تفسير سفر العدد ٢٠ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح العشرون

ماء مريبة

قدم الرب شريعة التطهير لمن مسّ ميتًا أو عظامًا أو قبرًا، ثم عاد يحدثنا عن موت مريم وموت هرون، ولعله بهذا أراد أن يحذِّر الشعب لئلا بسبب محبتهم لمريم وهرون وتقديرهم لهما يلمسان جثمانهما أو قبرهما دون أن يتطهرا في اليوم الثالث واليوم السابع. كما تحدث عن ماء مريبة ليكشف عن ضعفات الإنسان ليس على مستوى الشعب فحسب بل وعلى مستوى موسى العظيم في الأنبياء وهرون رئيس الكهنة. وقد شمل هذا الأصحاح:

  1. موت مريم                                     1.
  2. ماء مريبة                                     2-13.
  3. رفض أدوم عبورهم                            14-21.
  4. موت هرون                                    22-29.
  5. موت مريم:

إذ جاء الشعب إلى بريّة صين أي بريّة “التجربة” وأقاموا في قادش أو الموضع المقدس يقول الكتاب: “وماتت هناك مريم ودفنت هناك” [1]. هذا هو كل ما سجله الكتاب المقدس عن نهاية حياة مريم النبيّة والمرنمة، قائدة الشعب في التسبيح (خر 15)، إنها ماتت هناك، ودفنت هناك. حقًا لقد ماتت في بريّة صين حيث كان موتها بالنسبة للشعب تجربة قاسية ومُرَّة، فقد تعلقت نسوة كثيرات بها، لكنها ماتت في قادش، أي في الموضع المقدس لتستريح من جهادها وأتعابها خلال الدخول إلى المقادس الإلهيّة.

لم يسجل لنا الكتاب المقدس شيئًا عن مشاعر موسى النبي نحو مفارقة أخته له، هذه التي رافقته كل هذه الرحلة، خاصة وأنه بعد فترة قليلة يخلع موسى بيديه ثياب الكهنوت عن أخيه هرون على جبل هور ليلبسها لابنه ألِعازار ويموت هرون هناك. وأيضًا لم يسجل لنا الكتاب شيئًا عن مشاعره نحو رفيقه في الخدمة واحتماله تذمرات الشعب ضدهما. كان الشيخ الوقور موسى النبي يرجو قيامة الراقدين لهذا لم يضطرب لموت أخته وأخيه بل بالحري كان يحزن ويئن داخليًا ويسقط على وجهه كلما تذمر الشعب (ع 6) وتعرض لغضب الله وتأديباته. إنه لا يحزن على فراق الجسد بل بالحري يحترق مع كل نفس تتعرض للموت بحرمانها من الله مصدر حياتها.

  1. ماء مريبة:

إذ لم يجد الشعب ماءً، لم يطلبوا بل تذمروا مشتهين الموت ولو بالوباء خلال السقوط تحت غضب كما حدث لإخوتهم قبلاً (16: 49)، قائلين لموسى وهرون: “ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب لماذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البريّة لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب” [3-5]. إذ ضاقت نفسا موسى وهرون، “سقطا على وجهيهما، فتراءى لهما مجد الرب” [6]. مع كل ضيقة يتضعان فيعلن الرب أمجاده لهما، ويحل مشاكلها الرعويّة. ففي هذه المرة طلب الرب منهما أن يكلما الصخرة أمام أعين الشعب فتعطي ماءها بينما يمسك موسى بالعصا. لكن موسى عِوَض أن يكلِّم الصخرة ضربها مرتين بالعصا، بعد أن قال هو وهرون للشعب: “اسمعوا أيها المردة: أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً” [10]. فخرج ماء غزير فشربت الجماعة ومواشيها (ع 11).

تطلع الآباء[149] إلى الصخرة التي أفاضت مياه تروي العطاشى أنها المعموديّة التي تفجرت خلال العصا، أي خلال ذبيحة الصليب فَرَوَتْ ظمأ البشريّة وأشبعت احتياجاتها. يرى القدِّيس بولس أن هذه الصخرة التي تابعتهم هي السيد المسيح (1 كو 10: 4)، فإن كانت العصا هي الصليب، فخلال السيد المسيح المصلوب تقدَّست ينابيع المعموديّة.

ويرى القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص في هذه الصخرة المتفجرة سرّ التوبة التي تحسب معموديّة ثانية، فإذ تذمر الشعب وتعرَّض للهلاك احتاج إلى مياه الصخرة أو التوبة حتى لا يهلك. يقول القدِّيس: [إذ فقد الشعب رجاءه في الأمور الصالحة الموعود بها وهو في طريق البريّة سقط في العطش. مرة أخرى جعل موسى الماء يفيض لهم في البريّة. هذا الأمر يفهم سريًا إذ يعلمنا ما هو سرّ التوبة. فإن الذين يرتدون إلى المعدة (شهوة الأكل) والجسد والملذات المصرية بعدما ذاقوا الصخرة مرة يحرمون من شركة الأمور الصالحة. هؤلاء بالتوبة يجدون الصخرة التي أهملوها فينفتح لهم ينبوع ماء ويرثون. لقد أعطت الصخرة ماءً لموسى الذي آمن في صدق يشوع وليس في مقاوميه (من الجواسيس). نظر موسى إلى عنقود العنب الذي عُلِّق لأجلنا وسفك الدم، وبواسطة الخشبة أعد الماء لكي يتفجر من الصخرة مرة أخرى[150]]. وقد أراد القدِّيس أن يؤكد حاجتنا إلى التوبة خلال إيماننا بدم السيد المسيح الذي يكفر عن خطايانا، فننعم بينابيع فيض خلال الصخرة التي أهملناها، أي المسيح الذي أسأنا إليه بسقطاتنا.

يُعلِّق القدِّيس إمبروسيوس على هذا العمل الإلهي قائلاً: [أليس صالحًا ذاك الذي بأمره جعل البحار تحت أقدامهم أرضًا صلبة إذ هربت المياه، والصخور تعطي ماءً للعطاشى! فقد ظهرت أعمال الخالق الحقيقي عندما صير السائل صلبًا والصخرة ماءً يتبخر؟ لنفهم أن هذا عمل المسيح كقول الرسول: الصخرة هي المسيح[151] (1 كو 10: 4)].

ويُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على الصخرة التي ضُربت مرتين هكذا: [لقد أطفأ ظمأنا بواسطة الصخرة التي في البريّة، لأن “الصخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 4)… وقد ضُربت بالعصا مرتين لكي تفيض ماءً، لأن للصليب عارضتان. إذن كل هذه الأمور صُنعت كرمز وقد أعلنا لنا[152]].

في عتاب “قال الرب لموسى وهرون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها” [12]. لقد حُرم الاثنان من قيادة الشعب إلى داخل أرض الموعد لأنهما لم يقدسا الرب أمام الشعب. يرى القدِّيس أغسطينوس[153] أن موسى قد حمل شكًا في البداية عند ضرب الصخرة، إذ قال مع هرون “أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً؟” [10]، وقد جاء في المزمور: “وأسخطوه على ماء مريبة حتى تأذى موسى بسببهم، لأنهم أمَرُّوا روحه حتى فَرَطَ بشفتيه” (مز 106: 32-33). ويرى البعض أن الرب قال لهما: “كلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها” [7]، ولم يقل لهما أن تُضرب الصخرة بالعصا.

لعل غضب الله على موسى وهرون كان بسبب ضرب الصخرة مرتين، فإن السيد قد صُلب مرة واحدة بإرادته لخلاص البشريّة متقبلاً الآلام بفرح، كقول الرسول “من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” (عب 12: 2). أما الضربة الثانية فتحزن قلبه لأنها رمز للصلب مرة ثانية خلال ارتداد المؤمن عن حياة التجديد التي صارت له، إذ يقول ذات الرسول “إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه” (عب 6: 6).

على أي الأحوال سقط موسى وأخوه هرون تحت التأديب ولم يكن كل ماضي موسى النبي المجيد أن يشفع له، وكأن الله يقدم لخدام الكنيسة خاصة من نال رتبة سامية التحذير، فإن أعمالهم مهما كانت عظيمة وقويّة لن تشفع لهم في سقطاتهم. يُعلِّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الأمر في كتابه الرابع من الكهنوت قائلاً: [كان موسى، هذا القدِّيس، أبعد ما يكون عن التمسك بقيادة اليهود حتى توسل إلى الله أن يعفيه منها عندما أمره بقبولها (خر 4)، بل أثار غضب الله عليه الذي عينه للعمل. لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حتى بعد استلامه الرئاسة اشتهى الموت للتخلص منها، قائلاً: “إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً” (عد 11: 15). ماذا إذن؟ هل شفع فيه هذا الرفض المتكرر عندما أخطأ بخصوص ماء الخصومة؟ هل استطاع هذا أن يمنحه العفو؟ لماذا إذن حُرم من أرض الموعد[154]؟].

  1. رفض أدوم عبورهم:

الأدوميّون هم نسل أدوم أو عيسو (تك 36: 19)، غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو، حيث اغتصب الأول البكوريّة منه… لهذا كثيرًا ما تحالف بنو أدوم مع أمم أخرى ضد إسرائيل، وفي أيام السبي إذ خربت يهوذا استغل أدوم الموقف وجعل من أراضي يهوذا مرعى لحيواناتهم. وقد سبق لنا الحديث عن أدوم في تفسيرنا لسفر حزقيال[155].

لقد أرسل موسى النبي إلى ملك أدوم يطلب إليه في لطف وبروح الأخوة التي تربطهما كشعبين من أخوين يعقوب وعيسو، قائلاً له: “هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا. إن آباءنا انحدروا إلى مصر وأقمنا في مصر أيامًا كثيرة وأساء المصريون إلينا وإلى آبائنا. فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكًا وأخرجنا من مصر، وها نحن في قادش مدينة في طرف تخومك. دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل ولا في كرم ولا نشرب ماء بئر، في طريق الملك نمشي، لا نميل يمينًا ولا يسارًا حتى نتجاوز تخومك” [14-17]. في حديثه هذا تحدث معه بروح الأخوة مظهرًا له أنهما ينتسبان أصلاً إلى دم واحد، كأنما يؤكد له أن كل أخ يحتاج إلى أخيه، ويتكلم بروح الاتضاع موضحًا له أنه قد تألم هو وآبائه بواسطة فرعون مصر، وأيضًا بروح الإيمان أن الله يسنده، وأخيرًا بروح الطاعة له أن يسلك في طريق يحدده الملك لا ينحرف عنه يمينًا أو يسارًا. ومع هذا كله إذ كان أدوم يسمع عن أخبار هذا الشعب تذكر البركة التي نالها يعقوب مغتصبًا إياها في مكر من عيسو فخاف منه مظهرًا كل عداوة!

قلنا أن أدوم تعني “دموي” أو “سافك دم” فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إنه محب للقتال بطبعه.

لقد ملك أدوم على القلوب فصارت أرضه، لا يسمح لمملكة الله أن تعبر فيها، لكن السيد المسيح دخل أرض أدوم الحقيقي- الشيطان- بعد أن ربطه وحطمه بالصليب، فاتحًا في القلب طريقًا ملوكيًا يعبر فيه الموكب السماوي، موكب الغلبة والنصرة. تتحول طاقات الإنسان ومواهبه وكل إمكانياته إلى موكب يسلك الطريق الملوكي يمشي دومًا نحو أورشليم العُليا لا يميل بضربة يمينيّة (البرّ الذاتي) ولا بضربة يساريّة (الشهوات) حتى يتجاوز حدود الزمان ويدخل الأبديّة. بالمسيح يسوع طرد أدوم من قلوبنا حيث كان يملك وانفتح الطريق الإنجيلي الحق في داخلنا.

يرى القدِّيس إكليمندس الإسكندري[156] أن هذا الطريق الملوكي هو طريق الإنسان الذي يحيا بالبرّ ليس عن إجبار أو عن خوف، أي غير منحرف نحو اليسار، ولا أيضًا من أجل المكافأة والأجرة أي غير منحرف يمينًا لكنه منطلق في طريق الملك الذي مهده الملك بنفسه، ليس فيه عثرات ومنحدرات.

  1. موت هرون:

بدأ الأصحاح بموت مريم وختم بموت هرون، الأولى ماتت في قادش أي عبرت إلى المقدَّسات الإلهيّة، والأخير انطلق إلى جبل هور ليموت هناك. وكلمة “هور” تعني “جبل”، وكأن الله أراد لأول رئيس كهنة أن يموت على جبل مرتفع ليس له اسم، إنما يكفي أنه جبل ليعلن أنه في موته يرتفع إلى فوق صاعدًا وليس كما حدث مع قورح وجماعته المزيفين حيث انحطوا إلى أسفل الأرض. موت الأبرار هو ارتفاع وصعود، أما نهاية الأشرار فهي انهيار وانحدار إلى أسفل.

لقد صعد موسى مع هرون أخيه ومعهما ألِعازار بن هرون حيث ينزع موسى النبي عن أخيه ثياب الكهنوت قبل أن يموت ويلبسها لابنه ألِعازار كرئيس كهنة جديد، الأمر الذي يُفرِّح قلب موسى وهرون معًا. فقد كان لائقًا ألاَّ يموت هرون مرتديًا ثياب الكهنوت، لئلا تُحسب الثياب كأنها قد تدنست، إنما يرتديها ابنه ليصير رئيس كهنة عِوَض أبيه. وفي هذا صورة جميلة للتقليد الكنسي الذي يسلمه الجيل للآخر بلا انحراف. أما قيام موسى مستلم الشريعة بالوساطة فيشير إلى دور الوصيّة الإلهيّة أو الكتاب المقدس في التقليد، فالتقليد وهو يُسلَّم عبر الأجيال يلزم أن يبقى إنجيليًا، لا ينفصل عن الوصيّة ولا ينحرف عن روح الكتاب المقدس.

يرى القدِّيس كبريانوس في هذا التصرف تأكيد الرب للشعب أن الكاهن يختار من قبل الرب لكن في حضرة الشعب، إذ يؤكد الكتاب: “وصعدوا إلى جبل هور أمام أعين كل الجماعة” [27]. يقول القدِّيس: [إننا نلاحظ بسلطان إلهي أن الكاهن يجب أن يختار في حضرة الشعب، وأمام أعين الكل، وأن يُحسب مستحقًا وأهلاً للعمل بحكم الجماعة وشهادتهم[157]].

أخيرًا فإن موت هرون وانتقال كهنوته إلى ابنه، إنما يكشف عن عجز الكهنوت اللاوي، إذ لرئيس الكهنة بداية أيام ونهاية، عمله مؤقت إلى حين، ينتقل من جيل إلى جيل حتى ينتهي الرمز ويأتي من هو “كاهن عظيم على بيت الله” (عب 10: 21)، “رئيس كهنة… قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات” (عب 8: 1). لقد قارن الرسول بولس بين كهنوت هرون المؤقت وكهنوت السيد المسيح الأبدي، على طقس ملكي صادق الذي بلا بداية أيام ولا نهاية من جهة لاهوته قادر أن يشفع بدمه أمام أبيه ليدخل بنا إلى المقدَّسات السماويّة غير المصنوعة بيد، هذا الذي صار كاهنًا بقسم، القدوس الذي بلا شر ولا دنس، حيّ في كل حين يشفع في الخطاة (راجع عب 7).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى