفضيلة بقدراتنا الذاتية.

فَتَكْرَهُ حَيَاتُهُ خُبْزًا،

وَنَفْسُهُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ [20].

من التأديبات التي يستخدمها الله السماح بالمرض الذي يُفقد الإنسان شهيته حتى عن أكل الخبز، إذ تمقته نفسه، وهو تأديب نافع للمتألمين، إذ لا يعودوا يستطيبون الملذات والترف.

يشمئز الإنسان من الأطعمة الفاخرة التي كان يشتهيها ويعافها.

يقول المرتل عن الجهال الذين تذلهم آثامهم: “كرهت أنفسهم كل طعامٍ، واقتربوا إلى أبواب الموت” (مز 107: 18). ويصف الحكيم حال الميت: “والشهوة تبطل، لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي، والنادبون يطوفون في السوق” (جا 12: 5).

بعد أن تحدث عن قوة التأديب الإلهي، الذي يرفع الإنسان عن سرير الملذات الجسدية، ويبدد افتخاره بالحياة الفاضلة كأنها من عمل يديه، يقول هنا إنه يجعل خبزه دنسًا في شفتيه، فتكره حياته الخبز، وتُعاف نفسه الطعام الشهي. ماذا يعني بالخبز والطعام الشهي سوى الملذات التي كان يجد فيها لذة خاصة لا يقدر أن يستغنى عنها؟ خلال التأديب يتحول خبزه بالنسبة له إلى دنسٍ كريهٍ، حيث يدرك بطلان الملذات الجدسية، وتتحول العذوبة من الطعام الشهي إلى مرارة لا يطيقها.

فَيَبْلَى لَحْمُهُ عَنِ الْعَيَانِ،

وَتَنْبَرِي عِظَامُهُ فَلاَ تُرَى [21].

الجسم الذي كان يعتز به الإنسان ويفخر بجماله وقوته يبلى كأنه قد اختفى، ويصير كأنه غير موجود، والعظام التي كانت مختفية حيث يكسوها اللحم برزت من شده النحافة والمرض، وكأنها صارت عارية.

يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة التي جاءت ترجمته لها في كتاباته: “يبلي جسده، وعظامه التي كانت مغطاة تتعرى” بأن الجسد هنا يشير إلى شهوات الجسد، والعظام إلى فضائل النفس. فخلال عصا التأديب تبلى شهوات الجسد، ولا يكون لها سلطان علينا وتنكشف الفضائل التي كانت مستترة، فتتجلى وسط التأديب الإلهي.

v     لا يتعلم أحد عن مدى التقدم الذي صار له إلا وسط الضيق لأنه في الرخاء لا يمكن تمييز الشهوات عن القوة الروحية. عندما تأدب الرسل طُلب منهم ألا ينطقوا بعد باسم يسوع. أما هم ففرحوا فرحًا عظيمًا، أنهم حُسبوا أهلاً أن يهانوا من أجل اسم يسوع. وبثقة أجابوا خصومهم قائلين: “ينبغي أن نطيع الله أكثر من الناس” (راجع أع 29:5). ها أنتم ترون قوة الإيمان تشرق بأكثر حيوية في وسط الضيق. ها أنتم ترون سلامة (شهوات) الجسد تقطع، وعظام فضائلهم تُكشف. قيل عنهم بواسطة الحكمة: “الله زكٌاهم، ووجدهم أهلاً له” (حكمة 5:3). فإنهم إذ يُمتحنون بواسطة نفخات الخصم يًجدون أهلاً بتعرية عظامهم”. فإن قوة كل إنسان تُعرف فقط بالضيق.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

وَتَقْرُبُ نَفْسُهُ إِلَى الْقَبْرِ،

وَحَيَاتُهُ إِلَى الْمُمِيتِينَ [22].

هنا يعني الإنسان الساقط في ضيقة يصير كمن يعاني من الآم مبرحة تكاد تنهي حياته، فينقاد إلى المميتين، أي ملائكة الموت، أي الملائكة المنوطين من قبل الله ليأخذوا أرواح الناس.

v     “تقرب نفسه إلى الفساد، وحياته إلى المخربين” [22]. بقدر ما يُقاد بالضيق ويدرك أن قوته تقترب من الموت، يعمل ليجد حلاً، يجد الأساس الحقيقي للحياة، بالطيران إلى الحماية القادمة من الثقة بالله.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

هـ. يرسل البرّ

إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ،

لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ [23].

اختلفت الآراء في تفسير هذه العبارة. وقد جاءت في الترجمة السبعينية: “إن وجد ألف ملاك للموت لا يقدر واحد منهم أن يجرحه بطريقة مميتة. إن صمم في قلبه أن يرجع إلى الرب عندما يظهر للإنسان اتهامه ضده، ويظهر غباوته، فسيعينه حتى لا يسقط في الموت، ويجدد جسده مثل لصق أملس على حائط، وسيملأ عظامه بالنخاع، ويجعل جسمه غصن مثل طفل”. وجاءت الترجمة الفولجاتا: “إن وُجد له ملاك يتحدث عنه، واحد من ألف، يعلن برّ الإنسان فسيشق عليه ويقول: خلص ذاك الذي يسقط في الفساد، وجدته هذا الذي أنا مناسب له”. وجاء في النسخة الكلدانية: “إن وُجد استحقاق فيه يُعد ملاك، معزي، واحد بين ألف من المتهمين، يعلن للإنسان استقامته؛ لقد وجدت فدية”.

  1. الرأي الأول: هو أن هذا الملاك هو إنسان يرى Munster واسيدورس أنه معلم ممتاز مُرسل إلى المرضى يعلم إرادة الله. ويرى Junius و Termillius أنه نبي. يرى Codurcus أنه يشير هنا إلى حالة أبيمالك الذي أصيب بمرضٍ بسبب سارة وأن الملاك هو نبي أرسل ليُعلن له أن الله بار (تك 20). ويرى Umbreit ان الملاك هنا هو أليهو نفسه، أرسله الله إلى أيوب ليعلن الحق الخاص بالتدبير الإلهي وسرّ السماح بالأحزان أن تحل بالناس. وآخرون يرون أن الحديث هنا يخص خادم الله الأمين الذي يفتقد المرضى والمتألمين ويعلن لهم خطة الله، دون تحديد اسم معين.
  2. الرأي الثاني: إن الحديث خاص بإرسال الله ملائكته لاعلان إرادته للبشر، خاصته للمتألمين، وأن يؤكد لهم أن الله يريد أن يعلن رحمته لهم إن رجعوا إليه بالتوبة يرى القديس جيروم على سبيل المثال أن الحديث هنا يشير إلى ملاك واقف في حضرة الله، عمله إرشاد البشرية وإصلاح أمرها.
  3. الرأي الثالث: وهو أن الحديث هنا هو نبوة عن شخص السيد المسيح، من بين الذين نادوا بهذا الرأي القديس أغسطينوس[1281].

v     من هو هذا المُرسل (الملاك)، إلا ذاك الذي دعاه النبي: “ملاك المشورة القدير”؟

v     طبيبنا من فوق، إذ وجدنا تحت ثقل أمراض كثيرة كهذه… جاء إلينا كإنسانٍ، ولكن بكونه بارًا للذين هم في الخطية. اتفق معنا في حقيقة طبيعته (ناسوته)، واختلف عنا من جهة قوة برٌَه.

لا يمكن إصلاح إنسانٍ خاطئ إلا بواسطة الله. ولكن كان من الضروري أن ذاك (المسيح) الذي يقوم بشفائه أن يكون منظورًا مدركًا بالحواس، لكي ما يصلح حياتنا السابقة الشريرة بوضع نموذجٍ لنا نقتدي به. لم يكن ممكنًا لله أن يُرى بواسطة إنسان. لذلك صار إنسانًا لكي ما يُرى. ظهر الله القدوس غير المنظور كإنسانٍ منظورٍ مثلنا، حتى إذ يبدو كمن هو مثلنا يعلمنا بقداسته، ويضع نهاية لمرضنا بقدرة مهارته…

إذ ليس فيه أي مزيج من الخطية لم يخضع لأية عقوبةٍ كأمرٍ حتميٍ. لقد اخضع معصيتنا بغلبة عليها. لقد خضع لعقوبتنا من أجل حنوه علينا، وكما يقول بنفسه: “لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها” (راجع يو 18:10). مرة أخرى لم يقم مثل سائر الناس فإن قيامتنا تتحقق في نهاية العالم، أما قيامته فاحتفل بها في اليوم الثالث. نحن بالحق نقوم بواسطته، أما هو فيقوم بنفسه.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

و. بالفداء

يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ،

قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً [24].

إذ يشير أليهو إلى الوسيط، ربنا يسوع المسيح، يتحدث عن دوره في خلاص الإنسان وتمتعه بالفداء، منقذًا إياه من الانحدار إلى هاوية مملكة الظلمة، ويهبه الحياة الأبدية عوض الهلاك الأبدي.

v     سيتراءف عليه، ويقول: “خَلصه من الهبوط إلى الفساد، وجدت طريقًا لفديته” [24]. الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، إذ أخذ شكل إنسان. بحنوه يقول أبيه لحساب الإنسان المُخلص: “خلصه من الهبوط إلى الفساد“.

نتحرر ببرّ المخلص القدير، إذ يقول بنفسه: “فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو 8: 36). حسنًا يُقال لحساب هذا الإنسان المفدي: “تقترب نفسه من الفساد” (راجع أي 33: 22)، والآن يعلن أنه لا يهبط إلى الفساد. وكأنه يقول: إذ هو مدرك خلال إحساسه بضعفه أنه ليس ببعيدٍ عن الفساد، لهذا ليته لا يهبط إلى موت الفساد، فإنه بحقٍ يهبط إلى الفساد إن حسب نفسه أن بقوته ابتعد بعيدًا عنه. لكنه إذ يقترب في تواضعٍ يلزم قبوله بالرحمة. فكما اعترف بضعفه بالطبيعة يتقوى ضد الخطايا التي تصارعه. فمن يفتخر بنفسه فوق ما هو عليه يهبط بثقل كبريائه، يغطس إلى أعماق أكثر…

إذ أخذ الرب لنفسه الضعف، واحتمل عقوبتنا بموته، ردٌ فسادنا بقيامته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

“أطلقه”، الترجمة الحرفية للكلمة العبرية “خلّصه”، بأن ينقذ الشخص بفدية أو دفع ثمن عنه، والكلمة اليونانية تعني دفع ثمن أو فدية، استخدمت في (مت 20: 28). “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين”.

الحديث هنا نبوة واضحة عن الفداء الأبدي الذي دفع السيد المسيح ثمنه بدمه الثمين. وكما يقول الرسول بولس: “وليس بدم تيوسٍ وعجولٍ، بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا” (عب 9: 12).

وجدت فدية”، فقد أوجد ربنا يسوع هذا الفداء. تعبير “أوجد” يشير إلى غيرته المتقدة على خلاص العالم، وأمانته، وفرحه، وسعيه نحو خلاص الإنسان. إنه يعمل كمن يبحث حتى يجد فيفرح!

“يذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحًا” (لو 15: 4-5).

“افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال” (لو 15: 6).

“أية امرأة… إن أضاعت درهمًا واحدًا… تفتش باجتهاد حتى تجده” (لو 15: 8).

“افرحي معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته” (15: 9).

“وجدت داود عبدي، بدُهن قدسي مسحته” (مز 89: 20).

v     الوسيط بين الله والإنسان، الإنسان يسوع المسيح، يظهر رحمة على الإنسان إذ أخذ شكل إنسانٍ. خلال حنوه، يقول لأبيه لحساب الإنسان المٌَخلص: “أطلقه عن الهبوط إلى الفساد”…

  1. عذوبة التمتع بخلاص الله

يَصِيرُ لَحْمُهُ أَنْضَرَ مِنْ لَحْمِ الصَّبِيِّ،

وَيَعُودُ إِلَى أَيَّامِ شَبَابِهِ [25].

إذ تحدث أليهو عن المسيح الفادي، رفع نظرنا من الضيقات والأحزان والأمراض إلى ما ننعم به خلال هذا الفداء العجيب. عوض الحديث عن الأمراض يدهش أليهو إذ يرى بروح النبوة الإنسان الذي كان منحدرًا نحو الهلاك الأبدي لا يتمتعٍ بالصحة فحسب، بل يصير جسمه أغض من جسم صبي، يتحول من حالة الشيخوخة العاجزة إلى الشباب القوي المملوء حيوية ونشاطًا.

خلال الفداء يتمتع بميلاد جديد، ويصير المؤمن خليقة جديدة على صورة خالقه. يصير ابنًا لله في مياه المعمودية، باتحاده بالابن الوحيد الجنس. يصير نعمان الجديد، الذي قيل عنه: “فنزل وغطس في الأردن سبع مرات حسب قول رجل الله، فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر” (2 مل 5: 14). يتحقق فيه قول السيد المسيح لنيقوديموس: “الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو” (يو 3: 5-6).

v     “جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه” [25]. عندما سقط الإنسان الأول من الله، طُردنا من مباهج الفردوس، وارتبطنا بمآسي هذه الحياة الفانية. ونشعر بألم عقوبتنا مدى خطورة خطأنا الذي ارتكبناه بغواية الحية. فإننا إذ سقطنا إلى هذه الحال، لا نجد شيئًا خارج الله سوى الحزن… فإننا نعاني يوميًا من الحزن في الجسد، وفيه العذاب والموت، لذلك فإن الرب بتدبيره العجيب يغير ما حلٌ بنا بارتكابنا الخطية وذلك بوسائط العقوبة….

جسده أُستهلك بالعقوبات، ليعود إلى أيام صباه“. كأنه يقول: خلال عقوبة موت (موت الإنسان) هبط بعمره المسن، فليرتد إلى أيام صباه، أي ليتجدد إلى كمال حياته السابقة، ولا يبقى في الحال الذي سقط إليه، بل بخلاصه يرجع إلى مباهج حالته التي خُلق عليها أصلاً… إذ أُحضرنا إلى هذه القوة للحياة الجديدة، ليس بقوتنا، وإنما بواسطة المخلص، ليت الرسول (السيد المسيح) يقول في وساطته لهذا الإنسان الذي تحت العقوبة: “ليعود أيام صباه”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ،

وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ،

فَيَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ بِرَّهُ [26].

بهذا الميلاد الجديد يدخل المؤمن في علاقة مع الله، كابن له دالة لدى ابيه؛ يصلي ويعترف ويسبح ويشكر، مقدمًا بخورًا طيبًا يشمته الله رائحة سرور ورضا في استحقاق ذبيحة المسيح. يتطلع الله أبيه ببهجة قلب، معانيًا وجهه بهتافٍ وتهليلٍ. لا يخشى اللقاء معه، إذ يدرك حقيقة المصالحة التي تمت بالصليب.

يسكب الله على مؤمنيه من ثمار الروح بفيض فيحمل أيقونة المسيح وبرَّه.

هكذا ينقلنا أليهو من الصراخ بسبب الأحزان، إلى الهتاف كأبناء للآب السماوي، نحمل الطبيعة الجديدة المكللة بالمجد، ونتمتع برؤية وجه الله، ونشارك السمائيين تسابيحهم وهتافهم، ونستتر في برّ المسيح الذي نرتديه ثوبًا بهيًا سماويًا.

v     “سيصلي إلى الله، فيرضي عنه” يقول بأن الرسول (الشفيع الكفاري) يتوسط أولاً وبعد ذلك الإنسان، فلو لم يتوسط الرب لدى أبيه خلال تجسده، وصلي لأجل حياتنا، ما كان لجمودنا الحي أن يتحرك، فنطلب الأبديات… لكن لأن نور الحق ينفجر بالفرح السري في قلوبنا بعد التجارب، غالبًا بعد أحزانٍ عظيمة، بحق أضيف عن هذا الإنسان المُجرب والمتوسل لدي الله: “ويعاين وجهه بهتاف” [25]. لقد قيل سابقًا كيف يعمل الله بإعلان ذاته لنا، أما هنا فيُظهر كيف أنه يبهجنا عندما يجعل نفسه معروفًا.

هكذا فإن يعقوب بعد صراعه مع الملاك قال: “نظرت الله وجهًا لوجه” (تك 32: 3)، كمن يقول: “أعرف الرب لأنه هو نفسه يتنازل ليعرفني”. لكن بولس يعلن أن هذه المعرفة ستتم بأقصى الكمال في النهاية، حيث يقول: “سأعرف كما عُرفت” (1 كو13: 12). بعد النضال في الأتعاب وأمواج التجارب غالبًا في تُسبى النفس متهللة حيث تتأمل معرفة الحضرة الإلهية (التي يمكنها أن تشعر بها لكنها لا تقدر أن تتمتع بكمالها). لذلك حسنًا قيل عن هذا الإنسان المُجرب بعد أتعاب كثيرة: “يعاين وجهه بهتافٍ” [26]. كلما تأمل الإنسان في الإلهيات يستعيض أفعاله الأرضية بنعمة التأمل، لذلك لاق به أن يضيف بُر لأعماله: “فيردٌ على الإنسان برَُه” [26].

يُدعى “برنّا” ليس كما لو كان ذلك من أنفسنا، إنما صار لنا بالهبة الإلهية، كما نقول في الصلاة الربانية: “خبزنا اليومي أعطنا اليوم”. انظروا إننا ندعوه “خبزنا” مع أننا نصلي لكي نناله. إذ يصير لنا عندما نتقبله، ولكن هو خاص بالله، لأنه هو الذي يعطيه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ:

قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيم،َ

 وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ [27].

جاءت العبارة في العبرية: “يغني بين الناس”، وقد اختلفت الترجمات للكلمة العبرية Shiyr وتعني “يغني”. يتحول الإنسان من صراخه من شده التجارب والآلام التي حلت به إلى التهليل والتسبيح متغنيًا بنعمة هذا الوسيط الذي فداه وجدد طبيعته بروحه القدوس ووهبه الحياة الأبدية. إنه أخطأ وعوج الطريق المستقيم لكن النعمة غطته فنال المغفرة ولم يجاز على ماضيه.

رأى البعض أن الكلمة العبرية مشتقة من Shuwr وتعني “يتطلع حوله” أو “يهتم بـ”، أو “يلاحظ”. لذلك جاءت الترجمة الانجليزية (KJV ): “تطلع إلى البشر، وإن قال أحد إني أخطأت وأفسدت ما هو حق ولم أنتفع شيئًا. وكأن هذا العبارة تشير إلى الوسيط الإلهي، مخلص العالم يتطلع إلى البشرية التي فسدت، فإن اعترف أحد أنه أخطأ وأفسد ما هو صالح من طاقات وإمكانيات ومن مراحم وبركات قُدمت له من قبل المخلص وان هذا لا ينفعه شيء، فسيعمل المخلص فيه[1282].

تحت ضغط التجارب أو تحت التمتع برؤية الوسيط إن اعترف أحد بخطايا واعوجاج سلوكه يتمتع بالمراحم الإلهية.

بهذا يقدم لنا أليهو نظرته إلى التجارب بكونها تأديبًا من الرب غايته أن يرجع الإنسان إلى نفسه ويكتشف أخطاءه ويشعر باحتياجه إلى الفادي فينعم بالمراحم الإلهية.

بقوله: “عوجت المستقيم” قد يعني أخطأت النظر إلى خطة الله من نحوي، فلأجل استقامة حياتي يُسمح ليّ بالتجارب، لكنني بفساد قلبي أتطلع إليها كظلمٍ حلّ عليّ. ولهذا “لم أجازَ عليه” أو “لم أنتفع منه”. فالخطأ ليس في حلول التجارب وإنما في عدم انتفاعي منها بسبب تذمري على الرب، وحسبت أنني لا استحق كل هذه الآلام القاسية.

v     “يتطلع إلى الناس ويقول: وأخطأت” [27]. ما كان يمكنه أن يعرف أنه خاطى ولو لم يكن قد صار له البرّ. فإنه لا يكتشف أحد عيوبه ما لم يكن قد بدأ أن يكون مستقيمًا. فمن هو مشوه تمامًا لا يقدر أن يدرك حقيقة نفسه. أما الذي يشعر أنه خاطئ، فقد بدأ إلى حد ما أن يصير مستقيمًا. بكونه مستقيمًا يلوم سلوكه حيث لا يزال بعد غير بار. وباتهامه لنفسه يبدأ يلتصق بالله. وإذ يعبر إلى اتهام نفسه بحق، يدين نفسه فيما يدرك أنه لا يسر الله.

أما إذا تطلع خاطي إلى نفسه دون أن يتعلم سمة البار، فإنه لا يستطيع بأية وسيلة أن يدرك أنه خاطي…

البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المؤمن إذ يتطلع إلى الناس (القديسين) يقرأ في حياتهم كما في كتاب مفتوح فيدرك أنه خاطي، ويقدم توبة ليحيا في برٌ المسيح. ففي تعليقه على هذه العبارة يقول: [حياة الصالحين هي دراسة حية، لهذا ليس عن غير استحقاق دعي الأبرار “كتبًا” في لغة الكتاب المقدس، كما هو مكتوب: “وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار حسب أعمالهم”

 (رؤ 2: 12)… لكي نقتني معرفة السماويات ندرس الأمثلة التي للقديسين الذين سبقونا. لقد قيل إنهم يرعون بين السوسن (راجع نش 4: 5-6). فإنه ماذا يُقصد بالسوسن سوى سلوك أولئك الذين يقولون بكل صدقٍ: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله” (2 كو 2: 15)… فإننا مادمنا نعبر في ظلال هذه الحياة الفانية حتى نبلغ فجر اليوم الأبدي، نحتاج أن نشبع بأمثلة الأبرار.]

v     “يتطلع إلى الناس ويقول: أخطأت، وعٌَوجت المستقيم، ولم أجاز عليه كما أستحق” [27]. حتى الذين لا يعتقدون أنهم يخطئون يعترفون بطريقة عامة أنهم خطاة. فالأمر هكذا بالنسبة للبشر. غالبًا ما يعترفون علانية أنهم خطاة، ولكن متى سمعوا من يذكر بالصدق عن خطاياهم عندما يهاجمونهم، يدافعون عن أنفسهم بجسارة ويسعون نحو اظهار أنفسهم أبرياء. من كانت له هذه السمة، فإنه إذ يقول إنه يخطئ فهو لا ينطق بالحق، إذ يعلن عن نفسه أنه خاطي، لكنه ليس من عمق قلبه، إنما مجرد ينطق بكلمات، لأنه مكتوب: “الصديق من البداية يتهم نفسه” (راجع أم 18: 17). وإنه يود أن ينال سمعة طيبة، لا أن يتواضع باعترافه بخطيته. إنه يرغب باتهامه لنفسه أن يظهر متواضعًا بينما هو ليس كذلك… أما الصديق فإذ يتهم نفسه على سلوكه يعرف عمق قلبه، خلال أمثلة القديسين أنه بالحق هكذا كما يعترف. وفي ألم يكمل أنه لم يجازَ كما يستحق.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ،

فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ [28].

هذه هي أغنية القادمين من الضيقة العظيمة (رؤ 7: 14)، إذ يسبحون الله على مراحمه الفائقة الذي رفعهم من حفرة جهنم إلى أورشليم العليا؛ وعبر بهم من مملكة الظلمة ليستقروا في أحضانه أبديًا في النور إلهي. وكما قيل عن أورشليم العليا: “والمدينة لا تحتاج إلى الشمس، ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والحمل سراجها” (رؤ 21: 23).

v     “فدى نفسي من العبور إلى الدمار” [28]. إذ تتقدمنا النعمة الإلهية في أعمال صالحة، تتبعها إرادتنا الحرة، وإذ نُخضع موافقتنا لله الذي يخلصنا يُقال عنا إننا نفدي أنفسنا. يقول بولس: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم” (1 كو 15: 10). وإذ يخشى أن ينسب أتعابه لنفسه للحال أضاف: “ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي”. فإنه إذ تبع بإرادته الحرة نعمة الله السابقة والواقية فيه، بصدق أضاف: “التي معي”، حتى لا يكون جاحدًا للنعمة الإلهية، ولا يبقى متغربًا عن التأهل للإرادة الحرة…

“فترى حياتي النور” [28]، بمعنى نور الحق الذي لم يكن قادرًا أن يراه حين كان ميتًا في قلبه، أو يعني الرب القائل: “أنا هو نور العالم ” (يو 8: 12)…

البابا غريغوريوس (الكبير)

هُوَذَا كُلُّ هَذِهِ يَفْعَلُهَا اللهُ مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا بِالإِنْسَانِ [29].

يترجم البعض “مرتين وثلاثًا” “مرات كثيرة”، إذ تعني لا يتوقف الله عن أن يعمل من أجل خلاص مرة ومرتين وثلاثًا وبكل الوسائل حتى يجتذب الأشرار إلى الخلاص، يتمتعون بالنبوة له، وينعمون ببره وقداسته وسماواته.

يرى البعض أن أليهو يذكر “ثلاثًا” اشارة إلى عمل الله مع الخطاة، حيث يستخدم ثلاثة طرق:

أولاً يفيض بالخيرات لعل الإنسان يتلامس مع حب العاطي، فإن لم يرجع إلى الله يستخدم الإلهامات الإلهية سواء خلال الأحلام أو الرؤى أو الوحي الإلهي، فإن لم يرجع يستخدم الأحزان والضيقات لكي يعيد النظر في حياته ويدرك حقيقة موقفه.

v     “هوذا كل هذه يفعلها الله ثلاثًا بكل إنسانٍ” [29]… إن لاحظنا بعناية، فسنجد أنه توجد ثلاث مراحل للحزن والفرح الواحدة تتبع الأخرى، في هدايته، وفي تجربته، وفي موته.

ففي المناسبة الأولى لهدايته… يكون حزن الإنسان عظيمًا، وذلك لأنه يضع في حسبانه خطاياه، ويرغب في نزع قيود الاهتمامات العالمية بقوة، والسير في طريق الله طول فترة هدايته. يود أن يزيل ثقل الاضطرابات الزمنية الثقيلة، ليحمل نير الرب الهين. في عبودية تحمل حرية… ولكن يأتي عند ذلك ألم القلب واضطرابه، إذ يدعو الروح من جانب، ويدعوه الجسد من الجانب المخالف… بحق ويقال عن هذا الإنسان المتمرر: “فتكره حياته خبزه وتقترب نفسه من الفساد، وحياته إلى المميتين”(راجع 2، 22) لكن النعمة الإلهية لا تسمح لنا أن نتعرض لهذه المصاعب لمدة طويلة. فإنها تحل قيود خطايانا وتقودنا بسرعة إلى تعزيات حرية حياتنا الجديدة. الفرح الذي يتبعها ينزع الحزن السابق. وهكذا فإن عقل الذي يهتدي بفرح كثيرًا جدًا أكثر مما يشتهي…

ولئلا يظن الإنسان أنه قديس، فإنه في الحال عند اهتدائه… يسمح له بتدبير الله أن يعاني من هجمات التجارب باهتدائه يعبر البحر الأحمر، لكن الأعداء يستمرون في مقاومته في برية هذه الحياة الحاضرة. لقد تركنا خطايانا الماضية خلفنا، إذ مات المصريون على الشاطئ، لكن الرذائل المدمرة لا تزال تهاجمنا كأعداء جدد لتعوق طريقنا الذي به ندخل أرض الموعد… عدونا أكثر غيرة على غلبتنا مادمنا نحن في هذه الحياة، كلما أدرك أننا متمردون عليه. لا يهتم أنه يلطم الذين يدرك أنهم في ملكيته. إنما هو في حالة هياج أشد ضدنا، إذ أُستبعد من قلوبنا كما من حقه أن يمتلكنا مسكنًا له… بالحق توجد ثلاث مراحل للمهتدين: البداية، المنتصف، النهاية. في البداية يختبرون سحر العذوبة، وفي منتصف الوقت مقاومة التجارب، وأما في النهاية ففيض الكمال…

بعد عبور هاتين المرحلتين من الاهتداء والامتحان في حزن وفرح تبقى المرحلة الثالثة، التي لا يزال يخشى أحزانها، لكنه ينال مسراتها… يقول داود: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر إنسان أمامك” (مز 143: 2). ويقول بولس بعد ذلك: “فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا” (1 كو 4: 4). يقول يعقوب: “لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا” (يع 3: 2) ويقول يوحنا: “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا” (1يو 1: 8)

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيَرُدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْحُفْرَةِ،

لِيَسْتَنِيرَ بِنُورِ الأَحْيَاءِ [30].

يؤكد أليهو هنا ما سبق أن أشار إليه كأغنية يترنم بها الإنسان التمتع بخلاص الله (أي 33: 28)، أنها عطية مقدمة لكل إنسان بغير محاباة، فإن الله “لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة” (2 بط 3: 9)، فيتغنى كل مؤمن: “لأنك نجيت نفسي من الموت، نعم ورجلي من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء” (مز 56: 13).

v     لأن عقل كل مختار يعاني في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث، أي من ألم الاهتداء، أو تجارب الامتحان، أو رعب الانحلال، فيتطهر ويتحرر بذات الأم، قيل: “ليرد نفسه من الفساد، ليستنير بنور الأحياء” [30].

فإن هذا هو نور الأموات التي نعاينه بأعيننا الجسدية… أما الذين يستنيرون بنور الأحياء. فيحتقرون نور العالم ويعودون إلى سمو البهاء الداخلي. حتى يعيشوا في ذلك الموضع الذي يرون فيه النور الحقيقي ويشعرون به، حيث لا يكون اختلاف بين الحياة والنور، فحيث يوجد النور توجد الحياة أيضًا…

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. توسل إلى أيوب للاستماع إليه

فَأصْغَ يَا أَيُّوبُ وَاسْتَمِعْ لِي.

أنْصُتْ فَأَنَا أَتَكَلَّمُ [31].

يسأل أليهو أيوب أن يفحص بعمق ما قاله، وينصت بانتباه شديد إلى ما سيقوله. فإن لديه الكثير ليقوله، وهو أمر يمس حياته، يستحق أن يطيل أناته ويصبر في حدية ليستمع إلى ما سيقوله له.

إِنْ كَانَ عِنْدَكَ كَلاَمٌ فَأَجِبْنِي.

تَكَلَّمْ. فَإِنِّي أُرِيدُ تَبْرِيرَكَ [32].

قبل أن يكمل أليهو حديثه الوارد في الأصحاح التالي أراد أن يتوقف متأنياً، سائلاً أيوب أن يجيبه أو يقدم تعليقاته عما قاله.

هنا يبرز هدوء أليهو، فإنه وإن بالغ في اتهام أيوب لكنه يتوقف ليسمع تعليقاته بروح طيبة. فإن غايته لا أن يوبخ ولا أن يكيل الاتهامات بل يفتح باب الخلاص والبرّ ليتبرر أيوب أمام الله. هكذا يليق بنا في كرازتنا أن ندرك حقيقة رسالتنا، لا النقد والتوبيخ بل المساندة والحنو مع الصراحة وعدم المداهنة. لقد سبق فقال أليهو لأيوب إنه مثله خُلق من ذات الطين، فكلاهما يحتاجان إلى المخلص المعين. ويقول الرسول بطرس في كرازته لأول أممي: “أنا أيضًا إنسان” (أع 10: 26).

لا يحتاج الإنسان إلى من يرعبه، بل إلى من يحنو عليه ويترفق، ويُشعر أنه رفيق معه في الضعف البشري، ومحتاج معه إلى العون الإلهي.

في تواضع وحب وحنو يسأل أليهو أيوب إن كان لديه اعتراض أو يطلب استيضاح أن يتكلم بحرية، فإنه يود أن يوضح بمحبة كل ما في ذهنه، لأجل تبريره.

كما طلب أليهو من أيوب أن يسمع بطول أناة وصبر لما قاله أليهو وما سيقوله، فإنه يعلن استعداده هو أيضًا أن يسمع بصدرٍ رحب وبطول أناة.

بقوله “أريد تبريرك” خشي أليهو أن يكون قد أساء فهم عبارات أيوب أو نسب إليه أقوالاً بمعانٍ لم يقصدها أيوب، لهذا يعطيه الفرصة ليتكلم في صراحة.

وَإِلاَّ فَاسْتَمِعْ أَنْتَ لِي.

أنْصُتْ فَأُعَلِّمَكَ الْحِكْمَةَ [33].

إن لم يكن لدي أيوب ما يعترض به على كلمات أليهو، يطالبه الأخير أن يستمع إليه ويصغي بانتباه، فيعّلمه الحكمة.

إذ التزم أيوب الصمت، ولم يتدخل أحد من الأصدقاء الثلاثة، أراد أليهو ان يكمل حديثه (كما ورد في الأصحاح التالي).

 


 

من وحي أيوب 33

لتهتف نفسي لك،

يا من عبرت بيّ من الجحيم إلى السماء!

v   تهتف أعماقي بروح التهليل قائلة لك:

خلقتني من تراب، لكنك وهبتني نسمة من عندك.

أعرف ضعف طبيعتي، وأدرك قوة عملك فيّ.

هب ليّ ألاَّ انتقد إخوتي فأوجه إليهم اتهامات مُرّة.

فأنيّ شريك معهم في الضعف.

أطلب خلاصهم لينعموا معيّ بغنى نعمتك.

تئن نفسي لسقطاتهم،

ويحترق قلبي لعثراتهم!

v   لتتكلم أنت يا رب معهم،

تكلم معهم بلغة الخيرات والعطايا الكثيرة.

تكلم معهم خلال كلمتك القديرة،

وإن لم يقبلوا نعمتك تكلم معهم بلغة الآلام.

فأنت تطلب خلاص الكل بكل وسيلة!

في آلامهم تئن أنت معهم كأب مترفق يؤدب.

وتئن نفسيّ معهم، أشاركهم أحزانهم.

لتعمل فيهم وفيّ حسبما تشاء يا مخلص الجميع!

v   من يحملني وإياهم إلى الأحضان الإلهية،

سواك يا أيها الشفيع العجيب.

بدمك تطهرنا وبروحك تقدسنا.

تطلقنا من ظلمة الخطية إلى نور برك.

تعبر بنا من هوة الجحيم إلى أورشليم العليا.

تحول صراخنا المُرَّ إلى هتاف.

تحول مراثينًا إلى أغانٍ وتسابيح.

تغذي نفوسنا بدمك،

وتقدمنا لله أبيك أبناء له!

لك المجد يا أيها المخلص محب البشر!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى