تفسير إنجيل يوحنا ٣ للقمص أنطونيوس فكري

مقدمة الإصحاح الثالث

رأينا فيما سبق أن المسيح كلمة الله تجسد ليعطينا الفرح، بشرط أن نجاهد لنطهر أنفسنا، ولكن هل جهادنا يكفي؟ هنا نرى معلم يهودي من الفريسيين وهؤلاء مشهور عنهم جهادهم وتدقيقهم وإلتزامهم بالناموس. نجده يأتي للمسيح، ومن المؤكد أنه يبحث عن أعمال أخرى يرضي بها الله. وبدأ حديثه مع المسيح بالتحيات التي إعتاد اليهود إستعمالها مع بعضهم البعض “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه” (يو44:5) كما نادى الشاب السيد قائلاً “أيها المعلم الصالح”.

ونجد المسيح هو فاحص القلوب والكلي، لم يرد على تحية نيقوديموس بالتحيات، ولا أجابه عن إرشاده لمزيد من الأعمال ليعملها، بل فتح معه موضوعاً لم يفهمه نيقوديموس. وجدنا المسيح يتكلم عن لزوم الولادة الجديدة من الماء والروح، حتى يتجدد الإنسان تجديداً شاملاً ويصبح خليقة جديدة. فالمسيح لا يبحث عن وضع رقعة جديدة في ثوب عتيق، بل هو يريد أن يكون الكل جديداً (2كو17:5). فالمعمودية هي المدخل للحياة الجديدة بعد أن سمعنا عن خمر جديدة وهيكل جديد نسمع هنا عن ولادة جديدة. ومن أين تكتسب المعمودية قوتها؟ نجد المسيح يشرح هذا بفكرة أنه كما رفع موسى الحية النحاسية هكذا سيرفع إبن الإنسان على الصليب ويموت. والمعمودية هي موت مع المسيح وقيامة مع المسيح متحدين به (رو3:6-5). المعمودية هي نعمة من الله، ولكن كل نعمة نحصل عليها هي شئ قابل لأن يزداد بجهادنا أو يضمحل وينقص بتكاسلنا.

مثال: سر الميرون نحصل به على نعمة حلول الروح القدس فينا. ولكن نجد الرسول بولس يقول “إمتلئوا بالروح” (أف18:5). ويقول “إضرم موهبة الله التي فيك بوضع يدي” (2تي6:1). ولكنه يقول أيضاً “لا تطفئوا الروح” (1تي19:5). 

وهكذا في المعمودية: نحن نحصل على المقدرة على التغيير. ومن يجاهد تموت طبيعته القديمة تماماً ويحصل على طبيعة جديدة، إنسان داخلي جديد يشبه المسيح (غل19:4).

والمعمودية وجهادنا لا ينفعان شيئاً بدون إيمان، لذلك يضيف القديس يوحنا الآيات الأخيرة في الإصحاح ليشير لأهمية الإيمان. فالإيمان هو المدخل ثم المعمودية ثم جهادنا وتوبتنا لنثبت على ما حصلنا عليه ويستمر التغيير والتجديد. ومن يجاهد يعمل فيه الروح ليجدده (رو13:8) “بالروح تميتون أعمال الجسد”

والمسيح لم يكلم السامرية ولا الزانية عن المعمودية، فالخطية ظاهرة في حياتهم. إنما يكلم نيقوديموس ويدعوه للمعمودية والتجديد، فهو مملوء من البر الذاتي. لذلك على كل من يشعر فينا بأنه بار، عليه أن يقدم توبة سريعة ليتجدد ويتغير فهو مخدوع، فليس بار ليس ولا واحد. فلنقل أننا عبيد بطالون محتاجون للتغيير. ولاحظ أن المعمدان علم بأن المسيح سيأتي بمعمودية بالروح القدس ونار. ومن يولد من الروح سيكون له طبيعة جديدة (في محبته ووداعته..) تظهر فيه، إذ أن نتائج عمل الروح تكون واضحة دون أن يرى أحد الروح.

الإصحاح الثالث

 (مع نيقوديموس ليلاً)

  • يقرأ هذا الجزء يوم الجمعة السادسة من الصوم الكبير التي تسبق أحد التناصير مباشرة لما جاء فيه عن الميلاد من الماء والروح، وأهمية التجديد في حياتنا والتغيير لنصل إلى صورة المسيح (غل19:4).
  • رأينا في الإصحاح السابق الهدم والبناء للهيكل القديم أي موت الإنسان وقيامته، وهنا نرى سر التجديد والبناء للكنيسة كأفراد، فالهدم هو هدم الإنسان العتيق ثم قيامة الإنسان الجديد بالمعمودية من الماء والروح. فبالمعمودية نولد من جديد لندخل هيكل الله الجديد أي ملكوت الله. فللإنسان المسيحي ميلادين، أولهما جسدي به يكون إبناً لآدم وثانيهما من الماء والروح يصير به إبناً لله وللكنيسة. الميلاد الأول أرضي من رجل وامرأة والميلاد الثاني سماوي من الله والكنيسة. والتوبة هي صون للنعمة التي أخذناها بالمعمودية، التوبة تجدد عمل المعمودية في حياتنا لذلك يسمونها معمودية ثانية.
  • ونيقوديموس هو من رجال إسرائيل الكبار، عضو في السنهدريم ودارس كبير للناموس وهو آمن بالمسيح إذ رأى الآيات التي صنعها يسوع في أورشليم (2:3). وبحسب العقلية اليهودية، فهذا الفريسي الكبير الذي يؤمن بالبر الذاتي، كان ينتظر أن يسمع من المسيح عن ممارسات جديدة يزداد بها بره الشخصي (مر17:10). ولكن المسيح لم يكلمه عن تعديل في سلوك بل عن تغيير الطبيعة البشرية كلها. [المسيح كان يتكلم عن عمل الروح ونيقوديموس مصر على عمل الجسد (الولادة من بطن)] وبعد هذا الحديث نجد نيقوديموس يدافع عن المسيح أمام المجمع (50:7،51) ثم جاهر بإيمانه بعد موت المسيح (39:19).

 الآيات 1-13

آية (1): “كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود.”

رئيساً لليهود= أي عضو من السنهدريم. وفي (10) معلم إسرائيل= دكتوراه في الناموس اليهودي. وقد جاء في التلمود أن شخصاً إسمه نيقوديموس أحد أربعة من الأغنياء وأنه من أتباع المسيح.

 

آية (2): “هذا جاء إلى يسوع ليلاً وقال له يا معلم نعلم انك قد أتيت من الله معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه.”

جاء ليلاً= ويوحنا الإنجيلي يذكر هذه العبارة 3 مرات (50:7+39:19). فمجيئه ليلاً يكشف عن حذره وخوفه وأنه لا يريد أن يعرض مركزه للخطر، ويكشف عن كبريائه، فكيف يأتي هذا المعلم الكبير لنجار ليتعلم منه. ماذا يقال عنه لو عرف الفريسيون ما عمله. وهذا يعني أن الإيمان لم ينمو ليصبح إيمان حي بإبن الله كمخلص حقيقي، ودواء الخوف هو المسيح، والإيمان به. ومجيئه ليلاً يشير إلى أنه لم يعثر بعد على الإيمان والنور الإلهي (قارن مع يو30:13) في مفهوم القديس يوحنا كلمة ليلاً يشير للخطية والكبرياء والظلام في القلب. نعلم أنك أتيت من الله معلِّماً= هذه قد جاءت من معلم عظيم كنيقوديموس، لذلك ففي نظره أن المسيح له قيمة عظيمة.

نعلم= ليس المهم أن تعلم فقط بل أن تتغير. وقوله نعلم يشير إلى أن غيره من الفريسيين أعجبوا بأعمال المسيح وتعاليمه. رابي= هي إحدى درجات ثلاث وترتيبها راب/ رابي/ رابون. وتأتي من كلمة جذرها في العبرية يعني كبير أو عظيم. ومع كل هذا كانت معرفة نيقوديموس بالمسيح ناقصة، كان ينقصه إيمانه بأن المسيح هو إبن الله. إن لم يكن الله معه= (تك24:26+ قض12:6). فنفهم من هذا أن رأي نيقوديموس أن الله يعين المسيح، وبهذه المعونة يعمل أعماله الإعجازية.

 

آية (3): “أجاب يسوع وقال له الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.”

هنا المسيح لا يرد على كلام نيقوديموس بل على أفكاره (يو24:2) فنيقوديموس كان يسعى وراء معرفة يزدادها من المسيح. والمسيح كلمه عن إيمان يحتاجه، نيقوديموس يريد أن يبني على معلوماته القديمة معلومات جديدة يتباهى بها، والمسيح يقول بل هناك شئ جديد ينبغي أن يولد، هناك ولادة جديدة وليس مجرد إضافة. حتى ولا يكفي إعجابك بالمعجزات التي رأيتها.

الحق الحق= تفيد التوكيد، وأن ما سيقال هو شئ جديد أو غريب على أسماعهم، وهو شئ هام. يولد من فوق= أي من السماء (وتترجم يولد ثانية). وهذا حادث يتم للإنسان بقوة إلهية تفوق فهم الإنسان. وهي تعني أننا صرنا أولاداً لله، وذلك بإتحادنا بالمسيح الإبن. فنصلي “أبانا الذي في السموات”. يرى ملكوت الله= بهذه الولادة يتصل الإنسان بالوجود الفوقاني أي ملكوت الله، لأننا بخطية آدم فقدناها.

لا يقدر= حتى على التأمل في السماويات بسبب العجز الروحي الراجع للخطية. ملكوت الله= قالها يوحنا هنا وفي آية (5) ثم أصبح يطلق عليها الحياة الأبدية وهو يعني أن الله يملك على كنيسته بقوة منذ الآن ويتمم إرادته ومشيئته في أولاده الذين يملكونه على قلوبهم. ولكن ملكوته هذا سيستعلن بشكل جديد في الزمن الآتي حين يتلاشى الشر تماماً ونحيا في ميراث المجد العتيد. (هذا الفهم لملكوت الله لن يفهمه سوى المولود من فوق، أما اليهود فيطلبون ملكاً أرضياً).

 

آية (4): “قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد.”

لم يفهم نيقوديموس ما قاله المسيح وأعلن عن عجزه على الفهم. وكما أنه من الصعب أن يدخل الشيخ العجوز لبطن أمه، كان صعباً على نيقوديموس أن يتقبل فكرة الميلاد الثاني بعد أن قضي عمره لا يفهم سوى البر الذاتي. [المسيح يتكلم عن ملكوت الله كخليقة جديدة ونيقوديموس يصر على تكرار القديم (الولادة الجسدية)] المسيح لا يغير الظروف الخارجية بل هو يعيد تغيير الداخل ويخلقه جديداً.

 

 

آية (5): “أجاب يسوع الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.”

المسيح يشرح له أن الميلاد المقصود هو من الروح، ميلاد روحاني للنفس هو ميلاد غير منظور. يولد من= وترجمتها من داخل، أي يدخل الإنسان للماء ليخرج مولوداً جديداً من الروح. (والمقصود بالولادة من فوق هو الروح). والروح يقدس الماء في المعمودية ليكون لها قوة على الميلاد الثاني الروحاني. كما يقول القديس كيرلس الكبير.. الميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية سالفة وتقديس ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. لذلك يسبق المعمودية توبة وإعتراف فهي بداية جديدة. والمعمودية هي موت مع المسيح عن حياتنا السالفة لقبول حياة جديدة من عمل الروح القدس هي من حياة المسيح. والميلاد من الروح ومن الماء كان في ذلك الوقت ليس غريباً عن نيقوديموس، فكان المعمدان يقول هذا عن المسيح الذي سيعمد بالروح القدس ونار.

يدخل ملكوت الله= كما كان الختان شرط أن يكون الشخص من شعب الله في العهد القديم، هكذا في العهد الجديد فالمعمودية شرط لدخول ملكوت الله.

 

آية (6): “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح.”

بالمعمودية يتحول الإنسان من حياة قديمة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح. وما لا يستطيعه الجسد تستطيعه الروح. فأنت الآن يا نيقوديموس تتصور أنك لا يمكنك ترك شهواتك، هذا لأنك مولود من جسد. وبهذه الآية يشرح السيد لنيقوديموس أن الولادة الثانية ليست ولادة جسدية أي لا داعي لأن يدخل بطن أمه ثانية. ومن يولد من الجسد يموت، أما من يولد من الروح ويقوده الروح فله حياة أبدية فالمولود من الروح يقوده الروح حتى يصل به للسماء. من يولد من الجسد يشتهي العالم ومن يولد من الروح يشتهي الإلتصاق بالله، ويتخلى عن شهواته الجسدية.

 

آية (7): “لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق.”

فإذا كنت تريد أن تكون رجلاً روحياً ينبغي أن تولد من فوق. فإذا كنت قد جئت لي لتتعلم كيف ينبغي أن تحيا في ملكوت الله فلن ينفعك الأعمال الجسدية كلها فهي من الجسد. أولاً تولد من فوق ثم تعمل أعمالاً يعينك فيها الروح بعد ذلك لتتجدد يوماً فيوماً.

 

آية (8): “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح.”

السيد يشرح له أن الولادة من الروح لها قوة غير منظورة للتغيير، ويتغير الإنسان ويصير إنساناً جديداً. كمن ولد من جديد. في العبرية واليونانية كلمتي روح وريح هي كلمة واحدة، وكلمة تهب من نفس أصل كلمة ريح والمعنى أنه كما تتحرك أوراق الشجرة فنعرف أنها تعرضت لريح، هكذا المولود من الروح تظهر عليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة في كلامه وتصرفاته وفهمه ومحبته وحكمته..الخ. هذا هو التغيير بالروح (رو13:8) ولكن ذلك لكل من يجاهد فيعين الروح ضعفاته (رو26:8). وهذا أيضاً ما أسماه بولس الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2) أي إزالة الشهوات الخاطئة من داخل القلب كمن يقطعها بمشرط الختان.

 

آية (9): “أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا.”

يقصد نيقوديموس أنه كيف يتم هذا؟! وكان لا معنى لسؤاله فالمسيح أوضح له أنه ليس من عمل إنسان بل هو عمل فائق من الروح القدس.

 

آية (10): “أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا.”

هذا عتاب لكل معلمي اليهود في شخص نيقوديموس، الذين سمعوا بالتأكيد عن عمل الروح القدس وكيف أنه يجعل الشخص جديداً. وهذا حدث حتى مع شاول الملك. وكذلك نجد هذا في عدة أماكن (راجع 1صم1:10،6،9،10+ 1صم13:6.. وهذا ألا يعتبر كميلاد ثان للإنسان. وراجع (مز10:51).. وألا يعتبر هذا خلقاً جديداً. وراجع (حز19:11+ 31:18) بل أن حزقيال جمع عمل الماء والروح في الخلق الجديد (حز25:36،26-28+ 9:37-14) وراجع أيضاً (أش18:65،19+ 8:66،9). وعن عمل الروح القدس راجع (يؤ28:2،29)

 

آية (11): “الحق الحق أقول لك أننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا.”

المسيح يوبخ نيقوديموس أنه لا يفهم، أمّا المسيح فيعلم. والمسيح يتكلم هنا بصيغة الجمع وقد يقصد الثالوث فالآب يريد الإعلان والإبن والروح ينفذان والإبن لا يعمل شيئاً بدون الآب، أو هو وتلاميذه، أو هو والأنبياء الذين تنبأوا عن هذه الأيام. (ولاحظ أن التلاميذ سمعوا عن هذا من المعمدان). وبحسب الناموس فالشهادة تكون على فم اثنين. الرب يقول له إن هذا موضوع ليس للنقاش بل ستلاحظون وتدركون عمل الروح، ولكني أنا أخبرك به من الآن.

 

آية (12): “ان كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون أن قلت لكم السماويات.”

الأرضيات= أي الأمور السماوية مشروحة بطريقة أرضية ليفهمها الناس. السمويات= أي لو استعلنها المسيح على مستوى جوهرها السمائي والإلهي. والقول يشير إلى أنه إذا لم تفهم يا نيقوديموس الولادة من الماء والروح فهل ستفهم الأكل من جسد المسيح ودمه، أو قول المسيح أنه والآب واحد أو سر الثالوث القدوس. (وقد تكون الأرضيات هي مفاعيل المعمودية في المؤمن على الأرض أو أي أمور روحية تخص الحياة على الأرض والسمائيات هي الحياة في العالم الآخر والنصيب المعد لنا هناك.

 

آية (13): “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.”

سبق في آية (2) أن قال نيقوديموس “أنك أتيت من الله معلماً” والمسيح هنا يقول لا بل أنا أتيت من السماء، ولست معلماً كمعلمي اليهود. هنا المسيح بدأ يشرح السمويات لنيقوديموس بحسب ما يمكنه فهمه. وهو جاء ليعطي حياة أفضل للإنسان فيها يولد من فوق. ومع أن المسيح نزل من فوق إلا أنه سيصعد إلى فوق ومع هذا فهو بلاهوته لم يغادر السماء. هو السماوي نزل ليحملنا فيه للسماء، ولذلك قال “إثبتوا فيَّ” وهذه الآية تثبت لاهوته. صعد إلى السماء= أي يرى أسرار السماء وحده فلا أحد من البشر صعد للسماء ليعرف أسرارها. ولأنه من السماء فهو وحده الذي يعلم السمائيات وهو نزل من السماء ليعلن الأسرار لنا. ولذلك ينبغي أن تقبل شهادته. نزل من السماء= هذه تساوي “الكلمة صار جسداً” والآية تبدأ بحرف الواو. إذاً هي راجعة لما سبقها، أي لا أحد يعلم السماويات إلا من نزل من السماء، أنا السماوي. وأيضاً موضوع الولادة من فوق لم يتم إلاّ بنزولي من السماء.

 الآيات 14-17

الآيات (14،15): “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان.لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.”

رأينا في آية (13) التجسد وهنا نرى الفداء (وهنا المسيح يشرح السمويات برموز من العهد القديم). فالإنسان سقط بواسطة الحية التي إستطاعت أن تُسَرِّبْ الخطية القاتلة للإنسان. فالخطية مرتبطة بالحية. وجاءت الحيات المحرقة تفتك بالشعب (عد7:21) لتْصّوِّر عمل الخطية التي تفتك بالإنسان الخاطئ. أما الحية النحاسية فهي حية ميتة سمها مقتول وهي رمز للمسيح الذي تجسد في شبه جسد الخطية بل صار خطية لأجلنا لكنه بلا خطية. وحمل خطايانا في جسده ومات بها فقتل الخطية بالجسد. لهذا يقال أن المسيح أمات الموت ودان الخطية بالجسد أي حكم عليها حكماً مؤبداً بالعدم حينما مات بها ثم قام. والنظر للحية النحاسية هو رمز لمن يؤمن بالمسيح المصلوب الذي قام من الأموات ليقيم من يؤمن به من موت الخطية (1بط24:2). يرفع إبن الإنسان=أولاً على خشبة ثم صعوده. حياة أبدية= فهي حياة الله نفسه الذي لا يموت، الأبدي، أعطاها لنا في المعمودية. “لي الحياة هي المسيح” (في21:1) أعطاها لنا بصليبه وقيامته.

 

آية (16): “لأنه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.”

هنا المسيح يكرر لكي لا يهلك كل من يؤمن به= لكي يشرح لنيقوديموس أن الذي يعطي الحياة الأبدية ليس هو العمل بالناموس بل الإيمان. وما الذي دفع المسيح أن يتجسد ويصلب.. الإجابة هنا هي الحب. كل العالم= يهوداً وأمم. إبنه الوحيد= هذه تذكرنا بتقديم إبراهيم إبنه الوحيد محرقة. فإسحق كان رمزاً للمسيح. في آية (14) المسيح يقول عن نفسه “إبن الإنسان” وفي هذه الآية يقول “إبن الله” فهو إبن الله الذي صار إبناً للإنسان ليفدينا. أحب الله العالم= كانت آلام إبراهيم حين قدَّم إسحق ذبيحة تساوي تماماً آلام إسحق. فالله بهذه القصة شرح كيف أن آلام الآب كانت مساوية لآلام الابن، وأن درجة بذل الآب هي نفس درجة بذل الإبن. ولم يكن الله ليبذل إبنه الوحيد إلاّ لو كان الثمن الذي سيحصل عليه مساوياً لهذا. وكان ما حصل عليه الله الآب هو بنوة الإنسان لله بفداء المسيح، وهذه هي محبة الآب، الذي فرح بعودة أبنائه إليه. المسيح هنا يعلن محبة الآب لنا. أحب حتى بذل= محبة الله قوية إلى هذه الدرجة (رو32:8) أحب= (أغابي) وهي المحبة التي تعطي دون أن تطلب شيئاً. بذل= أعطى نفسه عطاء كاملاً لكي لا يهلك بسم الحية كل من يؤمن به. الحياة الأبدية= هي حياة المسيح وهي أبدية.

 

 

آية (17): “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم.”

يا نيقوديموس الخلاص الذي جئت لأقدمه يختلف عن الناموس، فالناموس الذي أنت متمسك به يدينك، بل يحكم عليك بالموت. وكانت تعاليم الربيين اليهود أن المسيا حين يأتي سيبيد الأمم ويسحقها. لكن المسيح هنا يقول أن هدفه هو خلاص الأمم بل العالم كله وليس دينونة العالم (إش10:52). فالمسيح في مجيئه الأول أتى ليخلص ولكنه في مجيئه الثاني سيأتي ليدين. فالشمس التي تضئ للناس هي نفسها تميت البعض من ضربة الشمس والماء الذي يحيي الناس، هناك من يغرق فيه ويموت.

 الآيات 18-21

آية (18): “الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.”

من يؤمن يخرج من دائرة الدينونة أما من يدان فهو يدان لأنه خرج من دائرة الحب. وهذا تفسير التناقض الظاهري بين “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم” (يو39:9)، “الله لم يرسل إبنه إلى العالم ليدين العالم” (يو17:3). فالمسيح أتى حقاً ليخلص ويجمع كل شعبه في جسد واحد بالمحبة، فمن يؤمن يدخل لهذا الجسد ويتمتع بالحب والنور والفرح وغفران الخطايا، التي حملها في جسده. ومن يرفض فهو الذي حكم على نفسه بالدينونة وأن يبقى في الظلمة الخارجية. وهذا تم التعبير عنه في قول سمعان الشيخ “ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل” (لو34:2). يؤمن= يؤمن + يعتمد + يحيا كما يحق لإنجيل المسيح. ومن رفض المسيح تبدأ دينونته على الأرض ليس بسبب خطاياه القديمة بل لرفضه المسيح الذي يغفر خطاياه.

(ولاحظ أن يوحنا يكتب سنة 100م بعد خراب الهيكل بثلاثين سنة وبهذا نفهم أن سبب خراب الأمة اليهودية عدم إيمانها). ولكن يوحنا يضع أملاً ورجاءً لكل إنسان أنه حين يؤمن إيمان حي عامل بالمحبة يقبله الله (يو36:12). ويحذر من عدم الإيمان (24:8). الإيمان هنا هو يناظر النظر إلى الحية النحاسية ليشفي الملدوغ. وأيضاً تركيز النظر على المسيح يشفي. كما ركز بطرس نظره على المسيح فسار فوق الأمواج.

 

آية (19): “وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم واحب الناس الظلمة اكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة.”

الدينونة هي القضاء. ولا يمكن أن ينعقد إلاّ بوجود أداة التمييز بين الخطأ والصواب للحكم بالعقاب أو البراءة. والقضاء أداته الوحيدة هي النور الإلهي الذي يفرق بين أعمال الظلمة وأعمال النور. فالمسيح جاء للعالم نوراً للعالم وهم الحق الإلهي. وكل ما ينحاز للنور فهذا يوضح أنه أحب النور ومن يرفضه يعلن أنه إختار الظلمة. والنور بهذا يصير هو أداة التفريق والتمييز وهو القاضي. لأن الذين يرفضون النور ينحازون إلى رئيس هذا العالم فيقعون تحت الدينونة والرفض (يو31:12). ربما كان لنا عذر في خطايانا لو لم يأت المسيح، لكنه أتى وظهر النور، وعرفنا الحق. فكل من ينحاز للشر يُدان. والدينونة تبدأ من هنا على الأرض في الضمير المتألم، أما من يؤمن بالمسيح يكون له سلام مع الله (رو1:5). أما غير المؤمن فهو لم يحصل على الحياة الأبدية ولا الشفاء الروحي ولا الخلاص ولا السلام، هو سبب لنفسه هذه الدينونة برفضه المسيح. أحب الناس الظلمة= أي تمسكوا بها (شهوات وضلالات فكرية..). هؤلاء فضلوا الخطية والشيطان على المسيح. يوحنا هنا يتكلم عن الغارقين في الشر، وليس عمن يخطئ عن ضعف. فالإستغراق في الشر يؤثر على قابلية الإنسان للتوبة وقبول النور. لأن أعمالهم كانت شريرة= أعماق نفوسهم صارت مصبوغة بالشر، الشيطان أصبح يسود على ضمائرهم. الاستمرار في الأعمال الشريرة يُوَلِّدْ عادات وإرتباطات تؤثر على حرية الإنسان فلا يستطيع أن يقترب من النور. ولكننا نرى نيقوديموس الذي أتى للمسيح ليلاً. وقد نما إيمانه وأتى للمسيح في النور ساعة الصلب. (يو39:19). ونسمع عن فيلسوف فرنسي ظل في حالة عداء للمسيح حتى لحظة موته فقال (أخيراً إنتصرت أيها الناصري المصلوب).

 

آية (20): “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله.”

السيئات= هنا هي الأعمال البطالة الحقيرة (العادات الخاطئة والأفعال الخاطئة أي السلوك الأخلاقي) هذه تؤثر على الضمير فيبغض النور. وهذه خطورتها في أنها تجعل الإنسان يهرب من النور ويبغض الدعوة إليه خشية أن توبخ أعماله من أحبائه أو أصدقائه المخلصين إليه (رؤ19:3+ أف12:5-14). هذا مثل العين المريضة تبغض النور وتهرب منه.

 

آية (21): “وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله انها بالله معمولة.”

يفعل الحق= أي يمارسه، فالحق فعل وليس مجرد كلام، بل هو حياة ومن يحيا في الحق يحيا في النور. ومن له فكر روحي وبصيرة مفتوحة يرى الحق فينفذه. وعرض أعمال البر خطر أو الكلام عنها أمام الناس فهذا يؤدي للوقوع في خطية البر الذاتي والإعتداد بالنفس. ونلاحظ أن المسيح يقول هنا عن الأعمال الصالحة أنها بالله معمولة= فالله هو صاحب العمل الصالح حقيقة. هو الذي يعطي قوة لهذا العمل والهدف تمجيد إسم الله. ومن يفهم هذا لن يقع في البر الذاتي، بل لن يتكلم عن نفسه (1كو7:4+ يع17:1). بل “أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني” (في13:4). يفعل الحق= أي غير منغمس في الشهوات. مثل هذا حين ظهر المسيح آمن به= يقبل إلى النور. هذا مثل من تابوا على يد المعمدان إكتشفوا المسيح. وقيل عن غاندي رجل المبادئ أنه قال (كيف ينام المسيحيين ولهم إله صنع لهم كل هذا) وقبل عن طاغور شاعر الهند أنه قال (أحب المسيح) فمن يعمل الحق ويحبه يكتشف المسيح بسهولة. فغاندي وطاغور رجلي المبادئ سهل عليهم إكتشاف شخص المسيح فأحبوه.

 

الآيات (22-36): (المعمدان يكمل شهادته)

الآيات (13-25): “وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى ارض اليهودية ومكث معهم هناك وكان يعمد. وكان يوحنا أيضاً يعمد في عين نون بقرب ساليم لأنه كان هناك مياه كثيرة وكانوا يأتون ويعتمدون. لأنه لم يكن يوحنا قد القي بعد في السجن. وحدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير. فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه. أجاب يوحنا وقال لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أعطى من السماء. انتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه. من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من اجل صوت العريس إذاً فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا انقص. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو ارضي ومن الأرض يتكلم الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق. لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح. الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله.”

(آية22): كان حديث المسيح مع نيقوديموس في أورشليم. وأتى المسيح مع تلاميذه إلى أرض اليهودية= أي ريف وأرض خلاء باليهودية شرق جبال أورشليم على ضفاف نهر الأردن حيث مكث المسيح مدَّة مع تلاميذه. وكان يُعَمِّدْ= وفي (مر15:1+ يو1:4-3) أن المسيح لم يكن يعمد بل تلاميذه!! وأن المسيح كان يكرز بالتوبة. والقديس أغسطينوس يقول إن المسيح عمّد تلاميذه أولاً ثم كلفهم بأن يعمدوا الناس وإكتفى هو بالتعليم (مر15:1). ويكمل أغسطينوس وذهبي الفم أن معمودية التلاميذ في ذلك الحين لم تكن معمودية سرائرية حسب ما يصنع الآن فالروح القدس لم يكن قد حلّ عليهم بعد.

وهناك ثلاث معموديات قد مورست:

1)  أ- معمودية يوحنا: كانت إغتسالاً للجسد كله بالماء. وكان هذا عند اليهود يعني التطهير “إنضح علىّ بزوفاك فأطهر. إغسلني فأبيض..” + (حز25:36+ لا16:15+4:16). وكان هناك في خيمة الاجتماع مرحضة للإغتسال. وكان يوحنا يعمدهم إعلاناً وعلامة على توبتهم ورمزاً لنعمة الخلاص الآتي (مت11:3).

 ب- معمودية التلاميذ للجموع قبل حلول الروح القدس على التلاميذ. هذه في شكلها شبيهة بمعمودية يوحنا وكانت للتطهير وينقصها حلول الروح القدس.

 وكلا المعموديتين (أ،ب) هدفهما التوبة، والمعمودية رمز وإعلان لذلك. وهدف ذلك أن التائب تنفتح عيناه فيعرف المسيح.

2)  أما المسيح نفسه فقد عمد تلاميذه معمودية حقيقية ولذلك عند غسله لقدمي بطرس قال له الذي إغتسل ليس له حاجة إلا لغسل رجليه بل هو طاهر كله. إذاً معمودية المسيح لهم كانت حقيقية ولكن فعلها مؤجلاً لحين حلول الروح القدس عليهم. هذا يشبه شيك حصلت عليه ولكن مكتوب على ظهره يصرف يوم كذا، فأنا حصلت على حقي لكن لن أحصل على المال إلاّ في اليوم المحدد. والتلاميذ حين عمدهم المسيح حصلوا على حقهم في مفاعيل المعمودية، لكن هذا تم يوم حلول الروح القدس.

3)  المعمودية الثالثة هي ما يصنع الآن في الكنيسة ومارسه التلاميذ بعد حلول الروح القدس عليهم. وهي معمودية للتطهير وكاملة الفعل وتتم بالروح القدس (راجع أع5:19)

ولإيضاح الفارق بين المعموديات الثلاث نسوق المثل التالي: (وهو للمتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف السابق):-

دخل إنسان إلى بيت فوجد 3 آلات تليفونية.

  1. الآلة الأولى لها شكل التليفون ولكنها لعبة أطفال (المعمودية الأولى ليوحنا).
  2. الآلة الثانية هي تليفون حقيقي ولكن لم تصل له حرارة (معمودية المسيح للتلاميذ قبل حلول الروح القدس).
  3. الآلة الثالثة هي تليفون حقيقي به حرارة (هي المعمودية الحالية).

إذاً قوله وكان يُعمِّد:- أنه هو عمد تلاميذه، وتلاميذه عمدوا الجموع، مثلما صنع هو معجزة الخمس خبزات وأعطى لتلاميذه ليوزعوا.

وهذه الآية هنا هي مقدمة للحديث عن حديث المعمدان الأخير لتكميل شهادته عن المسيح. وبعد هذا= في الزمان أو بعد أن إنتقلوا إلى مكان آخر.

 

(آية23): مياه كثيرة= فالمعمودية تتم بالتغطيس ولذلك تحتاج لمياه كثيرة. ونرى هنا المعمدان مازال يمارس وظيفته في الإعداد بالتوبة لملكوت الله كسابق للمسيح. وربما ترك المعمدان مكانه الذي كان يعمد فيه أولاً ليبعد عن هيرودس أنتيباس بسبب العداوة التي نشأت بسبب هجومه عليه وتوبيخه علناً. عين نون= غرب نهر الأردن في البراري الواقعة على ضفافه على الحدود بين اليهودية والسامرة. ولكن بدأ العدد الذي يذهب للمعمدان يتناقص، إذ بدأ كثيرون يذهبون للمسيح (آية26) لذلك قال المعمدان ينبغي أن هذا يزيد وأنا أنقص (30:3).

 

(آية24): في (مر14:1،15) نرى أن المسيح بدا خدمته في الجليل بعد أن أُسْلِمْ يوحنا. ومن هذه الآية نرى أن المسيح بدأ خدمته قبل أن يُسْلَمْ المعمدان. وقد بدأ المسيح خدمته أولاً في اليهودية.

(الآيات 25،26): وجود المسيح يعمد مع وجود يوحنا أنشأ نوعاً من المنافسة والمباحثات بين تلاميذ المعمدان واليهود المعمدين أو بين تلاميذ المسيح. فالمسيح يعلم أن الخلاص يكون بالميلاد من فوق بواسطة الروح القدس لنكون خليقة جديدة. والمعمدان يعلم أن المعمودية هي توبة فقط، وحين إحتدمت المناقشة أتى تلاميذ المعمدان له ليسألوه، فهم تصوروا أن المعمدان هو المسيا ومعموديته هي الخلاص، وهكذا كانوا يشرحون لليهود. وفي هذا نرى أن تلاميذ المعمدان لم يفهموا شهادة معلمهم بأن الذي يأتي بعده هو أقوى منه. هوذا الذي كان معك= هذه تشير لأنهم يفهمون أن هناك تساوي بين المسيح ويوحنا. بل هم يقولون للمعمدان يامعلم. وفي إستخفاف لا يذكرون اسم المسيح. الذي أنت قد شهدت له= بهذا كان تلاميذ يوحنا يريدون أن يثيروه ضد المسيح ولكنه لم يستجب لهم. فهم يذكرونه بأنه صنع معه إحساناً إذ شهد له وربما تصوروا أنه كأحد تلاميذه أي مساو لهم في تلمذته للمعمدان. ومعنى كلامهم أن المسيح بدأ يظهر كمنافس للمعمدان، أو كمتعدٍ على وظيفة معلمهم. وتلاميذ يوحنا المعمدان الذين لم يتبعوا المسيح كونوا جماعة تشيعت له وظنت أنه المسيح وظلوا لقرون طويلة يقاومون المسيحية. وللآن يظن بعضا الخدام أن خادماً أخر صار منافساً له. هذا يطلب مجده هو لا مجد المسيح. الجميع يأتون إليه= بالعامية هذه تساوي “إنت راحت عليك”. هو يعمد= أخذ عملك.

 

(آية27): يضع المعمدان هنا مبادئ هامة. فيقرر أن كل معلم لا يأخذ إلاّ ما أعطته له السماء. وعلى كل واحد أن يؤدي رسالته في حدودها المعينة له من السماء. وهذا الرد ينهي روح المنافسة بينه وبين المسيح في نظر تلاميذه، بل أنه هو فرح إذ أن الناس بدأت تتبع المسيح. لا يأخذ أحد شيئاً..= هذا مبدأ عام (سواء لي أو للمسيح).

 

(آية28): المعمدان يذكرهم بأقواله السابقة وشهادته السابقة عن المسيح للفريسيين (يو19:1-28). ومن المؤكد هو قال هذا لتلاميذه.

 

(آية29): تصوير المسيح أنه العريس، هذا جاء في الأنبياء (هو19:2-21+ حز8:19+ إش1:54-10). والمعمدان كنبي تنبأ عن المسيح بفرح إذ أن نبوته قد تحققت ورأى تحقيقها بعينيه. وعند اليهود كان صديق العريس يعد كل شئ للعريس وللفرح، وحينما ينتهي الفرح بنجاح وبدون مشاكل يفرح الصديق إذ أن مهمته قد نجحت. وكان هذا عمل المعمدان، إعداد الناس كعروس للمسيح العريس الحقيقي. أما لو أخذ صديق العريس العروس لصار مغتصباً.

 

(آية30): إنتهى دور الأنبياء بظهور الذين تنبأوا عنه، فإذا ظهرت الشمس (المسيح) ينتهي عمل المصابيح (المعمدان). لقد برهن المعمدان أنه بروحانيته هو أعظم من الإثارة. وعلىّ أن أقول ينبغي أن يتمجد المسيح ويزداد وأن ذاتي تنقص. ويزداد المسيح فيًّ وأنقص أنا وأتضع.

 

(آية31): المعمدان هو قائل هذا الكلام وحتى نهاية الإصحاح. حسب رأي الآباء ومنهم ذهبي الفم وأغسطينوس. الذي من فوق= فهو رأى الروح نازلاً ومستقراً عليه، وهو شهد أنه إبن الله، فهو يعلم من أين أتى المسيح، وبالتالي فهو فوق الجميع علماً وتأثيراً وكرامة ومجداً. الذي من الأرض= هنا المعمدان يقارن نفسه بالمسيح.

 

(آية32): هنا المعمدان يتكلم بالروح عن المسيح وشهادة المسيح لنفسه ولرسالته. ولأن رسالة المسيح سماوية لم يفهمها كثير من الناس ولم يقبلوها. هذه نبوة عن رفض اليهود للمسيح. ورسالة المسيح سماوية فهو يشهد بما رآه وسمعه (قارن مع آية11:3). رآه وسمعه= تعبير بشري عن تطابق فكر الآب والإبن فهو غير منفصل عن الآب، الإبن هو الحق ذاته.

 

(آية33): جرت العادة عند اليهود أن الشاهد يضع ختمه تصديقاً على الشهادة التي نطق بها. والمسيح هو الشاهد لله، الذي يتكلم بكلام الله ويختم بصدق الله. وكل من يقبل المسيح يكون كمن قبل كل الحق من الله. ففيه تكمل كل مواعيد الله الصادقة غير الكاذبة (26:8). وقد تعني الآية أن الذي يقبل المسيح يجد فيه ختماً لكل النبوات والمواعيد التي قالها الله على فم أنبيائه. عموماً من يقبل شهادة المسيح وتعاليمه فقد صدق الله فالمسيح هو الله، هو كلمة الله الذي يعلن للناس كلام أبيه.

 

(آية34): الله أرسل المسيح الذي تعترضون أنتم عليه، محملاً بآيات وكلام الحياة، كلام الله نفسه. والله كان يعطي الأنبياء الروح بمقياس ومكيال أي بقدر معين. وعلى قدر ما يحتمل كل نبي وبقدر ما يحتمل السامعين، أما للمسيح فبلا كيل وبلا مقياس فهو له ملء الروح، ونحن نأخذ من ملئه (يو16:1). والناس تذهب إلى المسيح لأن كلامه هو كلام الله. ولا أحد يستطيع أن يتكلم في الإلهيات إلاّ بالروح القدس.

 

(آية35): المعمدان كان هو أول من أعلن حقيقة أن المسيح هو إبن الله (يو34:1) بعد ما رآه يوم المعمودية.

دفع كل شئ في يده= إذاً سلطان الآب= سلطان الإبن.

الآب يحب الإبن= “هذا هو إبني الحبيب” هذا ما سمعه يوحنا المعمدان. والحب هو لغة الثالوث فالله محبة والإبن هو المحبوب (1يو16:4+ أف6:1). وهذا سر آخر كشف للمعمدان.

 

(آية36): هذه تتطابق مع شهادة موسى عن المسيا النبي المنتظر (تث19:18+ أع22:3،23). ونلاحظ أن شهادة المعمدان هنا تتطابق مع ما قاله المسيح لنيقوديموس. فالروح هو الذي أوحى للمعمدان بما قاله، والمسيح أشاد بشهادة المعمدان عنه (يو33:5-36). لن يرى حياة= حياة أبدية طبعاً. يمكث عليه غضب الله= يخيم عليه غضب الله، أي يقاسي من غضب الله. وهذه الآية تشير لأن من يحجب الله وجهه عنه بسبب عدم إيمانه بالمسيح يصير بلا بركة. هذه الآية في هذا الإصحاح تشير لطريق الخلاص [1] الصليب [2] الإيمان [3] المعمودية.

وفي آية (3:4) نجد المسيح يذهب للجليل ليبعد تلاميذه عن هذه المباحثات مع تلاميذ المعمدان وليبعدهم عن روح المنافسة. ولاحظ فهناك مجالات كثيرة للخدمة. ويوحنا المعمدان استمر يعمد حتى لا يثار تلاميذه من المسيح لكنه ظل يشهد لعظمة المسيح ليحول تلاميذه للمسيح.

بهذه الكلمات والتعاليم كان يوحنا المعمدان يحول تلاميذه للمسيح لتكون لهم حياة أبدية. فالإيمان بالمسيح هو فقط طريق الحياة الأبدية.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 2 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 4
تفسير العهد الجديد

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى