تفسير إنجيل مرقس أصحاح 9 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

الأَصْحَاحُ التَّاسِعُ 
التجلي | إبراء مجنون | حديث مع التلاميذ

 

ع1: “وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ».”

“القيام ههنا”: أي بعض من التلاميذ لن يموتوا قبل أن يَرَوْا علامات بداية ملكوت الله وانتشاره بقوة، وذلك بانتشار الكرازة وقبول الأمم الإيمان، ووضوح معالم الكنيسة، فملكوت الله يعني أن يملك الله على قلوب البشر المؤمنين باسمه…

(1) تجلي المسيح (ع 2-10):

2 وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3 وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ. 4 وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. 5 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». 6 لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. 7 وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». 8 فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ. 9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10 فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: «مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟»

 

ع2: بعد حوالي أسبوع من حديث المسيح السابق عن آلامه وموته وقيامته وعن ملكوته الآتي بقوة، أخذ معه ثلاثة من تلاميذه يتمتعون بمحبة وإيمان أكثر من غيرهم، وصعد بهم إلى جبلٍ عالٍ، وهناك تغيرت هيئته (صورته) قدامهم، وظهر بمجد عظيم كما سنرى، ولكن يهمنا هنا المعاني التالية:

(1) ثلاثة تلاميذ فقط: ليس عند الله محاباة، ولكن الأكثر استعدادا ينال بركات أكبر.

(2) جبلٍ عالٍ: لا يستطيع إنسان معاينة أمجاد الله، إلا إذا ارتفع وصَغُرَ العالم أمام عينيه.

 

ع3: يشرح القديس مرقس هنا صورة هذا التغيّر في هيئة الرب، إذ ابيضت ثيابه جدًا بلمعان كالتوهج أو النور. وللدلالة على شدة اللمعان، أضاف أنه لا يقدر قَصَّارٌ على الأرض أن يُبَيِّضَ مثله، والقصار هو مبيّض الأقمشة كآخر خطوة من خطوات صناعة الغزل والنسيج.

 

ع4: ومع تغير هيئته إلى هذا المجد، ظهر لهم إيليا الذي يمثل الأنبياء والأحياء (لأنه لم يمت بعد)، ويمثل البتولية ودرجتها العالية (لأنه لم يتزوج). وظهر أيضًا موسى الذي يمثل الراقدين على رجاء فداء المسيح، وكذلك القيادة الروحية لشعب الله. وكلاهما صام أربعين يوما، رمزا للقداسة التي عاشا بها على الأرض، ورمزا أيضًا لشكل الحياة الروحية، سواء كانت في الرهبنة أو سر الزيجة. وإكراما لهما، أضاف القديس مرقس أنهما كانا يتكلمان مع يسوع.

† أخي الحبيب… هل فكّرنا في نوال كرامة وبركات التكلم مع يسوع؟!!

 

ع5-6: مع مفاجأة المنظر ومهابته وروعته، تكلم بطرس معلنا عن سعادته بهذه الرؤيا، وأن الأحاسيس السمائية الروحية أفضل من المشاعر الأرضية مهما بلغت روعتها، ولكنه أضاف أيضا، بحسب فكره البشرى، أن المسيح مع إيليا وموسى قد يكونوا في احتياج لمظال تظللهم، ويُرجع القديس مرقس قول بطرس هذا إلى حالة الرعب التي كان عليها أثناء التجلي.

 

ع7: “سحابة تظللهم”: أضاف القديس متى (مت 17: 5) أن هذه السحابة كانت “نيّرة” للتدليل على الحضور الإلهي، كما ظهرت السحابة المنيرة لهرون (خر 16: 10)… وصاحب ظهور السحابة إعلان الآب عن ابنه ولاهوته، تمامًا كما حدث في معمودية المسيح.

 

ع8-10: وفجأة، انتهى المشهد السماوي، وعاد شكل الرب إلى طبيعته الأولى، واختفى موسى وإيليا. وعند نزولهم، أوصاهم المسيح ألا يخبروا أحدا بما رأوه إلا بعد قيامته من الأموات، إلا أنهم لم يفهموا في ذلك الوقت معنى قيامته من الأموات، ولكنهم لم يسألوه عن ذلك، بل احتفظوا بكل شيء لأنفسهم (داخلهم).

 

تعليق على التجلي:

(1) ربما يكون التلاميذ قد تعرّفوا على شخصيّ موسى وإيليا إما بالروح، وإما أن يكون المسيح قد نطق باسميهما أثناء الحديث.

(2) “جيد أن نكون ههنا”: جيد للخادم والإنسان الروحي حياة التأمل والخلوة، فيأخذ منها زادا وقوة يعيناه على النزول إلى حقل الخدمة والألم.

(3) حديث المسيح مع إيليا وموسى، يوضح أن هناك كلامًا لا ينقطع بين الله وبين قديسيه. ولهذا تعلمنا الكنيسة أنه بجانب الحديث مع الله، نستطيع التحدث مع القديسين في صلواتنا (دون عبادتهم).

(4) إذا كان المنظر رائعًا إلى هذه الدرجة، فكم يكون المنظر في السماء يا صديقى؟! هلم… تشجع… فما أجمل السماء بمسيحها وقديسيها!! ولا تنسَ أن لك مكانا هناك.

(2) سؤال عن إيليا (ع 11-13):

11 فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ: «لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا؟» 12 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. 13 لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».

 

ع11: أثار ظهور إيليا في التجلي سؤالًا عند التلاميذ طرحوه على المسيح، وهو أن الكتبة يعلّمون الناس أن إيليا لا بُد أن يظهر أولًا وقبل ظهور المسيح، وإذا كان ما رأيناه هو المقصود، فكيف يكون ظهور إيليا بعد المسيح؟!

 

ع12-13: “إيليا يأتي أولًا”: أي أن ما يقوله الكتبة صحيح في هذا التعليم، بأن يسبق إيليا ظهورَ المسيح.

“ويرد كل شيء”: أي يُرجع اليهودبالتوبة استعدادا لقبول المسيح.

“أن يتألم كثيرًا وَيُرْذَلَ”: كان للتلاميذ نظرة محدودة، ولذلك لم يفهموا أن المسيح لا بُد أن يتألم (إش 53: 2 ؛ مز 22: 6).

“إيليا… أتى”: إشارة واضحة إلى يوحنا الْمَعْمَدَانَ الذي شابه إيليا في عمله وشخصه، فيوحنا أتى وقتله اليهود (عملوا به كل ما أرادوا)، راجع أيضًا شرح (مت 17: 10-13).

(3) شفاء غلام به روح نجس (ع 14-29):

14 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. 15 وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. 16 فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» 17 فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، 18 وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 19 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». 20 فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. 21 فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. 22 وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». 23 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». 24 فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». 25 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلًا لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» 26 فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». 27 فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. 28 وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 29 فَقَالَ لَهُمْ: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».

 

ع14-16: “تحيروا، وركضوا”: يصور القديس مرقس حال الجمع عند رؤية المسيح، فلقد ركضوا إليه من فرحتهم… أما حيرتهم، فقد كانت بسبب غيابه المفاجئ وعدم علمهم بمكانه.

بعد التجلي، عاد الرب يسوع مع تلاميذه الثلاثة إلى باقي التلاميذ، ووجد كثيرين يناقشونهم، ومنهم الكتبة الذين انتهزوا فرصة غياب المعلم لإحراج التلاميذ. ولهذا، عند وصول المسيح، كان أول ما تكلم به هو سؤال للكتبة: “بماذا تحاورونهم؟” والغرض من سؤاله أن يرفع الحرج عن تلاميذه ويجيب عنهم.

 

ع17-18: لم يتلق السيد المسيح إجابة من الكتبة، إذ قطع الحديث رجل ذو احتياج شديد قائلًا: أتيت إليك بابنى الذي يسكنه شيطان أخرس، ولم أجدك. ويضيف القديس لوقا أنه كان ابن وحيد لأبيه (لو 9: 38). وقد ذكر القديس مرقص هنا هذه القصة، ليوضح أن صراعنا مع الشيطان مستمر، ولابد من الإيمان بالمسيح حتى تتحقق النصرة عليه… وبدأ الرجل في شرح أعراض سكنى وهياج الشيطان.

“حيثما أَدْرَكَهُ”: عند هياج الشيطان عليه.

“يمزقه”: يعرضه لنوبات شديدة، فيأتى بحركات لاإرادية يؤذى بها نفسه.

“فَيُزْبِدَُ وَيَصِرَُّ بأسنانه”: أعراض تشبه الصرع، فيتشنج الفم ويسيل اللعاب، وتتجمد كل عضلاته ويفقد القدرة على الحركة… وقد طلبت من تلاميذك – لغيابك – أن يخرجوه فلم يقدروا.

 

ع19: أجاب السيد المسيح بإجابة تحمل توبيخا. ولكن، لمن هذا التوبيخ؟

“أيها الجيل غير المؤمن”:

أولًا: من الممكن أن يكون التوبيخ للتلاميذ الذين لم يقدروا، بسبب ضعف إيمانهم، أن يخرجوا هذا الشيطان وشفاء المريض.

ثانيا: ربما يكون اللوم للأب الذي – بالرغم من احتياجه – كان متشككا، ولم يكن إيمانه كاملا، إذ قال في كلامه للمسيح: “إن كنت تستطيع شيئا؟”

ثالثا: وقد يكون اللوم للجمع كله، الذي رأى معجزات سابقة هذا عددها ولم يؤمن، بدليل قول الرب: “أيها الجيل”.

“إلى متى أحتملكم؟”: بالطبع احتمل المسيح كثيرا، وسوف يحتمل أيضا، ضعفات تلاميذه، وخاصة عند آلامه وصلبه… ولكن المقصود هنا توضيح أن قلب الله لا يحتمل عدم الإيمان به أو الشك فيه، فهذا يجرحه كثيرًا. ولهذا، وبخ أيضًا التلاميذ على قلة إيمانهم… وفي حادثة هياج البحر على السفينة (مت 8: 23-26)، وأيضا لما وبخ بطرس عندما شك وبدأ يغرق (مت 14: 25-32).

“قدموه إلىَّ”: دليل على حنو الرب يسوع علينا، وتأكيد لقوله في (مت 11: 28) “تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم.”

 

ع20: عند اقتراب الولد من المسيح، هاج الشيطان هياجا شديدا، حتى أنه أسقط الولد بقسوة، فصار يتمرغ وَيُزْبِدُ (سال لعابه).

… وهذا يعلمنا قسوة الشيطان وشره من جهة، ويوضح أيضًا أنه علم أنه خارج لا محالة. ولهذا، فكأنه يحارب بيأس حربه الأخيرة…

 

ع21-22: “كم من الزمان؟”: بالطبع كان المسيح يعلم كل شىء، ولكن الغرض من السؤال هو إيضاح للجمع وتعليمه أنه ليس شيئًا يصعب عليه مهما طال الزمن، أو طالت قسوة وشدة المرض.

واستطرد الأب في الإجابة موضحا أمور أخرى أتى بها الشيطان مع ابنه، إذ حاول قتله مرارا، فكثيرا ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه.

“إن كنت تستطيع”: سؤال يعكس رجاء الرجل في أن يكون المسيح قادرا على شفاء ابنه من جهة، ويحمل أيضًا في لهجته شكا في هذه القدرة من جهة أخرى، أو لنقل ضعف إيمان.

“فتحنن علينا وأعنّا”: أي الابن والأب، وعلى أمه وكل أسرته.

 

ع23: “إن كنت تستطيع”: أجاب المسيح الرجل بمثل ما سأل، والمعنى: أنا أستطيع كل شىء، ولكن عملي وكل أعمالي، لا يراها سوى من آمن بقدرتي هذه؛ وشكّك وضعف إيمانك هو أكبر عائق لشفاء ابنك.

 

ع24: “صرخ… بدموع”: جاءت إجابة الرجل معبرة عن حاله، فصراخه معناه: لا رجاء لي سواك. ودموعه تعبّر عن ضعفه واعتذاره عن عدم ثقته. ثم أعلن إيمانه، وأعرب عن أنه ضعيف الإيمان حقا، طالبا معونة المسيح في تثبيت وتكميل إيمانه الناقص.

 

ع25: ازداد الزحام جدا، وأمر المسيح الشيطان بالخروج بانتهاره، واصفا إياه بالنجاسة – كمثل كل مملكته – وناداه: “أيها الروح الأخرس الأصم”، ليوضح أن الشيطان هو السبب في هذين العرضين.

“أنا آمرك”: توضح لنا لاهوت المسيح وسلطانه المطلق على مملكة الظلام وقواتها، وأنه لا شيء منها يستطيع مقاومته أو عصيانه، فأكمل: “اخرج منه، ولا تدخله أيضًا”، أي لا تعاود الرجوع إليه.

 

ع26-27: “فصرخ”: الشيطان المهزوم واليائس هو الصارخ هنا، معبّرا عن غيظه لخروجه، فطرح الولد أرضا مغشيا عليه بلا حراك، حتى ظن كثيرون إنه مات. إلا أن المسيح، بحنانه، تقدم إلى الولد وأمسكه… وأقامه، فقام معه معافًى من كل مرض.

 

ع28-29: بعد نهاية الحدث، وعند انفراد التلاميذ بالمسيح، سألوه عن سر عجزهم، وهل فقدوا سلطانهم على الأرواح النجسة الممنوح لهم في (مت 10: 1)، أم ماذا؟! فجاءت إجابة المسيح لهم: إن الموهبة الممنوحة من الله، لا بُد من المحافظة عليها بالحياة الروحية المتمثلة في طلب المعونة الدائمة من الله “الصلاة”، والترفّع عن العالم وشهواته ومادياته “الصوم”.

† هكذا يا صديقى… نرى أن الإيمان هو جوهر العلاقة مع الله، وبدونه، نخسر رؤية عمله في حياتنا. وللأسف، زادت تيارات العقلانية والتشكيك في قدرة الله على حل مشاكلنا، وازداد الهم والقلق، وبقيت المشاكل كما هى…

ألا توافق معي أن كلانا محتاج أن يصرخ في صلاته قائلًا: “أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيمانى”؟ وقبل أن نبدأ بعقولنا، أليس من الأفضل أن نختبر يد الله في إعانتنا؟

 

(4) الإنباء بموته وحديث عن العظمة (ع 30-37):

30 وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، 31 لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». 32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ. 33 وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» 34 فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ». 36 فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 37 «مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

 

ع30-31: كما فعل السيد المسيح في الأصحاح السابق (مر 8: 31-32)، وتحدث عن تسليمه وموته وقيامته، يعيد نفس الكلام هنا في إعداد لتلاميذه للأحداث المستقبلية الصعبة.

 

ع32: “لم يفهموا”: ليس بسبب صعوبة القول نفسه، فالكلام مفهوم لغويا، ولكن لبُعد ما يقوله السيد المسيح عن الصورة التي في خيالهم عن مُلكه المنتظر بمجده الأرضى.

“خافوا”: أي فضّلوا عدم سؤاله لحرجهم من التكلم في هذا الشأن… والحقيقة أن أحدًا منهم لم يفهم أىٍّ من إعلانات المسيح إلا بعد الفداء والقيامة.

 

ع33-34: دار حديث بين التلاميذ أثناء سيرهم. وعند وصولهم إلى البيت (منزل بطرس على الأرجح)، سألهم السيد المسيح عما دار بينهم، وكان الغرض من سؤاله ليس العلم – فهو العالم بكل شيء – ولكن من أجل تعليم التلاميذ وتصحيح مفهوم خاطئ لديهم، فقد شغلتهم فكرة من هو الأعظم فيهم، وأساسها كبرياء القلب.

 

ع35: جلس السيد المسيح وجمع تلاميذه حوله، وبدأ في التعليم مباشرة: من أراد أن يكون أكثر عظمة وسيدا للكل، عليه أن يكون خادما، واضعا نفسه آخر الكل، وأقل من الجميع.

وما يعلّمه المسيح هنا، يخالف بالتمام مفهوم العالم عن العظمة، فعظمة العالم هي التسلط والكبرياء والتحكم “… رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم” (مت 20: 25). أما عظمة المسيحية، فهي الاتضاع وإنكار الذات وخدمة الآخر… (راجع شرح مت 20: 20-28).

 

ع36-37: في حنان، أخذ السيد المسيح طفلا وضمه إلى صدره وهو لا يزال موجها حديثه لتلاميذه، قائلًا: إن من قدّم عملا مهما كان صغيرا – كتقديم الحنان لولد باسم المسيح – يعتبره المسيح عملا مقدما له شخصيا وللآب الذي أرسله؛ فالمهم هو الخدمة والبذل من أجل الآخرين، وليس منظر الرئاسة أو العظمة الخارجي.

(5) الخدمة باسم المسيح (ع 38-41):

38 فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قِائِلًا: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». 39 فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. 40 لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. 41 لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ.

 

ع38: في (ع37)، قال الرب: “من قَبِلَ… باسمى“، لعل هذا القول جعل يوحنا يتذكر حدثا مر به مع التلاميذ، إذ رأوا إنسانا يستخدم اسم الرب في إخراج الشياطين، ولم يكن من الاثنى عشر أو جملة السبعين رسولا، فأخذتهم الغيرة فمنعوه لأنه ليس منهم.

 

ع39-40: عاتبهم الرب على منعهم إياه، فالرجل كان مؤمنا ومحبا للمسيح، وكان إيمانه سبب خروج الشيطان… فمن اختبرنى واختبر قوة عملى معه، لا ينقلب علىَّ أو يجدّف على اسمى… وطالما أن الإنسان لا يقاوم الحق والإيمان السليم المسلَّم للكنيسة من المسيح، فلا داعى لمنعه، وإلا صار هذا رغبة في احتكار المواهب والخدمة.

 

ع41: فإن كان العمل زهيدا، حتى لو قدّم أحد لكم – باسمى – كوب ماء، لا يُضِيعُ أجرَه، فكم بالحرى من يستخدم اسمى ليرحم مريضا ويخرج منه شيطانا؟!

تعليق:

يقول الرب في (ع40): “من ليس علينا فهو معنا”، وفي (مت 12: 30 ؛ لو 11: 23): “من ليس معي فهو علىَّ”. وقد يبدو لأول وهلة أن المعنيان يتعارضان، ولكن في حقيقة الأمر المعنى واحد، لأن الحياد في شأن الإيمان بالمسيح مستحيل، فأما معه أو عليه بما يتبع ذلك من تصرفات.

وللتوضيح نقول:

قد تكون علامة الصداقة هي عدم المقاومة للمسيح، وبالتالي نفهم: “من ليس علينا – يقاومنا – فهو معنا.” وقد تكون علامة العداوة هي عدم الاشتراك في العمل الإيجابى، فنفهم: “من ليس معي – في عملى – فهو علىَّ”.

(6) العثرة (ع 42-50):

42 «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. 43 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 49 لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. 50 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا».

 

ع42: التعليم هنا بعدم الإعثار، هو تعليم عامة للتلاميذ والخدام وكل المؤمنين، ويوضح خطورة إعثار بسيطى الإيمان. ومن أعثر تعني من كان سببا مباشرا في خطأ الآخر، أو سبب له ارتباكا وشكوكا بتعليم غير قويم أو قول خاطئ أو تصرف شائن.

ومن خطورة هذه الخطية وشرها في نظر الله، يقول: أفضل للإنسان لو رُبِطَ من رقبته بحجر رحًى (حجر كبير لطحن الحبوب) وأُلْقِىَ في البحر، ليموت، عن أن يعثر آخر بسيطًا في إيمانه.

 

ع43-48: سبق الشرح التفصيلي لهذا النص في (مت 5: 29-30، 18: 8-9)، وسنكتفى هنا بتوضيح المعاني الآتية:

“اقطعها… اقلعها”: قطع اليد أو الرِّجْل أو قلع العين ليس معنًى حرفيا، بل معنًى مجازيًّا المقصود به أن يقطع الإنسان كل أسباب وطرق الشر التي مصدرها حواسه أو الناس المحيطين به. واستخدم السيد المسيح لفظى “القطع والقلع”، ليوضح لنا درجة الحسم المطلوبة منا جميعا في مواجهة العثرات ومداخلها، فالعثرة الصغيرة تنشئ شرًّا كبيرًا.

“دُودُهُمْ لا يموت، والنار لا تُطفأ”: تعبير آخر يرعب المستهين بجزاء الله العادل، وكل من تهاون في حواسه وأعثر نفسه، أو صار سبب عثرة للآخرين… فكلمات “لا يموت – لا تُطفأ”، دليل على أبدية العذاب وعدم توقفه.

† وهكذا يا صديقى… فكل المخدوعين بملذات العالم وشهواته الزمنية الزائلة، يدفعون أنفسهم إلى عذاب قاسيا في شدته، والأسوأ أنه لا ينتهى أبدًا.

 

ع49: الحديث في الأعداد السابقة عن الهروب من الخطية والعثرة، وهذا ما يسميه الآباء بالجهاد السلبى. أما الكلام في هذا العدد، فهو عن الجهاد الإيجابى، والمعنى المقصود هو:

كما أن كل ذبيحة مقدمة لله تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ من أجل حفظها، فعلى الإنسان الروحي أن يحفظ نفسه، ليس بالهروب وتجنّب العثرة فقط، بل أيضًا بالنمو في الفضائل التي تحفظه وتجعل له مذاقا أمام الله، وهذه الفضائل كالنار في ضوئها وإشاعة الدفء للآخرين (خر 43: 24).

† احرص أيها الصديق على التوبة والجهاد الدائم ضد كل مصادر العثرات، واهرب لحياتك بكل قوتك، جاذبا معك آخرين ما أمكن…

 

ع50: ولكن إذا صارت الفضيلة في حياة المؤمن بلا ملوحة، أي بلا طعم، وباهتة اللون، فلا يمكن إذن قبول الإنسان من الله. ولهذا اجتهدوا أن تحيوا بالفضيلة ليكن لكم في أنفسكم ملح، أي يكون لكل منكم سلاما مع نفسه، ولجميعكم سلاما نحو بعضكم.

† اهتم أيها الحبيب في سر التوبة والاعتراف، ليس فقط أن تسرد الخطايا الواضحة التي أحزنت بها قلب الله، بل أعلن أيضًا عن تقصيرك في الفضائل المسيحية، واطلب من أبيك إرشادا وتدريبا، حتى نُملّح جميعا بملح نُرضى به مسيحنا…

تفسير مرقس 8 إنجيل مرقس – 9  تفسير إنجيل مرقس تفسير العهد الجديد تفسير مرقس 10
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة
تفاسير مرقس – 9 تفاسير إنجيل مرقس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى