قيامتنا كلنا
في صلاة أوشية الإنجيل يقول الكاهن مخاطباً المسيح ” لأنك أنت هو حياتنا كلنا، وخلاصنا كلنا، ورجاؤنا كلنا، وشفاؤنا كلنا وقيامتنا كلنا”.
القيامة هنا تأتي ختاماً لأعمال المسيح في حياتنا . فحسب ترتيب هذه الأوشية يبدأ المسيح عمله فينا بأن يهبنا حياة من فوق في سر الميلاد الثاني بالاصطباغ من الماء و الروح . ثم يؤمَّن هذه الحياة الجديدة بفعل الخلاص بدمه في سر الإفخارستيا. ثم يؤازر جهادنا المُتعثر في طريق الخلاص بسر الرجاء. ثم يشفى سقطاتنا و أمراضنا بسر مسحة زيت رحمته. وأخيراً وختاماً لكل أعمال المسيح ، وكتاج وإكليل، تأتي القيامة، سر الأسرار جميعها، تأتي فتجعل سر الحياة الجديدة وسر الخلاص وسر الرجاء وسر الشفاء حقيقة قائمة دائمة في صميم طبيعة الإنسان، تؤهلها للاستمرار في الحياة مع المسيح الآن وفي الموت وبعد الموت.
فإن كانت جميع الأسرار تؤهلنا أن نحيا مع الله هنا على الأرض، فسر القيامة يؤهلنا للصعود لنحيا مع الله فوق في السماء ، لذلك يشدد علينا بولس الرسول:«إن کنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق». بمعنى أن روح القيامة لو انسكب في قلوبنا حقاً فإننا حتماً لن نعود ممسوكين بالنظر إلى ما هو تحت، أي ما هو تراب، بل تنجذب عيوننا إلى النظر إلى فوق، إلى مصدر حياتنا الجديدة. وهذا حق، وهو أمر منطقي أن الذي أخذ روح القيامة لا تعود سعادته على الأرض، لأن مركز حياته كله يكون قد انتقل من الأرض للسماء.
طالما الإنسان لم يوهب سر القيامة ؛ تظل سعادته على الأرض ، ولكن في اللحظة التي يتقبل فيها روح القيامة فإنه يشعر أن سعادته وأفراحه وكل اشتیاقات قلبه قد انتقلت إلى فوق ، إلى بيتها الأبدي.
هناك البعض للأسف ينكرون القيامة ، هم يعيشون في ملكوت أرضي ، هم مستعدون أن يقبلوا كل أعمال المسيح لتزيدهم راحة وسلامة وسعادة على الأرض، ولكن أن يقبلوا القيامة بصدق وإخلاص فهذا أمر مستحيل، فهذا يستلزم أن ينقلوا في الحال مركز حياهم وتفكيرهم وآمالهم وسعادتهم من الأرض للسماء ، ومن الجسد إلى الروح.
ونحن بالمثل مطالبون الآن أن نكون واقعيين مع أنفسنا : « جربوا أنفسكم هل أنتم من الإيمان. امتحنوا أنفسكم. أم لستم تعرفون أن يسوع المسيح هو فيكم، إن لم تكونوا مرفوضين».
ماذا تعني القيامة بالنسبة لنا ؟
هل هي عقيدة فكرية وطقس نُعيد له وحسب، أم هي حياة ؟ هل نعيش في قيامة المسيح حقاً بإحساس إنسان قام من الموت بروح المسيح وصار ناظراً إلى فوق ، فأصبح بالتالي القبر والموت خلف ظهره والحياة الأبدية بكل أمجادها أمامه، أم لا نزال بسبب الخوف من الموت تحت عبودية الاهتمام بأمر الغد والتورط في حساب المستقبل دون افتداء الوقت ؟
إن قياس سلوك الإنسان على مقياس القيامة يفضح تدين المسيحي، فالمسيحية بدون قيامة حقيقية، أي على أساس نظر مُثبت دائماً إلى فوق، تصبح ردة إلى اليهودية، كما كان في القديم .
لذلك ، إن كان حمل الصليب ، والذي هو رمز التجرد والفقر الاختياري والضيقات ، يشكل محنة بالنسبة للمسيحي الطامح وراء أمجاد و مسرات هذا الدهر ؛ فإن الإيمان بالقيامة والمعيشة بروحها تضعه في مفترق طريقين : الأرض أو السماء ، الذات أو الله ، حياة حسب الجسد أو حياة حسب الروح.
للأسف كثيرون تزيَّفت عليهم المسيحية ، فحسبوها مجرد أخلاق فاضلة مع مسرات نفسية و أفراح أخوية وبهجة اجتماعات ، وما علموا أن برهان صدق الحياة المسيحية الوحيد هو القيامة التي يجوزها الإنسان في أعماقه ، فيجوز تغييراً کاملاً شاملاً يعيد صياغة فكره وآماله ونظرته للحياة كلها . ليس معنى هذا أن الحياة بروح القيامة تخلو من مسرات وأفراح ، بل على العكس ؛ فأفراح القيامة لا تدانيها أفراح ، وبهجة الحياة التي أضاءها وجه المسيح القائم من الأموات لا يمكن أن تزعزعها أتعاب أو ضيقات ، لأن مصدر فرح الإنسان العائش في بهجة القيامة هو فرح سماوي لا يمكن إن يطاله حزن أو ألم أو خسارة أرضية أو نفسانية مهما تعاظمت ، إنه وعد إلهي غير قابل للتغيير : « ولا ينزع أحد فرحكم منكم».
وقد يظن إنسان أن النظر الدائم إلى السموات بروح القيامة الحقيقية يطفئ جذوة التطلع إلى خير البشرية ، ويفسد جهاد الإنسان على الأرض ، ويضعفةمن تقدمه العلمي .. ولكن هذا غير صحيح ، لأن الإنسان الذي يعيش بروح القيامة لا يفقد إلا طموحه الشخصي ولا يتنازل إلا عن أنانيته هو ، أما رغبته في إسعاد البشرية فإنها تزداد وتتأجج فيه أضعافاً مضاعفة بسبب حضور المسيح فيه : « كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام».
ولا ينبغي أن نظن أن القيامة هي فكرة تجريدية أو حالة خيالية أو حالة روحانية صرف تختص بالإدراك اللاشعوري ؛ ولكن المسيح شجب هذا التحليل اللاإيماني ، عندما قال لتلاميذه : « جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي … أعندكم ههنا طعام ؟ … فأخذ وأكل قدامهم!!»
القيامة هنا أثبتها المسيح إثباتاً مدموغاً بالرؤيا و بالحواس جميعاً أنها قيامة جسدية باللحم والعظام وبكل مكونات الجسد ، حتى الجروح التي في اليدين والجنب المفتوح كلها بقيت على حالها تشهد لنصرة القيامة فوق ضربات الموت!! يا لسعادة الطبيعة البشرية، لقد انفتح أمامها باب الحياة الأبدية ودخل المسيح كسابق يحمل طبيعتنا ليورثها ملكوته، ملكوت القيامة والخلود والنور الأبدي.
إن فرحة التلاميذ لما رأوا معلمهم المحبوب قائماً من الأموات ناقضاً أوجاع الموت وآلامه، كانت فرحة قوية وجارفة لكل مشاعرهم وتفكيرهم، واعتبروها أعظم بشارة مفرحة للعالم، والإنجيل الذي انطلقوا على أساسه يشهدون للمسيح في المسكونة كلها. وكان مجمل هذه البشارة أو محور الإنجيل كله أن المسيح هو قيامتنا كلنا.
وهبة القيامة التي مُنحت للطبيعة البشرية بقيامة المسيح من الأموات هي هبة عامة ، ولكل إنسان الحق في قبولها لكي يصبح صاحب حق فيها، أو بمعنى آخر لكي تصبح قيامة المسيح المُمجدة هي قيامته هو.
ولكن هبة القيامة تلك تضعنا أمام مسؤوليتين :
1- أي إهمال من جانبنا في قبول قيامة المسيح في حياتنا كقيامة حقيقية لنا ضيع علينا تلقائيا هذه الهبة العمومية بكل برکاتهما وإنعاماتهما . وهنا لا يصير المسيح قیامتنا، بل تصير لنا قيامة أخرى هي: « قيامة الدينونة».
۲- أي إهمال أو تجاهل من طرفنا لعمومية هبة القيامة تجاه الآخرين ، فإن ذلك يسيء إلى حقيقة قيامة المسيح بالنسبة لنا، لأن المسيح قیامتنا كلنا . و ” كلنا ” هنا تحتم أن أفتش على قيامتي في قيامة أخي . قيامتي ستظل ناقصة و متضائلة حتى أستكملها بقيامة الآخرين. قيامة المسيح ، مجدها وبهاؤها في كونها ” قيامتنا كلنا”. وحينما نبلغ إلى قيامة الآخرين معنا ، سندخل بالفعل في مجد قيامة المسيح . ومجد المسيح سنحسه في كل جهد، في كل دمعة، في كل تضحية، في كل خسارة نحتملها من أجل قيامة الآخرين معنا حتى يصبح المسيح قیامتنا كلنا.
من کتاب القيامة و الصعود ، مقالة : قيامتنا كلنا ص 27