تفسير المزمور ٢٦ للقمص تادرس يعقوب

المزمور السادس والعشرون 

السلوك بالاستقامة

مناسبة المزمور:

هذا المزمور كمزمور البراءة  Psalm of innocenceوكمرثاة شخصية لمن اتهم ظلمًا بجريمة خطيرة يمكن أن يرتبط بالمزمورين 7 و 17.

يعتقد البعض أن هذا المزمور قيل أثناء ثورة أبشالوم ضد أبيه داود أو اضطهاد شاول له، بسبب وشايات أناس السوء (مجمع الأشرار) والمنافقين (الماكرين) [4]. ففي هاتين المناسبتين صوّر الأعداء داود كإنسان شرير جدًا، واتهموه زورًا بعدة جرائم، أهمها:

  1. خيانة وطنه وأمته، إذ اضطر إلى الهروب إلى أمم أخرى.
  2. استخفافه بالعبادة الجماعية والتمتع بالسكنى في بيت الرب… لأنه هرب من وسط الشعب.
  3. اشتراكه مع الوثنيين في عبادتهم الوثنية وممارساتهم الخاطئة.
  4. يظن البعض أن داود اتهم بتدبير مقتل ايشبوشث بن شاول بيد بعنة وركاب (2 صم 4: 5-12)، لذلك وجه هذا النداء للسماء يعلن تبرئته عن هذه الجريمة.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو مرثاة جماعية، يتحدث المرتل بصيغة المفرد كممثل للجماعة بكونها وحده واحدة[513].

يُحتمل أن يكون هذا المزمور، تسبحة الكهنة الذين بحسب الطقس كانوا يغتسلون قبل تقديمهم الذبائح كما جاء في (خر 30: 20، 21) “عند اقترابهم إلى المذبح للخدمة ليوقدوا وقودًا للرب، يغسلون أيديهم وأرجلهم لئلا يموتوا”.

يقول بعض الدارسين أن ما ورد هنا ليس تنبيهًا للكهنة وإنما هو صوت الشخص الزائر لبيت الرب يعلن أنه قد حقق تمامًا شروط قبوله بالمقدس[514]. هذا المزمور يُناسب من ينشد حماية الله أثناء دخوله الهيكل[515].

الاحتجاج من أجل براءة (الداخل إلى الهيكل) يمكن اعتباره طقسًا فعالاً يُمارس قبل دخول الهيكل أو على الأقل قبل الاسترسال في ممارسة الشعائر الدينية في الهيكل، فيه اعتراف شخصي يؤهله للاشتراك في العبادة، كما يُحسب أيضًا كإحدى الصلوات الجماعية، حيث تعلن الجماعة ككل استعدادها للعبادة المقدسة. كثير من عبارات هذا المزمور يمكن الترنم بها باسم الجماعة.

هذا ويعبر المرتل هنا عن المعنى الباطني للطقس، ألا وهو الفرح أمام الله الذي لا يُقترب منه إذ يقترب هو إلينا[516].

مزمور مسياني:

يرمز داود النبي في هذا المزمور إلى ملكنا يسوع المسيح الذي صار عارًا للبشر.

ربنا يسوع المسيح هو خير من يتلو احتجاج البراءة هذا بكونه “رئيس كهنة… بلا شر، بلا دنس، قد انفصل عن الخطاة” (عب 7: 26)، ويمكننا أن نتلوه نحن أيضًا عندما نكون في شركة مع السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس: [داود هنا يمثل لا الوسيط الإنسان يسوع المسيح (فحسب)، بل الكنيسة كلها القائمة بالكمال في المسيح].

المزامير (26-28):

يترأى بيت الرب في المزامير (26، 27، 28).

ففي المزمور 26 يقترب العابد إلى لله بالنقاوة والتسبيح مع الاخلاص في التمتع بجمال هيكله؛ وفي الأعداد الأخيرة يعلن عن بهجته وتهليل قلبه إذ دنا من الرب.

وفي المزمور 27 يرى في هذا البيت ملجأ له من أعدائه، والمكان الذي يتراءى له الرب فيه، فيلتقي معه وجهًا لوجه.

وفي المزمور 28 يقدم المرتل تضرعاته، باسطًا يديه، متوسلاً وهو متجه نحو قدس الأقداس ليتلقى إجابة الرب لسؤاله.

أقسام المزمور:

  1. دفاعه عن كماله                             [1-3].
  2. دفاعه عن تركه الشعب وبيت الرب          [4-8].
  3. طلب الخلاص والرحمة                     [9-12].
  4. دفاعه عن كماله:

تصف الآيات [1-3] إنسانًا سلك بكمال؛ لذا يرى البعض أن لغة هذا المزمور تبدو غريبة وغير جذابة بالنسبة لكثير من المسيحيين[517]، إذ يظنون أن ثقة المرتل هذه تقوم على اتكاله على الأنا والبر الذاتي وأعماله الصالحة الذاتية، ينتقدونه بسبب افتخاره، ويقارنوه بالفريسي المذكور في مثل الفريسي والعشار (لو 18: 9 الخ) [518].

يجدر بنا ملاحظة الآتي:

  1. الكمال هنا يعني مجرد تبرئته من الاتهامات الموجهة إليه والسابقة الاشارة إليها. كما يعني أيضًا أنه بصلاح قلبه وبنواياه الصادقة كان خاليًا من كل نية شريرة، إنما يسلك بنقاوة وبراءة. هكذا وصف الرب نفسه سلوك داود عندما ظهر لسليمان في المرة الثانية، إذ ذكَّره بداود أبيه بالكلمات التالية: “وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلبه واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي، فإني أقيم كرسي ملكك” (1 مل 9: 4-5). سلك داود بكمال بالرغم من كونه خاطئًا وابتعد عن أن يكون كاملاً، أما ابنه سليمان فسقط بائسًا. لكنه يوجد ابن آخر لداود، هو أصل داود وذريته، ابن داود وربه، ربنا يسوع المسيح؛ هو بلا خطية، وكما قال بنفسه: “أن رئيس هذا العالم آت وليس له فيّ شيء” (يو 14: 30). هو وحده يقدر أن يقدم هذا الاحتجاج بطريقة كاملة!
  2. يرى البعض أن طلبة المرتل: “احكم لي” إنما تعني “دافع عني”[519]. المعنى الفعلي هو: “احكم لكي تدافع عني”؛ فإنه يُحكم على المؤمنين الأبرار ظلمًا حتى الذروة، لكن لهم الله وحده، ديّان الكل، ومخلصهم والمحامي المدافع عنهم.
  3. في الآية [11]: “وأنا بدعتي سلكت، انقذني وارحمني” لم يغب عن المرتل حاجته الملحة إلى الفداء، واعتماده على نعمة الله ورحمته[520].

إن كان داود النبي يطلب من الله أن يفحص قلبه وكليتيه، هذا لا يعني نوعًا من الكبرياء، لأن ما يفعله داود من برّ هو عطية إلهية، إذ يقول: “على الرب توكلت فلا أضعف”.  ونحن أيضًا من جانبنا انكارنا حقيقة عمل السيد المسيح في حياتنا كأولاد لله لا يحسب ذلك اتضاعًا، إذ يليق بنا أن نشهد عن قوة الله ومحبته باستعلان عمله الخلاصي الكفاري فينا، فنشهد بالكلام كما بالسلوك.

  1. في دفاع المرتل عن نفسه ربما قصد رفع العثرة عن الشعب حتى لا يهلكوا بسببه.

بالمثل نرى القديس بولس لم يشأ أن يدافع عن نفسه ولا أن يفتخر بنفسه، إذ يقول: “وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيّ منكم أو من يوم بشر” (1 كو 4: 3)، “نحن جُهال من أجل المسيح وأما أنتم فحكماء في المسيح؛ نحن ضعفاء وأما أنتم فأقوياء، أنتم مكرمون وأما نحن فبلا كرامة” (1 كو 4: 10)، لكنه إذ شعر أن الاتهامات الموجهة ضده وضد حقه في الرسولية وضد تعاليمه الإنجيلية اضطر أن يدافع بقوة، قائلاً: “اقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضًا قليلاً” (2 كو 11: 6)، “قد صرت كغبي وأنا أفتخر” (2 كو 12: 11).

“احكم لي يارب

فإني بدعتي سلكت.

وعلى الرب توكلت فلا أضعف” [1].

لم يكن أمام داود النبي – وقد وجه إليه الأعداء اتهامات باطلة تمس إيمانه وحياته وتعثر شعبه فيه – إلا أن يستغيث أمام محكمة العدل الإلهي، حيث يقوم بالفصل في الأمور الله نفسه فاحص القلوب والعالم بكل الظروف الخفية والظاهرة، وها هو يقدم ضميره شاهدًا على نقاوة قلبه واخلاصه.

يؤكد المرتل أنه حفظ ضميره صالحًا، ووضع رجاءه واتكاله على الرب، لهذا يتوسل من أجل أن يتفحص الرب قضيته، طالبًا منه أن يكون قاضيًا بينه وبين الذين يتهمونه. أنه لا يستطيع أن يبرر نفسه أمام اتهام الخطية، لكنه خلال الحب الإلهي يستطيع الله أن يبرره من الاتهامات الباطلة. الله هو الشاهد على صدق قلبه ونواياه.

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يقول: “على الرب توكلت” لأنه أتهم بأنه قد صار في شركة مع الوثنيين، مستهينًا بخدمة بيت الرب الجماعية… كأنه يقول لست أتكل حتى على أي ذراع بشري سواء لمؤمن أو غير مؤمن، إنما اتكالي هو على الرب وحده. إن كنت أعيش مع الوثنيين الأشرار بالجسد لكنني بالروح منفصل عنهم، لأني لا اتكل عليهم ولا على غيرهم.

v   الرغبة في أن يُحاكم الإنسان أمر خطير وجاد ويصعب أن يفكر الإنسان فيه من جهة نفسه، فما هي هذه المحاكمة التي يتوق إليها؟ انفصاله عن الأشرار…

ما معنى العبارة: “وعلى الرب توكلت”؟ من يترنح بين الأشرار هو إنسان لا يضع ثقته في الرب، فإن مثل هؤلاء (الأشرار) يثيرون شقاقات… هل وضعت ثقتك في إنسان؟ إذن، فإنك ستتذبذب كلما تذبذب هذا الإنسان، وتسقط عندما يسقط الإنسان، لكنني إذ توكلت على الرب أبقى ثابتًا.

القديس أغسطينوس

“ابلني (افحصني) يارب وجربني،

إحمِ قلبي وكليتيَّ” [2].

 جاءت الكلمة المرادفة للفحص هنا بما يخص امتحان المعادن وفحصها بالنار (مز 12: 6؛ 17: 3)؛ فقد اشتاق المرتل أن يمتحنه الله مرة ومرات، إذ يعلم براءته فيما نُسب إليه باطلاً، طالبًا من الله أن يثبت ذلك بنفسه ويعلنه[521]، فإن الفحص الإلهي إنما يزيده تزكية وبهاءً ومجدًا.

v   إذ أخاف لئلا تفلت مني بعض الأخطاء السرية امتحني يارب وجربني. اكشف (ما بداخلي) ليس أمامك يا من ترى كل شيء، بل أمام نفسي وأمام العبيد زملائي… أعطِ داوءً لرغباتي وأفكاري الدفينة حتى تطهر كما بلهيب.

v   افحص رغباتي الدفينة بالنار، جرب أفكاري، امتحن أفكاري مؤكدًا أنها لا تعيش في الشر، وأن الشر لا يثيرها.

أية نيران تفحص قلبي؟ نار كلمتك.

أية نيران تجرب قلبي؟ لهيب روحك.

هذه هي النار وُصفت في موضع آخر بالكلمات: “لا شيء يختفي من حرها” (مز 19: 7). كما قال الرب بدوره عن هذه النار: “قد جئت لألقي نارًا على الأرض” (لو 12: 49).

القديس أغسطينوس

v   من أجل هذا التطهير الواهب الحياة يُصلي داود، قائلاً: “جربني يارب وامتحني، افحص كليتي وقلبي”[522].

الأب ثيؤدور

في الوقت الذي فيه يعلن المرتل اقتناعه ببرائته التي بلا شك هي ثمرة عمل الله في حياته نجده يطلب رحمة الله التي لا تفارق عينيه.

“لأن رحمتك أمام عينيّ هي،

وقد أرضيتك بحقك” [3].  

يتذكر داود النبي مراحم الله في الماضي، وهو يُعوّل عليها في حاضره وأفكاره الحالية، ويترجاها في أيامه القادمة. تقواه (أو براءته) تقوم على أساس الآراء الصحيحة الخاصة بسمات الله وعنايته الإلهية نحو شعبه بوجه عام ونحو داود بوجه خاص، ومن ثم كان الفيض المبهج للتقوى والرحمة والرأفة المملؤة حبًا، لهذا كان داود في كل أفكاره يركز على هذا الجانب من شخصية الله[523].

بقوله “أرضيتك (ابتهج) بحقك” ربما يشير المرتل إلى اتهامه بعبادة الأوثان، فيعلن أنه وإن كان قد اضطر إلى الهروب من وسط شعبه إلى شعب وثني لكنه لم يحد قط عن الحق الإلهي إلى زيف الأوثان، علاوة على أنه يبتهج من أعماق قلبه بالله الحقيقي.

  1. دفاعه عن تركه الشعب وبيت الرب:

“لم أجلس مع محفل باطل،

ومع مخالفي الناموس لم أدخل.

أبغضت مجمع الأشرار،

ومع المنافقين لم أجلس” [4، 5].

جميع الأمم تتفق في أن الناس يُعرفون من أصدقائهم الذين يختارونهم. إن كان داود النبي قد اضطر إلى الهروب من وسط شعب الله إلى بلد وثني، لكن ليس له رفقة مع أعمال الظلمة غير المثمرة ولا يماثل الأشرار في خطاياهم. حقًا أن الوثنيين هم محفل باطل ومخالفوا الناموس ومجمع أشرار ومنافقون، وقد التجأ إليهم لكنه لا يحمل شركة عمل أو فكر معهم؛ لم يجلس معهم في مشوراتهم ولم يدخل معهم في عهود ولا أحب تصرفاتهم.

وجودنا في العالم يُلزمنا إلا نعتزل بالكلية أهل العالم، وإلا كان يلزمنا الخروج من العالم (1 كو 5: 10)، لكن يجب ألا نشاركهم فكرهم الشرير وتصرفاتهم الدنسة.

يجب أن يُنزع الدنس فنصير في حضن الله ونحب السكنى في بيته، حيث يوجد مجده. يلزم اعتزال الأشرار (من جهة شرهم) حتى ندخل حضرة القدوس. لهذا وُضعت المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، ليغسل فيها الكهنة أيديهم وأقدامهم قبل اقترابهم من المذبح والخيمة (خر 40: 30-32).

v   “لم أجلس مع محفل باطل” [4]… إلى أي شيء يرمز الجلوس؟ أن يكون الشخص بقلب واحدٍ مع من يعاشرهم. إن لم يكن قلبك هناك على الرغم من وجودك معهم، فأنت لا تجلس معهم، أما إن كان قلبك هناك فأنت تجلس معهم حتى وإن كنت غائبًا عنهم (بالجسد)

القديس أغسطينوس

كان داود النبي محرومًا من شعبه ومن بيت الله بهروبه إلى بلد وثني، لكنه كان بقلبه يجلس مع أتقياء شعبه ويشارك العابدين بالروح والحق.

هرب الابن الضال من بيت أبيه يطلب الجلوس في محفل الأشرار، فإذا به يشارك الخنازير خرنوبهم، وإذ رجع بقلبه إلى حضن أبيه تمتع بمحفل بهيج وكريم.

“لنهرب من محافل الأشرار، لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم” (رو 1: 18)، ولنعتزل جماعتهم لئلا نسقط تحت الضربات معهم (رؤ 18: 4)… ونحرم من المحفل السماوي أو الوليمة الإلهية.

اعتزالنا الأشرار قد يدفعهم إلى التوبة عن شرورهم، أما اختلاطنا بهم في شرورهم وتهاوننا في تقديس حياتنا، فبجانب ما يسببه لنا من هلاك، لا يعطيهم فرصة أن يفطنوا إلى خطورة حالتهم.

أبغضت مجمع الأشرار” [5]. ربما يجد البعض في هذا التعبير نوعًا من القسوة؛ لكن المرتل وقد تلامس مع الله الحالّ في مجمع الآلهة (الأبرار) يدرك أن الشيطان يحل في مجمع الأشرار كمجمع خاص به ليستخدمهم أدوات عمله وآلات موت لحساب الشر. وكأن المرتل يعلن أنه قد اختار كنيسة الله لينعم بالحضرة الإلهية مبغضًا مجمع الشيطان، اختار جماعة القديسين لا مجلس الأشرار، اختار أورشليم العليا لا بابل الزانية، اختار نسل المرأة ليرفض نسل الحية… فإنه لا شركة بين النور والظلمة!

كاهن روحي:

لم يكن داود النبي كاهنًا ولا لاويًا… لكنه وقد التزم بالهروب من وسط شعبه ومن العبادة الجماعية في بيت الرب المقدس يُعلن من الجانب السلبي أنه لا يشترك مع الأشرار مخالفي الناموس المنافقين حياتهم الشريرة؛ وأما من الجانب الإيجابي فقد أدرك أنه وهو اشبه بالطريد يحضر بقلبه ليس فقط وسط شعب الله وإنما يشارك الكهنة خدمتهم المقدسة، إنه حاضر بالروح في الخيمة يغسل يديه مع الكهنة لا بمياه المرحضة وإنما بنقاوة القلب الداخلي، ويطوف حول المذبح لا بجسده وإنما بشوقه الداخلي وحبه الناري الملتهب، يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين، ويتحدث عن عجائب الله… وكأنه لا توجد قوة ما أن تمنعه من التمتع بجمال بيت الله والوجود في موضع مسكن مجد الله. هذا ما عبّر عنه بقوله:

“أغسل يديَّ بالنقاوة.

وأطوف بمذبحك يارب.

لكيما أسمع صوت تسبيحك،

وانطق بجميع عجائبك

يارب أحببت جمال بيتك

وموضع مسكن مجدك [6-8].

تدل هذه العبارة على أنه حفظ نفسه من خطية عبادة الأوثان. كان داود النبي يغسل يديْ نفسه أمام الله قلبيًا، كما كان ملاصقًا لمذبح الله الروحي.

كانت عادة الكهنة أن يطوفوا حول المذبح أثناء تقديم الذبيحة، وغالبًا ما كان مقدموا الذبيحة أيضًا يمارسون ذات الفعل من بُعد، مشيرين بهذا إلى اجتهادهم وجديتهم بخصوص ما يُفعل (تقديم الذبيحة عنهم)، وأنهم يصغون بجدية إلى خدمة الرب[524].

كان غسل الأيدي عملاً رمزيًا للنقاوة، لكن غالبية اليهود ركزوا كثيرًا على ذات الفعل في ذاته. فقد قيل بين اليهود: “كل من يحتقر غسل الأيدي يُقطع من المجمع، ويصيبه الفقر، وسوف يُنتزع من العالم!” وفي قول آخر: “كل من كان له مقعد في أرض إسرائيل، ويأكل طعامه العام بطهارة (يدين)، وينطق باللغة المقدسة، ويردد صلواته صباحًا ومساءً، فليتيقن أنه سينال حياة الدهر الآتي”. ويخبرنا اليهود أن أحد أفاضلهم R.Aquiba إذ كان في السجن ولم يكن لديه ماء كافٍ ليشرب ويغسل يديه اختار أن يمارس العمل الأخير، قائلاً: “من الأفضل لي أن أموت عطشانًا عن أن أتعدى التقليد”[525].

ربما عنى داود النبي بغسل يديه بالنقاوة إظهار براءته من الاتهامات الموجهة ضده، ومن الجرائم التي نُسبت إليه ظلمًا. ونحن أيضًا إذ نلتقي بالسيد المسيح المصلوب نغسل أيدي نفوسنا من الماء والدم اللذين يفيضان من جنبه، فإن مياه العالم كله لا تقدر أن تُطهر الأعماق، بل مياه المعمودية المرتبطة بالإيمان بدم المسيح الكفاري تجدد طبيعتنا وتُطهر أعماقنا.

مادمنا في العالم نحتاج إلى غسل مستمر خلال التوبة “المعمودية الثانية”، وذلك بفعل كلمة الله وروحه القدوس. كلام الله روح وحياة… قادر أن يخترق النفس إلى أعماقها ليهبها نقاوة وتقديسًا…

v   “أغسل يديَّ بالنقاوة”، وليس بماءٍ منظور.

إنك تغسل يديك عندما تنجز أعمالك خلال أفكار مقدسة ونقية في عينيْ الله، فإنه يوجد مذبح أمام عينيْ الله، الذي يدخل إليه الكاهن (المسيح) الذي قدم نفسه أولاً ذبيحة من أجلنا. هذا المذبح عالٍ، لا يستطيع أحد أن يدركه إلا من يغسل يديه بالنقاوة.

القديس أغسطينوس

v   تلاحظون أن الشماس يقدم ماءً للكاهن ليغتسل كما أيضًا للكهنة الذين هم حول المذبح الإلهي؛ وهو بالتأكيد لا يقدمه بسبب افتقادهم للطهارة الجسدانية، فليس هذا هو السبب، إذ نحن بلا دنس جسدي عند دخولنا الكنيسة. لكن الغسل هو رمز للنقاوة من كل أعمال خاطئة وتعديات؛ فاليدان هما رمز للعمل، وبغسلهما ندخل إلى الطهارة والسلوك بلا لوم. ألم تسمعوا تلك الافتتاحية المطوّبة لهذا السرّ ذاته، إذ يقول: “أغسل يدي وسط الأبرياء فأطوف بمذبحك يارب”؟ فغسيل الأيدي هو من ثم رمز للحصانة ضد الخطية[526].

القديس كيرلس الأورشليمي

إذ يتمتع المؤمن بنقاوة القلب وطهارة اليدين، أي قداسة الأعماق والأعمال، تستطيع أذناه الداخليتان أن تسمعا صوت التسبيح الملائكي وتتجاوب معه بالفرح الداخلي وتهليل النفس ولهج اللسان بالتسبيح والتماجيد حيث يعلن الإنسان بحياته الداخلية وسلوكه عن عجائب الله معه، فيقول:

لكيما أسمع صوت تسبيحك،

وانطق بجميع عجائبك” [7].

لعل داود النبي يُريد أن يقول بأنه وسط كل افتراءات الأعداء لا تميل اذناه إلى كلماتهم ولا ينشغل فكره حتى بالدفاع عن نفسه أمامهم، لأن صوت التسبيح المفرح يملأ كل كيانه ويشبع حياته، فعوض الشكوى ضد الأعداء أو التذمر على ما يحل به، يتحدث عن كل أعمال الله العجيبة التي ترفعه كما إلى الحياة السمائية بالروح القدس.

يرى القديس أغسطينوس أن الآية “لكيما أسمع صوت تسبيحك” تعني أن صوت الروح القدس في تماجيد الكنيسة يعلمني كيف أُمجدك. كما يقول أيضًا: [إن تسمع الله لا يعني أن تلتقط الأصوات المسموعة. كم من أناس صُمّ لا يسمعون الله! يلزمك أن تسمع صوت التمجيد هكذا بأنك لا تمجّد ذاتك قط، مهما كُنت صالحًا. الاتضاع يجعلك صالحًا والكبرياء يجعلك خاطئًا[527]].

v   لكيما أسمع صوت التسبحة”… كثيرون لهم آذان، لكنهم ليست تلك الآذان التي تحدث عنها يسوع عندما صرخ قائلاً: “من له أذان للسمع فليسمع” (مت 13: 9)…

أن تسمع صوت التسبحة يعني أن تدرك داخليًا أن كل ما كان فاسدًا فيك بالخطية مصدره ذاتك، وأن كل ما هو جيد، كل ما يُعمل للصلاح مصدره الله. هكذا يجب عليك أن تسمع صوت التسبيح بأن لا تمجد ذاتك قط، مهما كانت فضيلتك وإلا تصير ملومًا…

القديس أغسطينوس

تتقدس الآذان الداخلية فتسمع صوت التسبيح، عندئذ ينفتح لسان القلب ليشترك في تمجيد الله والحديث عن كل عظائمه دون أن ينسب مجدًا ما للذات أو الأنا. وأيضًا تتقدس البصيرة فتعاين مجد بيت الرب، عندئذ ينفتح القلب بالحب مشتاقًا أن يكون له موضع في مسكن مجده، إذ يقول المرتل:

“يارب أحببت جمال بيتك،

وموضع مسكن مجدك” [8].

يقصد داود النبي بالبيت هنا الخيمة، لأن الهيكل لم يكن قد بُني بعد. وكأن داود الطريد يشتهي ألا يُحرم من الخيمة المقدسة وتابوت العهد رمز الحضرة الإلهية، وألاّ يُطرد من بين شعب الله، وفي نفس الوقت يطلب بيت الله المقدس والبهي في أعماق قلبه!

v   يتجلى جمال بيت الله في الذين كُللوا بجمال القداسة داخل الكنيسة[528].

القديس أثناسيوس الرسولي

v   هذا الحب (حبنا لله) بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء الروحي الذي مهندسه بولس، مهما كانت المهارة ممتازة؛ ولا نستطيع أن يكون لنا المنزل الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يُنقيه للرب، قائلاً: “يارب احببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك” [8].

بدون الحب يقيم الإنسان في قلبه – بغير بصيرة – منزلاً غير جميل لا يليق بالروح القدس، ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب)، إنما يسقط في الحال وينهدم البناء في بؤس[529].

الأب إبراهيم

v   يشتهي الله أن نصنع له مسكنًا، واعدًا إيانا برؤيته كمقابل لذلك… أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة… بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه[530].

العلامة أوريجينوس

  1. طلب الخلاص والرحمة:

بعد أن قدم داود النبي البراهين على كماله، يُصلي بحرارة حتى لا يُدفع بقوة ليكون بعيدًا عن جماعة شعب الله الذين هم موضع أمانة الله وحبه، فيُحسب كمجرم بين الخطاه وسافكي الدماء الذين تدنست أيديهم بالشر وامتلأت رشوة[531]، وبالتالي لا يكون مصيره مع الأشرار. رجاؤه في الله ألا يسمح له أن يُعاني مع الذين انفصل عن مجتمعهم. لقد اشتهى ألا يكون له نصيب مع الأشرار في وجوده ولا حتى في مجرى حياته المؤقته (الزمنية) ولا في نهاية حياته الموقرة ولا في وجوده بعد القبر! الاسباب التي دفعته إلى مثل هذه الصلاة تكمن في الاختلاف من جهة السِمات والطلبات والاشتياقات والعادات والغايات والمقاصد والأهداف بين القديسين والخطاة. فهم لا يحملون فكرًا متشابهًا، ولا شعورًا مماثلاً، ولا يتحدثون بذات الكلمات، وليس لهم ذات السلوك، ولا يعيشون بذات النمط، ولا يمشون بنفس الطريقة، أو يرتحلون في نفس الطريق، لذلك اشتاق داود أن يكون موضوع تذكر الله وعنايته ولكن ألاّ يجتمع مع الأشرار[532].

v   “فلا تهلك مع المنافقين نفسي” [6]. لا تهلك نفسي التي أحببت بيتك بكل جماله مع أولئك الذين يبغضوك. ولا تفنى حياتي مع رجال الدماء مع من يحتقر جاره، فإنه بكلى الوصيتين يتجمل بيتك (في داخلي).

القديس أغسطينوس

المنافقون ورجال الدماء هنا هم الذين يتعبدون لآلهة كثيرة وللأوثان.

لا يجد المرتل مسرته في صحبة الأشرار، إنما في عبادة الله في اجتماعات شعب الله. إنه يعزل نفسه عن الأشرار وفعلة الأثم وعن تجمعاتهم، ومن الجانب الآخر يؤكد ولاءه للرب وللعبادة التي تُقدم لمجده وأن يكون عضوًا في شعب الله، إذ يقول:

“فلا تهلك مع المنافقين نفسي،

ولا مع رجال الدماء حياتي،

الذين في أيديهم الإثم،

يمينهم امتلأت من الرشوة.

وأنا بدعتي سلكت،

انقذني وارحمني

لأن رجلي وقفت في الاستقامة،

في الجماعات أباركك يارب” [9-12].

كأن داود النبي يقول للرب إنه لا تشغلني اتهامات الأعداء الباطلة والظالمة، إنما ما يشغلني أن تحميني وأنا طريد من الجو الوثني الذي اضطررت أن أعيش فيه بجسدي وليس بقلبي. لا تسمح أن أكون شريكًا للمنافقين والمجرمين والأثمة والمرتشين في حياتهم ولا في مصيرهم؛ حياتهم غير حياتي، وهدفهم غير هدفي. على النقيض منهم اسلك بدعة، أي أسير في طريقك بروح الوداعة والاتضاع، اتكئ على خلاصك واترجى مراحمك… رجليّ لا تقدران أن تقفا إلا في الاستقامة، في طريقك الملوكي، حتى تدخل بيّ إلى حياة التسبيح والفرح مع الجماعة المقدسة.

من الجانب السلبي لم يطق المرتل الشركة مع الأشرار هنا، لا يحتمل روح النفاق ولا سفك الدماء ولا الرشوة أو الظلم فكيف يحتمل أن يكون مصيره الأبدي معهم… كأنه يقول لا تجمعني هناك معهم مادمت لم اجتمع هنا معهم في ظلمهم وإثمهم، بل “لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كأخرتهم” (عد 23: 10). أما من الجانب الإيجابي فبرفضه شر الأشرار يعلن رغبته في خلاص الرب العظيم ومراحمه حيث تتقدس نفسه بالدم الثمين ويجد رجليه تقفان في الاستقامة، أي في برّ المسيح وعطاياه ووعوده الإلهية فتنطلق أعماقه بالتسبيح الداخلي على مستوى الجماعة المقدسة كعضو في كنيسة المسيح الواحدة.

يُعلّق القديس أغسطينوس على تعبير “يمينهم امتلأت من الرشوة” قائلاً: [الله وحده هو الذي يرى من يقبل الرشوة أو يرفضها]، مقدمًا مثلاً لذلك أنه أحيانًا تمتد يد القاضي لتمتلئ رشوة لا من الغني بل ومن الفقير، كأن ينتهك حرمة العدالة وينطق بحكم ظالم مخالف للحق لحساب الفقير، لا لشيء إلا لخوفه من لوم الناس له. فالرشوة هنا هي حبه للمديح والكرامة لا للمال، على حساب الحق.

يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين من تمتلئ أيديهم بالدنس والرشوة وبين من له يدان طاهرتان يرفعهما إلى السماء فيقول: “لتكن رفع يديَّ ذبيحة مسائية”[533].

أخيرًا يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يشترك مع الجماعة المقدسة في التسبيح للرب يجمعه حبه لاخوته مع حبه لله!

 


 

أحكم ليّ يارب…

v   أنت هو برّي، أنت هو مكافأتي…

ليحكم العالم ضدي، أما أنت فشفيعي والديّان!

v   هب لي ألا أفكر في اتهامات البشر،

بل أن أُرضيك وأحيا معك.

v   إني لا أشارك المنافقين أفكارهم ولا غاياتهم ولا سلوكهم ولا اجتماعاتهم،

فلا تسمح لي أن يكون مصيري الأبدي معهم!

v   أحببت جمال بيتك، فلتزين بروحك القدوس قلبي مسكنًا لك!

v   احملني إلى طريق الاستقامة، طريق برك،

فأُشارك القديسين والسمائيين تسابيحهم لك!

زر الذهاب إلى الأعلى