تفسير سفر طوبيت 9 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا
إسترداد الوديعة والاشتراك في وليمة العرس
ودَعا طوبِيَّا رافائيلَ2 فقالَ لَه: ((يا عَزَرْيا أَخي، خُذْ مَعَكَ أَربَعَةَ خُدَّامٍ وجَمَلَين وسافِرْ إِلي راجيس3 وآذهَبْ إِلي جَبَعْئيً ل فأُعْطِه الصَكَّ وآستَرِدَّ المال، وأتَ بِجَبَعْئيلَ إِلي العُرْس.4 أَنتَ تعلَمُ أنَّ أَبي يَحسُبُ الأَيَّام، فإِن أَبطَأتُ يَومً واحِدً أَحزَنتُه كثيرً .5 وأَنتَ شاهِدٌ لِلقَسَمِ الَّذي أَقسَمَه رَعوئيل، ولا أستَطيعُ أَن أَتجاهَلَ يَمينَه)). فسافَرَ رافائيلُ إِلي راجيسِ ميدِيا ومعه الخُدَّامُ الأَربَعةُ والجَمَلان، وباتوا عِندَ جَبَعْئيل. ثُمَّ سَلَّمَ إلَيه الصَّكَّ وأَخبَرَه بِأَنَّ طوبِيَّا بنَ طوبيتَ قد تَزَوَّجَ وبأَنَّه يَدْعوه إِلي العُرْس. فقامَ وعَدَّ لَهُ أَكياسَ مَخْتومةً وحَمَّلوها على الجَمَلين.
كان طوبيا الأب يعرف مقدار الأيام التي تستغرقها الرحلة، ولذلك فإن أي تأخير سيقلقه على مصير ولده. وقد قدر طوبيا الابن، هذا الأمر حق قدره، وهو الآن محصور بين أمرين، أولهما ألاّ يستخف بحلف رعوئيل أن يبقى معه أسبوعان هما مدة الوليمة، وثانيهما رغبته في طمأنة أبيه وشفائه.
وقد تعجل رفيق سفر (الملاك روفائيل) في إنجاز مهمة إسترداد المال، ومن هنا، فلا يليق بنا أن نظن أن طوبيا الابن قد انشغل بالعرس والزوجة التي حصل عليها وأهمل الهدف الرئيسي من رحلته.
رحلة روفائيل لإستراد المال:
قطع الإسكندر الأكبر المسافة من أحمتا إلى راجيس في عشرة أيام، وقد سكن غابليوس (جَبَعْئيل) راجيس، وقد حدث هنا كثيرًا تبادلًا لأسماء البلاد وكما قلنا سابقًا فقد كانت أسماء بعض البلاد الكبيرة تقطن على المقاطعات الصغيرة والعكس، وقد سكن رعوئيل وغابليوس في منطقة واحدة، وأما المسافة بين موقعيهما فهي المسافة من أحمتا وراجيس ولكن الملاك هنا وبرفقته العبيد الأربعة قد قطعوا المسافة ذهابًا وإيابًا ، ومازال وليمة الأربعة عشر يومًا قائمة، ويغلب الظن أنهم استخدموا ذلك للنوع من الجمال المسمى (هجينًا) وهو أسرع كثيرًا من بقية الجمال التي تستخدم في النقل (وَكُلُّ هَذِهِ صَنَعَتْهَا يَدِي فَكَانَتْ كُلُّ هَذِهِ يَقُولُ الرَّبُّ. وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي. راجع إش 66: 2).
وقد إستجاب غابليوس إلى طلب الملاك ووزن له الفضة، وقد كانت من كثرتها وثقلها قسمّت إلى أكياس صغيرة مختومة (وهي عادة قديمة لضمان عدم العبث بها) ويجب ألا ّ نتعجب من السهولة والبساطة التي إستجاب بها غابليوس، فإن وجود الصك يمنح لحامله الحق في إسترداد قيمته، إضافة إلى كونه سيرافق الفضة في طريقها إلى مستحقها، بعد بقاءها عنده عشرين عامًا كاملة.
وعلى هذا يعلق القديس أمبروسيوس، وهو يشرح كيف أرسل الله الآب ابنه الوحيد يسوع المسيح، إلى البشر على الرغم من مساواته له قائلًا ] ولكن إذا تعجبت من إرسال المسيح بالجسد (مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ رو 8: 35) فلا تنسى أن طوبيا قد أرسل الملاك روفائيل، فلا عجب أن أرسل الأب الابن المساوى له، إن الملاك قد قبل أن يُرسل أيضًا [. 1
الحلف لا يستطيع طوبيا أن يستخف بقسم رَعوئيل، حيث كان اليهود يخشون ذلك جدًا ، فإنه إلتزام أدبي من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب الخشية من غضب الله الذي نهى عن الحنث بالقسم، وشق الذبيحة قديمًا عند العهد قد يكون معناه أن يشطر هكذا، كل من حنث بالعهد، ولعل منها قد جاءت لفظة قَسَمِ في العبرية.
6 وبَكَّرا في الصَّباحِ فذَهَبا معً إلى العُرْس. ودَخَلا على رَعوئيل فوَجَدا طوبِيَّا جالِسً لِلطَّعام. فوَثَبَ وسَلَّمَ على جَبَعْئيل، فبَكي جَبَعْئيلُ وبارَكَه وقالَ له: ((يا آبنً صالِحً فاضِلً لِأَبٍ صالِحٍ فاضِل بارٍّ صانِعِ الصَّدَقات. وَهَبَ لك الرَّبُّ بَركَةَ السَّماء، لَكَ ولِآمرأَتِكَ ولِأَبي آمرأَتِكَ وأُمِّها! مُبارَكٌ الله، لأَِنِّي رأَيتُ صورةً حيَةً لطوبيتَ آبنِ عَمِّي)).
لقاء جعبئيل (غابليوس) بطوبيا:
فرح جعبئيل بطوبيا الابن الذي لم يكن قد رآه من قبل، وإشتم فيه رائحة أبيه الخيّر الذي عطف عليه ووقف معه في محنته، بل هو قريبه أيضًا ، وربما كان بالفعل ابن عمه وربما كان ذلك تعبيرًا عن صلة القرابة بينهما فحسب، وقد سعد اليوم بمرأى ابنه وعروسه والاشتراك فيه.
البركة: هي أسمى عطايا الله للإنسان، وأول هبة أعطاها الله للإنسان عقب خلقته (وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «اثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَأمْلاوا الارْضَ وَاخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الارْضِ تك 1: 28) وصارت البركة ميراثًا من عند الرب يبارك بها الأب ابنه البكر والابن يبارك الحفيد وهي عطية سرية بها تنجح طرق الإنسان ويكثر نسله وتتسع أملاكه، وفي العهد القديم كانت تكمن فعالية البركة في هذا، وهي تعبير كذلك عن عهد الله مع الإنسان.
وكلمة البركة هي مبدأ كل صلاة وتسبيح لدى اليهود (مبارك الرب إله إسرائيل…) عند السفر والطعام وفي العبادة وفي الهيكل بالتالي، وتعنى مباركة الرب أن تنسب البركة إلى الله، وهكذا المجد عندما نمجده ً ] نباركك – نمجدك نسجد لك…. من القداس الإلهي [.
رجل صالح: تعبير رائع يصف طوبيا الابن بصفات طوبيا الأب.
يا آبنً صالِحً فاضِلً لِأَبٍ صالِحٍ فاضِل، كما أن جعبئيل هنا يرى في طوبيا الابن صورة حيَّة لطوبيا الأب، وهي لفتة جديدة إلى إشارة طوبيا إلى المسيح.