يو 17:20 قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم اصعد بعد إلى أبى…
قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ».
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“قال لها يسوع:لا تلمسيني،
لأني لم أصعد بعد إلى أبي،
ولكن اذهبي إلى اخوتي،
وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم”. (17)
فعلت مريم حسبما أُمرت، ذهبت إلى التلاميذ وأبلغتهم الرسالة: “قد رأيت الرب”. لقد أكدت لهم خبرتها مع المسيح القائم من الأموات.
لتأكيد قيامته سمح لتلاميذه أن يلمسوا آثار المسامير والجراحات، كما سمح للنسوة أن يمسكن قدميه ويسجدن إليه (مت ٢٨: ٩). أما بالنسبة للمجدلية فربما لأنها ظنت أنه قام كما سبق فأقام لعازر ليعيش معهم على الأرض، لذلك طلب منها ألا تلمسه بيديها بل بقلبها، لتكرز بقيامته وصعوده إلى السماء. إنه لم يقم ليؤسس له مملكة أرضية، بل ليصعد، ويقيم مملكته في القلوب. لقد سبق فهيأ أذهانهم قبل صلبه أنه يصعد إلى السماء، لذا لم يرد أن تتحول بهجة قيامته إلى شوق نحو بقائه معهم على الأرض.
يرى Leon Morris أن الفعل “تلمسيني” في اليونانية يحمل معنى “لا تستمري في لمسي” وليس “لا تبتدئي باللمس”. أراد السيد المسيح منها أن تتوقف عن اللمس، وكأنه سمح لها باللمس ولكن إلي حين. أراد أن يؤكد لها أنه قد قام بحياة جديدة، ليس كالحياة القديمة التي تركها، ليهب البشرية المؤمنة هذا التغيير في يوم الرب العظيم (1 كو 15: 51-53).
مرة أخرى إذ تلامست مع قيامته يؤكد لها أنه لم يصعد بعد إلى السماء، وقد حان الوقت للكرازة بالقيامة وتهيئة الأذهان للصعود. إنه لا يوجد وقت للارتباط الزمني وحضوره جسديًا وسطهم. ليس من وقت للحديث معه، بل يلزم تحقيق رسالته، إنه وقت للكرازة بالأخبار المفرحة.
مع قيامته والإعلان عن صعوده لم يخجل من أن يدعو تلاميذه “اخوتي“.
بعث السيد المسيح برسالة مع المجدلية إلى تلاميذه الذين تركوه عند القبض عليه ولم يرافقوه حتى الصليب. لم يشر إلى كلمة عتاب واحدة، وكأنه قد أرسل إليهم يقول: “إني أغفر وأنسى ولا أعاتب!”
أرسل إليهم المجدلية التي سبق فأخرج منها سبعة شياطين لكي تكرز للتلاميذ بالأخبار المفرحة للقيامة.
في رسالته إليهم أعلن شوقه للوحدة، اتحادهم معه، لينالوا البنوة لله، فيصير الله الآب أباهم، ويصير المسيح نفسه معهم، يحسب الآب إلهه كابن البشر الممثل لهم. لكنه يميز بين مركزه كابن أزلي حقيقي وبينهم كأبناء بالتبني، إذ لم يقل: “أبينا وإلهنا“. أخيرًا إن كان بطرس ويوحنا تركاها في البستان تبحث عنه باكية، فإنها إذ وجدته عادت تبشر الكل بما رأته وسمعته ووجدته. لقد وجدت المسيا مخلص العالم الذي يعدهم ليرتفعوا معه بقلوبهم إلى حضن الآب.
أجاب القديس جيروم على تساؤل مارسيلا Marcella كيف يتفق ما جاء في يو 17:20 “لا تلمسيني” مع ما ورد في مت 9:28: “فتقدمتا وأمسكتا بقدميه”. يقول أنه في الحالة الأولى فشلت مريم المجدلية في التعرف على لاهوت ربنا يسوع، أما في الحالة الثانية تعرفتا عليه، ولهذا نالا الامتياز الذي حُرمت منه مريم المجدلية أولاً.
v بمعنى إنكِ لستِ أهلاً أن تلمسي القائم ذاك الذي تظنين أنه لا يزال في القبر.
v أعطى يسوع المرأة درسًا في الإيمان التي عرفته أنه السيد، ودعته هكذا في إجابتها له. كان هذا البستاني يغرس في قلبها، كما في حديقته حبة الخردل. ماذا إذن يقصد بقوله: “لا تلمسيني“؟ وكما لو كان علة المنع يجب بحثها أضاف: “لأني لم أصعد بعد إلى أبي“. ماذا يعني هذا؟ إن كان لا يُلمس بواسطة البشر وهو واقف على الأرض، فكيف يُمكن أن يُلمس بواسطة البشر وهو جالس في السماء؟ بالتأكيد قدم نفسه قبل صعوده لكي يلمسه تلاميذه (لو ٢٤: ٢٩)… هذه المرأة ترمز لكنيسة الأمم التي لم تؤمن بالمسيح إلا بعد صعوده فعلاً إلى الآب، وبهذا فهو يريد أن يؤمنوا به، أي يلمسوه روحيًا إذ هو والآب واحد…
v كان يليق بمريم التي كانت لا تزال تظن عدم مساواته للآب أن تُمنع من لمسه بالكلمات: “لا تلمسيني“. بمعنى لا تؤمني هكذا حسب مفاهيمك الحالية. لا تدعي أفكارك تنبسط خارجيًا إلى ما صرتِ عليه من أجلك دون العبور إلى ما بعد ما أنتِ عليه… إنك تلمسيني حينما تؤمنين إني أنا الله ولست بأية طريقة غير مساوٍ للآب.
v على حسب ظني أن هذه المرأة أرادت أن تأتلف به أيضًا كائتلافها به من قبل، ومن فرحها به لم تدرك فيه أمرًا عظيمًا، إذ كان أفضل حالاً في ذات جسده بمقدارٍ كثيرٍ، فإذ حجزها عن هذه المهمة رفع أفكارها حتى تنظر إليه بأوفر خشوعٍ وأجزله، فمعنى قوله: “لا تلمسيني” هو لا تقتربي مني كالحال السابق.
v بينما رأيناه على الصليب وحيدًا، لا نراه هكذا بعد، بل يظهر وسط اخوته. في يوم قيامته قدم الرسالة المفرحة: “اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو 17:20). نسمعه يخاطب تلاميذه كاخوته وذلك في يوم قيامته المجيدة بعدما اجتاز آلامه. فإننا إذ نتقدس بعمله الخلاصي (آلام الصليب)، ليس فقط لا يخجل بل يُسر جدًا أن يدعوهم هكذا “اخوته” (عب 12:2).
v يقول العريس: إن كنت ترغب أن تُفتح الباب وأن ترتفع أبواب نفسك ليدخل ملك المجد، يلزمك أن تقبل اشتياقاتي في نفسك. كما يقول الإنجيلي: “من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي” (مت 50:12). يليق بك أن تقترب إلى الحق، وتصير شريكه حتى لا تنفصل عنه.
v “اذهبي إلى اخوتي، وقولي لهم: “إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم“. مع أنه لم يكن قد اقترب صعوده ليتحقق فورًا، إنما يتم ذلك بعد أربعين يومًا، فلماذا قال هذا؟ رغبة في أن يرفع أذهانهم، ويحثهم بأنه سيرحل إلى السماوات.
v عندما يذهب (إلى أبيه) حاملاً الغلبة والنصرات بجسده القائم من الأموات… عندئذ تقول بعض القوات: “من ذا الآتي من أدوم بثيابٍ حمرٍ من بصرة، هذا البهي بملابسه؟” (إش ٦٣: ١). والمرافقون له يقولون للمقيمين عند أبواب السماء: “ارتفعي أيتها الأبواب ليدخل ملك المجد” (مز ٢٤: ٧). وإذ يستفسرون بالأكثر، أقول، إذ يروا يمينه بآثار دمه، وكل جسمه وقد امتلأ بالجراحات يقولون: “ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟” يجيب: “لقد حطمتهم ومزقتهم قطعاً” (راجع إش ٦٣: ٢-٣).
v سألها ألا تلمسه لأنه لم يصعد بعد، حتى تلمسه بعد صعوده، إذ يُعد لها أمجادًا عظيمة، فتلمس ما لا يمكن لمسه بالأيدي، وترى ما لم تستطع رؤيته هنا. ولعله يخبرها ألا تلمسه بمعنى لا تعودي تحسبينني بشريًا مجردًا، بل أنا القدوس. ارفعي قلبك وفكرك إلى السماويات، واطلبيني هناك، لأني صاعد إلى أبي الذي لم أتركه قط ولا انفصل عنه. أنا أقيمك واصعد بك إلى عرشي!
السبب أنه لا يُلمس كما في هذه الكلمات: “لأني لم أصعد بعد إلى أبي“… فالقلب الذي لا يؤمن بمساواته للآب، يبقى الرب بالنسبة له غير صاعد بعد إلى أبيه. فمن يؤمن أنه شريك مع الآب في السرمدية هو وحده يلمسه… لأني صرت إنسانًا فهو إلهي، ولأنكم قد تحررتم من الخطأ فهو إلهكم. أنه أبي وإلهي بطريقة متمايزة عنكم، إذ ولدني بكوني الله قبل الدهور، ولكنه خلقني كإنسانٍ في ملء الزمان.
v لئلا يظن أحد في بساطة أو عن سرعة خاطر مع عناد أن في قول المسيح: “أصعد إلى أبي وأبيكم” أنه مساوٍ في الكرامة مع الأبرار، لهذا يجدر بنا أن نصنع تمييزًا. وهو أن اسم “الآب” هو واحد “أي آب لابن واحد”، أما عمله فمتعدد “أي يعطى البنوة بالتبني لكثيرين”. وإذ يعلم المسيح نفسه هذا قال في عصمة عن الخطأ: “أصعد إلى أبي وأبيكم“، ولم يقل: “أبينا”، بل ميز بينهما.
قال أولاً بما يليق به: “إلى أبي” الذي هو بالطبيعة، وبعد ذلك أضاف: “وأبيكم” الذي هو بالبنوة. لأنه مهما بلغ سمو الامتياز الذي تقبلناه بقولنا في صلواتنا: “أبانا الذي في السماوات”، إلا أن العطية هي من قبيل محبة اللٌه المترفقة. فنحن ندعوه أبًا، ليس لأننا وُلدنا بالطبيعة من أبينا السماوي، بل انتقلنا من حالة العبودية إلى البنوة بنعمة الآب خلال الابن والروح القدس. لقد سمح لنا أن ننطق بهذا من قبيل محبة اللٌه المترفقة غير المنطوق بها.
v لئلا يُظن أنه من جانب ما هو آب للابن وللخليقة معًا صنع المسيح تمييزًا كما يلي. إنه لم يقل: “اصعد إلى أبينا” لئلا تصير الخليقة شريكة للابن الوحيد (على مستواه الطبيعي) بل قال: “أبي وأبيكم” أي هو أبي بالطبيعة وأبوكم بالتبني.
v إن كنت تطلبه بين الكائنات الأرضية كما طلبَته مريم المجدلية، احذر لئلا يقول لك ما قاله لها: “لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي وأبيكم” (17). فإن أبوابك ضيقة، لا يمكن أن ترتفع فلا تقدر الدخول فيها. اذهب في طريقك إلى اخوتي، أي إلى الأبواب الدهرية هذه إذ ترى يسوع ترتفع… أبدية هي أبواب الكنيسة، هذه التي يشتهي النبي أن يعلن فيها تسابيح المسيح، قائلاً: “لكي أخبر بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون” (مز 14:9).
v يكشف ابن اللَّه الفارق بين الولادة والنعمة عندما يقول: “لم أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم“. إذ لم يقل: “لم أصعد إلى أبينا وإلهنا”… التمييز علامة الفارق، إذ ذاك الذي هو أب المسيح هو خالقنا.
v غاية المسيح في التجسد أن يهيئ لنا الطريق إلى السماء.
v حقًا قال لمريم المجدلية: “لا تلمسيني” (17)، لكن هذا الطاهر لم يقل: “لأني طاهر”، فهل تتجاسر يا نوفيتان Novatian وتقول إنك طاهر، بينما حتى إن كنت طاهرًا بأعمالك فبقولك هذا تُحسب غير طاهرٍ؟
v إنه قد أوشك أن يجلس على عرش أبيه، أما هم فيقفون. مع كونه في كيانه حسب الجسد صار أخانا، لكن في كرامته يختلف عنا جدًا بما لا يمكن أن نخبر عن قدره.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (17): “قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم اصعد بعد إلى أبى ولكن اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم أني اصعد إلى أبي وأبيكم والهي وإلهكم.”
لا تلمسيني= هنا نجد المعلم يعطى درس الإيمان للمجدلية ليرفع درجة البصيرة الروحية عندها “الذي يحبني يحبه أبى وأنا أحبه وأظهر له ذاتي” (يو21:14) ونلاحظ أن المسيح سمح لها قبلًا أن تلمسه لتنال سلامًا وسمح لتوما أن يلمسه ليؤمن، بل طلب من التلاميذ أن يجسوه ليؤمنوا، بل أعطى لتلميذي عمواس أن يتناولوا جسده ليروه. ولكنه هنا يمنعها من لمسه، ليمنعها أن تتعامل معه كإنسان، بعواطف إنسانية، ولكن عليها أن تعرفه كإله لا سلطان للموت عليه.
والكلمة الأصلية للعبارة لا تلمسيني تفيد “لا تمسكيني وتتعلقي بي وتقيمي روابط…” فهي أرادت أن تمسك به جسديًا، وتقيم علاقتها به كما في الأول والمسيح هنا يريد أن يرفع مستوى علاقتها به إلى مستوى علاقتها بالله يهوه “وإن كنا عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد” (2كو16:5). ويرى بعض المفسرين أن لفظ “لا تلمسيني” المستخدم هنا يعنى “لا تستمري في لمسي” ولا يعنى “لا تبتدئي باللمس”
لأني لم أصعد بعد إلى أبى= في ذهنك وفي إيمانك يا مريم أنا مجرد إنسان ولست إله مثل أبى، ولذلك لن تستطيعي أن تتلامسي معي، عدم الإيمان هذا هو السبب في أن عينيك قد أمسكت فلم تعرفيني. درس المسيح لمريم هنا هو نفس درس العريس لعروسته في سفر النشيد (6:5) وكما كان درس العريس في سفر النشيد سببًا في رجوع العروس، كان درس المسيح للمجدلية هنا لتثبيت إيمانها.
اذهبي إلى إخوتي… وقولي لهم… إني أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهي وإلهكم كلمات في منتهى الروعة يعبر بها المسيح عن عمله الخلاصي وبركات القيامة. لقد تحول البشر إلى إخوة له “فصار بكرًا بين إخوة كثيرين” (رو29:8) وبإتحاده بنا صار أبوه (بحسب الطبيعة) أبًا لنا (بالتبني). وصار إلهه (هو يتكلم كإنسان لهُ طبيعتنا، مؤكدًا تجسده الكامل وبشريته) إلهًا لنا (بمعنى التصالح بين الله والإنسان فنحن كبشر بالفداء عدنا شعب الله المحبوب) ونلاحظ أنه لم يقل إلهنا وأبونا، فنحن نختلف عنه. الآب أبوه بالطبيعة وصار لنا أبًا بالتبني، والآب متحد معهُ أقنوميًا فالمسيح الابن هو الله. ولكنه بالجسد يقول إلهي كما قال سابقًا وهو في حالة إخلاء نفسه “أبى أعظم منى” وقوله إلهكم فنحن عبيده المخلوقين. ما أعظم هذه الآية التي تلخص عمل المسيح معنا ولنا.
وما أحلى أن تتحول مريم الخاطئة إلى مبشرة= قولي لهم= بهذا الإنجيل. إني أصعد= لم يقل لهم المسيح قولي لهم إنني قمت، فقيامة المسيح هي خطوة أولى في طريقه للصعود بجسده البشرى للسماء. وهذا ما أعده لنا “أنا ذاهب لأعد لكم مكاناً… حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً. لقد صرنا وارثين للمجد السماوي، وارثين معهُ، وارثين الله” (رو17:8). كانت القيامة عربون للصعود. فإن كان المسيح قد قام ولم يصعد لكان الإنسان قد ظل على الأرض. فالقيامة وحدها لا تكفى.