تفسير سفر دانيال ١ للقمص تادرس يعقوب

الباب الأول

الجانب التاريخي

[ص 1- ص 6]

 

في هذا القسم يُقدِّم لنا روح الله القدُّوس صورة حيَّة للإيمان العملي في حياة دانيال ورفقائه في بابل، في ظل حكم الملوك نبوخذنصر وبيلشاصر، وداريوس، وكورش.

 

<<

 


 

الأصحاح الأول

متغرِّبون في القصر

سُبيّ يهوذا على ثلاث مراحل، وكانت هذه الفترة حتى نهاية السبيّ من أشد العصور ظلمة على الشعب، فقد عاش في مذلَّة، متغرِّبًا عن بلده، محرومًا من عبادته الجماعيَّة في الهيكل، فاقدًا كل كرامة في أعين الأمم. لكن وسط الظلمة وُجد هؤلاء الفتيان الصغار – دانيال ورفقاؤه الثلاثة – كأضواء لامعة، يهتم الله بهم، ويستخدمهم لحساب ملكوته ليس في جيلهم فحسب وإنَّما عبر الأجيال، بكونهم شهودًا للحق والإخلاص.

  1. الفتيان في السبيّ                 [1-4].
  2. اختيارهم لخدمة الملك            [5-7].
  3. رفضهم أطايب الملك              [8-14].
  4. نتائج الاختبار                     [15-16].
  5. تمتُّعهم بالحكمة والفهم           [17].
  6. تفوُّقهم على كل المجوس         [18-21].
  7. الفتيان في السبيّ:

يُفتتح السفر بالتلميح عن سبيّ يهوذا الأول في السنة الثالثة من مُلك يهوياقيم، أي حوالي سنة 605 ق.م على يديّ نبوخذنصر ملك بابل، حيث حاصر أورشليم وأذلَّ ملكها (2 مل 24: 1، إر 22: 19). فأخذ بعض آنية بيت الرب وجاء بها إلى شنعار ليضعها في خزانة بيت إلهه.

“في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم ملك يهوذا ذهب نبوخذنصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها” [1].

جاء هنا أن السبيّ تمّ في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم (دا 1: 1)، بينما جاء في (إر 25: 1) أنه في السنة الرابعة من ملكه، ذلك لأن الآشوريِّين والبابليِّين يعتبرون السنة ابتداء من السنة الجديدة بعد تولىّ الملك العرش، بينما في يهوذا يعتبرونها من بدء السنة التي في خلالها تم ارتقاؤه العرش، لذا يأتي الحساب الآشوري والبابلي أزيد عامًا عن اليهودي[44].

يرى البعض أن الفعل “ذهب” في (دا 1: 1) في العبريَّة يمكن أن يعني بدء خروج نبوخذنصر على رأس الحملة لمقاومة نخو ملك مصر في معركة كركميش، بينما ما ورد في إرميا يُشير إلى وصوله إلى أورشليم.

نبوخذنصر أو “نبوخذراصر”: اسم بابلي يعني “نبو حامي الحدود“، أو “أيُّها الإله نبو احرس الحدود” أو “يا نبو احرس الخلافة”. أمَّا “نبو” فمعناه “نبأ” أو “إذاعة”، وهو إله العلم والمعرفة عند البابليِّين[45]. والد نبوخذنصر هو نبوبلاسر مؤسِّس الدولة البابليَّة الحديثة سنة 625 ق.م ومحطم الإمبراطوريَّة الآشوريَّة، أرسل ابنه لمحاربة نخو فرعون مصر فغلبه عام 605 ق.م في معركة كركميش (2 مل 24: 7؛ إر 46: 2)، ثم جاء إلى أورشليم وحاصرها، وسبى بعض سكانها، من بينهم دانيال ورفاقه. إذ سمع بموت والده عاد إلى بابل ليستلم المُلك. يلاحظ هنا أن النص لم يذكر نبوخذنصر كملك لبابل أثناء حصاره أورشليم، إنَّما يُدعى ملك بابل من باب ما تمَّ بعد ذلك. أو لأنه كان ملكًا شريكًا لأبيه في الحكم، ثم انفرد بالحكم بعد موت أبيه. يرى بيروسيوس[46] Berosus أنه عندما كان نبوبلاسر قد تقدم في العمر وعاجزًا عن القيادة، أعطى قيادة الجيوش لابنه نبوخذنصر. لقد حكم كشريك لوالده على الأقل لمدة سنتين.

أخبار نبوخذنصر موجودة في أسفار الملوك وأخبار الأيام وعزرا ونحميا وإرميا ودانيال، وقد جاءت آثاره في بابل وغيرها تتَّفق مع ما ورد في الكتاب المقدَّس.

“وسلَّم الرب بيده يهوياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله،

فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه،

وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه” [2].

تمت عملية السبيّ البابلي ليهوذا على ثلاث مراح.

  1. الترحيل الأول: عام 606 ق.م. أو 605 ق.م بعد معركة كركميش التي فيها غلب نبوخذنصر فرعون مصر نخو، فاتجه إلى أورشليم. فيه سبي دانيال وأصدقاؤه، وفيه أخذ نبوخذنضر بعض آنية بيت الرب ووضعها في هيكل البعل ببابل، وترك للملك يهوياقيم على العرش كتابعٍ له، يخضع لسلطانه.
  2. الترحيل الثاني: حوالي عام 598 ق.م. أو 597 ق.م بعد ثمان سنوات من سبيّ دانيال، فيه سُبي حزقيال. تم هذا السبيّ عندما ثار ملكا يهوذا يهوياقيم ويهوياكين على نبوخذنصر، فجاء الملك وأخذ بقية أواني الهيكل وكنوزه وسبيّ الملك يهوياقيم ومعه 000,10 أسيرًا من الإشراف ورجال الجيش والصناع والمهرة، ولم يترك في يهوذا سوى مساكين الشعب (حز 1: 1-3؛ 2 أي 36: 10؛ 2 مل 24: 8-20).
  3. الترحيل الأخير عام 588 ق.م. أو 587 ق.م، فيه جاء الملك للمرة الثالثة ليُعاقب صدقيا الملك على تمرده “وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء وأحرقها بالنار” (2 مل 25: 9)، كما قتل أبناء صدقيا آخر ملوك يهوذا وقلع عيني الملك نفسه وقاده إلى بابل مقيدًا بالسلاسل، وهكذا تم خراب أورشليم والهيكل وتحطم المجتمع اليهودي (2 مل 25: 1-7؛ إر 34: 1-7).

كل هذا تم تحقيقًا للنبوة (إر 1: 25-4؛ 2 أي 36: 14-21)، كتأديب جماعي بسبب انحراف الشعب وإصراره على العبادة الوثنية برجاساتها، وعدم حفظ السنوات السبتية، ومقاومتهم لصوت الله خلال الأنبياء.

تم السبيّ الأول في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم بحسب التقويم البابلي الذي يتجاهل الجزء الأول من السنة، ولم يتحقّق هذا بسبب بسالة نبوخذنصر ولا خطته العسكرية المحكمة ولا لحسن حظه أو مصادفة، وإنما بسماحٍ إلهيٍ لتأديب شعبه. هذا ما أكَّده دانيال النبي.

v     حقيقة تسجيل هزيمة يهوياقيم تظهر أن النصرة كانت بإرادة الله وليس بسبب قدرة أعدائه[47].

القدِّيس جيروم

لم يسلِّم الله ملك يهوذا فحسب بل وسلَّم بيته وأوانيه المقدسة لتُحمل بيدٍ وثنية إلى هيكل وثني في شنعار. هذا ليس كسرًا لوعد الله لإبراهيم ونسله، ولما جاء في المزمور: “لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا أسكن لأنيّ اشتهيتها” (مز 123: 14)، إذ وضع شرطًا: “إن حفظ بنوك عهدي وشهاداتي التي أعلمهم إياها” (مز 123: 12).

لأجل إثارتنا للتوبة والرجوع إليه بالطاعة لله مستعد أن يسلِّم هيكله وأوانيه المقدَّسة في أيدٍ وثنية، لكي يجتذبنا إليه بكوننا هيكله، الحجارة الحيَّة، والأواني المقدسة التي نصيبها السماء‍.

أرض شنعار: اسم قديم لمنطقة بابل حيث سهل دورًا وأيضًا البرج الذي حاول المهاجرون القادمون من الشرق أن يبنوه إلى السماء، وإذ حدثت بلبلة دُعيت هذه المنطقة “بابل” التي تُعني “بلبلة” أو “ارتباكًا”.

يُقدم لنا القدِّيس جيروم تفسيرًا رمزيًا لنقل نبوخذنصر بعض أواني الله قائلاً:

[يلزم أن نلاحظ بالتفسير الروحي anagogen أنه لم يكن ممكنًا لملك بابل أن ينقل كل أواني الله، ويضعها في بيت الوثن الذي بناه بنفسه، إنما ينقل فقط جزءًا من الأواني من بيت الله. نفهم هذه الأواني أنها تعاليم الحق. فإنك إن درست كل أعمال الفلاسفة تجد بالضرورة فيها نصيبًا من أواني الله. فتجد على سبيل المثال في أفلاطون أن الله هو صانع المسكونة، وفي زينون رئيس الرواقيِّين أنه يوجد سكان في الأماكن الجهنمية وأن النفوس خالدة، وأن الكرامة هي الأمر الصالح الوحيد. لكن لأن الفلاسفة يخلطون الحق بالخطأ، ويفسدون الطبيعة الصالحة بشرور كثيرة، لذلك قيل أنهم سبوا نصيبًا من أواني بيت الله وليس جميعها في تمامها وكمالها[48]].

هذا الفكر قدمه القدِّيس أكليمنضس السكندري بقوة، واقتبسه تلميذه العلامة أوريجينوس.

“وأمر الملك أشفنز رئيس خصيانه بأن يُحضر من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء، فتيانًا لا عيب فيهم، حسان المنظر، حاذقين في كل حكمة، وعارفين معرفة، وذوي فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم” [3-4].

يزعم بعض النقاد المتحررين أنه لم يرد اسم اشفنز في سجلات بابل القديمة، وأن هذه الشخصية غير تاريخية. لكن فيما بعد اكتشف أحد علماء الآشوريات هذا الاسم على لوح طيني في خرائب بابل، وهو محفوظ الآن في المتحف البريطاني[49].

أقام الملك معهدًا في قصره تحت إشراف اشفنز. ربما كان هذا المعهد يضم أقسامًا كثيرة، من بينها قسم خاص بأبناء أشراف اليهود لتقدم لهم دراسة تناسب ثقافتهم ولغتهم. أما إقامة هذا المعهد لتخريج رجالٍ حكماء يعاونون الملك فيكشف عن حكمة الملك واتساع أُفقه وجديته. أما عن اختياره بعض الفتيان من نسل ملوك اليهود وأشرافهم فكان ذلك لعدة أسباب منها شعوره الدائم بالرجل الغالب الذي يحمل فتيان الملوك والإشراف لا ليذلهم ويعذبهم، بل لخدمة قصره وتدبير شئون الدولة. ومن جانب آخر فإنه بهذا يدفع هؤلاء الفتيان بما لهم من مواهب على الخضوع له وعدم التفكير في الثورة ضده لحساب بلدهم. كما يُعطي هذا شيئًا من الراحة النفسية لعامة اليهود أنه يوجد في القصر من يُمثلهم.

اتسم هؤلاء الفتيان بالآتي:

* شرف النسب.

* جمال الجسد وقوته.

* حذاقة في الحكمة.

* أصحاب معرفة.

* قادرون على تقديم العلم للغير.

* قادرون على الوقوف في القصر، أي على تحويل الحكمة والمعرفة والفهم إلى عملٍ يمارسونه خلال حياتهم اليومية.

مع ما لديهم من شرف وصحة جسدية وحكمة ومعرفة وخبرة أراد الملك أن يتمتعوا بثقافة بلده ولغتها لينتزعهم من انتمائهم لبني جنسهم ويربطهم ببلده. في حكمة لم يحطم ما قد وُهبوا به ولا حقر من شأنهم، بل أراد تحويل طاقاتهم لحساب قصره الملوكي.

يُقصد بكتابة الكلدانيين تعلم لغتهم وأدبهم وكل ثقافتهم بالمفهوم الواسع مثل الفلك والرياضيات والشرائع مع السحر وتفسير الأحلام الخ. كما تدرب موسى على حكمة المصريين، هكذا تدرب دانيال ورفقاؤه على حكمة الكلدانيين.

  1. اختيارهم لخدمة الملك:

“وعيَّن لهم الملك وظيفة كل يوم بيومه من أطايب الملك ومن خمر مشروبه لتربيتهم ثلاث سنين وعند نهايتها يقفون أمام الملك.

وكان بينهم من بني يهوذا دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا.

فجعل لهم رئيس الخصيان أسماء، فسمى دانيال بلطشاصر، وحننيا شدرخ، وميشائيل ميشخ، وعزريا عبدنغو” [5-7].

واضح أن نبوخذنصر حمل بعض السمات اللآئقة به كملك، إذ اختار شبابًا نبيلاً يتدرب على كتابة الكلدانيين على نفقة القصر الملكي، بل ويأكلون من أطايب الملك، لا ليقفوا أمامه فحسب، يفتخر بجمالهم وحسن منظرهم، إنّما ليكونوا له مشيرين، يسندونه في تدبير أمور الدولة المتشعبة، ولم يحتقرهم لأنهم من جنسيات أجنبية. نستطيع أن نقول أنه في هذا الأمر كان سابقًا لعصره بعشرات القرون. أنه ليس كالملك أحشويرش (المذكور في سفر استير) الذي عين رجالاً لاختيار فتيات لإشباع شهواته، إنما اختار شبابًا لخدمة المجتمع.

لماذا عيَّن لهم الملك أن يأكلوا من أطايبه؟

في شيء من الخبث أمر الملك بذلك، ففيما يحمل مظهر الملك الكريم في معاملاته بالمسبيين، يدخل بهم إلى حياة الترف التي تنزع عنهم روح الثورة ضده لحساب بني جنسهم. فإن كان بالقوة سباهم من بلدهم، فبالترف أراد نزع انتمائهم إلى بلدهم. وكأنه أراد تحطيم يهوذا بالعنف كما باللطف، مستخدمًا كل وسيلة لهدمهم. أما تحديد مدة التدريب بثلاث سنوات بعدها يقفون أمام الملك، فإن رقم 3 تُشير إلى القيامة. فالسيد المسيح بقيامته قدم لنا سرّ الرقم 3 ليهبنا حياته المُقامة، ويرفعنا من الترف إلى السماء. ونبوخذنصر قدم لهؤلاء الفتية سرّ الرقم 3، ليُقيمهم لا إلى السماء بل إلى بابل. فيموتوا عن وطنهم ليحيوا بفكر جديد كلداني.

كانت أسماء الأربعة الذين من سبط يهوذا تُذكرهم بانتسابهم لله إلههم ومعيته أو وجودهم في حضرته.

  • فدانيال معناه “الله ديانيّ”.
  • وحنانيا “يهوه حنان أو مترفق”.
  • وميشائيل أو ميخائيل معناه “من مثل الله”، أو الذي يتشبه بالله.
  • وعزاريا معناه “من يعينه يهوه”.

يبدو هنا اهتمام آباء هؤلاء الشبان بخلاص نفوسهم بكل وسيلة حتى خلال أسمائهم ليدركوا ارتباطهم بالرب. وكما جاء في سفر الأمثال: “ربِ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه” (أم  22: 6).

أراد رئيس الخصيان أن يقطع هؤلاء الشبان عن كل صلة بماضيهم وثقافتهم وديانتهم فأعطاهم أسماء جديدة تربطهم بالآلهة الكلدانية الرئيسية، أي البعل، والإله الشمس، وإلهة الجمال والأرض، وإلهة النار.

أ. دعي دانيال “بلطشاصر”، ومعناه “الأمير الخاص بالبعل “Bel’s prince. كان البعل هو الإله الرئيسي الذي يتعبد له البابليون.

ب. دُعي حنانيا “شدرخ”، ومعناه “مُوحى به بإله الشمس”.

ج. دُعي ميشائيل “ميشخ”، معناه “من قبل شَخ Shak. إذ تعبد البابليون للإلهة فينوس تحت هذا اللقب، وهي إلهة الجمال والأرض.

د. دُعي عزريا “عبدنغو”؛ معناه “عبد النار المتألقة”.

ليس بالأمر العجيب أن يقوم الملك بتغيير أسمائهم كما أراد تغيير لغتهم وثقافتهم، فهكذا فعل فرعون أيضًا مع يوسف (تك 41)، لكن أحدًا منهما لم يستطع أن يُغيِّر قلوبهم أو أفكارهم عن الرب وعن شعبه ومقادسه. أما السيد المسيح إذ غيَّر اسم سمعان إلى بطرس (مر 3)، وابنيّ زبدي إلى ابنيّ الرعد… جدد أعماقهم لتتناسب مع رسالتهم السماوية التي أعدهم لها.

حمل دانيال ثلاثة أسماء:

أ. دُعي بالعبرانية دانيال، لأن العبرانيين رأوا فيه الله الذي يُدين شرّ الوثنيين.

ب. دُعي بالكلدانية بلطشاصر، لأن الكلدانيين أو البابليين رأوا فيه قوة خفية فائقة، فحسبوه الأمير الخاص بالإله الأعظم “بعل”.

ج. دُعي بلغة السماء والملائكة: “الرجل المحبوب” (10: 11، 19؛ 9: 23).

  1. رفضهم أطايب الملك:

“أما دانيال فجعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه،

فطلب من رئيس الخصيان أن لا يتنجس.

وأعطى الله دانيال نعمة ورحمة عند رئيس الخصيان” [8-9].

إذ كان دانيال أمينًا مع الله أعطاه الرب نعمة في عينيّ رئيس الخصيان، وكما يقول المرتل: “وأعطاهم نعمة قدام الذين سبوهم” (مز 106: 46). كما قسَّى الله قلب فرعون ليتمجد في خلاص شعبه، أعطى لُطفًا في قلب رئيس الخصيان ليتمجد الله في دانيال ورفقائه. هكذا يُعطينا طمأنينة لكي نعمل لحساب ذاك الذي يُحرك قلوب من حولنا سواء بالسماح لهم أن يُمارسوا عنفهم أو بتغييرها إلى اللطف  فتعمل كل الأمور لخيرنا.

v     ذاك الذي أُخذ في السبيّ بسبب خطايا أسلافه تمتع بمكافأة فورية من أجل عظم فضائله. لأنه وضع في قلبه إلاَّ يتنجس بطعام من مائدة الملك، وفضَّل غذاءً متضعًا عن الأطايب، لهذا وهبه الرب منحة سخية، إذ نال نعمة ورحمة في عيني رئيس الخصيان. بهذا يمكننا أن نفهم أنه حتى في الظروف القاسية يُحبْ القديسون بواسطة غير المؤمنين، هذا من قبيل مراحم الله وليس من أجل صلاح الفاسدي[50].

القدِّيس جيروم

“فقال رئيس الخصيان لدانيال:

إنيِّ أخاف سيدي الملك الذي عيَّن طعامكم وشرابكم.

فلماذا يرى وجوهكم أخزل من الفتيان الذين من جيلكم فتديِّنون رأسي للملك؟!

فقال دانيال لرئيس السقاة الذي ولاَّه رئيس الخصيان على دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا:

جرِّب عبيدك عشرة أيام فليعطونا القطاني لنأكل وماء لنشرب.

ولينظروا إلى مناظرنا أمامك، وإلى مناظر الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك، ثم اصنع بعبيدك كما ترى.

فسمع لهم هذا الكلام وجربهم عشرة أيام” [10-14].

كان دانيال الشاب يعيش في أرض غريبة (أرض السبيّ)، وكان يمكنه أن ينتحل الأعذار لعدم الصوم. كان دانيال في وسط مشجع على الخطية، لأنه كان في قصر الملك. وكان لزامًا عليه أن يأكل كل يوم من أطايب الملك وخمر مشروبه.

كان يمارس الصوم حتى وهو في سن الشيخوخة (ص 10)، فكأن قلب دانيال لم يشخ.

ويلاحظ في صوم دانيال النبي:

أ. يمارس دانيال النبي صومه لا بمجرد امتناعه عن الطعام فحسب، إنما قيل: “فجعل في قلبه[8]. فالحياة الروحية هي تمتع بكنزٍ داخلي. “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك” (مت 6: 21). هكذا تبدأ الحياة الروحية الصادقة من أعماق القلب، حتى متى حلَّت ساعة التجربة يستطيع المؤمن بالنعمة الإلهية العاملة فيه أن يُقاوم وينتصر، حاملاً قوة الإرادة المقدسة فيه. من جانب آخر لم يقف الأمر عند حدود القلب، لكنه حول ما في قلبه إلى عمل. فالعبادة تبدأ بالأعماق لكنها تُترجم أيضًا عمليًا، فيشترك الجسد مع النفس، والعمل مع الفكر، ويُمارس الإنسان حياته الروحية بكل كيانه الخفي والظاهر.

ب. طلب من رئيس الخصيان إلاَّ يتنجس. يُحسب هذا الطلب من المستحيلات بالنسبة لرئيس الخصيان، لأن تكلفته هي رقبته بلا تفاهم.

آمن دانيال أن الله إله المستحيلات يعمل في قلب هذا الرجل الوثني مادام الأمر يخص قدسية حياته ونقاوتها. لقد غيرَّ رئيس الخصيان أسماءهم، لكنه كان عاجزًا عن تغيير قلوبهم، وطبيعتهم المقدسة في الرب.

لقد حسب دانيال أطايب الملك نجاسة، لماذا؟

  • لأن اخوته محرومون من الحياة المترفة، فكيف يعيش في القصر في حياة ترف وغيره محتاج؟!
  • لأن ما يُقدم على المائدة قد يحوي أطعمة محرمة حسب الشريعة الموسوية، مثل المخنوق ولحوم بعض الحيوانات المحرمة،وهي غير المشقوقة الظلف والتي لا تجتر. وإن كانت بلاشك تقدم أنواعًا كثيرة من اللحوم على مائدة الملك، ويمكن لدانيال ورفقائه أن يختاروا اللحوم المُحللة.
  • خشي هؤلاء الشبان المسبيون أن تلهيهم أطايب الملك عن معرفة وضعهم الحقيقي كمسبيين. أنهم لا يطلبون مائدة الملك بل حريتهم هم وشعبهم. لن تستقر قلوبهم في قصر غريب، بل يشتهون العودة إلى وطنهم. بلاشك كان دانيال ورفقاءه يئنون في داخلهم من أجل ما حلَّ بالشعب والهيكل والمدينة المقدسة، فأرادوا البقاء في حالة مرارة داخلية حتى يترفق الله بهم ويرد السبيّ.
  • خشي دانيال من المشتركين في المائدة كمدمنين للخمر، فرفض الخمر تمامًا، وقد قيل: “للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج: لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تُظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة” (أم 23: 30-31). ولعل دانيال كان يحسب نفسه نذيرًا للرب لا يشرب خمرًا أو مسكرًا (عد 6: 2-3). وقد مُنع الكهنة من استخدامه قبل خدمة الهيكل (لا 10: 1-9)، كما حُرم الملوك من استخدامه (أم 31: 4-5). وكما سبق فرأينا أن هؤلاء الفتية كانوا في مرارة داخلية من أجل السبيّ، فكيف يشربون الخمر علامة الفرح؟! أنهم امتنعوا عنه حتى يرد الله سبيهم.

يقول القدِّيس هيبوليتس الروماني: [مباركون هم هؤلاء الذين يحفظون عهد آبائهم ولا يعصون الناموس المُعطى بواسطة موسى، بل يخافون الله الذي أُعلن بواسطته. هؤلاء مع كونهم مسبيين في بلاد غريبة لم تغْرِهم اللحوم الشهية، ولا صاروا عبيدًا لملذَّات الخمر، ولا أمسك بهم إغراء مجد الأمراء؛ بل حفظوا أفواههم مقدسة وطاهرة، وسبحوا بهذه الأفواه الآب السماوي[51]].

v     من لم يرد أن يأكل أو يشرب من مائدة الملك وخمره لئلاَّ يتدنس (خاصة إن كان يدرك أن حكمة البابليين وتعليمهم خاطئة) لن يقبل أن يتفوه بما هو خاطئ[52].

القدِّيس جيروم

دخل دانيال في حوار فيه شجاعة وجرأة مع دالة ولطف وبروح الاتضاع لا البرّ الذاتي. وكأن الحياة الدينية الحقة هي ممارسة الاعتدال، فلا يعيش الإنسان خانعًا في مذلةٍ ولا أيضًا عنيفًا لا يحترم الغير، أو متشامخًا كمن هو أبرّ منهم.

اتسم دانيال في حواره بالحكمة والوقار مع إيمان أن الذي يُحرك قلبه وقلب الغير هو الله. وكأن يلزمنا أن نضع عنصرًا خفيًا في الحوار وهو “تدخل الله لخيرنا الروحي”، فواضح من [9]، أن ثمرة الحوار ونتائجه لم تكن من فعل شخصية دانيال وحدها، إنما هو نعمة قدمها الله بمراحمه له في عينيّ رئيس الخصيان. فإن قلوب المتولين علينا – حتى إن كانوا غير مؤمنين أو قساة – هي في يد الله، يحركها لحسابنا. “قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يُميله” (أم 21: 1).

الله نفسه يريدنا أن نحاوره، كما دخل معه إبراهيم وموسى وداود وغيرهم في حوارٍ معه.

ج. صام دانيال وأصدقاؤه عشرة أيام بجدية وتعبوا، فأعطاهم الله عشرة أضعاف. أعطاهم منظرًا حسنًا وصاروا أسمن من كل الفتيان. ما تم معهم لم يكن طبيعيًا إنَّما هو هبة من الله. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (تث 8: 3).

v     لقد علموا أنه ليس اللحم الأرضي هو الذي يهب الناس جمالاً وقوة، إنما نعمة الله التي يمنحها الكلمة[53].

القدِّيس هيبوليتس الروماني

أعطاهم معرفة وعقلاً وحكمة، فالصوم الروحي المعتدل لا يضعف العقل بل يسنده ويقيمه وينميه.

د. يُقدم لنا هذا السفر صورة حيَّة عن صوم دانيال الذي كان يكتفي بالبقول (القطاني [12])، ممتنعًا عن أكل اللحوم (دا 10: 3) كما امتنع عن كل ترف من شرب الخمر ومن المسح بالدهن (10: 3). مارس المرتل الصوم بنفس الكيفية، إذ يقول: “ركبتايْ ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل من أكل الزيوت” (مز 109: 24). هذا ويُصاحب الصوم عن الأكل التوبة والندامة (10: 2).

v     كان إيمانه عظيمًا للغاية فأنه ليس فقط وعد أنه سيكون في صحة الجسد بأكله الطعام المتضع، بل وحدد زمنًا لذلك. لم يكن ذلك تهورًا منه بل موضوع إيمان. بهذا الإيمان احتقر الطعام الفاخر الذي للملك[54].

القدِّيس جيروم

  1. نتائج الاختبار:

“وعند نهاية العشرة الأيام ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن لحمًا من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك.

فكان رئيس السقاة يرفع أطايبهم وخمر مشروبهم ويعطيهم قطاني” [15-16].

لا نعرف عدد الشبان الذين اختيروا لخدمة الملك ومعاونته في عمله. بلاشك كانوا كثيرين، لكننا لا نعرف بالاسم إلاَّ دانيال وأصدقاءه الثلاثة. فإذ كانوا جادين في أمانتهم لله في كل شيء بالرغم من الظروف القاسية، وخاضعين لإرادتهم مهما كلفهم الأمر، استحقوا تسجيل أسمائهم في الكتاب المقدس، ونقشها في سفر الحياة الأبدية.

  1. تمتعهم بالحكمة والفهم:

“أما هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة وكان دانيال فهيمًا بكل الرؤى والأحلام” [17].

لقد تمم الله وعده مع مؤمنيه: “إنيِّ أُكرم الذين يكرمونني” (1 صم 2: 30).

v     لاحظ أنه قيل بأن الله يُعطي الفتيان القديسين معرفة وعلمًا في الأدب العلماني، في كل كتاب أو فرع من فروع الحكمة[55].

القدِّيس جيروم

لقد ميَّز الله دانيال لا عن بقية الشعب فقط ولكن حتى عن زملائه القديسين لكي يُهيئه لتحقيق عملٍ نبويٍ هامٍ. يرى القدِّيس جيروم أن الله أعطى الأربعة فتيان حكمة ومعرفة، لكنه أضاف إلى دانيال فهم الرؤى والأحلام، فما يراه الآخرون في مظهرٍ كظلٍ يمكنه أن يدرك بوضوح بعينيّ الفهم[56]. هكذا وهب الله الأربع فتية معرفة وعقلاً مع حكمة في الأدب الكلداني والسلوك، لكن دانيال تميَّز عن زملائه بروح النبوة إذ وهبه الله فهمًا للرؤى والأحلام، للكشف عن إرادة الله وخطته. لقد حرَّم الله استخدام السحر بدعوى معرفة المستقبل (تث 18: 10)، لكنه لا يبخل عن كشف بعض الجوانب من المستقبل لأنبيائه لبنيان شعبه ومجد اسمه القدوس.

  1. تفوقهم على كل المجوس:

“وعند نهاية الأيام التي قال الملك أن يُدخلوهم بعدها أتى بهم رئيس الخصيان إلى أمام نبوخذنصر.

وكلمهم الملك فلم يوجد بينهم كلهم مثل دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا.

فوقفوا أمام الملك.

وفي كل أمر حكمة فهم الذي سألهم عنه الملك وجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته” [18-20].

ما كان يمكن للملك أن يختبر هؤلاء الشبان لو لم يكن هو نفسه حكيمًا وذا معرفة وثقافة عالية. لقد سُرَّ الملك بهم لأنه لم يحضرهم إلى القصر للتسلية بقصصٍ وأحاديث باطلة أو مداعبات لطيفة، إنما لمعاونته بروح الحكمة والجدية.

لقد تمجد الله في عبيده المسبيِّين، فقد فاقوا كل زملائهم الكلدانيين الذين كانوا يفتخرون أنهم أصحاب حكمة بالميلاد حاسبين غيرهم برابرة جهلاء. الآن يعترف ملكهم أن حكمتهم كلا شيء أمام فيض نعمة الله.

“وكان دانيال إلى السنة الأولى لكورش الملك” [21].

لا يعني هذا أن دانيال لم يبقَ سوى إلى السنة الأولى لكورش الملك، إنما أراد هنا تأكيد معاصرة دانيال لمدة السبيّ حتى نهايتها، إذ في هذه السنة رجع اليهود إلى أورشليم.

 


 

من وحي دانيال 1

في قصر بابل

v   ليحملني العدو إلى قصر بابل،

لكنَّه لا يقدر أن يحدر نفسي من السماء!

ليُقدم ليّ كل الأطايب والملذات،

لكنه لن ينتزعني من المائدة السماوية!

بل أتمتع بخبز الملائكة!

v   هب ليّ أن أصوم عن محبة العالم،

فتهبني بركة لجسدي ونفسي وعقلي.

تسندني بحكمتك السماوية،

وتكشف ليّ أسرارك الفائقة!

v   كما كنت مع دانيال في قصر غربته،

رافقني بنعمتك أينما وُجدت!

تهبني نجاحًا في كل عمل تمتد إليه يديّ!

فاصل

سفر دانيال: 1234567891011121314

تفسير سفر دانيال: مقدمة123456789101112 

زر الذهاب إلى الأعلى