رو1: 18 لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس…

 

لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ.“(رو1: 18)

+++

تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم

” لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم ” (18:1).

 ۱. لاحظ الطريقة التي يتكلم بها الرسول بولس، فبعدما نصح هؤلاء بممارسة الأمور الأكثر نفعا، تحول بحديثه إلى الأمور المخيفة. لأنه بعدما قال إن البشارة هي سبب الخلاص والحياة، كما أنها إعلان لقوة، الله وأنها تقود إلى الخلاص وإلى البر، نجده يتكلم عن الأمور التي من الممكن أن تسبب خوفا لأولئك الذين لا يحترسون . لأن العديد من الناس في كثير من الأحيان لا ينجذبون إلى حياة الفضيلة عن طريق الوعد بالخيرات الآتية ولا عن طريق الترهيب من الأمور المخيفة والمحزنة، بل إن ما يجذبهم فقط هو كلا الأمرين معا . وبهذا فإن الله لم يعد البشر بالملكوت فقط، بل حذر بالعقاب في جهنم . وهكذا تكلم الأنبياء إلى اليهود مشيرين إلى الأمرين معا، فدائما ما كانوا يذكرون الخيرات والدينونة. ولذلك ليس مصادفة أن يغير الرسول بولس أسلوب حديثه، وقد فعل ذلك بترتيب ولياقة، لأنه يذكر أولا الأمور النافعة، ثم بعد ذلك يتحدث عن الأمور المحزنة، موضحا أن الأمور النافعة تأتي من الله. بينما الأمور المحزنة تأتي من المتهاونين المتغافلين، هكذا أيضا نجد أن إشعياء النبي يشير أولاً إلى الخيرات ثم بعد ذلك إلى الأمور المحزنة قائلا: ” إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم”. وهو ما أشار إليه القديس بولس أيضا (عندما تحدث أولا عن الخيرات ثم تبع ذلك بالحديث عن الدينونة). لاحظ أن المسيح أتى لكي يهب الغفران والبر والحياة، لا بالكلام، بل بصليبه. إذن فالأمر العظيم والذي يدعو إلى الإعجاب، ليس أنه قدم كل هذه العطايا، بل لأنه عاني آلام الصليب.

فلو إنكم ازدريتم بهذه العطايا، فإنكم ستُدانون. وانتبه كيف يواصل حديثه إذ يقول “لأن غضب الله معلن من السماء”. فغضب الله يمكن أن يستعلن مرات كثيرة هنا في الحياة الحاضرة، مثلما يحدث في المجاعات، والأمراض، والحروب، حيث يعاقب الجميع، بشكل فردى وجماعى أيضا. وهل في هذا ما يدعو للدهشة؟ إن العقاب فيما بعد سيكون أكبر وأشمل، فما يحدث الآن يهدف إلى التصحيح والتقويم، لكن فيما بعد يكون العقاب، الأمر الذي عرضه الرسول بولس قائلاً:” ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان”. وإن كان بعض الناس الآن يعتقدون أن أمورا كثيرة محزنة تحدث في الحياة، بسبب سلوك الناس السيئ، وليس بسبب غضب الله. لكن في الدينونة الأخيرة سيكون عقاب الله علني، عندما يأمر الديان المخوف الجالس علي عرشه، بطرح البعض في البحيرة المتقدة بالنار، والبعض إلى الظلمة الخارجية، وآخرين لعقوبات أخرى أشد وأصعب.

ولماذا لم يتكلم القديس بولس بوضوح ويقول إن ابن الله سيأتي مع ملائكة كثيرين، ويجازي كل أحد بحسب أعماله؟ بل قال: “لأن غضب الله معلن”. لأن المستمعين إليه كانوا من المعمدين الجدد. ولهذا فإنه يوجههم أولا من خلال الأمور التي آمنوا بها وقبلوها. وأيضا يبدو لي أنه يتوجه بكلامه كذلك إلى الوثنيين، ولذلك فمن هنا يبدأ كلامه عن (غضب الله المعلن). بينما فيما بعد يوجه كلامه إلى موضوع الدينونة فيقول ” على جميع فجور الناس واثمهم الذين يحجزون الحق بالاثم ” هنا يوضح أن طرق الاثم كثيرة، بينما طريق الحقيقة واحد، لأن الخداع متنوع ومتعدد الأشكال وغير واضح، بينما الحقيقة هي واحدة.

ولما كان قد تكلم عن الأمور الخاصة بالإيمان، نجده الآن يتكلم عن أمور هذا العالم، مشيرا لفجور الناس وظلمهم. لأن الظلم أيضا كان كثير ومتنوع. بعضه متعلق بالمال، مثلما يحدث عندما يظلم أحد قريبه ويسلب هذا المال، والبعض الآخر يتعلق بالنساء، حينما يترك الرجل امرأته ويقوض زواج الآخر، بأن يطمع في زوجته. وهذا يسميه الرسول بولس طمع قائلاً: “أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها ” والبعض الآخر يتعلق بالنساء والمال معا، وهم بهذا يدمرون حياة القريب. وهذا يعد ظلما، لأنه بالحقيقة “الصيت أفضل من الغنى العظيم والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب”. لكن البعض يقول إن هذا أيضا (أي الحديث عن الظلم الذي يقع على الناس)، قد تكلم عنه الرسول بولس من جهة الأمور الإيمانية، لكن لا يوجد ما يمنعه أن يتكلم عن هذا من جهة الأمور الإيمانية والعملية. ومعنى قوله “يحجزون الحق بالإثم” توضحه الآية اللاحقة ” لأن معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم” لكن هذا المجد (الخاص بمعرفة الله باطنيا) نسبوه إلى الخشب والحجارة.

۲۔ مثل ذاك الذي استؤمن على أموال الملك، ولديه أوامر أن ينفقها لأجل مجد الملك، فلو أنه أنفقها على لصوص، ونساء ساقطات، وأناس مخادعين وجعلهم في مظهر مبهر بهذه الأموال الملك، فإنه يعاقب لأنه بسلوكه الشائن هذا، يكون قد ظلم الملك جدا. هكذا هؤلاء أيضا قد اقتنوا معرفة الله ومجده، ثم بعد ذلك نسبوها إلى الأوثان، وبالظلم يحجزون الحق، فهؤلاء قد صنعوا الظلم، لأنهم لم يستخدموا المعرفة في الأمور التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها فيها. إذا ما معنى كل هذا؟ يعني أن معرفة الله قد وضعها الله في البشر منذ البداية، لكن هذه المعرفة نسبها عبدة الأوثان لخشب وحجارة، وهكذا حجزوا الحق، لأن الحقيقة تظل ثابتة، لأن مجدها أيضا ثابت غير متغير. فمن أين عرفت يا بولس أن الله قد وضع معرفته فيهم؟ لأنه يقول:

” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم ” (رو1: 19)

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

إن كان الله قد أعطى اليهود الناموس الموسوي، فإنه لم يهمل الأمم ولا تركهم بلا شاهد لنفسه بينهم، فقد أعلن نفسه خلال الطبيعة المنظورة، إذ يقول: “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى أنهم بلا عذر” [20].

الله لم يترك نفسه بلا شاهد فإن السماء تحدِّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه (مز 19: 1). يُعلن قدرته السرمدية ولاهوته خلال أعمال الخليقة الفائقة، التي أقامها بكلمته، لا لاستعراض إمكانياته، وإنما من أجل أعماق محبته لنا. فحب الله الفائق غير المنظور نلمسه خلال رعايته العجيبة، إذ قدّم لنا هذه المصنوعات لراحتنا.

بينما يتهم الرسول بولس البشر أنهم يحجزون الحق بالإثم [18]، وكأن الإنسان يتفنن في اختراع الطرق الأثيمة المتنوعة ليحجز “الحق” فلا يُعلن، إذ بالله يُعلن “الحب” لنا بطرق متنوعة خلال المصنوعات المباركة التي هي من عمل يديه. الإنسان يستميت في حجز الحق، والله يبذل لإعلان الحب السرمدي!

يرى القديس أغسطينوس في هذا القول الرسولي أن الله يقدم لنا العالم كعطية نستخدمها و ليس نتلذذ بها، فنرى خلالها أموره غير المنظور، نمسك بالروحيات والسماويات خلال الماديات والزمنيات.

يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على التعبير “قدرته السرمدية”، قائلاً: [إن كان المسيح هو قدرة الله السرمدية، فالمسيح إذن سرمدي.]

هذا وإذ يحجز الإنسان الحق بالإثم يسقط تحت الغضب الإلهي [18]، أمّا من يرجع إليه بالتوبة فيسمع الصوت الإلهي: هلم يا شعبي أدخل مخادعك وأغلق أبوابك خلفك، اختبئ نحو لُحيظة حتى يعبر الغضب، لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه، ليعاقب إثم سكان الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها ولا تغطي قتلاها فيما بعد” (إش 26: 20-21). ما هي المخادع التي تدخل فيها إلا الحياة السرية في المسيح يسوع حيث فيه نختبئ من الغضب، ونصير موضع سرور الآب! وأمّا قوله هوذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب…” إنما يعني أنه يودّ أن يبقى في مكانه يُعلن حُبّه ورحمته، لكن إصرار سكان الأرض على الإثم تلزمه أنه يعاقب!

تفسير القمص متى المسكين

18:1 «لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم» .

«غضب الله معلن»: ὀργὴ θεοῦ

إن هناك نقلة من الآيات 16 و17 إلى الآية 18 أحدثت فجوة ، ولكن بإعادة تركيب الكلام يتضح أن هناك استمرارية مسببة بين الآيات هكذا :

«فيه (أي في الإنجيل) مُعلن ἀποκαλύπτεται بر الله للناس، لأن غضب الله معلن ἀποκαλύπτεται من السماء على جميع فجورهم وإثمهم … ». والمعنى باختصار الكلمات يكون : بر الله معلن في الإنجيل بالإيمان، لأن غضب الله معلن من السماء! وذلك سواء بالنسبة لكل فرد بمفرده، أو على الجنس البشري بجملته.

وكـون الـبـر الإلهي هنا يستعلن أولاً، فذلك لأن الغضب قد اشتعل. وهذا يوضح أن البر ليس هو العدل ، لأن هنا البر أعلن ليتلافى الغضب . وإذا أردنا تفسيراً أكثر دقة نقول، إن البر أعلن ليبطل الغضب، وهذا ما ينتهي إليه ق. بولس في رسالته . ولكن الغضب لا يتوقف طالما أسبابه لم تـتـوقف، كذلك البر، فهو أعلن ليظل عاملاً . على أن كلا من البر والغضب سيبلغ منتهاه بالدينونة الأخيرة بالنسبة للذي يؤمن والذي لا يؤمن. والقديس بولس يعبر عن دوام فعل الخلاص إزاء دوام فعل الغضب حتى إلى ساعة الحكم في الدينونة هكذا :

« فإن كلمة الـصـلـيـب عنـد الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله . » (1کو 1: 18)

ورائحة المسيح ستظل « لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة . » (2کو 2: 16)

 أما المعنى الذي يحتويه القول: «لأن غضب الله معلن من السماء» ، فهو أن الخطية لما زادت أحـدثـت رد فعل في مـوازيـن الله بصورة لا يمكن تجاوزها ، وهكذا دخلت مـؤشـرات الموازيـن حدود الغضب . وكأنما السماء انفتحت مرة واحدة لتعلن عن قلق عدل الله على مصير الإنسان، إنما بـصـورة رؤيوية «أبوكاليبتال »، هذا أصل معنى كلمة « إعلان» في العربية، إعلان رؤيوي لا يـلـحـظـه إلا الـذيـن وهـبـوا الـرؤيا، وذلك يكون بالإنجيل . فالإنـجـيـل الذي يحمل الإعلان عن بر الله من السماء يحمل أيضاً الإعلان عن غضب الله من السماء .

والـقـديـس بـولس لا يتكلم عن غضب حدث أو أعلن في الماضي، بل في المضارع و بنفس زمن فعل الإعلان عن بر الله، فالبر معلن في الإنجيل الذي فيه معلن غضب الله . بمعنى أن الأخطاء والخطايا التي يذكرها ق. بولس هنا في هذا الأصحاح ليست في الماضي البعيد ولا القريب كأنها نتيجة لغياب بر الله أو معرفة الله ، بل هي أخطاء في وضح نهار المعرفة . فالتقدم الفلسفي قد بلغ أوج إدراكاته، وتركز كل هم الفلاسفة في وصف الله ووصف صفاته وبلغوا في ذلك مبلغاً متقدماً للغاية، وبالرغم من ذلك فقد بلغوا أيضاً من التعدي على معرفته وعلى حقوقه صوراً صارخة تتعارض مع معرفتهم .

وق. بولس حينما يقول : « غضب الله معلن من السماء» لا يضع الجملة في صيغة شخصية عاطفية أن الله غاضب ، وإلا كان ذلك تدميراً للمحبة الحقيقية عند الله، ولكن يضع الإعلان عن الغضب بـصـورة حقيقية واقعة ليس إلا. فالله في الحقيقة لا يغضب ـ أخلاقياً ـ ولكن موازين العدل عنده هي التي يتحرك المؤشر فيها أنها تجاوزت حدودها تجاه خطايا الناس ، فينذر بأنه يتحتم إجراء تحجيم للخطية حتى لا تطغى على مستقبل الإنسان أو على محبة الله للإنسان .

+ « وقال الرب إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جداً …» (تك  18: 20)
+ «فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي …» (تك 6: 13)

ولكي يتضح أن إجراء الحسم ضد الخطية الذي جاء من واقع غضب معلن من الله في حالة نوح والـفـيـضان لم يمس حبه، نسمع أنه اتخذ إجراء الإبادة وهو في غاية الأسف والندم ـ إن جاز هذا التعبير على الله ـ وقطعاً فإن أسف الله أخذ صورة في الطبيعة الإلهية أشد بأسا وأسى مما يصيب الطبيعة البشرية، ولكن يصعب قياسها . « ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفـكـار قـلـبـه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه.» (تك 6: 5 و6 )

ولكي نقيس حالة الغضب بما يعمله الله للذين وقعوا تحت الغضب . ـ منتهى الغضب ـ نقرأ هكذا: «لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم . وكـمـا لـم يـستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق . » (رو 1: 24و28)

لذلك من العسير أن نعثر على التعبير الروحي أو اللاهوتي الذي يعبر عن غضب الله ، لأنه لا يـوجـد عـنـد الله غضب. ولـكـن حالة الإنسان نفسه هي التي تحكي عن الغضب الواقع تحته : «أسلمهم إلى شهواتهم … أسلمهم الله إلى أهواء الهوان … أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض » . هذا أقصى تعبير عن حالة الغضب ( ولا يمكن أن نقول إنه غضب إلهي). ولكن الإنسان لا يحس في عملية تسليم الله لهم إلى شهواتهم وإلى أهواء الهوان وإلى ذهن مرفوض، أن الله في حالة غضب ؛ بل يبدو وكأن الله يأمر من بعيد بتسليمهم إلى كل هذا، ليبقى هو بمعزل عن حالة الغضب ولكي يبقى دائماً في حبه للإنسان والعالم الذي خلق .

والغضب ، كونه معلناً من السماء، ليس له طبيعة سماوية حتى يفهم أنه إلهي، ولكن قول ق . بولس أنه معلن من السماء يفيد أنه لا يمكن تلافيه .

ولـكـن هـل مـن عـلاقة بين طبيعة الإنسان وبين طبيعة الغضب الذي يقع تحته ؟ نعم فالعلاقة قائمة، لأن الغضب هو أحد مفاعيل اللعنة التي نالها الإنسان ! وما اللعنة في حقيقتها إلا خروج الإنسان من لدن الله ودخوله في حالة هوان وترك مر للغاية، نسمعه من فم المسيح وهو يعانيه من أجلنا: «إلهي إلهي لماذا تركتني» (مر15 : 34). هذه صرخة لعنة آدم، شربها المسيح من كأس الغضب حتى الثمالة، والثمالة كانت موتاً !!

والغضب مع اللعنة صفى المسيح حسابهما مع الله من أجل الذين آمنوا والتصقوا به، على أن للغضب يوماً يصفي فيه الديان حساب بقية الذين رفضوا تصفية المسيح هذه !!

« ذلـك الـيـوم يـوم سـخـط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضـبـاب يـوم بـوق وهتاف …» (صف 1: 15 و16). هذا هو يوم الغضب في الدينونة الذي يحدده ق. بولس للـذيـن اسـتـهـانـوا بـلـطـف الله وطول أناته، وفجروا واستمروا في فجورهم ولم يتوبوا :

« ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله . » (رو 2: 5 و6)

فالعالم يتحرك زمنياً نحو نهاية معروفة ومحددة يكتسب فيه من يكتسب فرصاً للتوبة والخلاص ليوم الخلاص، ويكتسب فيه من يكتسب رصيداً من الغضب ليوم الغضب .

«فقال الرب إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم . علمت بأوجاعهم ، فنزلت لانقذهم …» (خر3: 7و8). وهكذا نرى موازين الله وكيف أنها إني حساسة جداً سواء من جهة العدل عند الظالمين أو الرحمة عند المظلومين : «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته » (  2تس 1: 6 و7). أما الغضب بصورته الفعلية النفاذة فله يوم أسماه ق . بولس بيوم الغصب (رو 2: 5).

« على جميع فجور الناس وإثمهم »  ἀσέβειαν καὶ ἀδικίαν

« على جميع » :

حرف ” على“ هنا يوضح السلطة والانقضاض بروح النقمة والسخط ، و ” جميع “ تفيد امتناع الاستثناء، وهذه شبه الجملة كم هي جد خطيرة ومفزعة، إنها صورة مقتطعة من منظر الدينونة ، تأخذ طريقها عبر الزمن إلى الإنسان اللاهي عن خلاصه الرافض لبر الله بالإيمان والتوبة .

أما الذين يفعلون الفجور ἀσέβειαν  ( وهي كلمة عكس ” التقوى“) فهم الذين يحتسب فجورهم تعدياً على حقوق الله . وأما الـذيـن يـفـعـلـون الإثم ( وصحتها الظلم ἀδικίαν) فهم الذين يقترفون الخطايا تجاه الإنسان .

«الذين يحجزون الحق بالإثم » :

وهذا هو الذي يضعهم تحت الفئة المقاومة الله إذ أن إثمهم وفجورهم يخفي حق الله ويعطل رحمته . وهذه العملية تظهر بوضوح صارخ عند المؤمنين والحاملين لاسم المسيح والمدعين لمعرفة الحق فإن إثـمـهـم وفـجـورهـم لـيـس يخفي الحق فقط بل ويعطله ويجلب ضده أي ضد الحق الاستهزاء والشتيمة، وهذا نفس ما خاطب به ق. بولس اليهودي : « الذي تفتخر بالناموس أبتعدي الناموس تهين الله لأن اسم الله يجذف عليه بسببكم بين الأمم . » (رو 2: 23و24)

والأمر نفسه ينطبق على المسيحي والخادم والمبشر فإن عثرته تخفي الحق وتهين الله .

هنـا الـتـطـبـيـق واضح وسهل ولكن حينما نواجه التطبيق على حالة الأمم الذين لم يسمعوا بالإنجيل والحق والله والمسيح ، ماذا يكون الوضع ؟

ق. بولس هـنـا يـدخل عاملاً خفياً كثيرون يجهلونه وهو أن الإنسان أيا كان ومنذ البدء، منذ نسل آدم الأول ، جعل الله في نفسه وفي أعماق روحه إحساساً برهبة الله . فالإنسان خرج من لدن الله وتغرب عـنـه بـخـروج آدم، هذا صحيح وهذه كانت كارثة الإنسان، ولكن الله لم يخرج عن الإنسان ولا هـجـره قط، وقصص الآباء ـ و بعد آدم مباشرة ـ تحكي عن هذه الصلة من طرف الله. هذه الظاهرة أو هذا العمل الخفي أسماه ق. بولس : «إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم »

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آية (18): “لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم.”

لأن: هذه تعني أن هذه الآية متعلقة بما قبلها. والمعني ان خطايا الناس أغضبت الله= غضب الله معلن من السماء= لذلك كان هذا التبرير بالإيمان ضرورياً. هذا الغضب ظهر ضد كل من لا يسلك في صلاح ووقار من نحو الله. وضد من خالف الناموس الطبيعي الأخلاقي ولكل من تنكر للحق وضل وراء العبادة الوثنية وحياتها وممارساتها الفاجرة. وبولس هنا يرسم في الآيات التالية صورة للعالم بدون بر الله أي بدون المسيح، والإنحدار الذي وصلت إليه البشرية مما إستوجب غضب الله. وكانت البشرية بحالها هذا تستحق الإفناء كما حدث في الطوفان، ولكن الله وعد نوح بأنه لا يكرر الطوفان إذ هو يريد حياة العالم. والرسول بدأ بشرور الأمم في هذا الإصحاح قبل أن يذكر شرور اليهود حتى لا يُتهَم بأنه معادي لليهود.

لكن كان الأمم قد كسروا الناموس الطبيعي واليهود قد كسروا الناموس الموسوي لذلك صار الكل في حاجة لتدخل إلهي كي يتبرروا بالإيمان بالمسيح. وبهذا صار هناك طريقين للبشر، إمّا الإيمان بالمسيح للتبرير والنهاية مجد، أو السير في خطايا تغضب الله والنهاية هلاك (أنظر الرسم). الله أعلن البر في المسيح ليبطل الغضب. ومن يؤمن يتبرر ومن لا يؤمن ينصب عليه الغضب. وكان البر بالمسيح معلن في الكتاب (آيات 16، 17).

الذين يحجزون الحق بالإثم= هذه الخطايا التي كان الوثنيون يمارسونها حجزت الحق أي جعلته غير ظاهر ولا واضح، تعبدهم للأوثان الباطلة وعدم تعبدهم لله الحق عطل ظهور الحقيقة، وهذه عكس “ليري الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات“. عموماً طريق الخطية يقود للعمي أمّا طريق النقاوة فهو طريق الإمتلاء من الروح القدس الذي يفتح الحواس الروحية، ومن حواسه الروحية مفتوحة فهو حي، والعكس. لذلك قيل “لك إسم أنك حي وأنت ميت” (الخطية أغلقت حواسك الروحية) (رؤ1:3) وعكس ذلك إذ عاد الإبن الضال تائباً قيل” ابني هذا كان ميتاً فعاش“. والروح القدس أيضاً هو روح النصح (2تي37:1). وهو الذي يعلمنا كل شئ (عب11:8) لذلك حين جاء المسيح وهو الحق لم يعرفه اليهود بسبب خطاياهم، لكن كان هناك من عرفه. فحب المال والحسد أعمي عيون رئيس الكهنة. وما يقال علي العينين يقال علي بقية الحواس. وفي قصة القديس أغسطينوس، يقول في إعترافاته انه في خطيته قبل أن يؤمن وجد الكتاب المقدس، كتاباً عادياً أقل من باقي الكتب (كانت عينه مغلقة عن رؤية الحق، كانت خطاياه تحجز عنه رؤية الحق). أما بعد الإيمان والتوبة كان يقرأ الكتاب المقدس وهو يبكي. والسيد المسيح يقول تعرفون الحق والحق يحرركم (يو32:8). فمن لا يختار المسيح الحق سيختار العالم والخطية أي الباطل، ويكون مستعبداً له، يكون هذا الباطل سيداً وإلهاً له (كالمال مثلاً). أما من عرف المسيح تنفتح عينه علي مجد المسيح فيحسب كل الأشياء التي في العالم نفاية (في8:3) والبداية نقاوة القلب بالتوبة. والعكس فمن ملأت الخطية قلبه ورفض الله ينحدر لمستوي متردي، فالمصريين وغيرهم عبدوا الحيوانات واليونانيون عبدوا الأمراض.

تفسير د/ موريس تاوضروس

لأن غضب الله معلن من الـسـمـاء علي جـمـيـع فـجـور الناس واثمهم الذين يحجزون الحق بالاثم“، في الجزء الأخير من الأصحاح الأول ابتداء من العدد الثامن عشر حتي نهاية الإصحاح، يتحدث الرسول بولس عن تصرفات الوثنيين التي تثير غضب الله وسخطه. إن غضب الله يظهر من السماء ضد كل من لايسلك بصلاح ووقار نحو وصايا الله، وضد من يخالف الناموس الأخلاقي ويتنكر للحق ويخمل عنه بواسطة العبادة الوثنية والحياة الفاجرة، فهؤلاء الوثنيون حجزوا الحق أي جعلوه غير واضح وغير ظاهر بواسطة التـعـبـد لغـيـر الحق وبواسطة السلوك المشين الايطاوعـون للحق بل يطاوعون للإثم»  «وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعـمـالـهـم كـانت شريرة لأن كل من يعمل السيات يبغض النور ولايأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله.

تفسير كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

ع18: بعدما شجع بولس المؤمنين في رومية ومدح إيمانهم، يعلن غضب الله على الأمم المستهينين بالله ومتمادين في خطاياهم، فيرفض الخطايا التي يصد بها الأشرار الحق ويحجبونه.

رو1: 17 رسالة رومية رو1: 19
رسالة رومية – أصحاح 1
تفسير رومية 1 تفاسير رسالة رومية

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى