تفسير سفر أعمال الرسل ٢٢ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثاني والعشرين
أول دفاع أمام اليهود
يقدم لنا الإنجيلي لوقا أول دفاع يوجهه الرسول بولس إلى اليهود، يفند فيه الاتهامات الثلاثة التي وُجهت ضده، وهي أنه ضد الأمة اليهودية، ومقاوم للناموس، ومدنس للهيكل. وقد جاء دفاعه يحوي الآتي:
v أنه عبراني بالمولد، غيور على أمته، ويعتز بلغته. هذه الغيرة يشهد لها مجمع السنهدرين نفسه ورئيس الكهنة، حيث كان يعمل معهم لمقاومة اسم يسوع.
v أن تحوله لم يكن بدعوة بشرية، بل بإعلان إلهي في لحظات مقاومته بكل عنف لاسم يسوع. فقد أنار له يسوع السماوي الطريق، وحوله من مضطهد للكنيسة إلى كارز بإيمانها.
v أنه لم يهجر الهيكل، بل يشارك في العبادة، وأن الرب نفسه ظهر له في الهيكل، يؤكد له أنه سيرفضه اليهود ليكرز بين الأمم.
- يهودي غيور 1-3.
- مضطهد للطريق 4-5.
- نور من السماء 6-11.
- دعوته للشهادة 12-16.
- رؤية في الهيكل 17-21.
- محاولة قتله 22-24.
- روماني لا يُجلد 25-30.
- يهودي غيور
“أيها الرجال الإخوة والآباء،
اسمعوا احتجاجي الآن لديكم”. [1]
بدأ دفاعه بالحديث معهم بكونه واحدًا منهم، يتطلع إليهم أنهم إخوته وآباؤه، يكِّن لهم كل حبٍ وتقديرٍ بكونهم بني أمته.
يتحدث بكل شجاعة بلا خوف، وكأنه يقول مع النبي: “لا أخاف من ربوات الشعوب المصطفين عليَّ من حولي” (مز 3: 6).
“فلما سمعوا أنه ينادي لهم باللغة العبرانية،
أعطوا سكوتًا أحرى، فقال”. [2]
كثيرون ممن نشأوا خارج اليهودية وصارت لهم ثقافة هيلينية كانوا يتحدثون باليونانية أو اللغات المحلية التي تربوا فيها ونسوا العبرانية، أما بولس الرسول فكمحبٍ لوطنه منذ صباه يجيد الحديث بالعبرانية بطلاقة، لذلك إذ خاطب الجموع بها سكتوا، علامة سرورهم بمن يعتز بهذه اللغة مهما كانت ثقافته.
هنا يعني هنا اللغة العامية وليست لغة العهد القديم، وتسمى السريانية، وهي لهجة عامية من العبرية، أو كما يدعوها البعض تحريفًا لها.
كما استراح له الشعب المستمع إليه، اطمأن له أيضًا القائد إذ سمعه يتحدث باليونانية والعبرانية العامية بطلاقة، فهو ليس بذاك المصري الذي يصنع فتنة وسط الشعب.
“أنا رجل يهودي، وُلدت في طرسوس كيليكية،
ولكن رُبِّيت في هذه المدينة مؤدبًا عند رِجليّ غمالائيل،
على تحقيق الناموس الأبوي،
وكنت غيورًا للَّه كما أنتم جميعكم اليوم”. [3]
تحدث عن نسبه لشعبه أنه يهودي، وكما كتب في رسالته إلى أهل فيلبي: “من جهة الختان مختون في اليوم الثامن، من جنس إسرائيل، من سبط بنيامين، عبراني من العبرانيين، من جهة الناموس فريسي” (في 3: 6). فهو ليس بالإنسان الغريب عنهم ولا سبطه غريب عن بقية الأسباط. مولود في طرسوس، عاصمة كيليكية، أي في بلد جدير بالشرف تتمتع بالحرية، وليس عبدًا كما هو حال بعض اليهود في الشتات، أي له شرف المولد.
هو أيضًا دارس متعلم جاء إلى أورشليم ليتعلم عند رجلي غمالائيل أبرز معلم للناموس اليهودي في عصره. اهتم بناموس الآباء معتزًا بالتقليد الآبائي السليم، فهو يعتز بما تسلمه الآباء وما سلموه جيلاً بعد جيلٍ، وأن ما يمارسه الآن هو امتداد حقيقي للتقليد الآبائي الحق، ليس فيه انحراف. إنه يعلن الأمانة التي تسلمها، ولكن بحسب الفكر الروحي. ومملوء غيرة لله، كما يشهدون، إذ كان يضطهد من كان يظنهم مقاومين لله. غيرته لله على حفظ الناموس روحيًا هي بعينها غيرته في المسيح يسوع مكمل الناموس ومحقق غايته.
v “عند رجلي غمالائيل“، لم يقل: “بواسطة غمالائيل”، بل عند رجليه مظهرًا مثابرته واجتهاده وغيرته على الاستماع، وتقديره العظيم لهذا الرجل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v تعلّم بولس الحروف العبريّة، وجلس عند قدميّ غمالائيل، هذا الذي لم يخجل من أن يخبر بذلك. لكنّه أظهر استخفافًا بالخطابة اليونانيَّة أو على الأقل صمت تمامًا عن الحديث بشأنها، وذلك من أجل تواضعه، حتى أن كرازته لا تقوم على قدرة كلماته على الإقناع، وإنّما على قوّة آياته.
القديس جيروم
- مضطهد للطريق
“واضطهدت هذا الطريق حتى الموت،
مقيدًا ومسلمًا إلى السجون رجالاً ونساء”. [4]
أوضح كيف بدأ خدمته بقلب ناري في اضطهاده للمسيحيين بلا تمييز بين رجلٍ أو امرأةٍ، غايته في ذلك الكشف عن أن تحوله إلى الخدمة لحساب المسيح لم يكن إلا بقوة إلهية ودعوة سماوية حولت كل فكره واتجاهاته، خاصة وأن هذا قد حدث فجأة خلال إعلان إلهي.
يقدم لنا سفر الأعمال صورة واقعية لشاول الطرسوسي كمضطهد الكنيسة، فقد كان ينفس تهددًا (أع 9: 1)، وكان يلقي قرعة لقتل من في السجون (أع26: 10). لم يضطهد فقط الذين تبعوا هذا الطريق، بل الطريق ذاته حيث كان لا يقبل اسم يسوع ولا الإيمان به. بذل كل الجهد ليرعب الكل: رجالاً ونساءً، مسلمًا إياهم للسجون، وها هو الآن قد صار مقيدًا في السجن من أجل اسم يسوع والشهادة له.
وضع شاول الطرسوسي في قلبه أن يقاوم المسيحيين حتى وإن أدي الأمر إلى قتلهم، فقد حسبهم لا يستحقون الحياة، ولم يكن يتصور أنه يأتي اليوم الذي فيه يجد لذته في أن يموت كل النهار من أجل مسيحه.
v “أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان، وتفاضلت نعمة ربنا جدًا” (1 تي 13:1-14)… فمن جانب، أكد أنه كان يسلك بلا لوم (في 6:3)، ومن جانب آخر، يعترف أنه خاطئ إلى الحد الذي لا يحتاج الخطاة أن ييأسوا من أنفسهم، وعلى وجه الدقة لأن بولس قد وجد غفرانًا.
القديس أغسطينوس
v تحول من مضطهد إلى كارز ومعلم للأمم (2 تي 11:1). ويقول: “كنت قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا”. أما سبب نوالي الرحمة فهو “ليُظهر يسوع المسيح في أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية” (1 تي 16:1). انه بنعمة الله كما ترون أننا نخلص من خطايانا، التي فيها نحن نضعف. الله وحده هو الدواء الذي يشفي النفس. فالنفس قادرة بحق أن تؤذي نفسها، هكذا أيضًا الناس في قدرتهم أن يصيروا مرضي، لكن ليس لديهم ذات القدرة لكي يصيروا إلى حال أفضل.
القديس أغسطينوس
v لماذا لم ينل اليهود الآخرون رحمة؟ لأن ما فعلوه ليس uن جهلٍ، بل بإرادتهم وهم يعلمون ماذا يفعلون… هكذا كانت محبتهم للسلطة عائقًا في طريقهم في كل موضع… لم يفعل بولس كما فعل يهود آخرون، بدافع حب السلطة، وإنما من أجل الغيرة. فماذا كان هدفه من رحلته إلى دمشق؟ لقد ظن أن التعليم مُهلك، وكان يخشى انتشار الكرازة به…لهذا السبب دان نفسه قائلاً: “لست أهلاً أن أكون رسولاً.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“كما يشهد لي أيضًا رئيس الكهنة وجميع المشيخة،
الذين إذ أخذت أيضًا منهم رسائل للإخوة إلى دمشق،
ذهبت لآتي بالذين هناك إلى أورشليم مقيّدين لكي يعاقبوا”. [5]
كان أشبه بوكالة تمثل مجمع السنهدرين ورئيس الكهنة في مقاومة المسيحية. هذا ما لا يستطيع رئيس الكهنة أن ينكره، هو ومن معه. وإذ سمعوا أن كثير من اليهود في دمشق قبلوا الإيمان المسيحي لم يجدوا من يقدر أن يقمعهم مثل شاول الطرسوسي. قدموا له كل إمكانية لكي يحقق هذا الهدف بنجاح.
يقول لهم: “ما تفعلونه الآن هو صورة باهتة لما سبق أن فعلته أنا بالمسيحيين. لي خبرة بما في قلوبهم، وما تحملونه أنتم من مشاعر. وإني اشتهي أن تنالوا ذات خبرتي، لتدركوا الحق الذي أدركته أنا”.
- نور من السماء
“فحدث لي وأنا ذاهب ومتقرّب إلى دمشق،
أنه نحو نصف النهار،
بغتة أبرق حولي من السماء نور عظيم”. [6]
بعد أن كشف ما كان عليه حين كان مضطهدًا للكنيسة وهي ذات الحالة التي يعيشونها هم، بدأ يحدثهم عن عمل الله معه، وكأنه يطلب لهم أن يعمل الله فيهم كما عمل فيه.
يؤكد الرسول بولس أن تغييره لم يقم على حبه لما هو جديد، ولا لتأثير بشري عليه. لقد تركه الرب يسير طوال الطريق من أورشليم حتى قرب دمشق، وكانت كل أحلام يقظته أن يخدم الله بكل قوة بإبادة المسيحيين ونزع اسم يسوع من على وجه الأرض، متطلعًا إلى المسيحيين كأصحاب بدعة تقاوم الحق الإلهي، وتفسد الأمة.
اشرق عليه نور عظيم من السماء، واليهود يعلمون أن الله نور، ساكن في النور، ملائكته هم ملائكة نور. هذا حدث في الظهيرة حيث لا يمكن أن يكون تخيلاً، ولا فيه خدعة بشرية.
“فسقطت على الأرض،
وسمعت صوتًا قائلاً لي:
شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟” [7]
ناداه الصوت من السماء باسمه، وقد تشكك في الأمر، من هو في السماء يضطهده، وهو يعرفه باسمه.
“فأجبت: من أنت يا سيد؟
فقال لي: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده”. [8]
كانت مفاجأة له أن يسوع الناصري حي، هو في السماء، يحسب كل مقاومة ضد كنيسته موجهه ضده شخصيًا. وكأن الرسول يحذرهم حتى لا يسقطوا في ما سقط هو فيه، فإن اضطهادهم للرسول الآن هو اضطهاد مباشر ليسوع الناصري الذي ظنوا أنه قد تخلصوا منه بصلبهم إياه. إنهم يقاومون المسيا السماوي.
“والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا،
ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني”. [9]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يوجد صوتان، صوت الرب وصوت شاول. هنا يتحدث عن الصوت الذي لم يسمعه المرافقون لشاول، أما فى الأصحاح التاسع [7] فيتحدث عن صوت شاول الذى سمعه من حوله. أما عن النور فهنا يتحدث عن رؤيتهم للنور الباهر دون تمييز للشخص السماوي الذى يتحدث معه، أما في الأصحاح التاسع فيقول أنهم لم يروا إنسانًا، ولم يقل أنهم لم يروا النور. فبحق شاول وحده ميز الصوت وميز المتحدث معه، أما الذين حوله فرأوا نورًا وسمعوا شاول يتحدث، لكنهم لم يسمعوا صوت السماوي ولا رأوه.
ولئلا يعترضوا: لماذا غيَّر النور والصوت حياتك، ولم يغير حياة الذين كانوا حولك؟ وإن كنا لا نعرف إن كان منهم من تأثروا من الموقف أم لا، لكن الرسول أكد أن الرؤيا كانت له شخصيًا، لقد رأوا النور ولم يميزوه، ولم يسمعوا الصوت الذي كلمه. ربما سمعوا صوتًا رهيبًا لكنهم لم يفسروا الكلمات، لأنه موجه لشاول الطرسوسي.
يرى القديس أمبروسيوس أن شاول الطرسوسي دون رفقائه سمع صوت الرب ودخل معه في الحوار لأنه كان في أعماقه مستعدًا لقبول الحق، ومشتاقًا إلى المعرفة. [جاء في أعمال الرسل أن بولس إذ سمع صوت المسيح تقبل دعوة النعمة، ومع وجود رفقاء كثيرين معه في ذات الرحلة وفي نفس الوقت هو وحده قيل عنه أنه سمع صوت المسيح. لهذا أيها العزيز القديس من يؤمن يسمع، ويسمع لكي يؤمن. أما من لا يؤمن فلا يسمع. بلى أنه لن يسمع، ولا يقدر أن يسمع لئلا يؤمن.]
ما أخشاه أن نكون ليس في رفقة شاول الطرسوسي، بل في رفقة موكب الكنيسة، ويتراءى الرب، لكننا لا نراه ولا نسمع صوته. فقد سمع الطفل صموئيل صوت الرب، ولم يسمع الكاهن عالي الصوت الإلهي، وهو في الهيكل.
“فقلت: ماذا أفعل يا رب؟
فقال لي الرب:
قم واذهب إلى دمشق،
وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل”. [10]
لم يقبل شاول الطرسوسي الإيمان في الحال، لكنه طلب مشورة السماوي، فقاده إلى الكنيسة لكي يتعرف على الحق. في المدينة التي كان يود أن يخرب كنيستها يصير هو تلميذًا ليتعلم الحق الإنجيلي.
“وإذ كنت لا أُبصر من أجل بهاء ذلك النور،
اقتادني بيدي الذين كانوا معي،
فجئت إلى دمشق”. [11]
لم تحتمل عيناه الجسديتان أن تنظرا بهاء نور السيد المسح فأصيبتا بالعمى، حتى تنفتح عين قلبه لرؤية المجد الداخلي.
- دعوته للشهادة
“ثم أن حنانيا رجلاً تقيًّا حسب الناموس،
ومشهودًا له من جميع اليهود السكان”. [12]
“أتى إليّ ووقف، وقال لي:
أيها الأخ شاول أبصرْ،
ففي تلك الساعة نظرت إليه”. [13]
“فقال: إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته،
وتبصر البار،
وتسمع صوتًا من فمه”. [14]
لقد اختاره إله الآباء لكي يتعرف على مشيئته الخاصة بخطة الخلاص، ويدرك رسالته، فيرى المسيح القدوس البار، ويتقبل من فمه الدعوة للرسولية.
“لأنك ستكون له شاهدًا لجميع الناس بما رأيت وسمعت”. [15]
كرسول مدعو من السيد المسيح يقدم شهادة حية عملية لما رآه وما سمعه، يشهد أن يسوع هو بالحقيقة المسيا المنتظر من الآباء والأنبياء، وقد جاء وتمم عمل الخلاص، فهو مخلص العالم.
v “لأنك ستكون لي شاهدًا لجميع الناس“، ليس فقط للأشخاص المحبين، بل ولغير المؤمنين، فإنه لهؤلاء تكون الشهادة، لا أن نحث العارفين، بل الذين لا يعرفون.
لنكن شهود موثوق فيهم. لكن كيف نكون موضع ثقة؟ بالحياة التى نسلكها.
لقد اعتدى اليهود عليه، ونحن تعتدي علينا أهواؤنا، فتأمرنا بالتخلي عن شهادتنا. لكن ليتنا لا نطيعها، فإننا شهود من عند الله… إنه يرسلنا لكي نشهد له.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الشهادة هي للقيامة، لا من جهة التعليم فقط بل ومن جهة الحياة.
“والآن لماذا تتوانى؟
قم واعتمد واغسل خطاياك،
داعيًا باسم الرب”. [16]
لم يسجل لنا الإنجيلي لوقا هذه الكلمات في الإصحاح التاسع حيث روى لنا قصة تحوله. فإن حنانيا لم يجد داعٍ لتأجيل العماد حتى يتمتع شاول الطرسوسي بالميلاد الجديد وغفران خطاياه.
v لقد نطق بأمرٍ عظيمٍ، إذ لم يقل: “قم واعتمد باسمه”، بل” داعيا باسم المسيح”. هذا يظهر أنه هو الله، فإنه لا يجوز أن يدعى بأي اسم آخر غير الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- رؤية في الهيكل
“وحدث لي بعدما رجعت إلى أورشليم،
وكنت أُصلّي في الهيكل أني حصلت في غيبة”. [17]
لم يكن هدف الرسول استعراض أعماله، بل الكشف عن عمل الله لحساب الخدمة، لهذا بعدما تحدث عن دور الله فى تحول شاول للإيمان لم يروِ لهم خدمته في دمشق وفي العربية (غل1: 17-18)، إنما روى لهم دعوة الرب له للعمل بين الأمم، وهو في داخل هيكل سليمان في أورشليم.
أوضح انه ترك أورشليم ليس خوفًا، ولكن بدعوة من الله وهو في الهيكل يصلي مع إخوته اليهود.
“فرأيته قائلاً لي:
أسرع وأخرج عاجلاً من أورشليم،
لأنهم لا يقبلون شهادتك عني”. [18]
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن بولس أشار إلى الرؤيا أنها كانت في الهيكل وهو يصلي، فكان في حالة يقظة، وأن الرؤيا ليست تخيلاً، كما أوضح أن خروجه من أورشليم لم يكن بدافع الخوف من المخاطر، إنما لعدم قبولهم الشهادة عن السيد المسيح.
إذ أتهم الرسول بأنه مدنس الهيكل، أراد تأكيد أنه تمتع برؤيا سماوية ودعوة لخدمة الأمم وهو في الهيكل.
“فقلت: يا رب هم يعلمون إني كنت أَحبس،
وأَضرب في كل مجمع،
الذين يؤمنون بك”. [19]
واضح أن الذي تراءى له في الهيكل اليهودي هو يسوع المسيح، وكان يود أن يبقى شاهدًا له بين اليهود، لأنهم يعرفون سيرته الماضية، وأن تحوله هو عمل إلهي. لم يكن يتوقع شاول الطرسوسي أن بني أمته يرفضون شهادته.
“وحين سفك دم إستفانوس شهيدك،
كنت أنا واقفًا وراضيًا بقتله،
وحافظًا ثياب الذين قتلوه”. [20]
وإن كان شاول لم يشترك فى الرجم، لكنه كان مع الراجمين بالروح، فقد قبل هذا الحكم برضى كامل.
“فقال لي: اذهب، فإني سأُرسلك إلى الأمم بعيدًا”. [21]
انطلاقه للخدمة بين الأمم كان بدعوة إلهية، وليس بخطة بشرية وضعها هو أو الرسل.
- محاولة قتله
“فسمعوا له حتى هذه الكلمة،
ثم رفعوا أصواتهم قائلين:
خذ مثل هذا من الأرض،
لأنه كان لا يجوز أن يعيش”. [22]
رفعوا أصواتهم وصاروا يصرخون حتى يقاطعوه في الحديث، ولا يسمحوا لأحد أن يسمع عن ضرورة الخدمة بين الأمم.
لقد صرخوا أنه غير مستحق أن يعيش على الأرض متطلعين إليه كوباءٍ مدمرٍ، ولم يدركوا أنه في سجل رجال الله الذين لم يكن العالم مستحقًا لهم (عب 11: 38).
ليس عجيبًا أن يشعر الرسول بأن ما يحل به هو تكميل آلام المسيح في جسده. لقد سمع الصوت الإلهي ينسب ما يحل بالمؤمنين إليه شخصيا: “أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده”. كما صرخت الجماهير: “خذه، خذه! أصلبه (يو 19: 15) هكذا صرخت بالنسبة لرسوله: “خذ مثل هذا من الأرض، لأنه كان لا يجوز أن يعيش”.
لقد أصغوا بكل انتباه حين تكلم معهم بالعبرانية، وحين شهد لظهور السيد المسيح له في الطريق، وكيف اختاره للشهادة له، أما أن يُعلن أنه يذهب إلى الأمم، فهذا ما لم يحتملوه، وحسبوه أنه ليس أهلاً أن يوجد على وجه الأرض، مع أن كل أنبياء العهد القديم تنبأوا عن عودة الأمم إلى الله. لم يكن ممكنًا لتشامخ اليهود أن يقبلوا دخول الأمم إلى الإيمان، فإنهم فى نظرهم نجسون.
v رأى الرسل أنفسهم الكلمة، ليس لأنّهم رأوا جسد ربّنا ومخلّصنا، وإنّما لأنّهم رأوا الكلمة. لو أن رؤية جسم الرب تعني كلمة اللَّه، لكان بيلاطس الذي حكم على رؤية يسوع قد رأى كلمة اللَّه، وهكذا أيضًا يهوذا الخائن، وكل الذين صرخوا: أصلبه، أصلبه، خذ مثل هذا من الأرض” (يو 19: 15؛ أع 22:22).
العلامة أوريجينوس
“وإذ كانوا يصيحون ويطرحون ثيابهم،
ويرمون غبارًا إلى الجو”. [23]
لم يشيروا إلى اتهامٍ معينٍ، لكنهم تصرفوا هكذا لكي يخيفوا الحاكم. كانوا يصيحون ويمزقون ثيابهم ويرمون غبارًا إلى الجو. كان تمزيق الثياب يسري على رؤساء الكهنة حين يسمعون تجديفًا على الله تبرأ من دم المجدف (مت 26: 65-66). أما إلقاء التراب في الهواء فوق رؤوسهم فتعبير عن ظلمٍ حلّ بهم، وأنهم يستغيثون بالسماء والأرض. هذا المنظر أثار الأمير، فأمر بفحصه داخل القلعة بضربات.
يرى البعض فى تمزيق الثياب تعبيرًا عما في داخلهم، أنهم يودون تمزيقه إربًا إربًا إن سقط بين أيديهم، أو لعلهم بهذا يعلنون أنهم مستعدون لرجمه.
“أمر الأمير أن يذهب به إلى المعسكر قائلاً:
أن يفحص بضربات،
ليعلم لأي سبب كانوا يصرخون عليه هكذا”. [24]
إذ كان القديس بولس يتحدث بالعبرانية ربما لم يفهم الأمير خطابه، كما أن هياج الشعب لم يعطه فرصة لدراسة الموقف، فأراد أن يتعرف على الجريمة باستخدام العنف مع الرسول بجلده فيعترف بما ارتكبه.
- روماني لا يُجلد
“فلما مدوه للسياط قال بولس لقائد المائة الواقف:
أيجوز لكم أن تجلدوا إنسانًا رومانيًا غير مقضي عليه”. [25]
لم يكن هذا الأجراء قانونيًا بالنسبة للمواطن الروماني. لقد استخدم الرسول هذا الامتياز قبلاً حين كان في فيلبي ولكن بعدما جلد (أع 16: 37)، أما هنا فاستخدمه قبل جلده. وقد تحدث مع قائد المائة بهدوء ولطف في غير غضبٍ ولا احتدادٍ. كان عند الرومان قانون يدعى lex Sempronia يعَّرض القاضي أو الحاكم الذي يؤدب أو يدين رومانيًا حرًا دون الاستماع إليه أن يسقط تحت الحكم بواسطة الشعب الغيور على حريته.
“فإذ سمع قائد المائة ذهب إلى الأمير وأخبره، قائلاً:
أنظر ماذا أنت مزمع أن تفعل،
لأن هذا الرجل روماني”. [26]
“فجاء الأمير وقال له:
قل لي، أنت روماني؟ فقال نعم”. [27]
“فأجاب الأمير: أمّا أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية.
فقال بولس: أمّا أنا فقد وُلدت فيها”. [28]
كانت الجنسية الرومانية تُمنح للشخص إما بميلاده من والدين رومانيين، أو تُشتري بالمال، أو تُمنح هبة من الحكومة الرومانية. ولعل والدا بولس اقتنيا الجنسية الرومانية هبة مقابل خدماتهما للدولة الرومانية. ويرى البعض أن طرسوس كمستعمرة رومانية كان لها حق الامتياز، فكل مواطنيها يحسبون كرومانيين لهم ذات امتياز الرومان. يقولAppian إن طرسوس نالت امتياز المدينة الحرة من أوغسطس قيصر، حيث وقفت معه في الحروب، وتحملت خسائر كثيرة لحسابه. ويرى البعض أن بولس نال هذا الامتياز لأن بعضًا من أسلافه قدموا خدمات عسكرية للدولة الرومانية.
“وللوقت تنحى عنه الذين كانوا مزمعين أن يفحصوه،
واختشى الأمير لمّا علم أنه روماني،
ولأنه قد قيّده”. [29]
ارتعب الأمير لأن في هذا مسئولية خطيرة عليه أمام روما. لقد سبق فظنه المصري المتمرد المثير للفتنة، لكنه دُهش إذ وجده يتحدث اليونانية (أع 21: 37)، وازدادت دهشته عندما عرف أنه روماني الجنسية، خاصة وأنها بالمولد، أي يُحسب كمن من أسرة شريفة في نظر روما.
يا للعجب! اختشى الأمير لما علم أنه روماني لأنه قيده. إنه قانون يُرعب القادة والولاة، أما ناموس الله فليس من يعطيه احترامًا ولا من يخشاه بسبب طول أناته!
“وفي الغد إذ كان يريد أن يعلم اليقين،
لماذا يشتكي اليهود عليه حله من الرباط،
وأمر أن يحضر رؤساء الكهنة وكل مجمعهم،
فأحدر بولس، وأقامه لديهم”. [30]
لقد حله الأمير من القيود حتى لا يكون كاسرًا للقانون الروماني، لكنه تركه في الحبس ربما خشية أن يتعرض له اليهود الثائرين ضده.
في الغد طلب الأمير أن يقف بولس الرسول أمام مجمع السنهدرين في حضور الأمير، ربما كان هدفه إطلاق سراح بولس الرسول تحقيقًا للعدالة.
وقف بولس الرسول أمام رؤساء الكهنة الذين قتلوا السيد المسيح يشهد لهم بالقيامة من الأموات. صار يتفرس فيهم، فقد عرفهم حق المعرفة، وتسلم منهم خطابات توصية لمقاومة المسيحيين، الآن يدعوهم لقبول الإيمان المسيحي.
من وحي أع 22
نور من السماء
v كان شاول في ظلمة الحرف القاتل،
وظن في نفسه أنه ابن للنور.
أضطهدك يا أيها النور الأزلي، وقاوم أبناء النور.
جدف على اسمك، ولم يدرك أنك القدوس السماوي.
v أشرقت عليه من السماء، فانهار أمام بهاء مجدك.
سقط كميت، وفقد بصره،
لكي تقيمه إنسانًا جديدًا ملتهبًا بالروح.
وتفتح بصيرته بروحك القدوس،
عوض العداوة صارت شاهدًا لك.
عوض المقاومة صار خادمًا للجميع!
v لم يستخف بالهيكل اليهودي، فتراءيت له هناك،
ودعوته ليقيم من الأمم هيكلاً سماويًا.
صارت قصة لقائك معه حجة قوية لدى بنى جنسه.
اشتهى أن يتمتع كل عبراني بما تمتع به،
وأن يصير إسرائيل كارزًا لكل الأمم.
هذا هو لهيب قلبه الذي لن ينطفئ.
ليس من شغب أو جلدات أو قيود ولا حتى الموت
أن ينزع هذه الأحاسيس المقدسة من قلبه
v لتشرق يا رب بنورك علينا،
فنحمل قلب بولس الناري!
سفر أعمال الرسل : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 –27 – 28
تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 –15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 –25 – 26 –27 – 28