إيمان المواقف

 

قال الرب: “مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ” (لو8:18). فالرب لا يقصد أى إيمان بل الإيمان (مصحوبة بأل التعربف) البشر كلهم مؤمنون إيماناً طبيعيًا، غامضًا ومبهمًا. بل حتى “َالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ” (يع 19:2).

إذن فالإيمان الذى يقصده رب المجد هو إيمان إختيارى خاص نرجو أن نتعرف عليه.

أولاً: أنواع الإيمان

فهناك فى الحقيقة ثلاثة أنواع من الإيمان وربما كانت ثلاث مراحل أيضًا:

1- الإيمان الطبيعى: وهذا ما يشترك فيه كل البشر، وحتى الشياطين كما ذكرنا. إنه الإيمان المزروع فى قلوبنا، والقابع فى أعماق تكويننا. إنه صوت الله الداخلى فى قلب الإنسان البدائى والمتحضر على السواء.

الإنسان البدائى شعر فى أعماقه إما بالضعف والحاجة إلى قوة خارجية تحميه، أو بالحاجة إلى مصدر خير يشبعه، أو بالخوف من سلطة خارجية عنه فى يدها حياته ومماته. ومن هنا بدأ الإنسان يعبد الشمس والقمر والبحر والأبقار والوحوش المفترسة وما إلى ذلك.

أما الإنسان المتحضر فقد بدأ يؤله نفسه أو عقله أو مبادئه. ولعل صرخات نيتشه؟؟ كلها آلهه حديثة فى عصرنا الحاضر. وفيها جميعًا لمحات من أعماقهم تشعرنا بنزوع الإنسانية إلى كائن خير ومقتدر، يكون فيه خلاص البشرية من ضعفها وإنحرافاتها ومخاوفها.

إذن فليس ثمة ملحد واحد كما يقول القديس أغسطينوس، وهذه بعض الإقتباسات التى تدلنا على ذلك:

– “أؤمن بقوة مفكرة تسيطر على هذا الكون، ولكنى لا أظن أنها شخص” (أيناشتين).
– “الإنسان هو إله الإنسان” (فويرباخ).
– “الله قد مات وليس علينا سوى أن نسد الفراغ الذى خلفه” (نيتشه).
– “أنت خلقتنى، ولكن كان لا ينبغى أن تخلقنى حرًا” (سارتر).
– “إن الله قد مات، ولكن هذا لا يعنى أنه غير موجود، أو أنه لم يعد موجود، بل يعنى أنه كان يحدثنا ثم صمت” (سارتر).

من هذه الاقتباسات ندرك تخبط الإنسان. إذ فيما هو يحاول أن يجد نفسه يتصور أن إلغاء الله هو الحل الوحيد. ومازال الرب – فى حنانه وحبه – على إستعداد كامل أن يكشف نفسه للمتواضعين “والَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي” (يو 21:14).

2- الإيمان العقلى: وفيه نحاول أن نستوعب معطيات الوحى الإلهى وإيحاءات الإيمان الطبيعى. إنه محاولة لإدراك ما لا يمكن إدراكه بالعقل فقط، لهذا نجده دائمًا متعثرًا وغير كاف، وقديمًا قال القديس أغسطينوس: (العقل يقود إلى الإيمان، والإيمان يقود إلى العقل، وأنا أؤمن لكى أتعقل). وبالحق يجب أن يستنير العقل بالروح القدس ليستطيع إدراك هذه الأسرار الفائقة “أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ” (1كو 11:2) “السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا وَالمُعْلنَاتُ لنَا وَلِبَنِينَا إِلى الأَبَدِ لِنَعْمَل بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ” (تث 29: 29).

لهذا فكل محاولة لشرح حقائق الإيمان بطريقة عقلية محضة سوف ترفع العقل إلى مستوى نقد الإيمان وحصره. وكل محاولة لتبسيط حقائق الإيمان لتصير مفهومة ومستساغة للعقل الطبيعى هى تشويه لها. الله لا يستعلن إلا للعقل المتضع المستنير بالروح القدس.

بل وأكثر من هذا. مالم تتحول حقائق الإيمان التى ندركها بالروح القدس ونستريح فيها، إلى فعل حقيقى يومى يغير حياتنا وسلوكنا، وإلى يقين يظهر واضحًا فى تعاملنا مع مصادمات الحياة والواقع، فسوف لن نستفيد من هذا الإيمان النظرى ولن نخلص.

من هنا نشجع الدعوة إلى الحوار المتضع من الحق لنكشف الحق، أكثر من الدعوة إلى تبسيط حقائق الإيمان لتصير مستساغة بالعقل الطبيعى.

3- الإيمان الإختبارى: وهذا هو النوع الجوهرى الذى ينبغى أن نصل إليه بالنعمة، فالإيمان: “هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ” (أف 8:2). والإيمان الذى يمسك بالله ويتمسك به، ويسبق فيتذوق أفراح السماء، ويشعر بأن ثمة علاقة حقيقية وحية بين النفس والله.

– إنه إيمان السيدة العذراء الذى أعترض عقلها، ولكنها فهمت به إمكانية الحبل البتولى، فخضعت فى فرح وشكر!.

– إنه إيمان يشوع بن نون، الذى أمر الكهنة أن “يغسلوا أرجلهم فى مياه الأردن الفائض، على أنها لم تعد مياهًا بل هى صخر..” وكان كذلك!.

– إنه إيمان الأنبا إبرام الذى كان يصرف آخر مليم فى جيبه، وكله ثقة أن الله سيرسل فى الوقت المناسب.

هل لنا هذا الإيمان..إيمان المواقف؟

– هل عندما ندخل فى ظلام دامس، أو ضيقة طاحنة نكون فى راحة وإطمئنان لليد العليا التى تسندها دون أن نحسبها؟!

– هل عندما تجوز مرارة الفشل نتقبله كما من يد القدير الحانية، واثقين أن يده لا تحمل إلينا سوى الخير؟!

– هل عندما تستعبدنا الخطية ننتفض من التراب، ونطلب من روح الله أن “يتفضل ويحل فينا” وملؤنا الثقة أنه يفعل؟!

– هل عندما تنتابنا الخسارة المادية أو الأدبية، لا تصغر أنفسنا فينا بل تصمت ونقول: فلتكن مشيئة الرب، فهذا كله لخيرنا؟!

 

ما مدى إحساسنا بإله شخصى حى، محب ألصق من الأخ، مقتدر أكبر من الكون، يتدخل فى أمورنا الخاصة بالطريقة السليمة، والتى كثيرًا ما تتعارض مع فكرنا الخاص ومزاجنا الشخصى؟!..وقد ظهر الله بالجسد فى ابنه الرب يسوع، وهنا يجدر بنا السؤال الهام: هل المسيح هو الله المتجسد؟.. والإجابة طبعاً نعم.. وهذه بعض الشواهد على ذلك:

ثانياً: خمسة شواهد على لاهوت السيد المسيح

لعله السؤال الدائم من المتشككين والمشككين فى شخص الرب يسوع.. هل السيد المسيح هو الله؟

– نعم نؤمن أن الله دبر لخلاص الإنسان بتجسد وتأنس إبنه الوحيد ربنا يسوع المسيح فى ملء الزمان والذى إتحد بجسد حقيقى مساو لأجسادنا تماماً قابل للموت لكى يذوق الموت به.

– ونؤمن أن الروح القدس حل على العذراء مريم، وكون منها جسد المسيح فكان طاهراً خالياً من الخطية الجدية، وأن اللحظة التى هيئ فيها الروح القدس مبدأ الناسوت فى بطن العذراء هى نفس اللحظة التى اتحد اللاهوت به وصارت له طبيعة واحدة من طبيعتين لاهوتيه وناسوتيه.

– ونؤمن أنه ليس بغيره الخلاص، لأن أقنوم الابن (اللوغوس) هو الخالق، وهو الذى يجدد خلقة الإنسان على نفس الصورة التى خلقه عليها.

– ونؤمن أن الله لم ينحصر فى الجسد، بل ظل موجوداً فى كل شئ وأنه لايمكن أن يتدنس بمجرد ظهوره فى الجسد، لأنه هو مطهر جميع الأشياء… وإليك عزيزى القارئ هذه الشواهد الدالة على ذلك:

الشاهد الأول: قداسته المطلقة

1- عاش رب المجد بيننا بلا خطية فهو: “قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ” (عب 7: 26) “الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً” (2كو 5: 21)، والذى تحدى اليهود يوماً “مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟” (يو 8: 46) فإنسدت الأفواه وإنعقدت الألسنة.

2- كافة الأنبياء والرسل “أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رو 3: 23)، إذ “أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ” (رو 3: 10). حتى داود الذى شهد له الوحى الإلهى بأن قلبه كان حسب قلب الله يقول: “هَأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي” (مز 51: 5).

الشاهد الثانى: سلطانه المطلق (على سبيل المثال وليس الحصر)

1- سلطان على الجماد: يظهر من معجزة إشباع الجموع (مر 6: 35-44)

2- سلطان على المياة: يظهر من سيرة على المياه، وجعله بطرس يسير (مر 6: 48-51)

3- سلطان على النبات: يظهر من لعنه للتينة غير المثمرة (مت 21: 18-22)

4- سلطان على الحيوان: يظهر من سماحه للشياطين بدخول الخنازير (مت 8: 28-34)

5- سلطان على الإنسان: فى المرض كان يشفى باللمس (مت 9: 20-22)، ومن على بعد (يو 4: 43-54)، فى الموت: إقامة إبنة يايروس حديثة الموت (لو 49: 8-56)، وإبن أرملة نايين وهو فى طريقة إلى القبر (لو 7: 11-15)، ولعازر بعد أن أنتن (يو 11: 38-44).

6- سلطان على الطبيعة: يظهر فى تهدئته للبحر والرياح (مر 37: 4-39).

7- سلطان على الأفكار: كشف أفكار سمعان الفريسى (لو 7: 39-40)، والجموع حين غفر الخطايا للمفلوج (مت 4: 9).

8- سلطان على المستقبل: تنبأ بخراب أورشليم (مر 13: 14-23)، إنكار بطرس له (لو 22: 34)، ثم إستشهاده مصلوباً منكساً الرأس (يو 21: 18، 19).

9- سلطان على الأرواح: كانت تفزع من رؤيته (مر 1: 22)، وتخرج بكلمته (مر 1: 34).

10- سلطان على الخطيئة: كان يغفرها، وهذا من سلطان الله وحده (مر 2: 7-10).

11- على الملائكة: (مت 1: 21) (لو 2: 11).       12- سلطانه على نفسه: (يو 10: 17).

13- على الشياطين: (مر 1: 22- 24) (لو 8: 26- 39).

14- على المادة: (مت 14: 15- 21) (مت 15: 32- 38).

 

الشاهد الثالث: شهادته لنفسه:

مادام الله قدوساً بلا خطية، فشهادته لنفسه مقبولة وصادقة: وقد قال للمولود أعمى بعد أن أبراه: “أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟” فسأله “مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟” أجابه يسوع: “الَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ”فَقَالَ الرجل: “أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ” (يو 9: 35-36)

وقد فهم اليهود من تعبير السيد المسيح عن نفسه أنه إبن الله معنى مساوته لله: “قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ” (يو 5: 18). وقد دخلوا فى صراع شديد معه حين قال لهم: “قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ” (يو 8: 58)، ورفعوا حجارة ليرجموه قائلين: “لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً” (يو 10:  33)

 

الشاهد الرابع: شهادة الآخرين عنه:

 

سمع الرب من الكثيرين – أثناء حياته على الأرض – شهادات تنطق بلاهوته وقبلها جميعاً فالآب والملائكة أعلنوا ألوهيته، والتلاميذ والرسل شهدا لألوهيته حتى الشياطين اعترفت بهزيمتها منه… ونورد أمثله لذلك منها:

– الرب: (مت 7: 21)
– ابن الله الوحيد: (يو 3: 16)
– القدوس: (رؤ 3: 7)
– المخلص: (مت 18: 11) 
– الأزلى الأبدى: ( يو8: 58)
– واهب الحياه: ( يو11: 25)
– الديان: (مت16 : 27) 
 – فاحص القلوب: (رؤ 2: 18)
– رب الشريعة: ( مت12: 8)

– قال المعمدان: “َأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ” (يو 1: 34)

– قال نثنائيل: “يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ” (يو 1: 49)

– قال بطرس: “أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ” (مت 16: 16)

– قالت مرثا: “أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ” (يو 11: 27).

 

الشاهد الخامس: فاعليته فى القلوب:

والحق أن هذا أقوى الشواهد التى نقدمها للآخرين. لقد إستطاع رب المجد أن يخلق من الزناة بتوليين، ومن النسوة الضعفاء والأطفال الصغار أسوداً واجهوا الأسود الجائعة بشجاعة مذهلة. دقائق بسيطة مع السامرية، خلقت منها قديسة كارزة، وزيارة بسيطة لبيت زكا محب المال، خلقت منه إنساناً باذلاً محباً للفقراء.

ياللملايين التى سارت وراءك يارب!! ياللقلوب التى أحبتك فسبيتها بحبك العذب!!

ياللنفوس التى رفضت السكنى بين البشر لتشبع من حبك فى البرارى والقفار!! أى سيف هذا الذى إستخدمت يارب؟ وأى حرب تلك التى كسبت بها الأنصار والتابعين؟

إنه سيف الحب الباذل حتى إلى الصليب! إنها حرب النور الذى يهزم فلول الظلمة فى القلوب!!

يا مسيح الله، اقبل إيماننا بك رباً وإلهاً إلى الأبد! ثبت أولادك فيك ياصخر الدهور الأزلى! إفتح عيوناً أعماها إله هذا الدهر خشية أن تضئ لها بوجهك المنير!!

هيا نسجد لإلهنا المسيح، ونسلمه الحياة كلها إلى آخر قطرة دم!!!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى