تفسير المزمور ٥ للقمص تادرس يعقوب
المزمور الخامس
ضد المسيح (المجدَّف ورجل الدماء)
في هذه المرثاة، يحوّل داود النبي اهتمامه إلى أختيوفل المستشار الشرير لأبشالوم، والمشبَّه بضد المسيح(6). يُظهر المرتل هنا التضاد بين أمان البيت الله (8-9؛ 12-13) والخطر الذي يُلحق بمصاحبة الشرير (5-7؛ 10-11). يقارن المرتل بين نفسه وأخيتوفل، بكونه رمزًا للكنيسة – بيت الله الروحي – المتحدة مع ابن داود، والتي تدخل في معركة مستمرة مع ضد المسيح؛ بينما يمثل أخيتوفل ضد المسيح واتباعه الشعب الشرير.
صلاة هذه المرثاة، صلاة شخصية عميقة؛ تمس في نفس الوقت حياة المؤمن بكونه عضوًا في الكنيسة الواحدة. وكما سبق فقلت إننا في عبادتنا لا يمكننا أن نفصل حياتنا الشخصية عن الحياة الجماعية. هنا يبدأ المرتل بدعاء شخصي، فيقول: “كلماتي، صراخي، ملكي وإلهي” [1-2]، ويختتم المزمور باتجاه جماعي، فيقول: “يفرح جميع المتكلين عليك، يبتهجون إلى الأبد” [11]. هذه المرثاة تخص كل شخص أيّا كان عمره، كما تخص الكنيسة ككل.
من بين الخمس مقطوعات الشعرية stropes للمزمور تتحول ثلاث منها بالكامل نحو الله تتخللها مقطوعتان هما شكوى ضد العدو مقدمه لله بانفعال. وقد جاء المزمور ككل يفسر روح الصرخة الواردة في الآية “ملكي وإلهي”[152].
هذا المزمور يسندنا عندما نكون في أسوأ أزمات الخيانة التي قد تحدث من أحد أفراد الأسرة أو من الجماعة.
نسبح بهذا المزمور كل صباح في صلاة باكر لنمتلئ رجاءًا.
يبدو أن هذه المرثاة الصباحية كانت تردد في الهيكل مرتبطة بطقس الذبيحة الصباحية (3، 7؛ 2 مل 3: 20؛ عا 4: 4)[153].
يصنف Dahood هذا المزمور ضمن “مزامير البراءة Psalms of Innocence” (مز 5؛ 17؛ 26؛ 139). لم يفكر المرتلون والأنبياء أن ينكروا خطاياهم قط، إنما كانوا يتضرعون لكي يخلصوا منها؛ فلا تقوم براءتهم على برّهم الذاتي، وإنما تعتمد على النعمة التي صارت لهم عند الله، خلال رغبتهم الصادقة للاتحاد معه. بمعنى آخر كانوا أبرياء من جهة الاتهامات الباطلة التي اعتاد الأشرار أن يثيروها ضدهم.
الإطار العام:
- توسل إلى الرب [1-3].
- لا اتفاق بين الله والشر [4-6].
- البار يعبد الله [7-8].
- الهتاف الليتورجي والبركة [12-13].
عنوان المزمور:
جاء عنوان المزمور في العبرية: “لإمام المغنين على ذوات النفخ Nehiloth، مزمور لداود”، وفي الترجمة السبعينية: “حتى النهاية، للوارثة، مزمور لداود”.
- لشرح “لإمام المغنين” أنظر شرح المزمور الرابع: عنوان المزمور.
- تُشرح كلمة Nehiloth بطرق مختلفة:
* يعتقد البعض أنها تعني “جيوشًا”؛ هذا يقتضي أن تكون الكلمة السابقة لها هي “ضد” أو “مقابل” وليس “على upon“؛ لكي تُقرأ “لإمام المغنين، ضد الجيوش”. يفترض هذا التفسير أن هذه الأنشودة يُسبَّح بها مقابل فرق الأعداء التي قامت لتهاجم المدينة؛ لكن هذا الرأي يرتكز على أساس واهٍ جدًا[154].
* يظن البعض أن كلمة Nehiloth هي الكلمة الأولى لأغنية ما مشهورة، تدل على اللحن الذي يُغنى به المزمور.
* يترجمها البعض “آلات نفخ”، لتقابل كلمة Niginoth في المزمور السابق بمعنى “آلات وترية”.
* يضع البعض كلمة “وارثة” بدلاً من كلمة “Nehiloth“، معتمدين في ذلك على العنوان الوارد في الترجمة السبعينية، بفرض أن داود هنا يدعو الأسباط الإثنى عشر وارثة، وأن هذا المزمور هو صلاة لأجل شعب إسرائيل[155].
- جاء العنوان في الترجمة السبعينية “إلى النهاية”. وكما يقول القديس أغسطينوس: [“لأن غاية (نهاية) الناموس هي المسيح، للبر لكل من يؤمن” (رو 10: 4)، ومع ذلك فإن هذه النهاية تعني الكمال لا الفناء]. ويعلق القديس جيروم، قائلاً: [الوعد بميراثنا لم يحدث في البداية بل في نهاية العالم… هذا بالتدقيق ما يعنيه الرسول يوحنا بقوله: “يا أولادي الأحباء، إنها الساعة الأخيرة” (1 يو 2: 18)].
- يعلق كثير من آباء الكنيسة على كلمة “الوارثة” الواردة في العنوان حسب الترجمة السبعينية، مثل:
* يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن المرتل يتكلم لحساب العروس، ليشفع في البلاط الملكي، مخبرًا إيانا عمن يشفع فيها ألا وهي “الوارثة”، هذه الوارثة هي الكنيسة[156].
v لأنه ماذا تطلب الوارثة؟ لنسمع: “انصت يارب لكماتي” [1]. إنها تدعو عريسها “ربها”، لأن هذا هو واجب العروس الكاملة المهيأة حسنًا! إن كان هذا يحدث كأمر طبيعي بين البشر، إذ تدعو الزوجة زوجها “يا سيدي”، فكم بالحري يكون حال الكنيسة مع السيد المسيح الذي هو بالطبيعة الرب حقًا[157]؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول القديس جيروم: [بإن داود يرتل باسم الكنيسة[158]؛ وأنه يركز على ضد المسيح وأتباعه، الذين يقاومون الكنيسة “الوارثة”، لكن تنتهي المعركة بنصرتها ومجدها وتمتعها بالميراث الأبدي.
* يقول القديس أوغسطينوس: [إن كنيسة العهد الجديد نفسها هي ميراث المسيح، فهي أيضًا تنال الميراث الأبدي.
v تُدعى الكنيسة بدورها ميراث الله في النص الأصلي: “اسألني فأعطيك الأمم ميراثك” (مز 2: 5)؛ لهذا يُدعى الله ميراثنا، لأنه يسندنا ويحتضن كياننا، ونُدعى نحن ميراث الله لأنه يملك علينا ويدبر حياتنا. لهذا فإن هذا المزمور هو أغنية الكنيسة التي دُعيت لترث ومن أجل أن تكون هي نفسها ميراث ربنا.
v الكنيسة هي المعنية، هذه التي تتقبل ميراثها حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا، فتقتني الله نفسه، بالتصاقها بذاك الذي لأجله تتبارك، وفقًا للعبارة: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت 5: 5)…
القديس أغسطينوس
جاء عنوان هذا المزمور في السريانية هكذا: “صلاة في شخص الكنيسة عندما تأتي مبكرًا في الصباح إلى بيت الرب”، لكن هذا تفسير وليس ترجمة لنص العنوان[159].
بحسب ما ورد في المزمور (142: 5)، ميراث الكنيسة هو ربنا نفسه: “أنت هو رجائي، نصيبي في أرض الأحياء”.
داود رمز الكنيسة الوارثة:
- رجل الصلاة والتأمل: لقد أقترب إلى الله، الذي يصرخ إليه على الدوام، فإنه يشتاق لا أن تصل إليه كلماته فحسب، وإنما أن ينصت الله إلى صوت صلاته الداخلية [1].
v “اَنصت يارب لكلماتي” [1]. ما من أحد له مثل هذه الثقة إلا الكنيسة، فالخاطي لا يجسر على القول: “انصت يارب لكلماتي”… بل بالحري يترجى ألا يشاء الله أن يسمعه…
“أفهم (تأمل) صراخي” [1]: كلمة “صراخي في الكتاب المقدس لا تعني صرخات الصوت بل القلب”. وقد قال الله بالحقيقة لموسى: “مالك تصرخ إليّ هكذا؟!” (خر 14: 15)، بينما لم يتفوّه موسى بأي صراخ على الإطلاق… على نفس الوتيرة جاءت كلمات إرميا: “لا تعطِ لعيني راحة” (مرا 2: 18). لاحظ ماذا يقول: لا تسمح أن تصمت حدقة عيني… إذ أحيانًا تصرخ حدقة أعيننا ذاتها إلى الله[160].
القديس جيروم
v يكشف المرتل عما تكون عليه تلك الصرخة، وكيف تصدر عن عمق الداخل، عمق القلب، دون صوت جسداني؛ فتصل إلى الله، فإن الصوت الجسداني يُسمع أما الروحاني فيُفهم: “أفهم صراخي”.
القديس أغسطينوس
صرخ داود ثلاث مرات، سائلاً الله أن يسمع صلاته، قائلاً:
“انصت يارب لكلماتي،
وافهم صراخي.
اصغ إلى صوت طلبتي يا ملكي وإلهي” [1].
يذكر انسيموس الأورشليمي أن داود كممثل للكنيسة يشير في صرخته إلى الثالوث المقدس (يارب، يا ملكي وإلهي). فتدعو الكنيسة الآب “يارب”، وليس “ياربي”، لأن اليهود أيضًا يعرفونه معها، وأما الابن والروح القدس فتنسبهما إليها “ملكي وإلهي”، لأنها الوحيدة التي تعرفت عليهما.
التكرار ثلاث مرات هنا يشير إلى شدة محبة داود ولجاجته في الصلاة. لقد كشف بتعبيراته المختلفة عن شكاواه العديدة. وهذا يدل على أنه لم يُصِلّ بفتورٍ مكتفيًا بكلمات قليلة، وإنما كان جادًا في عرضه مصائبه أمام الله بسبب شدة حزنه.
- يقول المعلم دانيال الصالحي: [تأمل كيف لم يُسم (داود) نفسه ملكًا في صلاته، لكنه عرَّى نفسه من العظمة الملوكية، ودعا الله ملكه وإلهه؛ موضحًا أنه ليس ملك بالحقيقة إلا الله وحده. فإن من كان تحت سلطان الملك لس بملك. فيقول داود النبي: “ملكي وإلهي” يعني: “أنت هو الملك وحدك”].
إذ كان أبشالوم يطارد أباه، لا ليسحب منه العرش فحسب بل ويحرمه الحياة عينها، صرخ داود الملك: “روحك القدوس يهديني إلى الاستقامة… عرفني يارب الطريق التي أسلك فيها لأني إليك رفعت نفسي” (مز 143: 8-9). وكأنه يقول: “إنني محتاج إلى روحك القدوس يقودني إلى الطريق الملوكي… يرفعني بالصليب إليك فأحيا كملك مرتبط بملِك الملوك”. إني عاجز عن حماية العرش وحراسة القصر الملوكي، لكن بك أدخل إلى نعمة الملوكية أيها الملك الحقيقي وحدك!
- لقد وثق أنه حتى في المستقبل يقترب إلى الله بعد أن صار مطرودًا من بين شعب الله، محرومًا من المدينة المقدسة، ومن بيت الله. ربما اعتاد داود النبي على الدخول إلى بيت الله كل يوم، خاصة في الصباح، ليقف أمام الرب، حتى يفتقده الله بنفسه ويحرسه [3].
“بالغداة (في الصباح) استمع صوتي،
بالغداة أقف أمامك وتراني” [2].
الصباح بلا شك هو الوقت الطبيعي للصلاة (مز 88: 13)، ولخدمة الهيكل (خر 29: 38-40؛ لا 6: 12-13؛ 2 مل 3: 20). في الحقيقة ذبيحتا الصباح والمساء في الهيكل هما الأساس الذي قام عليه نظام صلاة التسبيح ورفع البخور عند المسيحيين صباحًا ومساءً وقد ارتبط بتقديم البخور لله.
الصباح أيضًا هو رمز تحرير الشعب من مصر (خر 14: 20-24)، ومن الآشوريين (إش 37: 36)، ومن الليل أو من ظلمة الخطية. ويعتبر السحر أو الصباح أفضل وقت للصلاة: “يارب… كن عضدنا (قوتنا) في كل صباح” (إش 33: 2). مراحم الرب جديدة في كل صباح (مرا 3: 23) هذه التي نتوقع نوالها في صلواتنا (الصباحية). هذا الأمر يتكرر في كثير من المزامير، فإن مراحم الرب تُتوقع غالبًا في الصباح (مز 59: 16؛ 90: 14)، وفي الصباح يُعين الله المدينة المقدسة وينقذها من السقوط (مز 46: 5؛ 101: 8).
ربما يشير الصباح إلى تدخل ملاك الله ضد سنحاريب (2 مل 19: 35)، وربما إلى القيامة، عندما يتحدث المرتل عن الاستيقاظ في حضرة الرب (مز 3: 5؛ 17: 15)[161].
التبكير في الصلاة هو السعي الدؤوب الجاد لطلب الله، قبلما أن نسأل الآخرين المساعدة؛ الإنسان الذي يقدم باكورة أفكار اليقظة لله لا يحجم عن أن يكرّس له بقية ساعات النهار الأخرى.
v تُتلى الصلوات باكرًا في الصباح لكي تُكرَّس للرب كل الحركات الأولى التي للنفس والعقل، فلا يكون لنا أدنى اهتمام آخر خلاف تهليلنا وفرحنا وشبع قلوبنا بالتفكير في الله، كما هو مكتوب: “تذكرت الرب فابتهجت” (مز 77: 4) (الترجمة السبعينية)، ولكي لا يتثقل الجسد بأي عمل آخر قبل إتمام الكلمات: “لأني إليك أصلي يارب، بالغداة (في الصباح) استمع صوتي، بالغداة أقف أمامك وتراني” [2] [162].
القديس باسيليوس الكبير
v يشرح بعض المفسرين هذه الكلمات ببساطة هكذا: أنهض في الفجر للصلاة والتضرع إليك…
اصغ إلى ما تعنيه هذه الكلمات حقًا: طالما أنا تائه في ظلمة الخطأ لا تسمعني (يارب)؛ لكن إذ تشرق شمس البر (السيد المسيح) في قلبي تسمع في الصباح صوتي…؛ فقط حينما تبدأ ظلمات الليل أن تنقشع عني تسمع صوتي، في للحظة التي أبدأ في عمل الخير تسمع صوتي دون أن تنتظر حتى النهاية.
v بينما تخترق أشعة الفضيلة نفسي أقف أمامك؛ لست أجلس ولا أرقد بل أقف. “وأنت تُثبِّت خطواتي بقوة على الصخرة” (مز 39: 3)، فأستحق تدريجيًا أن أراك[163].
القديس جيروم
v الشر والخيانة والكذب والقتل والخداع وما أشبه ذلك ترتكب في الليل الذي يجب أن يعبر قبل بزوغ الفجر الذي فيه يُستعلن الله…
ماذا يعني: “سأقف” وليس “أرقد”؟ ماذا يعني الرقاد إلا نوال الراحة على الأرض بطلب الملذات الأرضية؟
يقول المرتل: “أقف… أرى”؛ فعلينا أن نضحي بأمور هذا العالم إن كنا نود رؤية الله؛ إذ هو منظور فقط بنقاوة القلب!
القديس أغسطينوس
يقول أُنسيمس الأورشليمي: [إن المرتل يقصد هنا بكلمة “الصباح” العبادة المسيحية، لأن اليهود الذين كانوا تحت ظلال الناموس اعتادوا الاحتفال بالفصح عن المساء، أما الآن فقد أشرق شمس البر بالتجسد، فنعبده في الصباح، مستنيرين بأشعته الإلهية. يمكننا القول بأن الفصح المسيحي الجديد قد تحقق في الصباح بقيامة مخلصنا، هذا الذي أباد الموت وحطم قوة الشيطان.
يقول المعلم دانيال الصالحي [إن روح النبوة يخبرنا بأسرار جسيمة وإلهية على لسان الطوباوي داود… وأن هذا الملك والنبي بعدما دعا (عمانوئيل) في المزمور الأول شجرة مثمرة عديمة الفساد، وفي المزمور الثاني أنذر به مولودًا أزليًا، وفي المزمور الثالث سماه ربًا وإلهًا ومخلصًا، وفي المزمور الرابع دعاه صالحًا ونور وجه الآب؛ يسأل المرتل في هذا المزمور الخامس طالبًا ومتضرعًا بروح النبوة أن يخرج من ليل الناموس، ويأتي إلى الصباح المضئ المبهج الذي هو كلمة الآب الأزلي… يُريد أن يعلمنا أن عمانوئيل مدعو صباحًا، لأنه هو النور الحقيقي الذي لا تشوبه ظلمة ليل قط، وهو القادم بعد ليل الناموس المظلم. هذا هو الصباح الذي سماه يوحنا: “النور الحقيقي الذي يضيئ لكل إنسان آت إلى العالم”، وظلمة الناموس لم تدركه…
هكذا قد جاء سيدنا ذاك الصباح والنور الحقيقي بعدما أسودَّ العالم في ظلام الخطية…
قال مصباح الحياة: “أنا نور العالم”، ثم زاد فقال: “من يأتي ورائي لن يمكث في الظلمة لكنه يجد نور الحياة”].
كان المرتل يتطلع بثقة إلى فوق منتظرًا استجابة الله لصراخه. هذا التصوير مأخوذ عن وضع إنسان في برج مراقبة ليعلن عن اقتراب رسول عائد أو عن تحركات أي شخص آخر. هكذا توصف حالة العقل في موضع آخر بالأنبياء، فيقول حبقوق: “وعلى البرج أقف، على الحصن انتصب وأراقب لأرى ماذ يقول لي” (2: 1)؛ وميخا يقول: “ولكني أراقب الرب، أصبر لإله خلاصي؛ يسمعني إلهي” (7: 7).
- يتجاسر المرتل فيدعو الرب [1]، إذ يقف أمامه كل صباح في بيت الرب. يقابل ذلك، لا يستطيع الأشرار أن يطلبوه لأنهم لم يقبلوا الدخول في قدسه كضيوف عنده يسكنون معه [4].
يدرك المرتل قداسة الرب ويعيها جيدًا، لهذا يحفظ نفسه بعيدًا عن الأشرار الكذبة المخادعين سافكي الدماء.
“تهلك كل الناطقين بالكذب.
رجل الدماء والغاش يرذله الرب” [6].
الكذب والغش وكل الخطايا لا تؤذي الله، إنما تحطم الذين يمارسونها. يعلق الأب ثيؤدورت أسقف قورش على العبارة السابقة قائلاً: [لا شيء يؤذي الله الذي لا يمكن أن يتدنس[164]].
v إذ يعطي (الكذبة) ظهورهم للوجود الحقيقي (الحق) يتحولون إلى اللاوجود (الكذب الباطل).
القديس أغسطينوس
v يلزمنا أن نكون دائمًا حذرين حتى لا نسقط في الكذب، لأن كل من يكذب لا علاقة له بالله… إذ يأتي الكذب دائمًا من الشيطان، إذ مكتوب عنه: “إنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 8: 44)… أما الله فهو الحق، إذ يقول: “أنا هو طريق والحق والحياة” (يو 14: 6). لننظر الآن كيف نحرم أنفسنا خراجًا، وماذا يكون مركزنا بالكذب، بلا شك نصير أتباع الشرير. لذلك إن أردنا أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قلوبنا ونحفظ أنفسنا من كل أنواع الباطل، فلا ننفصل عن الحق بكل قلوبنا ونحفظ أنفسنا من كل أنواع الباطل، فلا ننفصل عن الحق والحياة.
v لنهرب من الباطل (الكذب) يا إخوة، فنخلص من أيدي العدو، ولنجاهد أن نتمسك بالحق فنتحد بذاك القائل: “أنا هو الحق” (يو 14: 6). ليت الله يجعلنا مستحقين للحق الذي له[165].
الأب دوروثيؤس من غزة
- بيت الله ملجأ المرتل، وعبادته هي درعه:
“أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك،
وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك” [7].
يقول داود إن الإنسان التقى يعبد الله متجهًا نحو الهيكل الرب المقدس، إذ كانت العادة قديمًا أن تكون الصلاة موجهة نحو قدس الأقداس أينما كان المتعبدون (1 مل 8: 30، 38، 42؛ دا 6: 10). بعد خراب أورشليم، في المجامع اليهودية في الجليل، كان المؤمنون يؤدون العبادة متجهين نحو أورشليم.
v “إلى الأبد يهتفون وتحل فيهم” [11].
طوبى للذين يصيرون خيامًا للمسيح!…
من يحب الرب يبتهج في الرب![166]
القديس جيروم
v سأدخل بيتك (مز 5: 7) كحجر في البناء. هذا هو المعنى على ما أعتقد، وإلا ماذا يكون بيت الله إلا هيكل الله الذي قيل عنه: “لأن هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو” (1 كو 3: 17)؟ البناء الذي فيه (الرب) هو رأس الزاوية (أف 2: 20)، الذي هو قوة الله وحكمته شريك الآب في الأزلية.
القديس أغسطينوس
ربما يُعّبِر داود هنا عن اقتناعه بأن نفيه لن يدوم طويلاً، معنًا تصميمه على انتهاز أول فرصة للدخول إلى بيت الله. في كل هذا كان متضعًا، لا يعتمد على استحقاقه الذاتي أو حكمته أو قوته، بل على كثرة مراحم الله: “وأما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك” [7]؛ والجدير بالذكر أن مخافة الله والعبادة لا ينفصلان: “وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك” [7].
- الله هو القائد:
“اهدني يارب بعدلك،
من أجل أعدائي سهل أمامك طريقي” [8].
إذ يقودنا الرب نكون في مأمن من أعدائنا الروحيين. حقًا يخضع العالم للظلم، لكن الله العادل يعتني بأولاده، مظهرًا لهم رحمته ويدافع عنهم ويحفظهم. نحن نتضرع إليه أن يقودنا أمامه أو أمام عينيه، متوسلين إلى كِلّي المعرفة أن يرشدنا وأن يفحص طرقنا.
في محبته الإلهية إذ يهدينا يقدم لنا نفسه “الطريق” طريقًا لنا، سهلاً، لا يقدر الأعداء على مقاومته. طريقه هو الصليب يصير طريقنا، يحمل عذوبة خاصة وسهولة لأجل شركتنا مع المصلوب!
من أجل العدالة الإلهية حمل مسيحنا الصليب، لتُعلن رحمته كلية لعدالة، وعدله كليّ الرحمة؛ ناسبًا صليبه إلينا بكونه طريقنا الملوكي واهب النصرة.
v لقد أُمرنا أن نظهر له طرقنا، فتكون معروفة، فإنها لم تصر مستقيمة بجهادنا الذاتي، وإنما بمعونته ورحمته. لذلك كُتب: “اجعل طريقي مستقيمًا أمامك”، حتى ما يكون مستقيمًا عندك أحسبه أنا أيضًا مستقيمًا…
سلم للرب أعمالك، فتستقر أفكارك. عندما نعهد للرب معيننا كل ما نعمله، تستقر كما على صخرة ثابتة صلدة، وننسب كل شيء إليه[167].
القديس جيروم
- الله هو مصدر البركة في حياة الإنسان. “لأنك أنت باركت الصديق يارب” [12]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الصديق لا تهمه إهانات الناس له، لأن الله نفسه يباركه. ما المنفعة إن أكرمه العالم ولم يكرمه الله؟
- وفقًا لمشيئة الله مسار يوم الصديق دائمًا مُفرح، ينال الصديق الأمان والبركة [11-12].
- الله هو درعه وإكليله [12].
“مثل سلاح المسرة كللتنا”، وفي الأصل العبري: “كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا”. وكأن ترسنا هو مسرة الله أو رضاه!
يقول القديس جيروم: [في العالم، الدرع شيء والإكليل شيء آخر، ولكن مع الله هو نفسه درعنا وهو إكليلنا]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن حياتنا هي معركة روحية، يجب أن نكون مستعدين، لأن الشيطان يفعل كل ما في وسعه كي يحثنا على الخطية.
v كُتب في المزمور: “يارب، كللتنا باحسانك كما بترس” [12]. فإننا ننال نصرتنا وإكليل نصرتنا بحمايته بواسطة ترسه. نحن هنا نجري لكي ننال هناك، حيث نتسلم الإكليل بكوننا قد برهنا في هذا العالم أننا غالبون[168].
القديس جيروم
أخيتوفل رمز لضد المسيح محطم الميراث:
- شرير:
“لأنك إله لا تشاء الإثم،
ولا يساكنك من يصنع الشر” [4].
ضد المسيح وأتباعه أشرار، أما الله فقدوس ليست له مسرة في أي شر؛ لا يستطيع إلا أن يحب من هم على صورته (البر)، ولا يستطيع إلا أن يرفض صورة الشرير. الله والشر لا يمكن قط أن يجتمعا معًا، لأنه “أي شركة للنور مع الظلمة؟ أي اتفاق للمسيح مع بليعال؟” (2 كو 6: 14-15). ويقول القديس جيروم: [الله نار، نار آكلة (تث 4: 24)؛ وكل إنسان قشًا كان أو خشبًا يهرب بعيدًا عن النار لئلا تحرقه[169]]. لم يقل المرتل “هؤلاء الذين هم مذنبون بفعل الخطية” بل قال “من يصنع الشر”، أي يُصرّ على الخطية.
- متكبر [5]: لا يقترب إلى الله، بل على العكس يتمرد ضده وضد كنيسته. التمرد ضد الله يُرى في جميع الاتجاهات، يُمارَس العنف على الأرض تحت قيادة ضد المسيح.
- غاش [6]:
“تُهلك كل الناطقين بالكذب
رجل الدماء والغاش يرذله الرب” [6].
يقول القديس أكليمندس السكندري: [يدعوه إنسانًا كاملاً في الشر، بينما يُدعى الرب إنسانًا كاملاً في البر (2 كو 11: 2)[170]].
يقول القديس جيروم: [الإنسان الي يكذب يكون أكثر بئسًا وتعاسة ممن يفعل الشر. وإن كان فاعل الشر يخضع لكراهية الله، فالكذب يهلك تمامًا: “الفم الكذاب يذبح النفس” (حك 1: 11)[171]].
- رجل دماء [6].
- حنجرته قبر متسع مفتوح، منه ينبعث الموت [9]. اختبر داود أن اللسان مميت كالسيف. لقد ركَّز على فم ضد المسيح كمصدر تجديف يعلن عن شره الداخلي.
الحنجرة الشريرة قبر متسع لا يكتفي قط ولا يشبع. إنها قاسية كالقبر، تتحفز لكي تفترس وتبتلع، نهِمَة القبر، الذي لا يقول قط “كفى!” (أم 30: 15-16).
v اسمع، كيف يجعل الناس من ألسنتهم آلة، البعض يستخدمونه للخطية والآخر للبر! “لسانهم سيفٌ ماضٍ” (مز 57: 4). ويتكلم آخر عن لسانه، قائلاً: “لسان قلم كاتب ماهر” (مز 45: 1). الأولون يسبب لسانهم هلاكًا، والآخر كتب الناموس الإلهي. لهذا حُسب الأول سيفًا والأخر قلمًا، لا بحسب طبيعته وإنما بسبب اختيار من يستخدمه؛ لأن طبيعة لسان هذا أو ذاك واحدة، لكن العمل الذي يقوم به ليس واحدًا[172].
v لا نعجب إن اتبع هؤلاء الهراطقة حكمة الأمم، لكننا نهزأ بهم إذ يتبعون معلمين أغبياء… هم عظماء في مواقعهم، ينمون في التواءٍ جميل، يختفون وراء ثيابهم الفلسفية؛ هكذا تنتشر فلسفتهم، لكن إن تطلعت في داخلهم تجد ترابًا ورمادًا، لا شيء سليم، “حنجرتهم قبر مفتوح”، كل ما لديهم مملوء دنسًا وفسادًا، وكل تعاليمهم دود[173].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v الهراطقة ليس لهم المسيح الحق على شفاههم، إذ لا يحملونه في قلوبهم. قلبهم باطل (مز 5: 10)… ينطقون بالتقوى ويخفون ضلالهم. يتكلمون عن المسيح ويخفون ضد المسيح، عالمين أنهم لن ينجحوا في غوايتهم قط إن جاهروا بضد المسيح. يقدمون النور إنما لكي يخفوا الظلمة؛ بالنور يقودون الغير إلى الظلمة[174].
القديس جيروم
v يستخدم المرتل عبارة رائعة: “قبر مفتوح”، لأن الطمع واسع لا يشبع على خلاف القبور التي تُغلق بعد دفن الجثمان…
هم أنفسهم يقدمون كلامًا بلا حياة، لأنهم محرومون من حياة الحق؛ يبتلعون الأموات الذين قتلتهم أولاً كلماتهم الكاذبة وقلوبهم الماكرة، وبعد ذلك يسحبونهم (كجثث) في داخلهم.
القديس أغسطينوس
v كما هو الحال مع كثيرين الآن، يزينون أنفسهم من الخارج، لكنهم مملوئين شرًا من داخل. توجد أنماط وأشكال عديدة للطهارة الخارجية، بينما نفوس هؤلاء لا تملك ما يبدو عليها في الظاهر. بالحقيقة إن فتحَ إنسان ضمير أحدهم يجد الكثير من الدود مع الفساد، يجد رائحة كريهة لا يُعبر عنها تتوارى خلف الفاظ منمقة، شهوات شريرة حيوانية، أعني ما هو أكثر دنسًا من الدود[175].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أفواه مثل هؤلاء إذ تُخرج كلمات موت ودمار تُدعى قبورًا، هكذا كل من يتكلم ضد الإيمان الحق أو يعارض تعليم الطهارة والعدل والاعتدال[176].
العلامة أوريجانوس
- مُرّ المذاق [11]: ينال الأبرار عذوبة الله بينما يجده الخطاة مرًا في أفواههم.
v “لأنهم أغاظوك يارب” [10]. يقول ربنا: “أنا هو خبز الحياة الذي نزل من السماء” (يو 6: 51)؛ “ذوقوا وانظروا ما أطيب (أحلى) الرب” (مز 34: 8)؛ أما بالنسبة للخطاة فإن خبز الحق مُرّ المذاق. لهذا يكرهون الفم الناطق بالحق، ويجدون الله مُرًّا. لأن الخطية جعلتهم مرضى للغاية حتى صار خبز الحياة اللذيذ بالنسبة للنفس التي تنعم بالعافية مذاقه مُرّ لا يحتمل.
القديس أغسطينوس
يقول المرتل:
“دنهم يا الله، وليسقطوا من جميع مؤامراتهم” [10].
يقول القديس أغسطينوس: [هذه نبوة وليست لعنة].
إنها مسئوليتهم، لأنهم يُعاقبون بواسطة أفكارهم (مؤامراتهم) وخطاياهم. إذ تحمل الخطية جزاءها في ذاتها. لذلك يقول الرب: “تموتون في خطاياكم”.
صرخة من أجل الميراث
v كن ميراثًا لي، واقبلني ميراثًا لك، يا ملكي وإلهي!
v مع كل صباح جديد أشرق ببهائك في داخلي:
بدد ظلمة خطيتي، فاستنير ببرك وجلالك!
بدد ظلام الحرف القاتل، فاستنير بالروح المحييّ!
انصت إلى كلمات قلبي، أنت وحدك تفهمها!
حطم مؤامرات الشرير المخادع القتّال والمملوء مرارة!
v افتح لي أبواب بيتك لأنعم ببهاء هيكلك المقدس؛
هب لي أن أفتح لك أبواب قلبي لتقيم مذبحك داخلي!
v لتحّل بركتك عليّ، ولتدربني على حياة الجهاد، واهبًا لي النصرة!
v هب لي روح الهتاف والبهجة بك مع كل شعبك!
تفسير المزمور 4 | تفسير سفر المزامير القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير المزمور 6 |
تفسير العهد القديم |