تفسير سفر الرؤيا أصحاح 13 لابن كاتب قيصر
الإصحاح الثالث عشر
الفصل الثالث عشر
62- (1) ووقفت على رمل البحر فرأيت وحشا صاعدا من البحر عليه عشرة قرون وسبع رؤوس وعلى قرونه أربعة تيجان واسم تجديـف مكتوب على رؤوسه (2) والوحش الذي نظرت إليه كان يشبه دبا ورجلاه مثل رجلي اللبؤة وفمه يشبه فم أسد والتنين أعطاه قوته وكرسيه وسلطانا عظيما (3) وكان جرح في رؤوسه مثل جرح الموت وضربة موته شفيت فتعجبت الأرض كلها من الوحش (4) وسجدوا للوحش قائلين من يشبه هذا الوحش أو له استطاعة أن يتحارب معه.
هذا الفص عن أوصاف الدجال ودولته وأفعاله وأعوانه وما يتعلق بذلك.
قوله : « ووقفت على رمل البحر فرأيت وحشا صاعدا من البحر» ، الرسول صاحب الرؤيا يشير هنا إلى نفسه إنه واقف على رمل البحر . والبحر يجوز أن يكون رمزا على العالم ، والرمل رمزا على جانب منه ؛ وكذلك قال دانيال النبي في رؤياه : «كنت واقفا على شاطىء البحر »، وأراد جانبـا من العالم . ويجوز أن يكون المراد الظاهر من غير رمز ، فيكون إتيان الدجال من مكان في البحر وهو جزيرة من الجزائر ، وهذا هو الأرجح بدليلين أحدهما : إنه قال في الوحش الآخر ، في الفص الرابع والستين ، بأنه صعد من الأرض ، أي من جهة في البر غسر مجاوزة في البحر ، ففهمنا من ذلك ما ذكرناه . والثاني : إنه الظاهر ، ولا مانع من حمل اللفظ عليه ، ولا ترجيح في تأويله . فأما الوحش الصاعد من البحر فرمز به إلى الدجال . وأما أي نوع هو هذا الوحش ، فليس بنوع من الأنواع الحاصلة في الوجود ، بل هو نوع مركب منها.
قوله : «عليه عشرة قرون وسبع رؤوس وعلى قرونه أربعة تيجان واسم تجديف مكتوب على رؤوسه» قد فسرها الملاك للرسول في الفص الثامن والثمانين الذي سيأتي ، فقال : «والعشرة القرون التي رأيتها هي عشرة ملوك هؤلاء الذين لم يأخذوا المملكة لكن يأخذون سلطانا مثل ملوك ساعة ويتبعون الوحش ويكون لهؤلاء رأى واحد وسلطان قوتهم يسلم للوحش» . والذي يظهر من هذا التفسير بأن الدجال عندما يهلك السبعة الملوك يضع يده على المعمورة ، ويقيم عوضا عن البقية في ممالكهم على ما يقتضيه رأيه وترتيبه عشرة ملوك ، وهذا معنى قوله : «هؤلاء الذين لم يأخذوا المملكة» بل استنيبوا فيها ، وإنهم يكونون غير مستقلين بالملك بل كالنواب عن الدجال بدليل قوله : «لكن يأخذون سلطانا مثل ملوك ساعة» ، أي ساعة إقامته لهم وتعظيم أنفسهم كنفوس الملوك ، ثم يتواضعون بالتبعية له مع تفويضه إصدار الأوامر ، وهذا معنى قوله : «ويكون لهؤلاء رأي واحد وسلطان قوتهم يسلم للوحش» . وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء الملوك عشرة أمم بالساحل وهي : أهلا ، أدوم ، اسمعیل ، موآب ، اغریم ، کیال ، عمون ، عمالیق ملاثیان ، عميوش ناصور . فأما السبعة الرؤوس فإنها سبعة ملوك لسبعة ممالك ، يدخل عليهم الدجال فيأخذ ممالكهم ويهلكهم ، والمراد باسم الملك هنا اسم جنس لا اسم شخص.
وقد قسم القدماء أهل المسكونة إلى سبع أمم لما تكلموا عن الحيوان فقالوا أن سكان الحار المفرط ثلاث أمم ، أولها : السودان ، كالزنج وزغاوة والحبش والنوبة والتكرور والنجاة وأشباههم ، وسموهم بالسود . وثانيها : الأدم كالسند والهند وما يليهم . وثالثها : السمر ، كالعرب أهل الحجاز واليمامة والبحرين ونجد واليمن ومن من البادية.
وسكان البارد المفرط ثلاث أمم ، أولها : الحمر ، وهم الصقالبة وما يليهم . وثانيها : الشقر ، وهم الترك والتخبال والحور وثالثها : البيض وهم الروم والأرمن والجرجان والآلان والكاسك . فهذه ست أمم سكان الطرفين والأمة السابعة سكان المعتدل، وهم من أوساط المعمورة كالقبط واليونان والعبرانيين والكرج ومن يجرى مجراهم.
ولكل أمة من هذه السبعة ملك يتولاه أشخاص كثروا أم قلوا ، فهذا رمز سبعة رؤوس الوحش.
وأما كيف تكون القرون العشرة على الرؤوس السبعة في الرؤيا ؟ فيمكن أن يقال في ذلك : إن ثلاثة الرؤوس في كل منها قرنين ، وأربعة في كل منها قرن واحد وأما في المعنى ، فهو ما بيناه من تفسير الملاك لأحوالهم مع الدجال ، فكان إتيان القرون بعد الرؤوس.
وأما تقديمه القرون في الرؤيا على الرؤوس فلوجهين أحدهما : أن القرون أول ما يبدو للنظر والآخر : لقصد الإلغاز والإيهام .
وأما التيجان الأربعة التي ذكرناها على القرون ، فالتيجان يجوز أن تكون على ظاهرها بأن يتوج الدجال من نوابه العشرة أربعة ليشرفهم بذلك ويعظم محلهم ، ويجوز أن تفسر بمعنى أن أربعة من العشرة يتميزون والستة الأخر تحت نظرهم ، فتكون التيجان رمزا على التمييز والتشريف.
وأما اسم التجديف المكتوب على رؤوس الوحش فهو رمز على تملكه الممالك المذكورة ، وإشاعة اسمه فيها ، ونفاذ نهيه وأمره بها ، ونقش اسمه على الدرهم والدينار المتعامل به، ووسم أهل الأرض باسمه . ولذلك خصت الرؤوس بالاسم المكتوب دون القرون الذين هم نوابه . والدليل على صحة هذا التأويل قول الرؤيا بعد ذلك أن أهل الأرض كلها يسجدون للوحش ، وقولها في الفص الثالث والستين : « وأعطى سلطانا على جميع القبائل وكل الألسن وكل الشعوب وسجد له كل السكان على الأرض الذين لم تكتب أسماؤهم في سفر الحيوة »[رؤ13: 7و8]
قوله : « والوحش الذي نظرت إليه كان يشبه دبا» ، الدب في رؤيا دانیال رمز به على مملكة «ماه » ، وهي مملكة الأكراد . وإنما رمز عليها بذلك لأن الدب غليظ الجلد غزير الشعر بعيد الغور كثير الحيلة والخديعة ، وهذه صفة الماهيين ، فإن شعورهم غزيرة في رؤوسهم ولحاهم وأبدانهم وفيهم مهانة، وفي أخلاقهم الخبث والحيلة ، كما أن الغدر من طباعهم . فرمز به علی الدجال لأن هذا شكله وهذه صفاته وأخلاقه . وأما جواز كونه من جنس الماهيين ففيه نظر لما يقال : إنه من العبرانيين ، وذكر في الكتاب المنسوب إلى أكليمنضس : إنه يكون من سبط دان ، وأن مولده كورزين ، ومرباه صيدا ويملك في كفر ناحوم ، ويجلس في أورشليم.
أما قوله : « ورجلاه مثل رجلي اللبؤة» ، فلأن اللبؤة في الحرب أثبت الأسد وأعظم جرأة ، لا سيما إن كان لها جراء أي أشبال ، فلهذا شبه رجلي هذا الوحش برجلي لبؤة ، وهذه تحتها رموز ، فإنها تدل من أخلاقه على ثباته في الحرب وقوة بأسه ، وتدل على جنده وأنهم ثابتون أيضا لا يفرون ولا ينهزمون إذا دارت الحرب عليهم ، وهذا الرمز جاء مثله في الدابة الرابعة التي رآها دانيال على مملكة اليونانيين ، وهي « غلاثي النغر» ، فقال : « ولها أسنان کبار حديد تأكل وتدق وما تبقى تدوسه برجليها » ، وفسرت رجلاها بجند الإسكندر الذين بهم حطم الأمم ونهب أموالهم وداس بهم الشجر والنبات واصطلم خصبها.
قوله : «وفمـه يشبه فم أسد» ، والرمز بذلك على صفتين إحداهما : لجرأته وقوته ، فشبهه بفم الأسد لأن فيه هذه الصفات ، لأنه لما قال أولا أنه يشبه دبا ، وكانت شجاعة الدب دون شجاعة الأسد ، عرفنا بهذا الرمز ما في الدجال من بسالة باطنة وشجاعة كامنة ، وإن كان ظاهره وقورا هادئا ساكنا لخبثه والأخرى : تجديفه على خالقه وعلى السماء وسكانها كما سيقول في الفص الثالث والستين أنه : «أعطى فما أن يقول تجديفات عظيمة» ، ومن خواص الأسد زفرة فمه ونتنه لبخره ، فرمز به على ذلك قوله : «والتنين أعطاه قوته وكرسيه وسلطانا عظيما » ، قد علم أن التنين هو الشيطان ، وقوته يريد بها الاقتدار على عمل الآيات التي يضل بها العالم ، وأنه يتفوه بالتجديف العظيم . وكرسيه رمز به على رئاسته على العالم ، لأن سيد الكل قال : «إن الشيطان رئيس هذا العالم» وفي التجربة قال إن الشيطان أراه ممالك العالم وقال هذه كلها لي وأن الكل يسجدون له خلا من أثبت اسمه في سفر الحيوة . وأنه يقاتل القديسين ويغلبهم والسلطان العظيم هو نفاذ الأمر وأن يحارب مدة مملكته وهذا دليل على أن الشيطان هو المتولى لهذه الدولة الظالمة المظلمة كما قلنا سابقا.
قوله : «وكان جرح في رؤوسه مثل جرح الموت وضربة موته شفيت » النص القبطي يعني أن الجرح المشار إليه في رؤوسه ، والنص اليوناني : في أحد رؤوسه ، والمعنى واحد لأن ما كان في بعض أجزاء الجملة فهو في الجملة وقد بقى أن نبحث عن هذا الجرح والرأس التي هو فيها ، وقد ذهب إيبوليطس إلى أن الجرح إشارة إلى احتقار كثيرين للدجال ورذلهم له في بادى أمـره. والرأس بأنها مملكته ، وأن احتقاره وعدم طاعته وهن(ضعف) فيها ووصمة وذلك كالجرح . وأن شفاءه بعودتهم إلى طاعته عند عمل الآيات المضلة من تخيل إقامة الموتى ونطق الأصنام إلى غير ذلك.
وإذا فسرناه على ظاهره ، فالدجال أحد الرؤوس والجرح في رأسه يجوز أن يكون إصابة في بادىء أمره في بعض حروب الممالك التي افتتحها واستولى عليها ، والصواب هو هذا بعدة أدلة ، الأول : في الفص الرابع والستين قال : « للوجش الأول الذي برأ جرح موته » ، فقد صرح بأنه جرح يقتضى الموت ومعصية أهل جهة من جهات الملك لا يقتضى موت الملك ، وإنما يقتضى نقص حرمته وضعف كلمته الثاني : قال في الفص المذكور : «الوحش الذي فيه ضربة السيف وعاش » ، وهذا تصريح بأن الجرح في رأس الدجال وأنه ضربة سيف ، ، ويلزم أن يكون جرحا قطع إلى الحاجب ، بل بلغ إلى الدماغ وهذا مما لا يرجى برؤه ، لذلك حصل التعجب من برئه وكون صاحبه عاش الثالث : على أن الجرح إصابة في الحرب ، وقول أهل الأرض : «من يشبه هذا الوحش أو له استطاعة أن يتحارب معه» الرابع : إنه حمل اللفظ على ظاهره ، ولا مانع منه ولا ضرورة في تأويله ، فهذا هو الحق.
قوله : « فتعجبت الأرض كلها من الوحش وسجدوا للوحش قائلين من يشبه هذا الوحش أو له استطاعة أن يتحارب معه» ، تعجبوا من برئه وظنوه لصعوبته آية له ، فلذلك سجدوا له تعظيما وإجلالا . وقولهم من يشبه هذا الوحش تعجبا من برئه أو له استطاعة أن يتحارب معه تعجبا من شجاعته وبأسه وصبره
٦٣- (5) ثم أعطى فما أن يقول تجديفات عظيمة وأعطى سلطانا أن يحارب اثنين وأربعين شهرا (6) وفتح فمه ليجدف على الله ويفتري على اسمه ومظلته وعلى الساكنين في السماء (7) وأعطى أن يقاتل القديسين ويغلبهم وأعطى سلطانا على جميع القبائل وكل الألسن وكل الشعوب (8) وسجد له كل السكان على الأرض الذين لم تكتب أسماؤهم في سفر الحيوة الذي للحمل الذي قتل منذ إنشاء العالم (9) من له أذنان أن يسمع فليسمع (10) من يمضى للسبي فليمض ومن يقتل بالسيف فسيقتل بالسيف ومن له صبر وأمانة القديسين فطوباه.
هذه تتمة الفص المتقدم ، لأنه لما قال عن الوحش أنه يشبه الدب وفمه يشبه الأسد ورجلاه كرجلي لبؤة وله رؤوس وقرون ، أراد أن يعرفنا بأنه رمز على ناطق ليزيل عنا ظن البهيمية فيه ، فقال : « ثم أعطى فما أن يقول تجديفات عظيمة» ، فذكر أن الشيطان أعطاها له حيث لقنه التجديفات العظيمة ، فنطق بها من غير خوف من جبار السموات ولا حياء من خليقته قوله : « وأعطى سلطانا أن يحارب اثنين وأربعين شهرا» ، أعطاه الشيطان أن لا يبطل الحرب من العالم مدة دولته ، وهي اثنين وأربعين شهرا في كل جهة وقطر
قوله : « وفتح فمه ليجدف على الله ويفتري على اسمه ومظلته وعلى الساكنين في السماء »[1] ، وهذا تفصيل لما ذكر من تجديفه أولاً. فأما تجدينه على الله تعالى فهو تعرضه بوقاحة للكلام في الذات الإلهية بما لا ينبغي قوله . وأما افتراؤه على اسم الله القدوس فهو ما يتفوه به من سبه تعالی عن ذلك . وأما افتراؤه على مظلته وعلى الساكنين في السماء فلعله يريد بمظلته المركبة ، وأما سكان السماء فالملائكة . وبذلك كملت إساءته إلى خالقه وخلائقه السمائيين والأرضيين . فمن لا قدرة له عليه أطلق لسانه بسبه ، ومن قدر عليه تعدى بقعله عليه.
قوله : « وأعطى أن يقاتل القديسين ويغلبهم» ، وهو الأثر الثالث من آثار رئاسة الشيطان التي أعطاها له ، وفيه دلالة على أن القديسين لا يطيعونه ولا يستسلمون إليه ، بل يناصبونه ويقاتلونه ويكافحون جيوشه غير أنه ينتصر عليهم ويغلبهم ، فمنهم من يهزم ومنهم من يظفر به فيقتله أو يسبيه
قوله : « وأعطى سلطانا على جميع القبائل وكل الألسن وكل الشعوب » ، يدل على تعميم مملكته وانتشار سلطانه ، وإبطال لرأى من ذهب من المفسرين إلى أنه إنما يملك مملكة الكلدانيين والروم والفرس.
قوله : « وسجد له كل السكان على الأرض الذين لم تكتب أسماؤهم في سفر الحيوة الذي للحمل الذي قتل منذ إنشاء العالم» ، وهذا أيضا من آثار الرئاسة التي أعطاها له الشيطان ، وفيه دليل على تعميم ملكه وبطلان الرأى المتقدم ذكره ، وقد مضى تفسيرنا لسفر الحيوة الذي للحمل في الفص الخامس عشر والسفر هو الذي وصفه بأنه قبل إنشاء العالم موجود عند الآب حتى سلم للحمل ، وقد تقدم الكلام عليه في الفص الرابع والعشرين والمراد أن سكان الأرض قاطبة تسجد له وتطيعه خلا المؤمنين الثابتة أسماؤهم في سفر الحيوة ، أي المعلوم فوزهم من فتنته ، فإنهم لا يطيعونه . وهذه الحوادث المنكرة كلها : الإجماع منعقد على أنها إنما تحدث بإمهال من تعالى ، وتخلية يمكن معها وقوعها من جهة الشيطان ، وذلك من فروع مسألة القضاء والقدر . ولبسط القول وتفصيله لتحقيق هذا الرأى، الله وهو التخلية والإمهال ، مكان آخر غير ما نحن فيه من تفسير هذه الفصوص وحلها.
قوله : «من له أذنان أن يسمع فليسمع » ، أي فليتحقق عنده هذا الأمر ، فهذا مقصد القول وقد تقدم تفسير معناه في الفص الحادي عشر وكذلك قوله : « من يمضى للسبي فليمض ومن يقتل بالسيف فسيقتل بالسيف» ، أي من كان له صبر على قبول الشهادة وإلا فليلجأ إلى الهرب وكلا الفريقين سعيد الآخرة ، ولذلك قال : «ومن له صبر وأمانة القديسين فطوباه» ، وهو معنى قول الإنجيل : «من يصبر إلى المنتهى يخلص ».
64- (11) ورأيت وحشا آخر صاعدا من الأرض وعليه قرنان يشبهان قرنی حمل وهو ينطق مثل تنين (۱۲) وسلطانه كله أعطاه للوحش الأول وكان يجعله أمامه فجعل الأرض كلها والسكان فيها يسجدون للوحش الأول الذي برأ جرح موته (۱۳) وكان يصنع آيات أمامه حتى جعـل نارا تنزل من السماء على الأرض أمام الناس (14) ويضل السكان على الأرض بالآيات التي أعطى أن يعملها أمام الوحش ويقول لسكان الأرض أن يعملوا صورة الوحش الذي فيه ضربة السيف وعاش (15) وأعطى أن يجعل روحا في صورة الوحش وأن يقتل الذين لا يشاؤون السجود للوحش وصورته (16) ویسم الصغار كلهم والكبار والأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد في يدهم اليمني وجبهتهم (17) کی لا يقدر أحد أن يشترى أو يبيع إلا من كان رسم الوحش عليه أو اسمه أو عدد اسمه (18) والحكمة في هذا الموضع من له قلب فليحسب عدد الوحش لأنه عدد إنسان وعدده ستمائة وستة وستون.
إن موقف الرسول على رمل البحر موقف واحد رأى فيه الوحشين فالأول هو الوحش الصاعد من البحر ، والثاتي هو هذا الوحش ، ولهذا عطف فقال : « ورأيت وحشا آخر صاعدا من الأرض» . وقول إيبوليطس أنه يأتى قبل الدجال ، يدل هذا الفص على ضده ، وهو إتيانه بعده . ولم يذكر الرسول نوع هذا الوحش بل قال وحشا آخر وقد يكون من نوع كبش الجبل وقرناه کقرنی حمل ، لأن الوحش المقرن دون الوحش المفترس في الشجاعة والبأس ولذلك شبه الدجال بدب ، وهذا الوحش مقرن والصعود يريد به الظهور أولا هنا ، لأن الوحشين كلاهما مخفيان ، فيظهران : الأول من البحر والثاني من البر.
والرمز بهذا الوحش على متنبي، كذاب يقوم أمام الدجال فيتنبأ باسمه كأن ذاك إله بزعمه وهذا نبي من جهته وبين يديه ، كما قال بولس الرسول : «وليس عجبا لأن الشيطان هو أيضا يتبدل بشبه ملاك نوراني فليس هو أيضا عظيم إن كانوا خدامه يتبدلون بشبه خدام الحق».
قوله : «وعليه قرنان يشبهان قرنی حمل» ، الرمز بالقرنين قد جاء في رؤيا دانيال عندما رأى كبشا وله قرنان، وفسر القرنان بأنهما مملكتان : مملكة الماهيين ومملكة الفرس وقد فسرهما إيبوليطس بأنهما الناموس والأنبياء ، وقال إنهما رمز على تظاهر هذا الوحش بالوداعة وداخله ذئب خاطف ويبطل قوله هذا من ثلاثة أوجه في تأويل القرنين ، الوجه الأول : ليس لهذا الوحش مملكة مستقلة الوجه الثاني : ليس له ناموس ولا أنبياء مما يضل بهما الناس . الوجه الثالث : إنه ضعيف ، والذي أراه في القرنين سلاح به يتمكن من القهر . فلذلك رمز بهما على أمرين قهر بهما الوحش الناس على إطاعة الدجال وأحد القرنين رمز على القهر بالآيات الخارقة التي يقدر على فعلها ، والقرن الآخر رمز على قهر الناس بالسلطان وهو أن يقتل الذين لم يسجدوا للوحش.
قوله : «وهو ينطق مثل تنين» من المعلوم أن التنين لا يتكلم . فما هو وجه الشبه به في النطق ؟ في ذلك وجهان أحدهما : إنه ينطق ويغضب وينفخ ، فحاله عند نطقه كحال التنين عند نفخه ، وهذا وجه المشابهة العامة . والوجه الآخر : أن يتكلم مع الناس بخدع ومكر كما نطق التنين مع حواء
قوله : « وسلطانه كله أعطاه للوحش الأول» ، أي غاية قصده في تسلطه على قهر الناس بالطريقين المذكورين : أن يجلب العالم لطاعة الوحش الأول البحري والتعبد له والسجود لصورته ، فغاية سلطانه حينئذ يؤول إلى الوحش.
قوله : « وكان يجعله أمامه» ، الضمير يستتر في لفظة كان والهاء متصلة بقوله يجعله عائدان على الوحش البحرى ، أي أن الوحش الأول البحرى يجعل الوحش الثاني أمامه ليستعبد الناس ويقهرهم على السجود له وهذا معنى قوله : « فجعل الأرض كلها والسكان فيها يسجدون للوحش الأول الذي برأ جرح موته» ، ووصفه بأنه الذي برىء جرح موته ليميزه عن الوحش الثاني . وقد تقدم القول إن المراد بالأرض في مثل هذا الموضع أهل الأرض فكيف قال هنا إن الأرض والسكان فيها يسجدون له ، هل الأرض تسجد ؟ وإن كان المراد أهل الأرض ، فما الحاجة إلى العطف على أهل الأرض بسكانها ، وهل يعطف الشيء على نفسه ؟ والجواب : إن ذلك جائز في المخاطبات وغيرها إذا اختلف اللفظ على سبيل الترادف لتمكين القول وتثبيته ، كما يقال : خرج العالم والناس ، والعالم هم الناس ، وشاع ذلك لما اختلف اللفظ.
قوله : « وكان يصنع آيات أمامه» ، الفاعـل المضمر هنا هو الوحش الثاني والنظر في هذه الآيات التي يصنعها ، وهل هي حقيقية في نفسها وجودية ، أو هي في المخيلة التي يسميها اليونانيون فنطسة [أحلاما أو قلب نظر ؟ فإن كثيرين من المفسرين ذهبوا إلى ذلك . والحق أن بعض الآيات التي يقدر على فعلها الشيطان تكون حقيقية وبعضها خيالية . وقد قال بولس الرسول لما تكلم عن الدجال : «وإنما مجىء ذلك بكيد الشيطان بكل القوى والآيات والأعاجيب الكاذبة» ؛ فهذه الآيات قسمان : حقيقية وكاذبة ، وهي بقسميها معا كاذبة الشهادة على صدق فاعلها في ادعائه ، وهذا معنى قول بولس الرسول : الأعاجيب الكاذبة وهل ينبغي أن تسمى هذه الأفعال الشيطانية السحرية آيات أم لا ؟ والجواب : أن لفظة الآية تدل على معنيين ، أحدهما : عام لغوى ، وهو العلامة والآخر : خاص بالنقل الشرعي وحدها يحسبه أنها فعل إلهي خارق للمعتاد يؤيد بها فاعلها صدق دعواه لكسب طاعة من يدعوه بحسب هذا الحد هو أو تحقيق مصلحة ما ، فالمعتبر في الآية الفعل الإلهي . فإطلاق الآية على الأفعال الشيطانية هو الإطلاق العام ، وهذا وجه تسمية الرؤيا لها آيات.
قوله : «حتى جعل نارا تنزل من السماء على الأرض أمام الناس» حتى هنا بمعنى إلى أن ، وهي تعنى أن هذا الوحش فعل آيات غير هذه لم تذكر . وهذه هي الآية الأولى التي ذكرت ، وكونها حقيقية لأنها نار عنصرية محرقة ، وقد فعل مثلها مع أيوب حيث أحرقت ماشيته وللروحانيين قدرة على هذا التصرف في العناصر . وأما كونها من السماء فمجاز ، ومعناه تخيل لأن غرض فاعلها أن تعتقد الناس أنها من السماء وأن يخيفهم بذلك ويتوعدهم بأن من لا يصدق نبوته ويطيعه ويؤمن بالدجال ويسجد لصورته فسوف يحرقه بها.
قوله : « ويضل السكان على الأرض بالآيات التي أعطى أن يعملها أمام الوحش» ، هذه الآيات يعملها الشيطان للوحش الثاني لتكون سببا في إضلال سكان الأرض.
قوله : « ويقول لسكان الأرض أن يعملوا صورة الوحش الذي فيه ضربة السيف وعاش» ، في هذا القول مطلبين ، أولهما : كيف يمكن أن يقول لسكان الأرض واجتماعهم متعذر ؟ والمراد بالقول قد يكون بالمشافهة ، وقد يكون بالمكاتبة ، وقد يكون بالمراسلة وثانيهما : كيف يتأتى أن يعمل أهل الأرض صورة الوحش مع تباعدهم وتباين مساكنهم ؟ والجواب : أن الصورة هنا اسم جنس ، أي أن أهل كل جهة يعملون للوحش صنما على صورته يعبدونها . وميز الوحش بالضربة عناية وتمييزا له بأنه المخصص بالعبادة دون سواه ، وداعيا للتعجب من برئه وحياته من تلك الضربة القاتلة.
قوله : « وأعطى أن يجعل روحا في صورة الوحش » هذه هي الآية الثانية ، وهي خيالية كاذبة لأن المعتقد فيها خلاف ما هي عليه ، إذ المعتقد أن الصنم صار ذا نفس عاقلة ناطقة كالنفس الإنسانية على بدنها ، ولكن الأمر خلاف ذلك ، لأن تلك التي في الصورة روح من أعوان الشيطان ، دخل في ذلك الصنم كالمعتاد عند الوثنيين ، وفعل هذا الروح في الصنم أن ينطق منه وبه. فأما حركة الأجساد وأعضائها وتصرفها بالنفس التي فيها ، فمما يعجز عنه الشيطان اللعين وأعوانه.
قوله : « ويسم الصغار كلهم والكبار والأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد في يدهم اليمني وجبهتهم» ، هذا القول بلا شك على ظاهره وقد فسره إيبوليطس بأن سمة اليد رمز على السجود ، وسمة الجبهة رمز على أن كل واحد يرفعه على جبهته كإكليل . وأكد الصغار بقوله كلهم ، أي أنه لا يترك أحد منهم لشرف والديه أو لشفاعة فيه ، بل يعمهم الوسم . والظاهر أنه إنما يسم منهم من بلغ سن التكليف.
قوله «كي لا يقدر أحد أن يشترى أو يبيع إلا من كان رسم الوحش عليه أو اسمه أو عدد اسمه» ، إذ لا يصح البيع والشراء إلا مع من بلغ سن التكليف ، لأنه جعل علة السمة المعاملة ، والمراد أن يكون الوسم بأحد هذه الثلاثة ، إما بالرسم : وهو علامة الوحش كصورته أو غير ذلك أو اسمه : وهو يعلم في ذلك الوقت . أو عدد اسمه : وهو أسماء الأعداد الدالة على اسمه وهي ستمائة ستة وستون.
قوله : «والحكمة في هذا الموضع من له قلب فليحسب عدد الوحش لأنه عدد إنسان وعدده ستمائة وستة وستون» ، وحساب العدد هو استنباط الحروف الدالة على اسم الوحش من العدد ، وقوله : «لأنه عدد إنسان» ، هو احتراز لئلا يتوهم متوهم أن الغرض هو استنباط لفظة وحش ، فقال : «لأنه عدد إنسان» . ولم يقصد أيضا لفظة إنسان بعينها ، بل اسم الوحش الذي يصح عليه أنه إنسان لا وحش في الحقيقة ، فإذا وسم أحد بالحروف الدالة على العدد المذكور ، أدرك منها اسم الوحش وأدركت الحروف منه . فأما اسم الوحش المستنبط العدد المشار إليه ، فقد تعددت فيه آراء المفسرين ، فاستخرج إيبوليطس أربعة أسماء ء عدد حروفها العدد المذكور . وذكر بولس أسقف مصر المعروف بالبوشي ، في تفسيره لهذا الموضع ، إنه وجد في منارة الإسكندرية خمسة أسماء تدل على هذا العدد أما الأربعة الأولى التي ذكرها إيبوليطس فيقرب تصورها ، لا سيما الاسم الرابع منها ، إلى الكلمة التي تفسيرها الشك . وأما الأربعة الأسماء التي أخبر عنها بولس البوشي فليست في شيء من هذا المعنى ، وإن اتفق العدد فيها ، فإن مدلولها ليس هو هذا الوحش الصاعد البحر ولا الصاعد من البر ، لأن هذين الوحشين إنما يأتيان في آخر الزمان عند الانقضاء كما أخبر الإنجيل المقدس . وأما الذي رأيته في استنباط اسم الوحش البحرى المشار إليه ، فإن محاولة استنباطه على الحقيقة غير مدرك إلا بالوحي ، إذ كانت المستنبطات في ذلك كثيرة . فكيف السبيل إلى معرفة ذلك الاسم من جملتها دون غيره ؟ والحكمة في إخفاء هذا الاسم لئلا ينتحله أحد من الملوك أو من أرباب البدع ويدعى من أنه ذلك الوحش.
قد ينبغي أن يتعقب هذا الفص بإحدى عشر قضية في معنى الدجال ذكرت متفرقة ولم يذكرها سفر الرؤيا ، نذكرها مرتبة ، ثم نأتيها بالنصوص الشاهدة بها ، وعليك أن تطابق بينها ، الأولى : أن الدجال يأتي ويظهر ضرورة بحسب الأمر الإلهي الثانية : ما ذكر من أسمائه وهي خمسة : الطغيان وإنسان الخطية وابن البوار والضد الكذاب والأثيم. الثالثة : مجيئه بمكيدة الشيطان وسبب إطلاق ذلك من جهة الله تعالى. إلا الهالكين فإنهم لم يقبلوا الحق ليحيوا فأرسل عليهم مكيدة الطغيان ليصدقوا بالإفك فيعاقبوا الرابعة : أن جلوسه سيكون في هيكل اللـه. الخامسة : دار ملکه أورشليم . السادسة : إنه متكبر . السابعة : إنه يدعى الإلوهية ثم الربوبية الثامنة : إنه كذاب التاسعة : إنه يضل بالإثم العاشرة : إنه يفعل قوى وأعاجيب وآيات كاذبة. الحادية عشر : أن ربنا يسوع المسيح يبيده بروح فيه ، والشاهد بها قول بولس الرسول في الفصل الثاني من رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي لما تكلم على العبث : «لأنه لا يكون ذلك حتى يكون الطغيان أولا ويظهر إنسان الخطية ابن البوار وهو الضد الكذاب ويستكبر على كل من يسمى إلها حتى يجلس في هيكل الله بمنزلة الله ويخبر عن نفسه أنه الله لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يحجز ، حينئذ يظهر الأثيم الذي يبيده ربنا يسوع المسيح بروح فيه ويبطله بظهور مجيئه وإنما يجيء ذلك بمكيدة الشيطان بكل القوى والآيات والأعاجيب الكاذبة وبكل ضلالة الإثم التي تكون في الهالكين لأنهم لم يقبلوا الحق ليحيوا لذلك يرسل الله عليهم مكيدة الطغيان ليصدقوا بالإفك ويعاقب جميع الذين لم يصدقوا بالقسط بل رضوا بالإثم» ، وقول بطرس في رسالته الثانية في أرباب البدع : «إنهم يهينون الربوبية ولا يرتعبون ».
- (حاشية أصلية) وكذلك تنبأ بطرس الرسول في رسالته الثانية عن أرباب البدع الذي هذا آخرهم وأعظمهم أنهم يهينون الربوبية ولا يردعون وقدامه يجدفون ، وعلى موضع الملائكة يفترون (2بط2: 10)
تفسير سفر الرؤيا – 12 | سفر الرؤيا – 13 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 14 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 13 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |