ما هي علاقتك بالله؟

 

أود أن أحدثكم عن موضوع حيوى ، هو مركز الله فى حياة كل منا… هل توجد علاقة بيننا وبين الله؟ وما طبيعة هذه العلاقة؟ وما عمقها ، وما مداها؟ وهل هى علاقة رسمية؟ أم تدخل فيها العاطفة والحب؟ وما مركز علاقتنا بالله إذا ما قورنت بباقى علاقاتنا الأخرى؟

وينبغى أولاً أن نبين أهمية علاقتنا بالله
هناك ملايين من الناس ، فى كافة أنحاء الأرض ، قد لا يهمك أن تكون بينك و بين أحد منهم علاقة خاصة. أما الله فهو الكائن الوحيد الذى لا بد أن تكون هناك علاقة بينك وبينه. ولهذه العلاقة ميزات تنفرد بها…

فعلاقتك بالله ، هى العلاقة الوحيدة الثابتة والدائمة.
كل من تقابله من البشر ، ليست لك به علاقة دائمة. فما أسهل أن تفترق عنه – على الأرض- فى وقت ما ، ويكون لك طريق فى الحياة غير طريقه ، وتشعر أنها مجرد علاقة عابرة. كذلك فإن الناس الذين تختلط بهم، غالباً ما تكون علاقتك بهم محددة فى مجال معين لا تتعداه ، قد تنتهى بانتهائه. أما الله فعلاقتك به شاملة ، ودائمة. وهى ليست قاصرة على حياتك الأرضية…

علاقتك بالله ، تشمل أبديتك أيضاً ، وفى الحياة الأخرى.
إنها علاقة تبدأ هنا ، وتستمر عبر الخلود. فإلى جوار أن الله هو الذى خلقك وأوجدك ويرعاك ، فإن فى يده أيضاً تحديد مصيرك فى الأبدية وعلاقتك به هناك. ولا شك أن هذا يختلف طبعاً عن علاقاتك بالبشر وبباقى الكائنات الأخرى. حتى البشر أو الملائكة الذين ستكون لك علاقة بهم فى الأبدية ، فعلاقتك بهم ايضا داخلة فى صميم علاقتك بالله.
لذلك إفحص علاقتك بالله ، واعرف حقيقتها… عملياً…

هنا ، ونضع أمامك بعض اسئلة تفصيلية :
1- هل عرفت الله ؟ أم لم تعرفه بعد ؟ وإن كنت تظن أنك تعرفه ، فما طبيعة هذه المعرفة وما عمقها ؟ وماذا يكون الله بالنسبة إليك ؟
2- هل الله له وجود واضح في حياتك ؟ وما نوع العلاقة التي تربطك بالله ؟
3- هل له الأولوية في كل أهتماماتك ومشغولياتك ومحبتك ؟
4- هل الله ليس فقط هو الأول في حياتك ، إنما هو الكل ؟ أم هل يوجد شيء أخر في حياتك إلي جوار الله له أهمية . ما هو؟ وهل أنت تجاهد لتتخلص في كل ما ينافس الله في قلبك، ليبقى الله وحده؟
أنها درجات في العلاقة بالله . ما موضعك بينها ؟
هنا وارجوا ان تأذن لي ، بأن أتناول هذه الأسئلة واحداً فواحداً ، ونناقشها معاً:

1- هل تعرف الله ؟ وما عمق هذه المعرفة ؟
وقد يبدو السؤال غريباً . فكل إنسان يظن أنه يعرف الله ، وربما يقصد معرفته أنه يوجد إله. ونحن لا نقصد مطلقاً هذه المعرفة العقلية السطحية . فالشيطان أيضاً يعرف أنه يوجد إله. وقد قال القديس يعقوب الرسول ” أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل. والشياطين أيضاً يؤمنون ويقشعرون” (يع9:2) ، يقصد مجرد الإيمان العقلي ، الميت ، الذي بلا ثمر ، وبلا حياة في الله

وبعد الوجوديين يعرفون ان هناك إلهاً في السماء . ويتهكمون في هذه المعرفة قائلين ” فليبق الله في السماء ، ويترك لنا الأرض نتمتع بها”…‍ ‍‍‍‍‍!
أو كإنسان يعرف أن هناك كهرباء ، دون أن يعرف ما هى هذه الكهرباء وكيف تعمل ، ودون أن يستخدمها في حياته أستخداماً له عمقه ومجالاته الواسعة …

فهل أنت تعرف الله هذه المعرفة العقلية السطحية وكفى ؟ !
وهل معرفتك لله ، مصدرها الكتب، أو مجرد سماع العظات والتعليم؟ دون أى معرفة أختبارية في حياتك ، في داخل قلبك؟ هل تسمع عن الله ، كما تسمع عن شعوب بعيدة ، لم تراها ، لم تختلط بها ولم تعاشرها؟! هل تعرف الله الذي يوجد فقط في الكنيسة ! فإذا ما خرجت من الكنيسة ، لا تعرفه ولا تلتقي به؟‍‍! هل هو مجرد الإله الموجود في معاهد اللاهوت وفي كتب العقيدة؟!

أسوأ ما في المعرفة العقلية ، أن تكون معرفة بلا علاقة !
لذلك ، فهي لا يمكن أن تكفي … أنها تشير إلي الله من بعيد ، ولكن يبقى أن تقترب إلي الله، وتعرفه عن طريق الخلطة والمعاشرة والحياة معه. وهكذا تعرف الله الذي يسكن فيك ، وليس مجرد الله الذي في الكتب. فهل تشعر بوجود الله فيك ومعك؟ أم أنك تحيا المأساه التي عاشها أوغسطينوس في فلسفته، قبل أن يعرف الله معرفة حقيقية . وقد سجل هذه المأساة في أعترافاته، حينما قال للرب ” كنت معي . ولكنني من فرط شقوتي ، لم أكن معك ” … كان الله معه ، وهو لا يحسه ، ولا يشعر به !

وهنا ننتقل إلي السؤال الثانى من اسئلتنا :

2- هل الله له وجود عملى واضح فى حياتك ؟
هل الله بالنسبة إليك هو مجرد فكرة ؟ أم له كيان حقيقى تشعر به ، وله وجود عملى فى حياتك ؟ ما مدى إحساسك بالله ووجوده وفاعليته فيك ؟ من يكون الله بالنسبة إليك ؟… إن سؤال المسيح لتلاميذه ، مازال قائماً أمامنا :

“من تظنون إنى أنا ؟ “. ما هو الله فى مفهومك ؟
وما نوع العلاقة التى تربطه بك ؟ هل هى مجرد علاقة الطلب من جانبك ، والعطاء من جانبه ؟ هل الله هو مجرد (الصراف) الذى يقدم لك المال ؟ … أم هو الممون الذى يعطيك ما يلزمك من تموين ؟ أم هو مجرد المعين الذى يقدم لك المعونة لراحتك ؟ فإن كان لا يقدم هذه المعونة ، أعنى إن كنت لا تشعر بهذه المعونة ، فلا علاقة… ! هل مجرد المنقذ الذى يحل مشاكلك ؟ فإن بدا أنه لا يحلها ، فلا علاقة… !

هل الله بالنسبة إليك مجرد وسيلة ؟ أم هو غاية ؟
هل هو مجرد وسيلة لتحقيق رغباتك ، ولتكوين ذاتك ؟ مجرد وسيلة للأخذ؟
وهل توجد علاقة تربطك بالله ، خارج مجالات الأخذ منه ؟ هل كلما تجلس إلى الله أو كلما تتحدث إليه ، إنما يكون ذلك بقصد أن تطلب منه شيئاً ؟! أم أنت على العكس ، تريد أن تقدم له شيئاً ؟ تريد أن تعطيه قلبك ، وأن تعطيه حبك ، وأن تعطيه وقتك. وتقول له فى كل ذلك ” من يدك أعطيناك ” …
وإن أحببت أن تأخذ من الله : فهل ما تريد أن تأخذه هو المتعة به ومحبته، أم عطاياه المادية وخيراته…؟… حقاً إن الله يجول يصنع خيراً… ولكن :

هل أنت تحب الله أم خيراته ؟ ذاته أم عطاياه ؟
هل أنت تفرح بالرب حينما يعطيك شيئا ، ولا تفرح حينما لا تحس بعطائه؟ إذا فأنت تفرح بالعطية ، وليس بالله معطيها ! العطية هى هدفك ، وليس الله !
متى تحب الله حينما يعطى ، وحينما لا يعطى ؟ آسف لهذا التعبير… أقصد متى تحب الله حينما يعطى ، وحينما تظن أو لا تشعر أنه يعطى… فإن الله بطبيعته ، دائما يعطى ، سواء أحسست أنت ذلك أو لم تحس…
صدقونى يا إخوتى ، لو أننا آمنا تماما بأن الله يعطى باستمرار ، ما كانت الحياة كلها تكفى لشكره… ! إننا نعرف فقط عطاياه الظاهرة لنا. فماذا عن عطاياه الخفية ؟ ذلك لأن الله إن كان قد أمرنا أن نعطى فى الخفاء ، فهو أيضاً يعطى فى الخفاء… وأن بحثنا عن عطاياه الخفية ، لوجدناها فوق ما ندرك ، وفوق ما نتصور…
ومع ذلك ، لنترك موضوع العطاء حالياً ، فعلاقتنا بالله ينبغى ألا تبنى على العطاء.
ما هى علاقتك بالله إذن ، خارج داءرة إحتياجك إليه ؟

هل علاقتك به ، هى علاقة خوف؟
هل أنت تسير مع الله ، وتحاول أن تطيع وصاياه ، خوفاً منه… هل أنت مجرد خائف من عقوبته ومن دينونته ، خائف من اليوم الذى تقف فيه أمامه ويحاسبك ، هل أنت خائف من رقابة الله عليك ، هذا الذى يفحص الأفكار والنيات ، ويروى ما فى داخل القلب ، وما فى أعماق النفس ، وليس شىء مستوراً عنه ؟

لا يخاف من عقوبة الله إلا المخطىء. فهل أنت لا تزال فى هذه المرحلة ، لم تتب بعد ولم تصطلح مع الله ؟ وأن كان الكتاب قد قال ” بدء الحكمة مخافة الله ” ، فهل أنت مازلت فى بداية الطريق ، ولم تصل بعد إلى ” المحبة التى تطرح الخوف إلى خارج ” كما قال الرسول (1يو18:4).

هل علاقتك بالله ، هى علاقتك به كحاكم ؟
هو بالنسبة إليك مجرد سيد ، وأنت مجرد عبد. والله هو حاكم يحكمك ، يصدر لك أوامر ونواهى ، تسمى الوصايا ، وأنت مجبر أن تطيعه ، فهو القوى الجبار الذى لا منقذ من يده ، سواء اقتنعت بوصاياه أو لم تقتنع؟!
أن كنت هكذا ، فأنت لا تزال تعيش فى عبودية الناموس ، ولم تصل إلى حياة النعمة بعد… ولم تصل إلى النقاوةالتى تحب بها وصايا الله ، ولا تجدها ثقيلة… بل تقول مع داود ” وصية الرب مضيئة تنير العينين ” (مز19) ،
” أحببت وصاياك جداً ” (مز119) ، “كلمات حلوة فى حلقى ، أحلى من العسل والشهد فى فمى ” (مز119). وأيضا هل أنت قد وصلت إلى الشعور بأبوة الله لك ، على الأقل كلما تصلى وتقول “يا أبانا… ” ؟

ما هى علاقتك بالله؟ هل هى تحت الإختبار؟
هل أنت لم تصل بعد إلى درجة الثقة بالله وبمحبته ومواعيده ، فما تزال تختبر ؟ تجربه فى هذا الموضوع أو ذاك ، وترى كيف سيتصرف معك ؟ وهل سيستجيب لك أم لا يستجيب ، وتحدد علاقتك به هل هذا الأساس ! فتحبه ، أو تغضب منه ، أو تقاطعه وتقاطع كنيسته وكتابه ، وتبدأ تشك فى ما تعرفه من صفات… ؟!
أنت تعرف أن الله محبة ، هل تثق بذلك ، وهل تؤمن أن كل أعماله من نحوك مملوءة حباً ، مهما كان ظاهرها ؟ ثم ما علاقتك أنت بهذه المحبة ؟ هل يملأك الحب نحو الله ونحو الناس ، فتشعر أن الله يعمل معك.
الله أيضاً هو الحق. فماعلاقتك بالحق ؟ إن كنت بعيداً عن الحق ، فأنت بعيد عن الله.
أعود إلى سؤالى مرة أخرى : ما علاقتك بالله؟

هل علاقتك بالله، فيها العشرة والحب والحياة فيه؟
هل تستطيع أن تقول عن الله ، كما فى سفر النشيد ” حبيبى لى ، وأنا له” (نش3:6). أنا أعرف أنك مؤمن بالله ، على اعتبار أنه الخالق ، والسيد ، والراعى ، والمدبر ، والديان ، وتنظر إليه هكذا. ولكن هل تنظر إليه أيضاً كمحب للبشر ، وحبيب لنفسك بالذات ؟ هل وصلت علاقتك بالله إلى مستوى الحب ؟

هل محبتك لله، جعلته الأول فى حياتك، والوحيد؟
هل تقول لله فى مناجاتك : حينما عرفتك يا رب ، وذقت محبتك ، تضاءلت أمامى كل العواطف الأخرى ، وكل المحبات وجدتها خفيفة وسطحية. أما حبك فهو الوحيد الذى يصل إلى العمق.
وهل محبتك لله جعلتك تحب أن تجلس معه ، وتحدثه ، وأصبحت صلاتك كلها حباً ، متأججة بعواطفك نحو الله. وبالمثل كل الوسائط الروحية الأخرى امتلأت من حرارة هذا الحب اإلهى ، ولم تعد مجرد ممارسات روحية ، إنما هى تعبير عما فى قلبك من عاطفة نحو الله… إن كنت هكذا فطوباك. وإن لم تكن هكذا ، فاستيقظ لنفسك ، لءلا يوبخك قول الرب ” هذا الشعب يعبدنى بشفتيه ، أما قلبه فمبتعد عنى بعيداً “. (أش13:29).

إن الله لا يريد فى علاقته بك سوى هذا الحب.
انه لم يطلب سوى هذا ” يا إبنى أعطنى قلبك… ” والسيد المسيح لما رأى بطرس الرسول بعد القيامة ، لم يقل له لماذا أنكرت ، أو كيف ضعفت ؟ أو ماذا كنت تقصد بالسب واللعن وعبارة لا أعرف الرجل !… إنما سأله سؤالاً واحداً لا غير هو ” أتحبنى ؟ ” (يو15:21). فلما أجاب بطرس ” أنت تعلم يا رب كل شىء ، أنت تعلم إنى أحبك ” ، حينئذ قال له الرب ” إرع غنمى… إرع خرافى “. إنه لا يريد سوى هذا الحب.

تداريب كثيرة ، أم تدريب واحد ؟
أتذكر بهذه المناسبة أنه وصلنى سؤال ، يقول فيه صاحيه : كلما أقرأ الكتاب المقدس ، تتكشف لى فضيلة معينة ، فأحاول أن أدرب نفسى عليها. ثم أقرأ مرة أخرى ، فتتكشف لى فضيلة ثانية ، ثم ثالثة… إلى غير انتهاء. وأنا أحاول أن أدرب نفسى على كل هذه الفضائل العديدة… ولكنى فى حيرة شديدة من كثرتها. فانصحنى بماذا أبدأ ؟ وماذا يمكننى أن أؤجله ، لأننى من كثرة التداريب أنسى بعضها أو أنسى غالبيتها…!
والحقيقة إن محبة الله تشمل كل الفضائل…

أن تدريب الإنسان على محبة الله ، يجد داخلها كل شىء.
إنها التدريب الوحيد الشامل ، الذى إن أتقنته ، لا تحتاج معه إلى تداريب روحية أخرى ، على أن تكون محبة حقيقية عميقة ، وبفهم … محبة يتعلق فيها القلب بالله ، وينسى كل شىء ما عداه، ويفصله على كل رغبة وكل شهوة
ان كل إنسان قد يقول ” أنا أحب الله “. وربما نسأله سوألنا السابق : حسن أن تحب الله. ولكن هل الله فى قلبك هو الأول ، وهو الوحيد ؟ هل محبة الله تشبع هذا القلب ، فلا يحتاج إلى حب آخر إلى جوار الله ؟ واضح أنها لو كانت محبة حقيقية ، يشعر فيها الإنسان بالإكتفاء.

إن المحبة الحقيقية لله ، تحرر القلب من كل شئ.
محبتنا لله ، لها عمقها. وأن وصلت إلى عمق القلب ، تطفو كل المحبات الأخرى على السطح ، وتملك محبة الله كل القلب. وكل محبة لا تنبع من محبة الله ، تخرج خارجاً ، ويصير الله هو الكل. وبمحبة الله يتحرر الإنسان…

يتحرر من كل شهوة ، ومن كل رعبة ، ضد الله.
ان كل شهوة يتعلق بها الإنسان ، تربطه بها ، وتشده إليها. وبدلاً من أن يمسك هو بها ، تسمك هى به. وكما يملكها تملكه. وبهذا يفقد جزءاً من حريته الحقيقية الداخلية ، فيما هو مربوط بهذه الشهوة…
وكيف ينحل الإنسان من رباطات الشهوات والرغبات ؟
ينحل منها. بمحبة أقوى ، تستطيع إن دخلت القلب ، أن تحل محل كل محبة أخرى ، وتطردها إذ هى أعمق منها. ولا توجد محبة أقوى من محبة الله الحقيقية. إنها تحرر الإنسان من كل رغباته ، فينحل من الكل ، ليرتبط بهذه المحبة الواحدة…

ويرى أن كل ما هو خارج الله ، ليس متعة.
يصير الله هو شهوة النفس ، ولا شهوة غيره. لذلك قال أحد القديسين عن التوبة إنها إحلال حب محل حب ، الله مكان حب العالم والجسد المادة… فهل وصلت محبة الله فى قلبك إلى هذا المستوى ؟ وهل حررتك من أغلال الرغبات.

حتى فى الأبدية : النعيم الأبدى هو الله ..
لا يوجد نعيم أبدى سوى الله. وكل نعيم غير الله ، ليس هو نعيماً حقيقياً… إن المتعة الدائمة الكاملة بالله ، هى مالم تره عين ، ولم تسمع به أذن… هذا هو الملكوت الحقيقى ، أن نحيا مع الله ، وفى الله ، إلى الأبد ، بلا عائق…

محبة الله تحرر الإنسان من الرغبات ، وأيضاً من الخوف :
ونقصد بعبارة ” من الرغبات ” انه لاتسيطر عليه أية رغبة وتستعبده. وكما قال القديس بولس الرسول ” كل الأشياء تحل لى ، ولكن لا يتسلط على منها شئ ” (1كو12:6). جميل هو مثل ذلك العصفور،الذى يجد مكاناً فيه حب كثير، فيلتقط منه واحدة أو أكثر ، ويطير ، دون أن يتعلق بهذا المكان. ولا يختزن، ولا يلتصق بهذه الحبوب…
والذى يحب الله لا يخاف. فالخوف متعلق أيضاً بالرغبات. ان الإنسان يخاف ان كانت هناك رغبة يخشى عدم الوصول اليها، أو هى معه ويخشى ضياعها. أما الذى حررته محبة الله، فمن أى شئ يخاف ؟ وعلى أى شئ يخاف ؟ لا شئ. لكنه يشدو مع القديس أغسطينوس قائلاً :[ جلست على قمة العالم، حينما أحسست فى نفسى أنى لا أشتهى شيئاً ولا أخاف شيئاً ].
حينئذ يمتلئ قلبه قوة، ويقول مع بولس الرسول ” من سيفصلنا عن محبة المسيح : أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عرى، أم خطر أم سيف ؟… ولكننا فى هذه جميعها يعظه انتصارنا بالذى أحبنا… ” (رو35:8،37).
ان أولاد الله أحرار من الداخل. حررتهم محبة الله، التى دخلت إلى قلوبهم، ومنحتهم النقاوة والتجرد، ومنحتهم القوة والشجاعة. وقطعت من قلوبهم كل رباطات الرغبات، فتحرروا. صارو كل منهم حراً، أكثر من شعاع الشمس، وأكثرمن نسيم الهواء…

أيسألك أحد إذن : ما هو الله بالنسبة إليك ؟
ولعلك تقول : هو الحبيب الذى ” شماله تحت رأسى،ويمينه تعانقنى ” (نش6:2) هو العشرة التى لايمكننى الإستغناء عنها، لأن بها أوجد وأحيا وأتحرك… هو ليس فكرة، ولكنه كيان يسرى فى روحى وفى دمى وفى فكرى. هو بالنسبة لى كل شئ.
نعم أنت يارب العامل فىَّ، وأنا لا أعمل. أنت المحرك لى وأنت الموجه. أنت تعمل معى، وتعمل بى، وتعمل فىَّ… ربما لا أدركك، ولكنى أحسك، بإدراك روحى فى داخلى، لا يستطيع لسانى أن يعبر عنه. أنا أعرفك. ولكن ألفاظ اللغة أضعفت من أن تشرح هذه المعرفة.

أنت يا رب لست خارجي ، ولكنك في داخلي.
عندما أذكرك ، لست فقط أرفع نظري إلي فوق ، فأنت لست فقط فوق في السماء إنما أنت في داخلي ، ولست أفتش عنك في الخارج … وصدق ذلك الأديب الذي قال ” أغمضت عيني ، ولكني أراك “. فأنت فوق الحواس ، وأنا أتخلص من هذه الحواس قليلاً ، لكي أجدك … أما إن أنشغل عقلي بالحواس ، بالنظر والسمع واللمس … فقط تعطلني عنك . ليتني يا رب أنسى الكل ، وتبقى أنت وحدك ، تشبع حياتي .

إن مشكلة أبينا أدم هى الأضافات التي دخلت إلي قلبه وإلي فكره ، إلي جوار ربه ..
كان الله في البدء ، هو كل شيء في حياة أدم.
أما في خطيئته ، فقط دخلت إلي قلبه أشياء أخرى.
وقدم له حب التألة، وأغراه بأن يصير هو وحواء إلهين مثل الله (تك5:3).

وقدم له شجرة وثمرة ليأكل … وأراه الثمرة شهية للنظر ، وجيدة للأكل ، وبهجة للعيون . وهكذا أدخل إلي حياته شيئاً جديداً ، هو متعة الحواس ، وشهوة الجسد بالأكل .
الخلاصة أنه قدم له أشياء جديدة تغزو قلبه ، وتستقر فيه إلي جوار الله ، أو تأخذ أهمية أكثر من الله ، يضحي بالله من أجلها …! وهكذا لم يعد الله هو الكل بالنسبة إلي أدم ، بل وجد له في القلب ما ينافسه … !

صار الله بالنسبة إليه ، واحداً من مجموعة !
لم يعد الله يمتلك كل المحبة داخل القلب ، إذا دخلت إلي القلب أيضاً محبة المعرفة ، ومحبة التألة ، ومحبة الأكل، وشهوة الحواس .
وباختصار ، دخلت (الذات) لتنافس الله في المركز وفي الأهمية … وبتوالي الأيام والأجيال ، دخلت إلي قلوب البشر أمور أخرى ، على حساب مركز الله في القلب . وكلما كثرت محبة هذه الأمور ، قلت محبة الإنسان لله …
وكيف يكون العلاج إذن ؟ إنه بلا شك يكون في ترك كل هذه الأمور الدخيلة.

فهل أنت مستعد أن تترك … من أجل الله؟
أن الشاب الغني لم يستطع أن يترك أمواله الكثيرة، لذلك ترك الرب ومضى حزيناً…! وأبوانا الأولان آدم وحواء، لم يستطيعا أن يتركا إغراء المعرفة والألوهية، ففقدا صورتهما الإلهية… فهل تتعلم من هذا درساً فى الترك ؟

إن لم تستطع أن تترك كل شئ من أجله، فهل يمكنك أن تبدأ بأن تترك العشور والبكور للرب ؟ وهل يمكنك أن تترك الإنشغال يوماً فى الأسبوع لكى تتفرغ فيه للرب ؟ وهل يمكن أن تترك بعض الملاذ التى تشغل قلبك ، ليصير القلب صافياً لله ؟ سهل عليك أن تفعل هذا. وسهل أن تترك بعض ألوان الطعام، لتعطى روحك فى الصوم فرصة ترتفع فيها فوق المادة والجسد، لتتصل بالله
المهم أن تكون مستعداً ، لأن تترك من أجل الله شيئاً.

إن كانت لله الأولوية فى قلبك، يمكنك أن تترك لأجله.
يمكنك أن تستغنى عن أى شئ، سيصغر فى قلبك إلى جوار الله وسيفقد قيمته… وستعلم تماماً أنك لا بد فى يوم ما أن تترك كل شئ، بل تترك العالم كله، حين تفارقه. فالأفضل لك أن تتخلى عن أى شئ بإرادتك، قبل أن تتخلى عن الكل بغير إرادتك… وهذا هو الدرس الذى تعلمه القديس أنطونيوس حينما نظر إلى جثة أبيه وهو ميت…
إن الشئالذى تتركه لأجل الله، إنما تبرهن بتركه على أن محبتك لله أكثر من محبتك لهذا الشئ. فإن تركت كل شئ وتبعت الله، إنما تبرهن أيضاً على أن محبتك لله، هى أعظم من كل شئ، وتغطى على كل شئ. وماذا أيضاً؟

إن أهم ما تتركه لأجل الله، هو [ ذاتك ] .
كثير من الناس يركزون حول ذواتهم. الذات بالنسبة إليهم هى كل شئ، هى مركز التفكير، وهى محور التفكير. وإذا باهتمام الإنسان ينصب كلية عل ذاته : ما هى حالتى الآن ؟ وماذا أريد أن أكون ؟ وكيف أكون ؟ ومتى…؟ وما هى العوائق التى أمامى ؟ وكيف أنتصر؟ وكيف أنال، وأغلب، واتفوق…؟ وكيف أكون نفسى، وكيف أنميها… مركزى، علمى، سمعتى، ماليتى، متعى، لذاتى، حريتى، كرامتى… مع تفاصيل لا تنتهى.

وتصبح الذات صاحبة المركز الأول، وليس الله
بل خلال تفكير الإنسان فى ذاته، وانشغاله بها، قد ينسى الله… أو لا يعطى الله وقتاً ولا اهتماماً، لأن الإهتمام كله مركز فى ذاته. بل ما أسهل أن يخالف الله ويكسر وصاياه، ليبنى ذاته ويسعدها بالطريقة التى يفهمها…!

وماذا كانت مشكلة (الوجوديين) سوى الذات؟
الوجودى يريد أن يشعر بوجوده، ويتمتع بهذا الوجود، حسب اتجاهاته الخاصة، بالإستغراق فى ملاذ العالم، وبالحرية الكاملة التى لا يقف أمامها عائق من قانون أو تقليد أو وصية الهية…! وفى هذا يرى أن الله يحد من استباحة هذه الحرية، فيرفض الله من أجل الذات ، لكى تتمتع ذاته بهذا الوجود، متعة ينطبق عليها قول الرب ” من وجد نفسه يضيعها” (مت39:10).
وشعار الوجودى هو : من الخير أن الله لا يوجد، لكى أوجد أنا، وأتمتع بالوجود…!
وهكذا نرى أن الذات، قد ضيعت العلاقة مع الله.
أن مثال الوجوديين هو من أسوأ الأمثلة. وقد يشبههم الأبيقوريون الذين غايتهم هى اللذة، وشعارهم: لنأكل ونشرب، لأننا غداً نموت، أى لنمتع ذواتنا بما تشتهيه، قبل أن نموت. ومثلهم كل الذين سلكوا فى شهوات الجسد…

على أن هناك أمثلة أخرى ، من جهة الذات وسيطرتها :
– هيرودس الملك، الذى عاصر ميلاد المسيح، لم يفرح بالرب وبالخلاص الآتى، وانما فكر فى ذاته، كيف يكون هناك ملك لليهود غيره. وقادته (الذات) الى أن يإمر بقتل كل أطفال بيت لحم ، ليخلو الجوله… بعيداً عن ملكوت الله!! وهكذا لم يفرح بميلاد الرب، كما فرح به الرعاة والمجوس، الذين لم تكن الذات تعوقهم عن الله !
– وهيرودس الملك، الذى قتل القديس يعقوب الرسول، والذى سجن بطرس… هذا لما جلس على عرشه، منتفخاً بحلته اللاهوتيه، يكلم الشعب. وهم يمدحونه قائلين ” هذا صوت إله، لا صوت إنسان”… هيرودس هذا، إذ اهتم بمجد ذاته، ولم يعط مجداً لله… أضاع نفسه، إذ ضربه ملاك الرب، فصار يأكله الدود ومات (أع21:12-23).
– بيلاطس أيضاً، إهتم بذاته، ولم يهتم بالمسيح. ومع تصريحه بأنه ” لاتوجد فيه علة تستوجب الموت”، إلا أنه حرصاً على مركزه، لئلا يغضب عليه قيصر بسبب إتهامات اليهود، سلم البار للموت وهو حاكم بإطلاقه…! ولم يكتف بهذا، بل حاول أن يبرر ذاته أيضاً، فغسل يده وهو يقول “أنا برئ من دم هذا البار”!
وهكذا استطاعت الذات، أن تسقط الملوك والولاة، وتهلكهم!

والذات أيضاً أسقطت رؤساء الكهنة ومعلمى الشعب :
أولئك الذين أسلموا المسيح للموت حسداً، إذ خافوا على مراكزهم من شعبيته، وقالوا بعضهم لبعض “أنظروا إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم قد ذهب وراءه”(يو19:12).
ومن أجل الذات التى أتعبها الحسد، بعدوا عن الله تماماً، وهم رجال دين، فدفعوا مالاً ليهوذا لكى يخون معلمه، وأتوا بشهود زور لم تتفق أقوالهم، ولفقوا للسيد تهماً هم يعرفون زيفها. ودفعوا رشوة للجند، ليقولوا إن تلاميذه سرقوا الجسد ونحن نيام! كل ذلك فعلوه، وفقدوا الرب بسببه، حفظاً على الذات وعلى الرئاسة والشهرة!!
أما ملكوت الله فلم يفكروا فيه. وكذلك النبوات الخاصة بالخلاص والفداء، ما اهتموا بها. وتعليم الشعب وقيادته إلى الإيمان، أمر تجاهلوهتماماً! كل ما كان يشغلهم، هو ذاتهم، كيف تكبر أمام الناس، ولو بتحطيم هذا المنافس، ولو كان المسيا.

يبكت كل هؤلاء المعمدان، الذى انطلق من الذات…
كان كل اهتمام يوجه إليه، يتخلص منه، ويوجهه إلى المسيح، قائلاً : يأتى بعدى من هو أقدم منى، من هو أقوى منى، الذى لست أنا مستحقاً أن أنحنى وأحل سيور حذائه…
وقال أيضاً : من له العروس فهو العريس… أنا صديق العريس، أنظر من بعيد وأفرح. ينبغىأن ذاك يزيد، وإنى أنا أنقص (يو29:3،30).
كانت كل الأمجادتحيط بيوحنا المعمدان، لكنه لم يسمح أن تدخل إلى قلبه. لم تكن ذاته هى التى تشغله، بل كان يشغله الرب وحده، الذى جاء هو ليعد الطريق قدامه، لذلك كان المعمدان يخفى ذاته، ويقول عن السيد ” الذى من فوق، هو فوق الجميع “…

محبة الذات تقود إلى الحسد. والحسد يضيع المحبة…
المحبة لا تحسد. وحينما يحسد الإنسان، يتمركز حول نفسه، ويفقد محبته نحو من يحسده. وإذا فقد المحبة، فقد الله، لأن الله محبة… بالحسد، أخوة يوسف باعوا أخاهم كعبد، وخدعوا أباهم. ولم يضعوا الله أمامهم. كل ذلك لأنهم أحبوا ذواتهم، ولم يقبلوا أن يكون يوسف أفصل منهم فى شئ…
إحترس من أن تنزع المحبة من قلبك بحسد، أو بغضب، لئلا تفقد الله، الذى لا يحل فى قلب خال من المحبة. وإن كنت لا تستطيع أن تحب أخاك الذى تراه، فكيف ستحب الله الذى لا تراه؟! (1يو20:4).
الذات تريد أن تكبر، كما تريد أن تلتذ وتتمتع…

والذات فى محبتها أن تكبر، تضيع الله من قلبها
ولعل أبرز مثال لذلك هو سقطة الشيطان، الذى قال فى قلبه ” أصعد إلى السموات، أرفع كرسى فوق كواكب الله… أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلى(أش13:14،14). فكانت النتيجة أنه انحدر إلى الهاوية… لقد أرادت ذاته أن تكبر، إلى حد أنها نافست الله نفسه فى جلاله الإلهى!

ومن الذين ضيعهم كبر الذات، بناة برج بابل…
أرادت ذاتهم أن تكبر، بحيث ترتفع عن مستوى الذين يعيشون على الأرض. وهكذا قال هؤلاء ” هلم نبن لأنفسنا مدينة، وبرجاً رأسه فى السماء، ونصنع لأنفسنا إسماً…” (تك4:11). فكانت النتيجة أن الله بلبل ألسنتهم وشتتهم. وهكذا كل من أراد أن يرفع ذاته، يوضع إلى أسفل، ويفقد الله.
أما الذى يضع أمامه عظمة الله غير المحدودة، فإن ذاته تصغر فى عينيه ويرى أنها مجرد تراب ورماد. فتنسحق ذاته، وفى انسحاقها يرفعها الله، اليه..

والعجيب أن حرب الذات هذه، حاربت القديسين…
آباؤنا الرسل الإثنا عشر، حاربتهم الذات أيضاً ! وفكروا من يجلس عن يمين الرب وعن يساره، ومن يكون الأول فيهم؟! والرب الذى يعرف أن الذات تبعد الإنسان عن الله، قال لهم : لا يكن فيكم هذا الفكر. من أراد فيكم أن يكون أولاً، فليكن آخر الكل وعبداً للكل. وأعطاهم مثالاً، حينما انحنى وغسل أرجلهم. ولما ظهرت ذاتهم فى فرحهم بإخراج الشياطين، وقالوا ” حتى الشياطين تخضع لنا بإسمك ” قال لهم الرب ” لا تفرحوا بهذا “. تكتب أسماؤهم فى ملكوت الله.
أن الذات كما حاربت الرسل، حاربت نبياً عظيماً كيونان…
كانت تهمه ذاته، ويهمه أن كلمته لا تنزل إلى الأرض. لذلك لما أمره الله أن ينادى على نينوى بالهلاك، وهو يعرف أنه غفور سيرحم، هرب من وجه الله وخالفه. وهكذا اصطدم بالله من أجل ذاته…!
ولما خرج من بطن الحوت، ونادى على نينوى، فتابت ورحمها الله وغفر لها، لم يفرح بهذا الخلاص العظيم، إنما كان مركزاً حول كرامته، حول ذاته، حول كلمته التى قالها ولم تنفذ. وجلس حزيناً. حتى أن الله قال له ” هل اغتظت بالصواب؟” فقال ” إغتظت حتى الموت”. وبهذا كانت مشيئة يونان ضد مشيئته. وكانت عواطفه عكس عواطف الله. وكل ذلك بسبب تمركزه حول ذاته! ولولا أن الله بحث عن هذا النبى، وأصلحه وصالحه، لضاع هو أيضاً…!

كذلك أيوب الصديق الرجل الكامل، حاربته ذاته…
كان رجلاً كاملاً ومستقيماً، ومشكلته أنه كان يعرف عن ذاته أنه كامل ومستقيم، حتى أنه قال “كامل أنا، لا أبالى” “إن تبررت بحكم على فمى. وإن كنت كاملاً يستذنبنى” (أى21:9،20). لذلك قيل عن أيوب “إنه كان باراً فى عينى نفسه” (أى1:32). وبسبب هذا عاتب الله عتاباً شديداً جداً، قال له فيه ” لاتستذنبنى. فهمنى لماذا تخاصمنى؟ أحسن عندك أن تظلم؟” (أى2:10،3). أما أصحابه فكان شديداً عليهم أيضاً.
وظل هكذا فى التجربة، حتى ناقشه الله، وحرره من ذاته ، فاتضع أخيراً وقال للرب ” ها أنا حقير، فبماذا أجاوبك؟ وضعت يدى على فمى…” (أى40:40)، “قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقى لم أعرفها… أسألك فتعلمنى… لذلك أرفض (ذاتى) وأندم فى التراب والرماد” (أى3:42-6). ولما وصل أيوب إلى هذا التراب والرماد “رفع الرب وجه أيوب، ورد الرب سبى أيوب” (29:32،10).

إنها الذات، يجب أن يتجرد الإنسان منها ، أو يجرده الله
وفى قصة أيوب جرده الله من كل شئ، من كل ما كان سبباً فى عظمته وفى افتخاره. جرده من المال والغنى، ومن الأولاد، ومن الصحة. ومن احترام الناس له…جرده من كلمة “أنا”، ومن اعتزازه بفهمه وحكمته، حتى وضع يده على فمه وسكت… ثم ندم فى التراب والرماد. وقال للرب ” أنا حقير فبماذا أجاوبك؟!”. وحينئذ رفعت عنه التجربه.

أرأيت إلى أى حد تبدو خطورة الذات؟!
حينما يثق الإنسان بذاته، بذكائه وتفكيره وقدراته. وربما يعتمد على هذه الذات، وربما يفتخر بذاته وأعماله كما افتخر أيوب (أى29). وربما بسبب الثقة بالذات، يعتمد الإنسان على فهمه ولا يستشيرو بينما يقول الكتاب
” توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمه، وعاقبتها طرق الموت ” (أم12:14).

إهتمام أبينا يعقوب بذاته، كم جر عليه من تعب؟!
لكى يأخذ بكورية أخيه منه، ويحل محله، كم لجأ إلى الطرق البشرية، وإلى الكذب والخداع، وتعرض لغضب أخيه، وخاف وهرب…
إن الذات إذا أرادت ان تحقق رغباتها، ما أكثر أن تلجأ إلى التحايل ووتفقد طابعها الروحى، مبتعدة عن الله. وكثيراً ما تصير الذات هدفاً.

ويصبح الله مجرد وسيلة، لتحقيق هذه الذات وأهدافها!
فلا يكون الله هو الهدف، الذى يضحى الإنسان بذاته من أجله، بل على العكس تصبح الذات هى الهدف، والله هو الوسيله التى تبنى هذه الذات!!
حتى أن كل الصلوات تصبح مركزة فى طلبات الذات، سواء وافقت مشيئة الله أم لم توافق…! وفى هذه الحالة تختفى صلوات التسابيح والتماجيد الخاصة بالله وحده، ويختفى عنصر الحب والمناجاة فيها…

إن السيد المسيح أعطانا مثالاً فى التخلى عن الذات..
ففى تجسده، نرى هذه العبارة العجيبة، إنه “أخلى ذاته”. وإلى أى حد أخلاها؟ إلى حد إنه “أخذ صورة العبد”… وماذا أيضاً؟ وأطاع حتى موت الصليب” (فى7:2-9).
وعلى الصليب، قدم هذه الذات أيضاً ذبيحة محرقة لإرضاء الله الآب وايفاء عدله الإلهى. وقدمها أيضاً ذبيحة خطية لكى يخلص البشرية التى حمل خطاياها، ومن أجلها “أحصىبين أثمة”.
وفى خلال فترة تجسده على الأرض، قال للآب “لتكن لا مشيئتى، بل مشيئتك” مقدماً ذاته بالكلية على مذبح الطاعة.
إخلاء الذات تعلمه بولس الرسول من السيد الرب. حينما قال “لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فى” (غل20:2).

من يستطيع أن يقول مع القديس بولس “لا أنا”…
لذلك ليتنا نعيد النظر فى علاقتنا بالله وتقييمها. ونحاول أن يكون الله بالنسبة إلينا هو الكل. له كل عواطفنا، وكل قلبنا وحبنا، تتركز فيه كل آمالنا، ونفضله على كل شئ، ونجد لذتنا فيه. فنتغنى مع أرمياء النبى ونقول” نصيبى هو الرب، قالت نفسى. من أجل ذلك أرجوه” (مر24:31).


من كتاب الله وكفى لقداسة البابا شنوده الثالث

 

 

.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى