تفسير رسالة رومية اصحاح 12 للقمص متى المسكين

الأصحاح الثاني عشر
مطالب البر في الحياة المسيحية

مقدمة :

بعد أن أسس ق. بولس في الأصحاحات السالفة قاعدة الإيمان المسيحي كقوة إلهية فعالة في صميم الطبيعة البشرية، على أساس ظهور بر الله المبني على الفداء والخلاص والمصالحة ، وبالنهاية نوال الخاطيء نعمة وسلاماً من الله وتقديساً بالروح القدس، كان من الطبيعي أن يرسم صورة للأخلاق المسيحية وكيفية السلوك اليومي الذي يطابق هذه العطايا الإلهية وغنى النعمة الممنوحة .

ولـكـن بولس الرسول لـيـس مـعـلـم أخـلاق بل هو في الحقيقة رسول إنجيلي موهوب ، مبشر بالخلاص: «فهكذا مـا هـو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضاً لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولا ثم لليوناني، لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان» (رو1: 15-17). فموهبة ق. بولس هي تسليم الإنجيل كقوة للخلاص بالإيمان، حيث تأتي الأخلاق ويأتي السلوك كتطبيق مباشر لهذه القوة الخلاصية التي حلت ربط الخطية وكشرت سلطانها . فأخلاق المسيحي ، عند ق. بولس، تختلف عن أخلاق الذي لم يؤمن. لأن المسيحي نال بالإيمان قوة الخلاص التي لها بالروح سلطان لكسر حدة الخطية وغلبتها . لذلك فهو ليس من فراغ يطلب : «لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » (رو2:12)، «لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم … وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا » (أف 4: 17 و20). القديس بولس لا يضع قانوناً أو نظاماً أخلاقياً، ولكنه وضع أساساً من الإيمان فـيـه قـوة الروح القدس، لذلك حينما يطالب بالسلوك والأخلاق العالية فهو كمن يطلب الثمر لما زرع، كثمر للروح القدس الذي نلناه ببر الله بالإيمان بالمسيح

وق. بولس حـيـنـما يلقن الإيمان ويبني أساسات العقيدة في الأصحاحات السالفة، من واقع الـتـبـرير والفداء والخلاص والتقديس، كان باستمرار يسلط النور على أن هذه العناصر الإيمانية هي بعينها قوة الأخلاق وروح السلوك . فحينما كان يلقننا عقيدة الموت مع المسيح، لم يفت عليه أن ينبه روحنا بقوله : « إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون » (رو13:8). وهذا المعيار اللاهوتي هو بعينه أقوى بند في دستور الأخلاق! وهو عماد السلوك المسيحي بل والقوة الفعالة للنسك المسيحي. وحينما بلغ ق. بولس في شرحه اللاهوتي نقطة التحول من الحياة حسب الجسد للحياة حسب الروح، بالإيمان بالمسيح ونوال الروح القدس كمدبر للحياة، وبالتالي صار الجسد يخدم البر عوض أن كان يخدم الخطية، لم يفت عليه أن يكشف لنا هنا القوة الأخلاقية المدخرة لنا بـالـروح حينما قال : « ولا تقدموا أعضاء كم آلات إثم للخطية ، بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعـضـاء كـم آلات بر الله » (رو13:6). وق. بولس ليس من فراغ يعطي هذا التوجيه الأمر ولكن من واقع نعمة الروح القدس الذي نلناه: «كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله . » (رو8: 14)

هكذا يرفع ق. بولس الأخلاق إلى مـسـتـوى اللاهوت ، ويوظف مواهب اللاهوت للعمل الأخلاقي وهـو واثق أن القوة الغالبة ليست منا، ولا حتى بالجهد المبذول ، فالنعمة تتكفل بأثقال الجسد وتهون التعب والسهر والجوع والحرمان والبذل والخدمة والحب العمال واحتمال الخسارة والإهانة بفرح .

والآيات التي قالها ق. بولس في هذا المضمار وهو يربط الإيمان بالعمل لا يكفيها كتاب قائم بحد ذاته. وق. بولس إذ يعلم مقدار اتساع هذا المضمار، وهو إنما يكتب مجرد رسالة ، اكتفى في الأصحاحات الباقية برؤوس مواضيع ، طرقها الواحد تلو الآخر، في اختصار شديد ولكن كمن يضع المنهج ويترك الشرح .

كذلك لم يغفل ق. بولس أن يصور المجتمع المسيحي الذي ينبغي أن يكونه كما تعكسه مكوناته الإيمانية الراسخة، كما أعطى في ذلك الأمثلة التي تحتذى . وهكذا تمتاز رسالة رومية فيما اتجاهات أخلاقية وسلوكية أكثر من كل الرسائل في إعطاء تعليم أخلاقي متكامل تضمنته من متعدد الاتجاهات .

ـ ولكن ـ

لا يزال هناك سر يرقد خلف منهج ق. بولس في رسالة رومية، والمرتب فيه أولاً تقديم عناصر الخلاص والـفـداء، ثـم يـلـيـه ثـانـيـا عناصر وصايا السلوك والأخلاق وممارسة الحياة اليومية وشكل الجماعة المسيحية، وثالثاً واجبات الجماعة تجاه الخارج .

فلو تأمل القارىء فيما قدمه موسى في التوراة من عملية الفصح ثم الخروج من مصر وعبور البحر الأحمر والـوصـول إلى سيناء، فسيجد أنها تضمنت كل العناصر الأساسية في اللاهوت الخلاصي في العهـد الـقـديـم، من ذبح خروف الفصح ورش دمه على الأعتاب علامة النجاة، ثم أكل الفصح الخروج وخلاص الشعب وفداء الأبكار، من سُخرة المصريين واضطهاد الذي كان فيه قوة وسر فـرعـون، ثم الحرب المريرة التي وقعت خلف إسرائيل بيد فرعون وجنوده ، وحماية الله لإسرائيل، «الرب يـقـاتـل عـنـكم وأنتم تصمتون » (خر14: 14)، وإدخالهم في البحر الأحمر الذي هو الموت عينه وخروجهم سالمين دون أن تبتل ملابسهم، ونجاتهم جميعاً وهو ما يعني غلبتهم على الموت حتى وصولهم سالمين مترنمين على شاطىء السلام في سيناء .

هذا نراه هو بعينه ما قدمه ق. بولس في أصحاحاته الثمانية الأولى على مستوى لاهوت الخلاص والـفـداء بالمسيح، ولا داعي هنا لذكر مفرداته المطابقة لصورتها الرمزية كما جاءت في العهد القديم ، إذ سبق وذكرناها باختصار .

ولـكـن الـذي يـهـمـنا هو ذلك التطابق العجيب في كون موسى بعد أن أكمل لهم عملية الفداء بخروف الفصح والخلاص من عبودية مصر وسخرة فرعون، صعد إلى الجبل وتلقى الوصايا للعبادة الجديدة بـفـرائـضـهـا ثم وصايا السلوك والأخلاق الفردية والجماعية، وإعطاء صورة لمميزات جماعة إسرائيل كشعب الله المختار و واجباته .

وهذا هو بعينه ما ابتدأ به ق. بولس بعد تكميل عناصر لاهوته ليقدمه للشعب المسيحي . وهذه الحقيقة تحمل استعلان سر منهج ق. بولس الموقع على ما رتبه الله مع موسى على الجبل، بل وتعطي تفسيراً لبعض كلماته التي يصعب إيجاد أي تفسير لها إلا من خلال إدراكنا لتعمّده إسناد تعليمه الأخلاقي والـسـلـوكـي إلى ما سبق وأن قدمه من عناصر لاهوته . وعلى سبيل المثال ، فإنه يبدأ الأصحاح الثاني عشر الذي فيه تعاليمه السلوكية والأخلاقية بقوله : « فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله»، وصحتها : ” أطلب إليكم أيها الإخوة « بمراحم الله » “ حسب النص ـ لأنها أتت في الـيـونـانـيـة بالجمع وبمعنى الرحمة. وهكذا حينما يسند ق. بولس تعاليمه الأخلاقية إلى ما قدمه مسبقاً من استعلان مراحم الله على الإنسان بالفداء والخلاص ومنحه بر الله ، تفهم بسهولة أنه يقصد أن يقول : ” أنا الآن أطالبكم بحق مراحم الله التي أعلنتها لكم والتي هي الآن في حوزتـكـم ، أن تلتزموا بالمنهج السلوكي الأخلاقي ” . و بهذا ندخل إلى شرح منهجه ولدينا مفتاح يسهل علينا فهم كل ما يقدمه ق. بولس من وصايا . 

 

[12: 1و2 ] عبادة الإنسان المسيحي شهادة عملية لبر الله بالإيمان

 

1:12 «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله (بمراحم الله) أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية».

هذه الآية تجمع كل العناصر التي تخص العبادة المسيحية ، في مقابل العبادة اليهودية التي استلمها الشعب من فم موسى بعد أن نزل من على الجبل في سيناء .

أول كل شيء لينتبه القارىء إلى معنى العبادة هنا. فتقديم أجسادنا ذبائح حية مقدسة مرضية، هي العبادة الناطقة : حيث المعنى الكلي للآية : أطلب إليكم بمقتضى قوة مراحم الله التي أكملت لكم بالفداء والخلاص، ونعمة الله التي تلتموها كشعب جديد الله قد اختاركم وقدسكم وفـداكـم و بـرركم، أن تقدموا الله عبادة روحية ليس من حيوانات ميتة خرساء، ولكن بأجسادكم الحية بالله التي تقدست بروحه القدوس، فصارت ، وهي بلا لوم قدامه في المحبة، بمثابة عبادة ناطقة .

فالآن إن كان يتحتم أن تكون الذبائح التي تقدم في القديم بحسب الناموس طاهرة و بلا لوم ، فهذا مطلب لا يخص الله لا في القليل ولا في الكثير بأي حال من الأحوال وإلا لكانت قد دامت ، هذه الذبائح، ولكن هذا كان مطلباً أساسياً بالنسبة لنفس الإنسان لكي يختبىء وراءها بسبب عدم طهارته وعدم خلوه من اللوم ، سواء كان يقدمها ذبيحة عن خطاياه أو استرضاء لوجه الله لكي يقف أمامه. أما الآن وبعد أن سقط كل لوم عن الإنسان واستعاد قداسته بالمسيح، فقد انتهى عصر ذبائح الحـيـوانات بالضرورة، وصار الإنسان نفسه هو الذبيحة المقدمة إلى الله، وقداسة سيرته وطهارة حياته هما اللتان تقدمانه إلى الله ليقف أمامه بلا لوم في المحبة ليعبده بشجاعة .

وهكذا يلزم أن أن العبادة بمقتضى الناموس القديم وبتقديم ذبائح حيوانية ، كانت عبادة تليق بإنسان واقع تحت عبودية الخطية، وهو نفسه خالي من أي الأسباب التي تقدمه إلى الله. لذلك تحتّمت الذبائح لتحمل عنه خطيته، وتحتم عليه أن لا يتراءى أمام الله فارغاً فلابد أن يقدم شيئاً يغطي به فراغه: «… ولا يظهروا أمامي فارغين » ( خر23: 15). أما الآن : «فإن به لنا كلينا قـدومـاً في روح واحـد إلى الآب» (أف2: 18)، «لأنـكـم قـد اشـتـريـتـم بـثمن ، فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله . » ( 1کو6: 20)

«فأطلب إليكم أيها الإخوة بمراحم الله»:

هنا ق. بولس لا يـأمـر ولا يـتـوسّل ، كذلك لا يوجه كلامه للفرد، بل التوجيه هنا للجماعة المسيحية ككل ـ ومن داخلها كل فرد ـ كشعب الله الجديد الذي نال كل المواهب العالية من يسبق الاخـتـيـار والتعيين للحياة الأبدية ورفع الدينونة بالفداء والخلاص والنعمة التي ختمها بقوله: « فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو6: 14). إذاً فحق للقديس بولس أن «يطلب » باسم الله ، لا كأنه يتوسّل، لأن طلبه مؤسّس على إمكانيات حاضرة عندهم، فهم قد غلبوا العالم والخطية وقبلوا من الله نعمة، فهو على حق كل الحق والشجاعة والجرأة أن يطلب منهم وهو واثق أن طلبه هو بعينه طلب الله، وأن المسيح نفسه پسند طلبه . فطلبه أصبح ضرورة، وضرورة حتمية، لأنه يطلب الثمر لما زرعه المسيح فيهم ، لأن طاعة الإنسان وعـبـادتـه ما هي إلا رد فعل بالشكر والتسبيح للخلاص الذي أكمله الله بالمسيح . فإن كان ق . بولس يطلب هذا من الجماعة المسيحية فهو يعبر عن رجاء الله فينا .

وليت ذهن القارىء ينتبه هنا، «فالعمل» الذي سيطلبه منهم ق. بولس هو ثمرة لعمل المسبح وليس جهداً للإنسان يستند على الإرادة أو العزيمة أو البر الذاتي، وهذا قد انتهى منه ق . بولس في شرحه اللاهوتي .

« بمراحم الله » : 

وتأتي بالعبرية rahamim وباللاتينية misericordiam ، فهي ليست «رأفة الله» كما سبق وشرحنا . والـقـديـس بـولـس يستخدمها كأساس كامل شامل للمنهج الأخلاقي والعبادي الذي سيضع خـطـوطه للمجتمع المسيحي. والقديس بولس يقصد بها أن المجتمع المسيحي لن يقدم على عبادة الله بقلب صادق ويخضع لوصاياه ويسلك باللياقة وبالخوف اللائق والغيرة المخلصة، إلا إذا علموا أنهم مديونون لمراحم الله . وفي نفس الوقت يقنعنا أن أعمال الله معنا تكشف عن محبة عظيمة كافية لتقنعنا أن تكون عبادتنا بمنتهى مسرتنا وإرادتنا .

«أن تقدموا أجسادكم » :

هنا «التقديم» ينحصر في معنى تقديم الذبيحة، ولكن ليس على المستوى المادي بل تقديم معنوي روحي كتقديم التسبيح أو تقديم الصلوات . أما تقديم « الأجساد » فهنا البديل الأساسي والخطير في الفرق بين العبادة اليهودية والعبادة المسيحية من جهة تقديم الذبائح كعبادة. وأول من أشار إلى هذا الفارق الهـائـل بـل وأسسه بنفسه، هو الرب في قوله بالنبوة : « لذلك عند دخوله إلى الـعـالـم يقول ذبيحة وقرباناً لم تُرد ولكن هيأت لي جسداً » (عب10: 5). بمعنى أن أول جسد (إنساني) صار ذبيحة لدى الله عوض كل ذبائح العهد القديم هو جسد المسيح .

وقد سبق وأن «قدم المسيح » في الهيكل أمام الله ـ كونه بكراً وقدوسا ـ كذبيحة حية : «صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب » ( لو2: 22). والقديس بولس استخدم هذه الكلمة «يقدم الله» في وضع آخر هام حينما قالها عن الكنيسة أن المسيح هو الذي يقدمها . ولكن الترجمة العربية غيرت المعنى الصحيح بقولها : «يخضرها » والصحيح « يقدمها » : « … لكي يقدسها، مطهراً إياها بغسل الماء ( المعمودية ) بالكلمة لكي ” يحضرها ” يقدمها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن (علامات الهرم) أو شيء من مثل ذلك ، بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 26 و27). هنا ” التقديم ” يأخذ معناه اللاهوتي العالي، فالرب «يقدم» الكنيسة لنفسه، ونحن نعلم تماماً أن الكنيسة بمثابة عروس للمسيح ، فالتقديم هنا يشمل معنی الرفع والتقريب والتكريم معاً حيث يصبح «الجسد » كذبيحة تحت أمر الله !! فالكنيسة مقدمة في ذبيحة المسيح أي جسده ، أمام الله .

ق. بولس هنا يستعير هذا المعنى تماماً حينما يضع أساس الذبيحة في العبادة المسيحية أنها تقوم بتقديم «جسد» الإنسان الله ذبيحة عوض جسد حيوان أخرس ميت مذبوح . كيف يكون ذلك ؟

لقد شرحها ق. بولس سابقاً في معرض شرحه اللاهوتي عندما قال : « ولا تقدموا أعضاء كم آلات إثم للخطية بل قدموا  ذواتكم الله كأحياء من الأموات . » (رو6 : 13)

هنا وضح كيف نقدم أجسادنا ذبيحة الله : فأولا القديس بولس يركز على الأعضاء كالات وثانياً تقديم الذات أي الأنا ، التي يتعالى بها الإنسان ويتعظم ، وهكذا يسهل علينا أن نفهم كيف نقدم أجسادنا لله .

فأولا : بحفظ كل أعضاء الجسد في حدود العفة ضد كل شهوات العالم ، ثم تدريب هذه الأعضاء كيف تخدم القداسة والبر والطهارة بخدمة الله وكلمة الإنجيل و بذل المحبة .

وثانياً: حفظ الذات ، وهي أخطر من يمثل « الجسد» بالظهور والتعالي والكبرياء والتحدي والاعـتـداد بالذات والعناد والمقاومة والتشبث بالرأي والخصام والتحزب . فإذا تخلصت الذات من كل هذا بنعمة الله ومراحمه القوية ـ المستعدة للمؤازرة عند أول سعي بالنية الخالصة ـ حينئذ يبدأ الإنسان يخدم الله بهذه الذات التي بعد أن كانت عاتية ، تكون قد فقدت ملكيتها لذاتها : «لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة» (في 7:3). وهكذا ينحني تحت إرادة الله بـالـتـواضـع وتـقـديـم الآخرين وتكريم كل الناس وأخذ المكان الأخير والبذل الصادق والحب الصادق واستعداد العطاء الدائم، وفي كلمة واحدة يكون الإنسان قد ذبح ذاته الله بسكين المحبة . بهذا يتراءى الإنسان « بالجسد» أمام الله وقد صار بنعمته ذبيحة وهيكلا الله !! والجسد آلة تسبيح !!

وبمعنى آخر إن كنا قد عرفنا أن الله اشترانا بدم ابنه يسوع المسيح ، فنحن نبيع أنفسنا له بإرادتنا، في خدمة حب وبذل وشهادة .

« ذبيحة حية » :

ذبائح العهد القديم تقدم ميتة، أي تذبح ذبح الموت ، أما الحياة هنا فهي تعود على الجسد في حالة الذبيحة، فالجسد الإنساني بطبيعته ميت بسبب الخطية ولكن حينما يقدم إلى الله بخدمة التسبيح والشكر في شخص المسيح، يصبح في حالة الذبيحة الحية لأنه يكون شريك ذبيحة المسيح وفيها، حيث المسيح قائم من الأموات ونحن فيه أيضاً. بمعنى أن الجسد يكون قد مات مع المسيح وقام ، لـيـس جـسـد الخـطـيـة بعد ولكن جسد الإنسان الجديد الذي ذبح مع المسيح وقام، فهو حي بالمسيح وحياته فيه دائمة لا يسود عليها الموت . وبمعنى آخر غاية في الوضوح والاختصار: كما أن المسيح الآن هو حي في كل حين، «ذبيحة حية»، خروف قائم كأنه مذبوح ؛ فنحن إذ نقدم أنفسنا الله ونحن متحدون بالمسيح ، تعتبر ذبائح حية : « من أجلك ثمات كل النهار، قد حبيبنا مثل غنم للذبح » (رو8: 36)، أي مائتون في العالم وللعالم وأحياء الله بالمسيح .

واضح أن ق. بولس في قوله هذا، يتكيء بكل ثقله على ما سبق وشرحه من جهة موتنا مع المسيح وقيامتنا مع المسيح : « قدموا ذواتكم الله كأحياء من الأموات …» (رو13:6)

كذلك واضح أن ق. بولس يستعير من الصورة القديمة في عبادة العهد القديم كلمة ” ذبائح “ ، ولـكـن يـضـيـف عليها ما لم يكن في عبادة العهد القديم ولا في ذبائحه التي كانت تذبح لتموت ، ولـكـن هنا ذبائح حية تعيش كل يوم لتقدم كل يوم بل على الدوام. فكما أن ذبيحة المسيح بعد ما قام لا يسود عليها الموت بعد (رو6 :9)، بل هو حي أمام الله كل حين يشفع في المذنبين ( عب 25:7)، هكذا تماماً نحن ، كما قال ووعد: «إني أنا ح  فأنتم ستحيون . » (يو14: 19)

ولـكـن لـيـتـنا ننتبه لأن وراء كلام ق . بولس نداء حلواً يلذذ النفس، فنحن مدعوون أن نعتبر أنفسنا ذبائح الله حية على الدوام، أمواتاً للعالم وأحياء للمسيح . والذبيحة يا صديقي ليس لها سلطان على نفسها ولا على جسدها، فهي تقدست للرب ، وللرب تحيا وتعيش : « وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو5: 15). فنداء ق. بولس هذا : « قدموا أجسادكم ذبيحة حية » ليس فقط هو كل العبادة الحقة والصادقة ، بل هو أيضاً كل اللاهوت معاشاً .

هي بعد معنی وعلى القارىء أن يتذكر كيف أنه في العبادة القديمة ، كانت عملية تقديم الذبائح الحيوانية بأنواعها وأشكالها طول النهار معتبرة لدى اليهود أنها العبادة الحقيقية الدائمة ليهوه العظيم ، حيث رائحة اللحم والشحم والدم على المذبح طول النهار كانت في نظرهم هي مسرة الله ، ورائحة الدهن الـكـريهـة المحروق على النار التي تزكم الأنوف هي الرائحة الطيبة التي يستنشقها الله فيرضى . واضح جدأ الآن أن استعلن لنا الله . الذبيحة والدم، سواء في المسيح أو لنا ، كيف تغير مفهوم العبادة الحقيقية وتغير شكلها وموضوعها ورائحتها ودوامها ! ومعنی رضی ومـسـرة قـلبه بالحق، حيث يظهر مدى عجز التشبيه في الرمز القديم ومدى قصور عقل الإنسان اليهود في فهم ما يسر الله !!

وهنا يتضح بجلاء قوة التعبير المسيحي الذي عبر به ق. بولس بعد ذلك عن ذبيحة أجسادنا وعـبـادتـنـا بأنها «عقلية » = أي على مستوى العقل الروحي العالي والنطق الحكيم الإلهي .

«مقدسة »: 

التقديس معروف ، فهو الإفراز من العالم والتخصص الله والحفظ بلا دنس لكي تكون الذبيحة بلا لوم أي مقدسة لله. ويلاحظ القارىء من روح العهد القديم أنه لو لم يكن الإنسان في حالة خطية ما قدم عن نفسه حيواناً يسفك دمه . . .. فالحيوان نفس بهيمية تذبح عوضاً عن نفس إنسان، ودمـهـا يعمل حتى إلى تطهير الجسد فقط حينما يرش عليه، لذلك لزم أن تكون الذبيحة بلا لوم ولا عيب ، طاهرة، لكي تعبر عن حملها ملامة الإنسان وعيبه ، فيتخلص الإنسان (صورياً) من ملامته وعيبه وتموت هي بعيب الإنسان، وهيهات…

وهـكـذا كـان مـن أهـم الشروط التي تحتمت على حالة الذبيحة الحيوانية في العهد القديم أن تكون طاهرة بلا لوم، ولكن ما كان هذا التحتيم ضرورياً على الإطلاق بالنسبة للحيوان، فما قيمة أن يـكـون الخروف أعـور أو أعرج بعد أن يذبح ؟؟ ولكن الأمر كله كان رمزياً منصباً على ذبيحة

المسيح بالأساس، تحددها النبوة عمليا بأقصى تدقيق، ثم ترتد علينا حتماً حينما نطالب بالتالي بسبب اتحادنا بالمسيح وحياتنا معه أن نكون مثله ذبائح مقدسة بلا لوم أمام الله ، وذلك مسجل لنا تسجيلاً من قبل تأسيس العالم : «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين، وبلا لوم، قدامه في المحبة !!» (أف4:1)

ويلاحظ القارىء أن ق. بولس حينما يطلب أن تكون أجسادنا ذبيحة مقدسة، فهو لا يغالي في مطلبه ولا يتشدد علينا ظلماً بل هو يطلب ذلك لأنه يرانا كذلك بالحق وبالفعل، فهو في الحقيقة يطلب منا ذلك لا لنعمله أو نجاهد فيه بل لأنه قائم متمم فينا بتقديس الكلمة وتقديس المعمودية وتقديس الدم وتقديس الروح القدس، وكأن ق. بولس ينبهنا فقط أن نكتشف ما فينا ونكون على مستوى ما صنعه المسيح فينا، فنحن الذبيحة المقدسة، ونحن هيكل الله، ونحن كهنة الله العلي : « وأما أنـتـم فـجـنـس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء ، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب ( = العبادة ). » (1بط2: 9)

ولكن يلاحظ أيضاً أن ق. بولس لا يكلم الفرد المسيحي بل يكلم الكل، يكلم الكنيسة شعب الله المقدس والمختار ليتعرف على أصول عبادته الجديدة ومقدار سموها ، والكنيسة تلقن مؤمنيها .

«مرضية عند الله »: 

واضح أن الله في الحقيقة لم يكن له أي رضا بذبائح الحيوانات التي كانت تذبح: «لأنك لا نشر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى . ذبائح الله هي روح منكسرة » (مز51: 16و17). وداود الـنـبـي يلفت نظرنا منذ ذلك الزمان أن « الذبيحة الله هي روح منكسرة»، هي الإنسان في أصدق مواقف اتضاعه . وكذلك النبوة تحكي عن قيمة الذبائح – الله بالنسبة لذبيحة الجسد المقدس: «لذلك عند دخوله إلى الـعـالـم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً . » ( عب10: 5)

وكلمة «مرضية » هنا تأتي كنهاية ونتيجة لكونها «مقدسة». فالذي تخصص الله بالكمال ، أي تكرس وصار الله ، فهو بالضرورة مرضي عنده ، من أجل ذلك نسمع بوضوح أن الله لا يرضى بذبائح الغنم والبقر ولا بقربان أيا كان ، بالرغم من أنها تسمى ذبائح مقدسة وتقدم في القدس وتدخل رائحة سرور الله، كل هذا على مستوى التقديس أي التخصص المادي وليس الأخلاقي أو الروحي، فهي قدس للرب أي خاصة بالخدمة داخل الهيكل، ولكن التقديس في العهد الجديد بالنسبة للذبيحة، وهي بالدرجة الأولى ذبيحة المسيح، فهي مقدسة على أساس ملء اللاهوت جسدياً، أما ذبائح المؤمنين فهي أولاً تتقدس أخلاقياً أي بالحفظ بلا دنس من العالم، كما تتقدس بالروح القدس ، أي تتأهل للاتحاد بالمسيح ، فتصير فيه ذبيحة مقدسة قولاً وعملاً . أي أن الـتـقـديـس الحقيقي هو أخلاقي ثم روحي للجسد والروح : «إن بين الزوجة والعذراء فرقاً : غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً» (1كو7: 34). هنا التقديس تخصصي خالص حيث العبادة تكون هي كل الحياة، وهذا لا يستهان به أبدأ .

ولـكـن لـيـس كأن المتزوجين قد عدموا الذبيحة والتقديس ، فتقديسهم قائم في زواجهم الطاهر وفي بذل المحبة وإنكار الذات ، وذبيحتهم في العطاء بسرور و بلا كيل : « قد امتلأت إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله . » ( في 4 :18)

والآن عـلـيـنـا أن ننتبه أن ق. بولس طلبه على الجماعة المسيحية كوصية عامة أن «قـدمـوا أجـسـاد كـم ( بالجمع) ذبيحة حية مقدسة مرضية» تركها لتحديد كل مؤمن كيف وبأية وسيلة يقدم جسده « ذبيحة حية مقدسة مرضية » ، ومن هنا نشأ في الكنيسة أنواع ذبائح وأنواع تقديس ولكنها كلها معاً جسد واحد ذبيحة واحدة مقدسة : «يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يقدمها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 26و27). وكل واحد فيها هو عضو ذبيحة مقدسة أو ذبيحة مقدسة في الكنيسة : «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه . » (أف5: 30)

هل نستطيع أن نقبل هذا لنعيشه في ملء نعمة المسيح وتقديس نعمته وفرح روحه لنتقوى من ضعف ، بل تتقوى في الضعف ؟ المطلوب أن نعيش حياتنا وكأننا ذبائح مقبولة أمام الله مقدمة له : «لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح » ( 2کو11: 2). إنها سر زيجة النفس بالعريس السمائي !! … يا للعبادة المسيحية وما فيها من أسرار!! متى يحين أوان الزفاف ؟؟

« عبادتكم العقلية » :

العبادة العقلية عندنا بمفهومنا الآن غير مقبولة، فالعقل بمفهومنا الآن لا يحترف الروحيات بل له فقط حرفة الماديات المنظورة والمحسوسة والأمور التي تقع تحت القياس. لذلك حتى وإن كانت كلمة «عقلية» مشتقة من أي «الكلمة» أو العقل أو ما يدركه العقل أو يستبطنه العقل، إلا أن المقصود هنا هو عكس العبادة الأولى في العهد القديم التي كانت تتم بتقديم ذبائح صامتة بهيمية .

ويعطينا العلامة فيلو اليهودي الفيلسوف تصويراً قريباً من بزوغ العهد الجديد في ذهنه بقوله :[ ثمين في عين الله لا كثرة الحـيـوانـات المذبوحة وإنما الـروح الـنـاطـقـة الـطـاهـرة التي في نفس الذي يقدم الذبائح ].

وقوله أيضاً :

[ إن مسرة الله تكون في المذابح الملتف حولها خوارس المسبحين بالحق حتى ولو كانت بدون نار عليها، لأنه لا يسر بنيران المذبح التي تغذيها أجساد الحيوانات المذبوحة التي يقدمها الناس في حين أن ذبائح قلوبهم لا يدري أحد لمن هي ؟ ] .

ولنا في الأنبياء تحذيرات كثيرة للغاية في عدم نفع الذبائح إن لم يكن مقدموها على . الأمانة الله ! ( إش1: 10)، (هو6: 6)، (عا5: 21).

إذا فالأصح أن نقول : ” عبادتكم الناطقة” ، والكلمة تحتمل هذا المعنى تماماً. حيث العبادة العقلية هي في حقيقتها عبادة روحية شاكرة مسبحة بفضل ما حبانا الله كبشر من أعـمـال الـفـداء والخلاص والمصالحة. وهذا مطابق لما قاله الرب : « الله روح والذين يسجدون (يعبدون ) له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا » (يو24:4). فالعبادة العقلية أو الروحية أو الناطقة هي عبادة مذركة الله الذي تعبده. هذه مسرة الله العظمى أن الذي يعبده يعرفه ، وأن الذي يخدمه يتبعه من كل القلب الواعي المدرك لمسرة مشيئته . والمسيح قدم لنا أساس العبادة المقبولة الله عـنـدمـا أعلمنا بكل ما عند الآب فصرنا له أحباء ومحبوبين . فالعبادة المسيحية عبادة أحـبـاء ومحبوبين يدركون من يعبدون وليست خدمة عبيد. ويستحيل أن يقدم أحد جسده للمسيح ذبيحة حية مقدسة وتكون مقبولة إلا إذا كانت نار حب الله قد اشتعلت فيه ! 

لهذا ومـن أجـل هـذا ألقى المسيح ناره في قلوبنا لنصير ذبائح حقيقية مشتعلة حباً. و بطرس الـرسـول أعطانا صورة عن مفهوم كلمة «عقلي » بوصفه التعاليم البسيطة التي في الإنجيل «باللبن العقلي» (1بط2: 2)، ويقصد التعليم الذي يدركه ويتغذى به العقل .

والعبادة العقلية ضد العبادة التي بتقديم ذبائح حيوانية بلا عقل ، و بطرس الرسول يوضح هذه العبادة العقلية بقوله : « كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح . » (1بط 2: 5)

والذي يسند كلمة «ناطقة» هنا هو ما سبق وقدمه ق. بولس من أعمال الله الخلاصية التي تستوجب أن ننطق بفضلها ، ونسبح بشكرها . هنا العبادة تكون مطابقة لمشيئة الله بل لمسرة مشيئة الله وتـكـون رائحة سرور ورضي : « لكنني وإن كنت أنسكب أيضاً على ذبيحة إيمانكم وخدمته أسر وأفرح معكم أجمعين . وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضاً وافرحوا معي » ( في2: 17و18). هنا ق. بولس يـسـتـخـدم لغة ذبائحية خالصة . فالسكب هو سكب الخمر المقدم إلى الله على الذبيحة: « وسـكـيـب الخمر ربع الهين للخروف الواحد» (خر29: 40). وق. بولس يعتبر خدمته الخاصة الله التي تدخل ضمن عبادته الحية الشخصية هي بمثابة سكب حياته على ذبائح إيمان المؤمنين ، حيث إيمان المؤمنين يعتبره ق. بولس هنا « ذبيحة » يقدمها بعد أن يستوفي كل شروطها من التقديس، وذلك بتعليمه وخدمته وحينئذ يسر الله ، ويسرق. بولس، بل ويطلب من المؤمنين أن يسروا أيضاً في عبادتهم لأنها أصبحت ذبيحة سرور للرب .

كذلك يستخدم اللغة الذبائحية هكذا : « قبلتُ من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة (ذكية) ذبيحة مقبولة مرضية عند الله » ( في18:4). وهنا نلاحظ أن ق. بولس يـتـصـور دائماً أن أعمال الخير من . عطاء وبذل وشركة في أعواز الآخرين هي ذبائح الله، ويضيف إليها اصطلاح العهد القديم أنها رائحة سرور ورائحة طيبة . لذلك نفهم من قوله : «لأننا رائحة المسيح الذكية الله في الذين يخلصون . … » (2كو2: 15) أنه يقصد أن حياتنا في العبادة والخدمة والـبـذل والحب تحتسب ذبيحة محرقة تنسكب حياتنا فوقها كخمر مسكوب ، كرائحة ذكية الله من داخـل ذبيحة المسيح: «لأننا رائحة المسيح الذكية لله » . وهذا السلوك الأخلاقي هو بحد ذاته ينشىء عند المخلصين حياة مجددة للحياة : « رائحة حياة لحياة . » (2کو2: 16)

و بالنهاية نرى أن ق. بولس في هذه الآية ( 12: 1 ) يرسي قواعد العبادة المسيحية على مستوى أخلاقي وسلوكي، مستخلصة كثمرة لما قدمه الله لنا من بره الخاص بالفداء بالمسيح ، معطياً شكل ومـضـمـون الحياة المسيحية للجماعة ككنيسة مشغولة على مدى كل يوم والحياة كلها بتقديم مؤمنيها أمام الله كذبائح مقدسة وحية ومقبولة، كرائحة ذكية الله ، بأعمال البر والمحبة والخدمة مع التسبيح والـشـكـر. وهـكـذا يـصـور ق. بولس الكنيسة كخيمة اجتماع مع الرب ، وعوض تقديم ذبائح الحـيـوانـات المتعددة التي يلازمها مئات وآلاف الترتيبات الطقسية المادية الميتة في ذاتها ، يؤسس للكنيسة عبادة ناطقة روحية وليست جسدية، مقدسة أخلاقياً وليس شكلياً ومادياً، تكون الذبائح فيها هي المؤمنين بحياتهم وتقواهم وقداستهم المستمدة من قداسة المسيح وبره، والخدمات شكر وتسبيح .

2:12 «ولا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة».

والآن بحسب فكر ق . بولس في مضاهاة ترتيب العبادة الجديدة في المسيح على ترتيب العبادة الـقـديمة، يبدأ بعمليات التخصص للعبادة، أي تقديس الأشياء بتخصيص الذبائح اللائقة للذبيحة وتطهيرها وغسلها، وتطهير الأواني وغسلها ورش دم الذبيحة التي للتطهير على الأواني وحتى كتب الـقـراءة ليتطهر الكل فيتخصص للعبادة : «لأن موسى بعد ما كلم الشعب بكل وصية بحسب الـنـامـوس أخذ دم الـعـجـول والـتـيـوس مع ماء وصـوفـاً قرمزياً وزوفا ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب … والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة … » (عب9: 19و21). وهذه العمليات كلها أولية لضمان أن تكون كل الأشياء قد تخصصت للخدمة للعبادة. والآن ماذا يقابلها في العهد الجديد عند ق. بولس ؟ يقابلها تخصص المؤمنين أنفسهم ، بمعنى تغيير شكلهم من شكل العالم ليأخذوا شكل المسيح حتى يصيروا لائقين لعبادة مقدسة .

« ولا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم »:

«تشاکلوا »، «تغيّروا عن شكلكم » اللغة العربية قصرت في التفريق بين الكلمتين ، فمع أن الفارق بينهما في اللفظ في العربية متقارب إلا أن المعنى يختلف  باختلاف جذر كل منهما.

 والآن فـالـكـلـمـة السلبية «لا تشاكلوا » تفيد ضرورة تغيير البيئة القديمة التي للعالم والتكيف على البيئة الجـديـدة ـ والـكـلمة هنا بالإنجليزية واضحة أكثر adaptation ـ أي إلى البيئة أو الشكل الذي للقديسين . أما كلمة «تغيروا عن شكلكم » وهي كلمة واحدة باليونانية فهي تعني التغيير الداخلي أي في الطبيعة، الأمر الذي لا يمكن فهمه أو تنفيذه إلا بالمعمودية ، حيث فيها يتم خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد الذي يتجدد بالنعمة «حسب صورة خالقه » (يو3: 10)، بل هي تعني أيضاً خلع روح هذا الزمان الحاضر ولبس روح الدهر الآتي، روح الحياة في المسيح يسوع . فالكلمة الأولى «لا تـشـاكـلـوا» تختص بالسلوك والأخلاق ، بينما الكلمة «تغيروا عن شکلـكـم » فتختص بصميم التجديد بالميلاد الثاني لنوال الطبيعة الجديدة الروحية ، التي انفتحت لـنـا أبـوابـهـا بـالإيمان والمعمودية ولبس المسيح وأكل جسده وشرب دمه. هذا هو معنى ومضمون وجوهر « تغيروا عن شكلكم » .

ولـكـن للأسف هناك صعوبة في اللغة العربية في التفريق بين شكل وشكل : وللقديس يوحنا ذهبي الـفـم شـرح يوضح مدى اللبس والبلبلة التي وقعنا فيها بسبب الترجمة العربية في ترجمتها للكلمتين بمعنى الشكل: «لا تشاكلوا » و «تغيروا عن شكلكم »، يقول ذهبي الفم :
[ق. بولس لا يقول «تغير عن شكلك » ( هنا يقصد السكيما ) بل يقول «تغير عن طبيعتك »  لكي يثبت أن طرق العالم هي شكلية، ولـكـن الـفـضـيلة ليست شكلاً ولكنها كيان حقيقي له جماله حسب طبيعته الخاصة ولا يحتاج إلى التزويق أو الغش وتغيير الشكل الخارجي للأمور، الذي حتماً سينكشف و ينتهي إلى زوال . لأن هذه الأمور كلها حتى وقبل أن تنكشف بالنور تذوب وتتلاشي . فإذا ألقيت بالشكليات جانباً فإنك بسرعة تبلغ إلى الكيان 
الحقيقي].

«بل تغيروا عن شكلكم » :

المعنى هنا منصب على الكيان الداخلي، على الطبيعة ذاتها وليس مجرد أشكال العالم. فالتغيير هنا، ولو أن ق. بولس يراه في إمكاننا وبإرادتنا، ولكنه في الحقيقة عمل يفوق إمكانياتنا وإرادتنا . فصحيح نـحـن نتقدم للمعمودية بإرادتنا، ولكن ما يحدث فيها هو عمل فائق من الله يتدخل فيه الروح القدس لكي يكمل بالسر ما لا يدركه العقل، إذ نخلع إنساننا العتيق فنموت عن جسد الخطية، لتلبس الإنسان الجديد، بل نلبس المسيح ، نخلع شکل آدميتنا لنلبس شكل المسيح .

ومـا تـم في السر المـقـدس يظهر في العمل والسلوك والحياة حيث ينال الإنسان مؤازرة من روح الله للسلوك بحسب الروح وليس حسب الجسد بعد ، ، ليكون لنا فكر المسيح في القداسة والبر عوض فكر هذا الدهر في النجاسة والشر. والآن، وإن كنا قد قبلنا معموديتنا في الصغر حيث لم يكن إدراك ولا وعي، إلا أن الروح الذي أخذناه ومسحنا به لا يحجزه الزمن عنا ولا يمسحه الدهر منا ، فهو خـتـم إلهـي أبـدي يـرافـقنا حتى يوم ا الفداء. حينما ندعوه نجده ، نطلبه يعمل ويؤازر، حينما نتكل عليه يثبت أنه حاضر ومرافق : «الرب معكم ما كنتم معه وإن طلبتموه يوجد لكم وإن تركتموه يترككم » ( 2أخ15: 2). هذا يقوله النبي عزريا بن عوديد .

لذلك حينما يقول ق. بولس : «تغيروا عن شكلكم»، وكأنه يطلب بشبه أمر، فإنه يعتمد على ذخـيـرة حـيـة مـوجـودة في كياننا الداخلي الروحي ومستعدة للعمل. وهكذا إن أردنا أن نتغير عن شكلنا فالروح قائم مستعد . ولماذا لا يكون الآن؟

ويلاحظ القارىء مدى اعتماد ق. بولس على هذا الروح والقوة والنعمة والختم الذي تحمله حينما يقول أولاً : «لا تشاكلوا هذا الدهر»، فالقوة على الاعتزال عن شكل العالم الشرير هي قائمة في قوله : «تغيروا عن شكلكم » وهو أمر في حقيقته فائق لإمكانياتنا الضعيفة، ولكنه واقع في مجال إرادتنا إن طلبنا الله عن وعي وصدق وأمانة لنقدم له من حياتنا وسلوكنا المجد والكرامة ، والعبادة حسب مسرته ورضاه .

«بتجديد أذهانكم » :

لقد عثر العلماء في هذا القول للقديس بولس واعتبروه مجرد تكرار لما قال بنوع من التهرب دون أن يأتي بـكـيـف نتغير. ولكن في الحقيقة ق. بولس يقصد أن يقول إن التغيير الجذري في الكيان والـطـبـيـعـة الذي يعمل الروح في المعمودية، وإن كان سرياً وغير منظور ولا حتى محسوساً، إلا أن الذي ينتج عن هذا التغيير له مقابل في الذهن أي « الوعي الروحي»، وهو التعبير الصحيح عن مفهوم عمل العقل للإنسان الروحي. فالتجديد الخلقي في المعمودية بالسر يرافقه ويمتد منه تجديد في الوعي الروحي = الذهن = العقل، فينتقل الإنسان من مستويات فكرية كانت على مستوى العالم الحاضر إلى مستويات فكرية روحية ( = في الوعي الروحي) عالية على مستوى الروح، وهذا هو في الحقيقة المقصود بحالة «التجديد الذهني». ولكن لا يزال لهذا التجديد الذهني الحادث والمرافق للتغيير الداخلي الذي يتم بالروح في سر العماد والإيمان ، لا يزال له بالتالي دور جديد في أنه هو الآخر قادر أن يحول ويغير ويجدد في صميم الكيان الداخلي، أي في طبيعة الإنسان. كيف ؟

نقول إن الإنسان الذي نال الاستنارة في سر العماد وانفتح ذهنه باسم الآب والابن والروح القدس ليفهم الكتب ويدرك أسرار الروح فيها ، حينما يقرأ ويدرس ويعي ويتأمل، فالذي يحدث له هو تجديد الذهن بمعنى حصوله كل مرة على حالة ارتقاء ذهني يدخل فيها الذهن في مجالات جديدة، ونقول جديدة بالحق !! ، فيها يدرك الإنسان أن ما يكون قد أدركه سابقاً يجده لا يقاس بما حصـل عـلـيـه كـل مرة، هذا هو تجديد الذهن . وتجديد الذهن هو تحوله من ذهن جسدي إلى ذهن روحي باستمرار، فهو بالتالي تجديد للروح والنفس والكيان الداخلي للإنسان .

لذلك يتضح الآن بقوة، قول ق. بولس : «تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » !! لذلك فإن القراءة بذهن مفتوح هي حالة تجديد للمعمودية بالسر للذهن، حيث يتجدد بالكلمة ، وهذا هو نص ما يقوله بطرس الرسول : «مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (۱بط ۱ : ۲۳). فالكلمة لها قوة تعميد الذهن بسر يفوق العقل .

« لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :

تختبروا 

هنا ينقسم العلماء في فهم هذه الكلمة وتفسيرها ، فهي بحسب القواميس الدقيقة تعني ثلاثة معان : الأول يحقق to prove ، والثاني يختبر to test ، والثالث يستحسن to approve . وبعض العلماء مـثـل هـودج يـفـضـل المعنى الثاني ومعه كثير من العلماء مثل ليون موريس وكايسمان وهدلام ومعهم القديس ذهبي الفم ، ولكن ينفرد كرانفيلد ويشترك براون بالمعنى الأول ” يحقق “. وحيثيات الحكم بأنها تعني الاختبار هي أن تجديد الذهن يجعله يدرك أسرار الإنجيل والروح والحياة فيختبر أن إرادة الله صالحة ومرضية وكاملة : « وأما ( الإنسان) الروحي فيحكم في كل شيء ولا يحكم فيه من أحد» (1كو2: 15). وأما حيثيات حـكـم كـرانفيلد فهي أن الذهن المتجدد يحقق في حياته إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ويكرز بها وهذا منتهى مطلب ق. بولس بل والله أيضاً : «فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعـمـالـكـم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات » (مت5: 16). هنا تحقيق الإرادة الصالحة بين الناس وهو مقصد الخدمة والبشارة ومجمل العبادة .

 أما رأينا نحن فيصعب أن ننحاز لأي من الرأيين ونرى أن نأخذهما معاً !! فالذهن المتجدد يختبر حتماً، ويحقق حتماً، ولا يمكن فصل عمل الذهن في اختباره لصلاح إرادة الله من تحقيقها في الحياة، وهو يحققها لأنه يستحسنها .

«تختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :

هنا ينتقل ق. بولس نقلة أخرى في مضاهاة العبادة القديمة حسب الناموس على العبادة الجديدة التي في المسيح يسوع وذلك من جهة التعليم : من الذي يعلم؟ معروف أن التعليم في ناموس موسی اختص به الكتبة والفريسيون الذين يسمون أيضاً ” الناموسيون “، أي كتبة الناموس ومعلموه للشعب، حيث كان للتعليم الموسوي أصوله الدقيقة جداً سواء في كتابته تحت قيود ومحظورات لا عدد لها، ثم حفظه، ثم تدريسه . فحينما يعلم الفريسي، فإن عليه أن يفصح عن مصدر تعليمه وعن الفريسي الذي استلم منه.

وق. بولس هنا يبطل هذا المنهج من أوله إلى آخره ويجعل المؤمن هو نفسه الذي يعرف ويختبر ويستحسن تعاليم المسيح وينادي بها من واقع عبادته الناطقة بذبيحة نفسه في القداسة وتجديد ذهنه، وهو في ذلك يستند إلى النبوة القائلة : « ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً … هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب : أجـعـل شـريـعـتـي في داخلهم [ « المسيح فيكم رجاء المجد» (كو1: 27) ] وأكتبها على قلوبهم ( عـوض ألواح موسى ) وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعباً ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحـد أخـاه قـائـلين اعـرفـوا الـرب لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم [ «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (مت11: 25) ]

إلى كبيرهم ، يقول الرب ، لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد . » (إر31: 31- 34)

«إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :

لم يكن من الهين معرفة مشيئة الله في القديم لأنه لا يمكن معرفة اتجاهاتها أو حدودها ، فهي لا تعرف ولـكـن تـسـتـعـلـن لكل واحد كما يريده الله له . ومن شدة صعوبة إدراكها ، تاه اليهود في التمييز ولـم يـعـرفـوا «إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة» التي كانت أمامهم وبين أيديهم وتتحادث معهم وتتوسل إليهم – في شخص يسوع المسيح ابن الله ـ الذي أهانوه ورفضوه وقتلوه . لذلك كانت أول وصية في الصلاة علمها الرب لتلاميذه بعد تقديس اسم العلي وطلب مجيء ملكوته هي «لتكن مشيئتك»، لأن في مشيئة الله يكمن خلاصنا وحياتنا الأبدية، لذلك أردف بها الرب : «كما في السماء كذلك على الأرض»، بمفهوم أن تطابق عملها فينا الآن تماماً كما  يریده هي لنا الله هناك في السماء، أي الحياة الأبدية مع الله، أي يتم فينا ما رآه ق. بولس بالروح لنا : «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة » (أف4:1). هذه المشيئة الصالحة المرضية الكاملة بالنسبة لنا وللكنيسة ككل. 

 ويلاحظ أن ق. بولس وهو الفريسي المتعلم على كل أصول علم الله بحسب الناموس لم يكن يعرف ما هي مشيئة الله !! وذلك وضح حينما أعلن له الله عن مشيئته : « : «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه» (أع22: 14). وما هي المشيئة الإلهية التي كان يجهلها ق. بولس وقد عرفها من فم المسيح ؟ إلا دعوة الأمم للدخول في الإيمان المسيحي، ونوال وعد الله في إبـراهـيـم، وحصولهم على شركة الميراث وعضوية الجسد ـ أي الكنيسة، وذلك بدون ناموس ولا ختان ولا سبت ولا عوايد قديمة لليهود ، بل يكون لهم كل شيء جديداً ويقبلون الميلاد الثاني من الماء والروح ويـصـيـرون أولاد الله بالتبني، هذه هي مشيئة الله الصالحة والمرضية والكاملة .

أما أنها إرادة صالحة فهي فعلاً صالحة جداً لأنها قبلتنا ونحن بعد خطاة أشرار.

أما كونها مرضية فهي ليست مرضية عنده فقط بل إن فيها منتهى مسرته : « أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، « هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد . … » (يو16:3).

أما أنها كاملة فواضح كمالها في قول المسيح على الصليب : «قد أكمل» (يو19: 30)، بمعنى أن مشيئة الله بلغت كمالها النهائي باستعلان المسيح وتكميل فداء الإنسان لقبول الصلح والتبني .

ولـكـن يلاحظ أن ق. بولس يضع هذه الثلاث الصفات لإرادة الله الصالحة، والمرضية، والـكـامـلـة في مقابل الثلاث الصفات التي كانت مختبئة في الناموس دون عمل: «إذا الناموس مقدس والـوصـيـة مـقـدسة، وعادلة، وصالحة» (رو7: 12). والفارق شاسع، فصفات الناموس والـوصـيـة بـقـيـت «مقدسة وعادلة وصالحة» في ذاتها ولم يستطع الإنسان أن ينال شيئاً منها ، أما إرادة الله في شخص يسوع المسيح فاستُعلنت استعلاناً وظهرت ظهوراً «أنها صالحة ومرضية وكاملة»، وأصبحت في متناول كل ذهن يتجدد من داخل مواهب الله المجانية ويقبلها وتعمل هي له وفيه: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك. » (لو10: 21) 

 

[ ۸-۳:۱۲ ] أساسيات السلوك المسيحي

من واقع نصيب كل واحد من الإيمان ،
إنما في جسم الكنيسة الواحد

۳:۱۲ «فإني أقـول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتني بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان».

في هذا الجزء من الأصحـاح يـدخل ق. بولس في توزيع مهام العبادة وتقسيمها وتنسيقها ، لا بحسب التعيين على مستوى الأسباط والأشخاص في العهد القديم، ولكن بحسب نصيب كل واحـد من الإيمان الذي وهبه له الله ، هذا هو مصدر السلطات في كنيسة الله !!! وإذ يرى ق. بولس خـطـورة الـدخـول في وضع نظام العبادة وتنسيقها، يعلن في البداية أن الأمر لا يتعلق به شخصياً، وإنما بسلطان النعمة التي أعطاها له الله كرسول، إنه يأمر، مما يشعرنا أن الموضوع هنا على مستوى التدبير الإلهي ولا حرية فيه لأحد .

«فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم » :

بعد أن اطمأن ق. بولس ه يتحدث إلى أذهان متجددة، بدأ يكشف لهم تدبير نعمة الله التي أعطاها له الله كرسول ، لا فيما يختص بهم كأفراد من جهة مستوى عبادتهم الروحية وإنما في إدارة الشئون الكنسية. لذلك انتقل من مجرد الطلب إليهم كل واحد فيما له، إلى الإلزام بالنسبة للجماعة، ومن هنا شفع الأمر بالسلطان الذي له، وإنما من مصدر النعمة، كما سبق وكشف عن مصدر هذا السلطان منذ بدء الرسالة: «قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم الذين بينـهـم أنـتـم أيـضـاً مـدعـوو يسوع المسيح » (رو1: 5و6)، الأمر الذي ظل يؤكده لهم حتى آخر الرسالة: « ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئيا أيها الإخوة، كمذكر لكم بسبب وهبت لي من الله . » (رو15:15)

والـقـديـس بولس إذ يزكي الأمر الذي يصدره إليهم بقوة النعمة التي فيه ، يشعر بخطورة الأمر، لأن عـلـيـه سيتوقف قيام الكنيسة كمؤسسة إلهية لضمان مسيرتها عبر الدهور. لذلك، فالأمر صادر لكل فرد في الجماعة من أجل الجماعة، أي أنه يتطلب سمعا وطاعة لدى الجميع .

«”لا يرتئي“ فوق ما ينبغي أن “يرتئي“ بل يرتئي” إلى “التعقل “ » :

يرتئي، يرتئي ، يرتئي 

هنا لعب بالألفاظ محكم الإبداع، كما جاء في الترجمة العربية، مضافاً إليها في اليونانية أن “التعقتُل جاءت باليونانية أيضاً «يرتئي » !! فهذه الأوصاف الأربعة من كلمة «يرتئي» تنتهي بكلمة التعقل إنما بمفهوم أخلاقي عالي إذ تعني حكمة الرزانة . فـ «التعقل» في موقعها في الفلسفة الأخلاقية هي قمة أعمال العقل. 

« كما قسم الله لكل واحد مقداراً (نصيباً) من الإيمان » : وحـيـنـمـا يشدد ق. بولس على التعقل، أي الرزانة والإفراز، فهو يتجه بشدة ناحية كل فرد بمفرده، مضيفاً إلى ذلك سبق تدبير النعمة في الكنيسة على هذا المستوى الفردي أيضاً، كون الله قسم أنصبة الإيمان على قدر قامة كل فرد بمفرده؛ فأصبح الالتزام على كل فرد أن يتعقل في عمله وتصرفه على قدر نصيبه من الإيمان الذي أخذه مسبقاً من الله ، وصار أمراً في غاية الأهمية من جهة قيام وحياة وتدبير وإدارة الكنيسة على مر الدهور.

والذي يسترعي انتباهنا بشدة هو أن ق. بولس لا يعطي هنا الفرصة لأصحاب المواهب العالية أن يـفـرضـوا مـسـتـواهـم على الكنيسة، ولا لأصحاب المواهب الأضعف أن يخزوا من إمكانياتهم الأضعف، فالله لا يطالب الإنسان إلا على مستوى ما أعطاه من إيمان ومواهب . فصاحب الخمس الـوزنـات جـيـد أن يربح خمس وزنات أخر وليس ثلاثاً، وصاحب الثلاث الوزنات جيد أن يعطي ثلاثاً وليس اثنين، ولا هو مطالب أن يعطي خمساً. وبهذا يحكم التعقل التدبير الكنسي .

إن ق. بولس، أو النعمة على وجه أصح ، تكشف خطر الحماس المنفرد، والغيرة الشخصية الـزائـدة، والـوثـوق في الذات والإمكانيات ، وهذا سنجد ق. بولس بعد ذلك يؤكده مراراً: « غير مهتمين بـالأمـور الـعـالـيـة بـل مـنـقـاديـن إلى المتضعين»، «لا تكونوا حكماء عند أنفسكم » (رو١٦:١٢). وهكذا نرى «التعقل» المبني على الإيمان في حدود النصيب الذي وهبه الله لكل فرد في الكنيسة هو الدعامة الأساسية لقيام ودوام هدوء وسلامة وصحة الكنيسة . وبالتالي وبناء عليه ، فإن واقع حال كلام ق. بولس يوحي إلينا حتماً بأن نسأل : وما حكم الله على الذي يتعالى على الجماعة فوق ما يستحق ؟ أو ما حكم الذي يتذمر على نصيبه الذي أخذ ؟ هذا نتركه للنعمة ولشرح ق. بولس المطول في (1كو12 و13 و14).

نفهم من هذا أن قانون الخدمة في الكنيسة ـ بحسب نعمة الله التي في ق. بولس ـ الذي يضمن لها الحياة ورضى الله ، يرسو على امتياز الإيمان الذي يظهر في التعقل والرزانة وليس على أي امتياز شخصي آخر مهما كان. والإيمان الرزين هو برهان على صلة العضو بالمسيح، ومستوى صلة العضو بالمسيح هو الذي يزكيه حتماً أن يكون عضواً في جسده ، أي الكنيسة ، فعضو الكنيسة الخادم فـيـهـا والمـسـتـأمن على الخدمة هو في ذاته ليس شيئاً، فلا ينظر إلى ما هو لذاته وحيثياته وإمكانياته إلا ما يرى منه بالإيمان والتعقل ليبرهن على صلته الصحيحة بالمسيح .

حتى الذين هم أصحاب مواهب ممتازة ولكن يرتثون في أنفسهم فوق ما ينبغي أن يرثوا، فهؤلاء فاقدون « الـتـعـقـل والـرزانـة»، والفاقد التعقل هو صاحب نصيب إيمان أقل !! فالمسيحي عموماً والخادم المؤتمن على جسد المسيح خصوصاً ، لا ينظر في نفسه أنه كل شيء، فالذي هو كل شيء في الكنيسة هو المسيح ! ولا حتى ينبغي أن ينظر في نفسه أنه شيء، إذ يستحيل أن يوجد شيء في الكنيسة خارجاً عن المسيح، فالمسيح رأس كل شيء والكل في الكل !! فكل من في الكنيسة هو عضو في الجسد، والعضو ليس عضواً بنفسه ولكن بالكنيسة، ولا لنفسه بل للأعضاء الآخرين . فلا عـضـو أفـضـل مـن عضو، لأن الأفضلية هي ا للجسد. وذلك على أساس ثابت مكين، وهو أن موهبة الفرد الإيمانية التي تميزه لا يعتد بها لنفسه وإنما يوظفها لخدمة ـ الآخرين ـ الكنيسة .

12: 4 و5 « فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر».

حينما قال ق. بولس أن: «الله قسم لكل واحد مقداراً من الإيمان»، فهو يكون بذلك قد قرر الـتـنـوع في الأعضاء كعمل إلهي. ولكن هذا التنوع بين الأعضاء المقرر من الله يقوم على المواهب المنبثقة من أنصبة الإيمان، كما قسم لكل واحد. هنا التركيز على «الموهبة» كأساس للخدمة عموماً ولتنوع الخدمات ، بعد ذلك يخلي يد الإنسان من التدخل في التدبير الكنسي على أساس فكر الإنسان أو رأيه . هنا تأمين الكنيسة لتبقى الكنيسة جسد المسيح حقاً: «غير أنه كما قسم الله لكل واحـد كـمـا دعا الرب كل واحد هكذا ليسلك وهكذا أنا آمر في جميع الكنائس» (1کو7: 17)، « ولكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة . » (1کو12: 7)

ولـعـل مـن أهـم الأهداف التي جعلت الله لا يعطي كل المواهب لواحد، بل قسمها ليخدم بعضها بعضاً والكل يخدمون في الجسد الواحد، هو إعطاء روح التواضع والتعاون والألفة للكنيسة ممثلة في وحدة مواهب خدامها ومتقيها ! «فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم مـوجـودة ولـكـن الـرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل» (1کو12: 4و6)، «ولـكـن لـكـل واحـد مـنـا أعـطـيـت النعمة حسب قياس هبة المسيح . » (أف7:4)

والآن على القارىء أن ينتبه أنها خطة إلهية، وتدبير محكم من النعمة التي تدعو وتعين الذين بلغوا التجديد الذهني ، ثم تقسم المواهب على مستوى أنصبة الإيمان  كل واحـد يـأخذ موهبته التي يخدم بها على قدر إيمانه الذي أعطاه الله ، لكي ينتهي الله بالكنيسة لتكون وحـدة مـتـمـاسـكه متآلفة من الداخل السري ، وحدة روح ورب وأب، ومن الخارج وحدة أعضاء يضمهم تعدد مواهبهم وارتفاقهم بعضها على بعض، ووحدة أخلاق منظورة في اتضاع يشمل الجميع والكنيسة ككل.

وعلينا أن نلتفت إلى النقلة التي نقلها ق. بولس من الآية ( 4 ) إلى الآية (5)، ففي الأولى أعـطـى صـورة لجسد له أعضاء كثيرة، كل عضو منها له عمله الخاص وليس للجميع عمل واحد ، وذلك لـيـقـوم الجـسـد بـوظيفته الكلية من خلال تعاون الأعضاء تعاوناً طبيعياً لا يشوبه انقسام أو اختلاف . بل إن اختلاف الأعضاء في الجسد الطبيعي هو الذي أعطى وحدة العمل والانسجام .

وصحيح أن ق. بولس أعطى هذا التشبيه لينطلق منه ويعطي الكنيسة حقيقة الجسد الواحد في المسيح، حيث التطبيق واحد وجيد وجميل للغاية، ولكن قصد ق. بولس في الحقيقة أعلى بكثير من وضع نموذج تشبيهي يوضح به الكنيسة، بل قصده هو تثبيت حقيقة إلهية عظمى من جهة الكنيسة أنها بالحق «جسد المسيح السري » منظورة من الخارج كمؤسسة منسجمة ومؤتلفة ولكن انسجامها وائتلافها هو داخلي روحي سري ، لأنها تحمل قوة موت المسيح وقيامته من داخل أعضائها و بـواسـطتهم. فالأعضاء بأجسادهم الجديدة المخلوقة جديداً في المسيح بالمعمودية والإفخارستية تحمل سر موت الرب وقوة قيامته أجساد موحدة في المسيح، فهي امتداد لجسد المسيح على الأرض . ولـكـن الأعـضـاء لا يـكـونـون الكنيسة بل الكنيسة هي التي تكونهم، فالكنيسة هي التي تـلـدهـم ولـيـسـوا هـم الـذيـن يلدون الكنيسة. الكنيسة تلدهم من المسيح ليبقوا فيه، والكنيسة تطعمهم من جسد المسيح ودمه ليثبتوا فيه، فهم في حقيقتهم السرية كما يقول ق. بولس: «من لحمه ومن عظامه» (أف5: 3). فالكنيسة جسد المسيح السري كحقيقة ثابتة أبدية وأبواب الجحيم لـن تـقـوى عليها (مت 18:16)، لأنها جسد الذي غلب على الصليب وغلب الهاوية وقام . الكنيسة، كجسد المسيح، حية وباقية إلى الأبد ولن يسود عليها الموت قط . 

٦:١٢ « ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا، أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان».

 ق. بولس ينتقل بنا خطوة خطوة في توضيح معالم العبادة المسيحية :

في الآية الأولى : تقديم أجسادنا ذبائح حية مقدسة مرضية، لعبادة عقلية، أي روحية ناطقة .
في الآية الثانية : أن نعتزل عن أشكال هذا الدهر. ونتغير داخلياً ونبلغ التجديد الذهني .
في الآية الثالثة : أن الله قسم لنا موهبة الإيمان كل واحد على قدر قامته فلا ينبغي أن يتعالى
أحد فوق قامة إيمانه .

في الآية الرابعة : مثل الجسد الواحد وله أعضاء كثيرة. هكذا صرنا في المسيح .

في الآية الخامسة : جسد واحد للمسيح ونحن أعضاء فيه بعضاً لبعض . في الآية السادسة : التي نحن بصددها ، يتضح أن في الآيات الخمس السالفة وضع ق. بولس أساس العبادة هكذا :
أن المؤمنين هم ذبيحة العبادة الحية الدائمة الناطقة المرضية، وأن جوهر العبادة يقوم على تقديم الحياة كلها وتقديم الخدمة بالعقل المتجدد وبالفم الناطق .

وأن الكنيسة تقوم على أساس عضوي، وتقسيم الأعضاء يقوم على أساس تقسيم الإيمان الذي يعطيه الله ولا مجال للتعالي، واستعلان سر الكنيسة هو أنها جسد المسيح، والمؤمنون فيها هم أعضاء هذا الجسد يؤدون الخدمة معتمدين على بعضهم البعض .

ثم في الآية السادسة يستعلن ق. بولس أن هذا التقسيم العضوي في الكنيسة القائم على تقسيم الإيمان بحسب الأنصبة الممنوحة من الله ، إذا كمل، فإن الله يعطي مواهب جديدة للأعضاء تقوم على أساس مـوقـعـهـم مـن الخدمة. وهنا يظهر أن الله هو الذي يحدد أنواع الخدمات بإعطاء أنواع المواهب اللازمة مسبقاً. فالكنيسة إذ تحتاج إلى أنبياء وخدام ومعلمين ووعاظ، هكذا يعطي الله هذه المواهـب لـتـقـوم الكنيسة بعملها، على أن كل موهبة تكون مرتبطة بالخدمة الأخرى والـكـل مربوط ومشدود معاً كالجسد الواحد، أو بحسب استعلان سر الكنيسة يكون هو المسيح نفسه :

+ «لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد كذلك المسيح أيضاً. لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد … وجميعنا شقينا روحاً واحداً … وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً. » (1کو12: 12و13 و27)

هنا يلزمنا وقفة قصيرة لنفرق بين تحديدات ق. بولس في تكوين الكنيسة من جهة خدماتها وأعـضـائها. فالكنائس المتقدمة في الخدمة والمواهب التي أعطيت من الله، مثل كنيسة كورنثوس الـتـي نـقـرأ في مستهل رسالتها، مخاطبة ق. بولس لهم : «أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح أنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم كما ثبتت فيكم شهادة المسيح حتى إنكم لستم ناقصين في موهبة ما . » (1كو1: 4-7)

على هذا الأساس : الغني بالروح والمواهب ، أعطى ق. بولس تقسيم المواهب للخدام كوظائف ثابتة كالآتي: « فوضع الله أناساً في الكنيسة أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلّمين، ثم قوات ، و بعد ذلك مواهب شفاء، أعواناً، تدابير، وأنواع ألسنة …» ( 1کو12: 28)

و واضح هنا أن المواهب الروحية العالية كانت مزدحمة في هذه الكنيسة، وكانت لها خدمات محدودة. في حين تـوجـد كـنـائـس كانت فقيرة في مواهبها الروحية واكتفت النعمة فيها بالخدمات العامة مثل كنيسة أفسس، حيث يقول لهم : « وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلا والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين» (أف4: 11)، ولم يتطرق إلى المواهب الأخرى الناقصة عندهم .

فإذا عدنا إلى كنيسة روما، فلأنه لم يذهب إليها أي رسول قبل ق. بولس، والقديس بولس وهو يكتب رسالته إليها لم يكن قد ذهب إليها في السلاسل، نجد أنه يحذف وظيفة “الرسل ‘‘ من تعداده للـمـواهـب فـيـذكر “النبوة ‘‘ مباشرة. كذلك فإن الأمر الذي يسترعي انتباهنا أنه لم يذكر القائمين بالوظائف بل ذكر الوظيفة عارية من القائمين بها ، لأنه حتى تحديد الأشخاص الذين لهم مـواهـب اللـقـيـام بـخـدمـاتهم لم يكن قد ظهر بعد بين جماعة أهل رومية، حيث إن شكل الكنيسة نفسها لم يكن قد تحدد تماماً. فالقديس بولس يذكر النبوة دون أن يذكر أنبياء، والخدمة دون أن يذكر الخدام. ولكن حينما يأتي إلى التعليم فإنه ذكر «المعلم » كذلك «الواعظ ». وهذا الأمر، أي وجود معلمين ووعاظ في روما ، واضح لنا من قول ق. بولس لهم في نهاية الرسالة : « وأنا نفسي أيضاً متيقن من جهتكم يا إخوتي أنكم أنتم مشحونون صلاحاً ومملوؤون كل علم، قادرون أن ينذر بعضكم بعضاً» (رو15: 14). كما يلاحظ في هذه الآية أنه لم يحدد معلمين للكنيسة وإنما جعل التعليم والوعظ فيها مشاعاً بينهم : « مملوؤون كل علم قادرون أن ينذر بعضكم بعضاً» .

كذلك واضح لـديـنـا جـداً أن كنيسة روما كانت لم تزل غير واضحة المعالم، فلم يذكر ق . بولس لها أية درجات، فلا أساقفة ولا كهنة ولا شمامسة، ولا حتى الخدمات الروحية الممتازة كـمـواهـب الـشـفـاء أو التكلم بالألسنة أو إخراج شياطين كالتي ذكرها ق. بولس في رسالته إلى تيموثاوس (أسقف أفسس ).

وقد اعـتـنـينا هنا أن نذكر هذه المقارنة بين الكنائس لندرك مستوى كنيسة روما بين الكنائس الأخرى في أيام بولس الرسول ، وذلك يعطينا أيضاً انطباعاً عن أهداف الرسالة وروحها، فهي إيمانية بالدرجة الأولى، خصصها ق. بولس لتأسيس الإيمان المسيحي و بالتالي أسس العبادة ، كهدف أول وأخير. والـقـديـس بولس، عوض الاهتمام بالنظام الكنسي في روما وتوثيق الوظائف والمهام الخاصة بالإدارة والتدبير بسبب كون الكنيسة حديثة التكوين، فإنه اعتمد على « الإيمان » وعلى تقسيم الإيمان حسب النعمة بالأنصبة ، وعلى المواهب القليلة التي بدأت تظهر ملامحها بينهم دون تخصص . أو بالاختصار كان اعتماد ق . بولس الكلي على الروح القدس في ربط الأعضاء معاً وتوحيد عملهم وخدمتهم .

«أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان»:

كان عـمـل الأنبياء في الكنيسة الأولى فائق الأهمية، فقد تركز في استعلان مشيئة الله بالنسبة للكنيسة ككل وبالنسبة لكل فرد في حياته الخاصة، فكانوا بمثابة قلب الكنيسة وفكرها الروحي. وهذا يتضح لنا من حالة كنيسة كورنثوس ، حيث يصف ق. بولس أهمية الأنبياء في الكنيسة في ذلك الوقت : « اتبعوا المحبة ولكن جذوا للمواهب الروحية وبالأولى أن تتنبأوا ، … وأما من يتنبأ فيكلم الناس ببنيان ووعظ وتسلية … من يتنبأ فيبني الكنيسة، إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة ولكن بالأولى أن تتنبأوا لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة، إلا إذا ترجم حتى تنال الكنيسة بنياناً … ولكن إن كان الجميع يتنبأون فدخل أحد غير مؤمن أو عامي فإنه يوبخ من الجميع، يحكم عليه من الجميع وهكذا تصير خفايا قلبه ظاهرة وهكذا يخر على وجهه ويسجد الله منادياً أن الله بالحقيقة فيكم. » ( 1 كو14: 1-5، 24و25)

و واضح هنا أن الأنبياء هم أصحاب موهبة استعلان إرادة الله وكشف خفايا القلوب، وعملهم يتركز في بناء الكنيسة على الإيمان بحسب مشيئة الله وشرح الأسفار المقدسة بروح الاستعلان ، فكلمة النبوة تنحصر في العهد الجديد على « الاستعلان»، استعلان مشيئة الله في الحاضر ولا شأن لها كثيراً بالمستقبل كما كان عملها في العهد القديم، فالمسيح أكمل كل ما هو لازم للإنسان ولم يعد المستقبل يحمل له رسالة إلا انتظار القيامة وحياة الدهر الآتي . لذلك تحدد عمل الأنبياء في العهد الجديد باستعلان أسرار المسيح لبناء الكنيسة والمؤمنين وإعادة رواية ميلاد المسيح وتعاليمه على مسامع المؤمنين، لأن الأناجيل لم تكن قد وضعت بعد . كذلك كان من مهمة الأنبياء غرس الـتـقـلـيـد الـرسـولي من جهة التعليم والخدمة الليتورجية والأسرار وروايات العهد القديم . والأنبياء بحـسـبـون مـن طـبـقـة الـروحـانـيين المفتوحي الذهن ويتميزون عن المعلمين في أن لهم إلهاماً مباشراً يـعـتـمـدون عـلـيـه. فـالـقـديـس بولس يضعهم في رسالته إلى كورنثوس فوق أصحاب موهبة التكلم بالألسن، أي أنهم أعلى روحـيـا واسـتـعـلانياً ومنفعة في بناء الكنيسة. وتنحصر اتجاهات نشاط الأنبياء في الـتـبـكـيـت والتحذير والدينونة ثم التوعية والبناء النفسي والتعزية والتدبير والتوجيه ، وكانت كل كنيسة تكتفي في معظم الأحوال بنبي واحد، إلا أنه كان يظهر في وسط الشعب من حين لآخـر أنـبـيـاء ذوو مواهب ممتازة، فكانوا يجولون مبشرين، وكثيرون منهم كتبوا رسائل وكتباً بقيت منها لنا أجزاء .

وهنا يلزم أن نضع في الاعتبار، وبناء على ما سبق شرحه بالنسبة لحالة كنيسة روما كونها في حالة تكوين، أن الوظائف غير محددة وغير معين لها الأشخاص، بل ترك الخدمة لمن عنده قدرة على الخدمة. وقليلاً قليلاً فإن كل من ثبتت فيه الموهبة وأعطي غزارة من الروح للعمل، يتعين في مكانه ويـبـدأ يـأخـذ مـهـام الـوظـيـفـة ويهتم بها ويحمل همّها ومسئوليتها ويتوفر على أداء عمله، وهكذا يتخصص. وبعد ذلك بدأت الكنيسة تعي أهمية هذه المواهب وأصحابها، وبدأت الرسامات لضمان استمرار الخدمات واستدراراً لروح النعمة بصلاة الجماعة، وبدأت الحاجة إلى الخدمة تلخ على المؤمنين لكي يطلبوها من الله ليرسل بيد من يرسل، وكان روح التوقع والصلاة يستدر عطف الله والنعمة تنسكب ، و بقدر الحاجة يرسل الله من يقوم بها وأكثر. على أن التمييز بين الخدام وتحديد وظائفهم لم يكن واضحاً في البداية، فالفصل بين الخدمات وبين الخدام الموهوبين لم يعرف إلا مؤخراً في الكنائس التي نضجت .

على أن مـقـيـاس صحة الخادم كـان مـن كـان، نبياً أو واعظاً أو في أي عمل آخر، ظل في الـكـنـيـسة يقاس بالنسبة للإيمان . حتى لا يندس الغرباء بين الخدام. فمهما كانت قدرة أو ذكاء الخادم فالذي كان يرفعه في الكنيسة هو إيمانه، الذي يقاس بدوره على أعماله. على أن المقياس الأول والأهم الذي كان هو المعيار العام بالنسبة للعبادة ككل، هو أن لا يرتئي أحد فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان ، حيث أن أي حماس زائد أو انفعال خارج عن الرزانة يفسد الخدمة ويقلب الكنيسة كلها . هكذا تضع الكنيسة المعيارين معاً التعقل ومقياس الإيمان. وأخطار عدم التعقل وانفلات الإيمان كانا يظهران دائماً في صورة التحرر من التقليد السائد أو التمادي في أعمال النسك الزائد؛ وهما التفريط والإفراط ، اللذان كانا عدوين للكنيسة على مدى الأجيال. وهنا «روح الشعب» التي شربت تعاليم المسيح وتقليد الرسل كان لها القدرة دائماً في إفراز الصالح من الطالح.

وق. بولس يعـطـي تـوعـيـة للشعب أن يكون صاحياً واعياً لكلام الأنبياء وغيرهم ويكون مستعداً أن يحكم عليهم !!

+ «أما الأنبياء فـلـيـتـكـلـم اثـنـان أو ثلاثة (في كـل اجـتـمـاع) وليحكم الآخرون . »(1 كو14: 29)

ولهذا نجد ق. بولس في أثناء سرده للوظائف، أنه يضع في الترتيب الذين يميزون بين الأرواح بعد الأنبياء مباشرة، باعتبارهم طبقة الحكام الذين يفرزون الكلام الصحيح من الباطل : « ولآخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح . » (1کو12: 10)

۷:۱۲ «أم خدمة ففي الخدمة. أم المعلم ففي التعليم » .

« فاختاروا إستفانوس ..، وفيلبس » ، « ونزلا كلاهما
إلى الماء فـيـلـبـس والخصي فعمده ولما صعدا من الماء
خطف روح الرب فيلبس فلم يبصره الخصي أيضاً
وذهب في طريقه فرحاً وأما فيلبس فوجد في أشدود
و بـيـنـما هو مجتاز كان يبشر جميع المدن حتى
جاء إلى قيصرية . »
(أع 6: 5 ، 38:8- 40)
«وكان في أنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء
ومعلمون …» (أع 13: 1)
«أوصي إلـيـكـم بـأخـتـنـا فـيـبـي التي هي خادمة
الكنيسة التي في كنخريا . » (رو1:16)

«أم خدمة ففي الخدمة » :

الخدمة في العهد الجديد وبالمفهوم اللاهوتي لها معنيان، واحد متسع عالي القدر والآخر منحصر في الأعمال الصغرى. ويختلف اللاهوتيون في رد المعنى إلى أيهما ، والواقع أن «الخدمة» بدأت في الكنيسة على وضعها المتسع العالي، وكان الرسل أنفسهم يقومون بها ، ولما ضاق الأمر حددوها في حدود أقل وأوكـلـوهـا إلى طائفة الخدام أي الشمامسة ، وهي الدرجة التي كانت تلي الرسل مباشرة. وظلت كذلك حتى حل الأساقفة محل الرسل، فصار الخدام أو الشمامسة بعد الأساقفة ، ولما حل الكهنة محل الأساقفة صار الخدام أي الشمامسة بعد درجة الكهنة، وهكذا انتقلت مخصصات خدمة الشمامسة أي الخدام من وضعها العالي المتسع إلى حدودها الضيقة. فالشمامسة السبعة الأول كانوا يكرزون على مستوى الرسل، وقاموا بتأسيس الكنائس، وكانوا يعظون الشعب ، وكـانـوا يـعـمـدون، كما فعل فيلبس مع الخصي الحبشي وزير كنداكة، وكانوا يتنبأون . والقديس بولس يقصـد هؤلاء الخدام أي الشمامسة في درجتهم الأولى التي كانت تلي الأساقفة آنذاك ، واستفانوس الذي استشهد على يدي ق. بولس كان واحدا منهم .

وقول ق. بولس: «أم خـدمـة فـفـي الخدمة » ، يعني بها أن الذي أعطي موهبة الخدمة فإنه يتعين في الخدمة كوضع تنحصر فيه مواهبه ويخلص لها :

+ « لیكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضاً كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة . » ( 1بط 4 :10)
+ «فدعا الاثنا عشر جمـهـور التلاميذ وقالوا لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد ، فـانـتـخـبـوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم مشهوداً لهم ومملونين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة . » (أع 6 : 2و3)
+« وأما إستفانوس فإذ كان مملوءاً إيماناً وقوة كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب . » (أع 6 : 8)

واضح هنا أن الشمامسة أي الخدام المعينين أصلاً على خدمة حاجات المؤمنين وخاصة الغرباء كانوا يمارسون الوعظ والكرازة والعماد أيضاً (أع8: 38).

والذي يلزم أن ننتبه إليه في الخدمة التي يذكرها ق. بولس أنها كانت على خدمة حاجات الكنيسة المالية والعناية بالغرباء والكرازة والتعميد، ذلك بحسب التي كان يتحلى بها كل خادم من المعينين .

كذلك يلزمنا أن ننتبه إلى دور الخدمة « الذياكونية» في الكنيسة، فقد بدأت في العصور الحديثة تحتل مكان الصدارة ويعين عليها أساقفة، وصارت إحدى المهام الكبرى لمجلس الكنائس العالمي، ويرصد لها مئات بـل ألـوف الملايين من الدولارات ، بل دخلت هذا الميدان بعض الحكومات ، وأخـيـراً نسمع أن السوق الأوروبية أصبحت من المصادر الكبرى لتمويل الخدمة على مستوى العالم. وتفرعت وامتدت مجالات الخدمة، أي الذياكونية ، فشملت إغاثة المنكوبين بالزلازل والـفـيـضـانـات والأوبئة والمجاعات في كل أنحاء العالم ولكافة الأجناس والديانات وإعانة الحكومات بلا تفريق ، لمقاومة الأضرار الناتجة عن الجفاف والحروب والهجرة والاستبداد .

ولكن لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الخدام والخدمة في الكنيسة في أيام ق . بولس، كان من ضمن مهامها التي نجحت فيها الكرازة بالكلمة وتأسيس كنائس والتعميد، وهذا ما جعلها في نظر ق. بولس في وضع الأسبقية على المعلم والتعليم .

«أم المعلم ففي التعليم » :

يأتي وضع المعلم في المرتبة الثالثة بعد الرسل والأنبياء : « فوضع الله أناساً في الكنيسة أولا رسلاً ثانيا أنبياء ثالثاً معلمين» (1کو12: 28). وكانت مناهج المعلمين من مصادر ثلاثة : العهد الـقـديم، التقليد المسلم من المسيح أي تعليمه بالكلمة والنص تسميعاً عن ظهر قلب وتسليماً من فم لفم، ثم تعاليم الرسل المسماة عادة بالكاتشيزم Catechism ، وهي وصايا ونصائح مجملة من تعاليم الرب لهم . ولا يزال تحت أيدينا كتاب «تعاليم الرسل» و « الديداخي» و بعض وصايا أخرى ترقى إلى تعاليم الرسل أنفسهم .

ورب سـائـل يـسـأل : لماذا يجيء التعليم هنا في الرسالة إلى أهل كورنثوس في الدرجة الثالثة ، وأين درجة الخدام والخدمة ؟ والجواب هو كما سبق وقلنا يعتمد على وجود أو غياب هذه الدرجة أو تلك من الكنيسة المرسل إليها الرسالة، وهذا بدوره يعتمد على مدى تقدم الكنيسة في التنظيم والإدارة ووجود المـواهـب . ونـحـن نـجـد الكنيسة في أفسس تتفوق بدرجتين بعد الرسل والأنبياء تختصان بالكرازة، هما المبشرون والرعاة، وذلك قبل المعلمين : « وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والـبـعـض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين » (أف4: 11). وهكذا نجد أن الدرجة الواحدة قد تتسع لفئات من أصحاب المواهب المتميزة لخدمة معينة، كما هو حادث في أفسس، إذ نجد أن الرسل والأنبياء والمبشرين والرعاة يقومون بأعمال متعددة متخصصة، مع أنه في كنائس أخـرى كـان يقوم بها الرسل فقط . فإن دل هذا على شيء فهو يدل على غنى المواهب المنسكبة على الكنيسة. من هذا يتبين للدارس أن الدرجات الكنسية ليست إلزاماً على الكنيسة ولا هي مقررة يتحتم ملء فراغها؛ بل هي هبات تمتاز بها كنيسة عن كنيسة .

والفرق بين النبي والمعلم أن الأول يتكلم من مصدر الإلهام أما المعلم فعن دراسة واستيعاب . والـنـبـي ليس له منهج، بل ما يراه ينطقه وما يسمعه يتكلم به ، أما المعلم فهو يحدد ما يقوله مسبقاً ويتكلم عن فهم ودراسة وعلم له أصوله .

ولـكـن الـتـعـلـيـم في الكنيسة ارتفع شأنه بمضي الزمن ، فأصبح من صناعة الأسقف بالدرجة الأولى، وأصبح من صلاحيات الأسقف الذي يزكيه للمنصب أن يكون عارفاً بالكتب ، صالحاً للتعليم . وقد برع معظم أساقفة كنائس المسكونة في التعليم ، وصاروا معلمين مقتدرين، وقد أسهموا بكنوز ثمينة هي الآن ملء خزانة الكنيسة !

۸:۱۲ «أم الواعظ ففي الوعظ. المغطي فبسخاء. المدير فباجتهاد. الراحم فبسرور» .

«أم الواعظ ففي الوعظ » : 

 فرق طفيف بين المعلم والواعظ ، فالمعلم هدفه الشرح والإقناع والتثقيف والبناء، والواعظ هدفه التبكيت والتوبة والتعزية وإطاعة القلوب . ولكن هذه الموهبة متداخلة في كل أنواع الدرجات فمن شبه المستحيل أن تجد رسولاً لا يعظ أو نبياً يعمل دون وعظ بالدرجة الأولى أو خادماً يخدم دون أن يكون في صميم أدائه الأمين عـظـة دائمة تحتذى . ولكن اشتهرت كنائس كثيرة بوغاظها الذين يـحـتـرفـون الوعظ ، سواء كعمل قائم بذاته أو مضافاً إلى مواهبه ، فبرع فيه أكثر ممن عداه ، كالقديس ذهبي الفم وقد تقلب على درجتي القسوسية والبطريركية، وكان معلماً يشار إليه بالبنان ، ولكنه فاق في وعظه أساقفة الشرق جميعاً، فسُمي بذي الفم الذهبي أو ذهبي الفم، فقد كان واعظاً مفوها وخـطـيـباً مقتدراً. أما الآن فقد أصبح الوعظ والتعليم قلادة على هيئة صليب يحملها الكاهن راضياً ومرغماً، فالخراف جائعة دائماً والمراعي جفت ونصب الينبوع .

«المعطي فبسخاء»: 

ظن العلماء والشراح عموماً هنا أنها مسألة عطاء وحسنة ، فتاه منهم القصد. القديس بولس هنا لا يزال يـضـاهـي بين أدوات الـعـبـادة في القديم وبينها في الجديد، فإن كان المعلم والواعظ يقابلان عـمـل الـكـاتـب والفريسي فهنا العاطي بسخاء هو إعطاء العشور وجمعها ، ولكن ليس في الـكـنـيـسـة عـشـارون ولا عشور بل المعطي يعطي بسخاء وبسرور لا يعد ولا يحسب ، والكل تحت أرجل الرسل، ومن بعدهم الأساقفة، فليس في الكنيسة جباة. وهكذا سقط من درجات العبادة في العهد الجديد العشارون وموائدهم . وأول نبوة بسقوط هذه الوظيفة وانتهاء دورها في العهد الجديد هو اخـتـيـار مـتى العشار ليصير رسولاً، فترك مائدته إلى الأبد، ثم قلب المسيح لموائد الصيارفة وطردهم من الهيكل كان إيذاناً بانتهاء هذا العمل من الكنيسة، وصار المؤمنون يعطون لا من فضلاتهم بل من أفـضـل مالهم. والتركيز الواضح الذي يضغط عليه ق. بولس لينبه الذهن المسيحي، لو ينتبه ، هو كلمة «بسخاء» لكي تقابل العشور. وهذه بحد ذاتها مقارنة مبدعة بين عبادة بسخاء الروح في مقابل عبادة بالحرف والرقم . وهي لفتة ل المؤمنين أمس واليوم وإلى الأبد .

+ «فرأيت لازماً أن أطلب إلى الإخـوة أن يـسـبـقـوا إليكم ويهيئوا قبلاً بركتكم التي سبق التخبير بـهـا لـتـكـون هي معدة هكذا كأنها بركة لا كأنها بخل!!! هذا وإن من يزرع بالشخ فبالشح أيضاً يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد، كل واحد كمـا يـنـوي بـقـلـبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الله … كما هو مـكـتـوب فـرق، أعطى المساكين، بره يبقى إلى الأبد. والذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم. مستغنين في كل شيء لكل سخاء ينشىء بنا شكراً الله . لأن افتعال هذه الخدمة ليس يسد إعواز القديسين فقط بل يزيد بشكر كثير الله إذ هم باختبار هذه الخدمة يمجدون الله على طاعة اعترافكم لإنجيل المسيح وسخاء التوزيع لهم وللجميع، وبدعائهم لأجلكم مشتاقين إليكم من أجل نعمة الله الفائقة لديكم . فشكراً الله على عطيته التي لا يعبر عنها . » ( 2كو: 5-15)

 

«المدير فباجتهاد » :

واضح هنا أنه المقابل لرؤساء الشعب أو شيوخ الشعب في إسرائيل الذين كانت مهامهم هي التدبير في شئون الأسباط والمدن التي كانوا مسئولين عنها ، وقد أثبت رؤساء الشعب هؤلاء أنهم كـانـوا يتبارون على هذه الرئاسة للنهب والسلب والتفاخر والتباهي فكانت خطاياهم تجري | أمامهم و وراءهم، لذلك من هذه الصورة البغيضة أراد ق. بولس أن يضع للعبادة الجديدة بالروح أراخته للشعب يدبرون باجتهاد غير منتظرين جزاء ولا شكوراً :

+«ثم نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويد برونكم في الرب وينذر وتكم وأن تعتبروهم كثيراً جداً في المحبة من أجل عملهم.» (1تس5: 12)
+ «أمـا الـشـيـوخ المديرون حسنا فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة ولا سيما الذين يتعبون في
الكلمة والتعليم » (1تي5: 17). والكلام هنا يحتمل القسوس وشيوخ الشعب .

«الراحم فبسرور»:

عـمـل جـديـد للـعـهـد الجـديـد ـ لم يكن له شبيه في عبادة العهد القديم ـ يحتل فيه المريض والجائع والـعـريـان والمسجون لفتة إلهية عالية من المسيح الرب . وقد حظي هؤلاء التعابي والبؤساء بمركز في المسيحية أسمى من درجات الملوك والعظماء :

«ثـم يـقـول الملك للـذيـن عـن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس الـعـالـم. لأني جعتُ فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني ، عرياناً نـكـسـوتـونـي، مريضاً فزرتموني ، محبوساً فأتيتم إلي. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين يا رب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عـطـشـانـاً فسقيناك ومتى رأيناك غريباً فآويناك أو عرياناً فـكـسـونـاك ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك فيجيب الملك ويقول لهم الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم . » (مت25: 34-40)

 واضح أن هذا الـعـمـل هـو مـكـمـل للوظيفة التي ألقيت على رؤساء الشعب أو شيوخ الشعب سابقاً، وهي تدبير شئون الكنيسة باجتهاد. وهنا يضاف إلى هؤلاء الأراخنة عمل هذه الرحمة التي رفعها المسيح إلى مستوى الأداء للمسيح نفسه. من هذا نفهم من أين يأتي السرور للراحم مثل هؤلاء التعساء والمرضى إذ هو يرحم المسيح نفسه «فبي فعلتم » !

إلى هنا ينتهي ق. بـولـس مـن القسم الأول من هذا الأصحاح والذي يختص بالعبادة في الداخل والخارج وقد جرى كالآتي:

  القسم الأول:

1 ـ الخمس الآيات الأولى تختص بالعبادة وتنتهي بأن المؤمنين هم أعضاء جسد المسيح .

٢ ـ الآية السادسة تقسيم المهام الكنسية وتبدأ بالنبوة .
الآية السابعة الخدمة والتعليم .

الآية الثامنة الوعظ والعطايا المالية ( العشارون) وعمل الشيوخ في التدبير والرحمة.

و بهذا يكون ق. بولس قد رسم العبادة من الداخل بالخمس الآيات الأولى وأكمل شكلها من الخارج بالثلاث الآيات الأخرى .

القسم الثاني : يبدأ القسم الثاني من الآية التاسعة ويستمر إلى الآية الثالثة عشرة ويرسي فيها أصول العلائق التي تشد المؤمنين من الداخل بعضهم لبعض .

القسم الثالث : و يبدأ من الآية (14) إلى الآية (21)، وهي تخـتـص بـسـلـوك الجماعة تجاه الآخرين .

 

[ ۲۱-۹:۱۲ ] الجماعة المسيحية المنقادة بالروح القدس

وصايا للمؤمنين = مقومات العبادة المسيحية

۹:۱۲ «المحبة فلتكن بلا رياء. كونوا كارهين الشر، ملتصقين بالخير»

«المحبة فلتكن بلا رياء»: 

+ «الرياء». المحبة أول حجر في بناء الهيكل الأخلاقي للعبادة المسيحية. لذلك وضعها ق . بولس في بـدايـة مـقـومـات العبادة. والقديس بولس لم يغير من أهداف المحبة التي جاءت في الناموس من جهة الله ومن جهة القريب . ولكن أضاف إليها صفة تؤمن صدقها، فطلب أن تكون بلا رياء. ومعروف أن الرب هو الذي اكتشف هذه الصفة الممقوتة في الكتبة والفريسيين وكانت موضع قلقه ونقده الشديد الذي كرره كثيراً جداً :

+ « من داخل مشحونون رياء» (مت23: 28)،

+  « فعلم رياءهم » (مر12: 15)،

+ « تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء » (لو12: 1).

وقد أعطى الرب صفة « المرائين » كاسم للفريسيين :

+ « فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون » (مت6: 2)،

+« متى صليت فلا تكن كالمرائين» (مت6: 5 )، 

+ « ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين» (مت6: 16)،

«يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك» (مت7: 5 )،

+«يا مراؤون حسنأ تنبأ عنكم إشعياء قائلاً يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً» (مت7:15)،

+ «یا مراؤون تـعـرفـون أن تميزوا وجه السماء وأما علامات الأزمنة فلا تستطيعون » (مت 16: 3)،

« فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجر بونني يا مراؤون » ( مت22: 18)،

«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون . » ( مت23: 13)

واضح من كلام الرب تماماً أن خطية الرياء كانت هي لمسة الشيطان في قلوب هؤلاء البؤساء !

وحـتـمـا كـان ق. بولس على علم بما علم به الرب وبما أقلقه ، سواء مما سمعه من الرسل أو مما استعلنه له الرب. لذلك حينما أعطيت الفرصة للقديس بولس أن يضع حجر الأساس في اللاهوت الأخلاقي بالنسبة للكنيسة، حذر مما حذر منه المسيح : «المحبة فلتكن بلا رياء». ولماذا يضعها ق. بولس كأساس ؟ لأن المحبة إذا تلوثت بالرياء لا يمكن أن يبنى فوقها أي صفة صالحة أخرى . فإذا ساد الرياء على المحبة صار الحق إذا ركب فوقها كذباً، والأمانة إذا اتحدت بها خيانة وانهار البناء الأخلاقي. لماذا ؟ لأن المحبة هي موهبة الله الخاصة التي يسكبها بالروح في قلوبنا لنتطهر بها ونـتـقـدس، فإذا جنحت ناحية الرياء يكون هذا معناه أن الشيطان نال من طهارتها ولونها دون أن ندري. وما معنى محبة فيها رياء؟ معناه أنها «لا محبة» على الإطلاق، ربما تكون أكذوبة أو حيلة أو وسيلة أو حتى بغضة عليها غطاء من الرياء يخفي حقيقتها . فإن كانت المحبة الصلاح ، فالرياء هو قمة الخبث . ويقيناً إن صاحب المحبة القائمة على الرياء يستحيل عليه أن يبني لنفسه بناء خلقياً مسيحياً، لأنه إذا فسدت المحبة فمعنى ذلك أنه قد فسد القلب بكل خلجاته وملكاته وانعمت بصيرته وضل ذكاؤه . 

«فقال له يسوع يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان» (لو22: 48). هنا قمة الرياء القاتل في صـورة قبلة محبة . القديس بولس يعلم هذا لأنه فريسي أصلاً ومنشأ، وقد أدرك كيف طمس الرياء فيما سبق بصيرته وعماه، فلا هو أدرك حقيقة محبة الله ولا هو استطاع أن يبلغ محبة الناس، فسمع من الرب يسوع : « شاول شاول لماذا تضطهدني ؟ » فما حسبه غيرة – حب على والمقدسات ، اكتشف أنه كان اضطهاداً للمسيح وإتلافاً للكنيسة بفضل الرياء الذي استقاه من زمالة المهنة بين القدوس الكتبة والفريسيين .

ولا ننسى أن ق. بولس وهو يكلم المسيحيين بروحه وإلهام الله عن الصفات اللائقة بالجماعة المسيحية، كان ناظراً بوعي إلى ما كان عليه من كبرياء ورياء وتعالى والسباق على الكرامة والمتكأ الأول، الأمر الذي ضاق به المسيح جداً وشغل كثيراً من وقته وهو يبكت ويصحح ويعطي الأمثال والإنذارات. لذلك كان هم ق. بولس أن يعلم أول ما يعلم عن البناء الأخلاقي على المستوى اللاهوتي أن تكون المحبة بلا رياء! «في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء . » (2کو6: 6)

ما هي المحبة التي بلا رياء؟ هي محبة بلا عائد، لا ينتظر الإنسان من ورائها حباً بالمثل أو رداً للجميل، محبة صادرة من قلب سلم كل شيء إلى الله وسلّم نفسه الله ومن الله يأخذ الحب ويعطيه كما هو، دون أن ينقص منه لنفسه شيئاً : « طهروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة . » (1بط1: 22)

الحـب عـديـم الـريـاء هـو حـب مـن لا ينظر وجه من يحبه بل وجه الله وحده ينظر، وقلب الله يحاكي!! فلا يهتز في حبه لبغضة أو عداوة بل ينطق بحبه «کمجنون حب » لا يعرف إلا أن يحب بكل القلب لأن الله قال وليكن ما يكون . يحب الناس كل الناس، لا يصده القبح ولا يغريه الجمال، لا يستزيده المديح ولا يصده التقريع، لا يرهبه الموت ولا تغريه الحياة لأن الله قال. قد ربط قلبه على الحب وألـقـاه بين يدي الله يسحب منه ويبلد ، ورصيده يزداد . هذا هو الحب بلا رياء لأنه مـصـون في يد الله. لا يملك منه الإنسان إلا صدق المجازفة في العطاء، و بقدر صدق المجازفة يكون الجزاء، مكياك بمكيالين، فغنى الإنسان في الحب هو رهن التبديد، والحكمة المسيحية اللا تعقل في المحبة، هي بيع الحاضر الفاني لاقتناء المستقبل الذي لا يفنى، هي احتساب ربح هذا الدهر خسارة لاكتساب الكنز السمائي . 

«كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير»:

هذه حتمية المحبة التي بلا رياء، فالمحبة «لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» (1کو13: 6)، أن نـكـره الشر هـذا هـو فـرح المحبة . القديس بولس يجتز الخطية من جذورها ، أن نكره الشر فهذا عمل الخير بعينه، هذا هو الصلاح ومنطلق حياة بلا لوم. لو تخير الإنسان بين أن لا يعمل الشر أما وبين أن يكره الشر فالثاني أقوى وأثبت . فنحن قد لا نصنع الشر ولكن لا نكرهه وهذا شر. إذا كرهنا الشر بالحق فلو عملناه مرة فلن نعمله بعد ذلك بالمرة، لأن كراهية الشر تقف رادعاً .

كارهين وملتصقين ( ومنها الكلا المادة اللاصقة المعروفة عند الصناع) :

كارهين : هذه الكلمة شديدة التعبير فهي تعني الفزع والقشعريرة وترجمتها بالإنجليزية : To hate violently – shrinkingly . وق. بولس قـصـد أن يضع الكره حتى القشعريرة من نحو الشر إزاء الالتصاق (الكولا) حتى العشق من نحو الخير. وكأن ق. بولس يعود بالإنسان إلى جذور الشجرة المنكوبة التي عرفت الإنسان الخير مع الشر، فاختلطا فيه وضاع الإنسان بينهما. القديس بولس يضع الحد الفاصل المزدوج، البغضة والعشق، ليخلع الشر من قلب الإنسان فلا يتبقى له إلا الخير. إنها أمنية الإنسان، ولكن الأمنية في ظل النعمة والموهبة حقيقة لا تقل عن سهولة اليد التي امتدت إلى الشجرة فأكلت . فأمامنا شجرة الحياة، من يأكل منها تنفتح عيناه بالحق ويكون كالله والمسيح بالحق عارفا الخير كارها الشر. « فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو6: 57) ـ والمسيح المأكول هـو الحـق ـ والذي أكل الحق يتقيأ الشر. القديس بولس يلهمنا أن نوظف الكره الذي في طبعنا الساقط لـيـتـرگـز نـحـو الشر مـصـدر السقوط الذي انحدرنا منه ، كما نوظف الحب الذي هو أداة الالتصاق والعشق أفخر ما في طبيعتنا التي من فوق التي منها ولدنا ، لكي نلتصق بالخير أي المسيح فتدعى مسيحيين وللمسيح نعيش .

۱۰:۱۲ « وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية. مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة».

 « وادین »، «المحبة الأخوية» :

ق. بولس يـنـتـقـل بالمحبة من عملها وجمالها العام إلى عملها وجمالها الخاص، من الأغابي إلى الفيلادلفيا وهي محبة الإخوة، المحبة في دائرة المسيح والإخوة : «بكراً بين إخوة» (رو۲۹:۸)، والـكـل في حالة قيامة وابتهاج . فإن كانت المحبة هي «الأغابي» العامة، يطلب ق. بولس أن تـكـون بلا رياء خاصة، فالمحبة «فيلوس » مع الإخوة يطلب أن تكون دافئة حيث تفيـد حـرارة المحبة الرقيقة الأبوية والأخوية والتي للإخوة والأخوات والزوج للزوجة، فهي رابطة العائلة وروح الأسرة. ويلاحظ هنا تكرار البادئة فيلو . فالقديس بولس يعتصر الكلمة لكي يستخرج منها أكسير المحبة التي تجعل من الاثنين واحداً و الثلاثة رابعاً يحل في وسطهم، ومن الكثرة العددية أسرة كجسد واحد . القديس بولس يحاصر المؤمنين ليصنع منهم كنيسة ومن الكنيسة عروساً مهيئة لمن أحبها . القديس بولس يتصور المسيحيين وهم يقبلون بعضهم بعضاً بالقبلة المقدسة التي تطهرهم وتقدسهم وتؤهلهم لأخذ الجسد وشرب الدم لتجعل منهم الجسد السري الذي تحلم به الكنيسة ويتخيله اللاهوتيون . 

وكلمة «المحبة الأخوية » الفيلادلفيا ، ملأت ذهن الرسل، فهي البضاعة المفضلة في الحديث عند المسيحيين حينما يجتمعون وحينما يصلون وحينما يعملون :

+ « وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضاً . » (1تس4: 9)

+ « لتثبت المحبة الأخوية . » ( عب13: 1)

+«طهروا نـفـوسـكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة . » (1بط1: 22) 

+ « وفي التقوى مودة أخوية وفي المودة الأخوية محبة . » ( 2بط1: 7)

+ «فتمموا فرحي حتى تفتكروا فكراً واحداً ولكم محبة واحدة بنفس واحدة مفتكرين شيئاً واحداً» (في2: 2). هذه هي المودة في الحب .

«مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة » :

 كانت عشرة التلاميذ الاثني عشر ليلة العشاء ـ وبالذات بطرس و يهوذا ـ هي أيهما أكبر ليتقدم ويجلس عن يمين الرب . لذلك كانت مركز طقس خدمة غسيل الأرجل في ليلة العشاء وفي الكنيسة على مدى العصور وكان عليها تعليم الرب :

+ «فلما كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً قال لهم أتفهمون ما قد صنعت بكم ؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض . » (يو13: 12-14)

+ «وكـانـت بـيـنـهـم أيـضـا مـشـاجـرة مـن مـنهم يظن أنه يكون أكبر. فقال لهم ملوك الأمم يـسـودونـهـم والمـتـسـلـطـون عـليهم يدعون محسنين، وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم فليكن كالأصغر والمتقدم كالخادم لأن من هو أكبر؟ الذي يتكىء أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكىء ولكني أنا بينكم كالذي يخدم . » ( لو22: 24-27)

من هذه الروح عينها بل وبهذه الروح عينها ، يعطي ق. بولس وصيته للكنيسة لا أن يكرم الإنسان أخـاه بـالمـودة فقط بل يقدمه في الكرامة على نفسه أيضاً !! لماذا ؟ لأن المسيح صنع هذا وهـو السيد والمعلم غسل أرجل تلاميذه فماذا يا ترى نحن عاملون ؟ المسيح لم يكتف بسخرة الميل الـواحـد لمن يسخرني بل زادها ميلاً من عنده، من رصيد المحبة للأعداء، لأحول سخرة العداوة إلى محبة ولأرتفع أنا فوق البغضة!! وأكرم من يحتقرني !! المسيح لم يكتف باحتمال ضربة الكف على الخد الأيمـن بـل مـد يـديه ورجليه للصليب ليحول الإهانة إلى ذبيحة شكر والألم إلى مسرة الفداء . لأنه «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب . » (عب12: 2)

المسيح لم يكتف بأن أخلع الرداء لمن أراد أن يبتزه مني ويظلمني، بل قال لي اخلع له الثوب أيضاً لكي أحول ابتزازه لي إلى حسنة عليه، وظلمه لي إلى شفقة عليه ! ولقد اعتزت المسيحية بهذه المـواقـف العالية والسامية وصاغت منها أخلاقاً بل لاهوتاً قادراً أن يسمو بإنسان التراب ليجلسه في أعلى السموات .

ق. بولس لـم يـأت جـديداً بل سار على المنوال : لما جعلني أقدم أخي علي في الكرامة مهما صغر هو ومهما كبرتُ أنا، فالذي يسير في الخلف هو في النهاية يكبر والحب يزداد، والذي يجلس في المتكأ الأخير هو يرتفع ويسود السلام، والذي يتوارى عن الأنظار ليجعل الأنظار تنشغل بغيره فقد ربح نفسه وغلب العالم وأرضى الناس. وليس جزافاً أن يضع ق. بولس تقديم الآخرين في الـكـرامة بعد تقديم المودة الأخوية والمحبة، فالمحبة الحقة تصنع هذا وتصنع أعظم من هذا : « ليس لأحـد حـب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه من أجل أحبائه» (يو13:15). ولكن المسيح مات من أجل أعدائه ليحولهم إلى أحباء.

۱۱:۱۲« غير متكاسلين في الاجتهاد، حارين في الروح، عابدين الرب » .

« غير متكاسلين في الاجتهاد، حارين في الروح » :

متكاسلين في الاجتهاد (عكس) حارين في الروح .

‏ هذه الآية نصفها الأول يرد عليه نصفها الثاني. الأول سلبي في حالة نفي، والثاني إيجابي .

الأول وهو المتكاسل في الاجتهاد لا يليق بالمسيحية عامة ، لأن معناه تماماً أن الروح غير حار في الإنسان .

فالحياة المسيحية جهاد واجتهاد، ولكن بروح نشطة دائماً إن كان الروح على مستوى حياة المؤمن الداخلية أو الخارجية .

1 ـ ففي الحياة الداخلية، الاجتهاد لحفظ الإنسان نفسه بلا دنس في العالم أمر غير عادي ، لأن العالم يحيط بالإنسان ويضيق عليه لكي، إما يبتلعه، أو على أقل تقدير يحيده، لكي لا يقف ضده ، ولـكـن أن يقف إنسان ضد العالم فمعناه دفع غرامات كثيرة. ولكن بحسب خبرة أهل الخبرة من كافة قديسي الله الذين هم كلهم شهود الآن ضد العالم، فإن الغرامات في وزنها النهائي أقل بكثير من ربح المسيح والدهر الآتي . القديس بولس يقول عن خسارات العالم التي غرمه بها العالم في سبيل تركه كل شيء واتباعه المسيح أنها في نظره النهائي نفاية، حيث كلمة «نفاية » كما جاءت في اليونانية أنها «زبل» !

فمرحباً بالجهاد … «أشدة أم ضـيـق أم اضـطـهـاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف ؟ »( رو8: 35)

ثم لو كنا نجاهد دون أن يكون لنا منه مؤازرة، لكان التكاسل يمكن أن يكون وارداً، ولكن إن كان الله معنا فمن علينا ؟ وإن كان الله قد بذل ابنه الوحيد من أجلنا أجمعين فكيف لا يهبنا كل شيء، وإن كان لنا شهادة من أرواح القديسين العظماء الذين جاهدوا الجهاد الحسن ودخـلـوا إلى فـرح الـسـيـد والآن يطلون علينا من السماء: ـ «إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر (تركض) بالصبر في الجهاد المـوضـوع أمامنـا نـاظـريـن إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس في يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في أنفسكم » ( عب ۱۲ : ۱-۳)، فكيف نخور أو نکسل ؟

 هذا كله تشجيع جيد، ولكن هناك أيضاً تحذير مخيف، فنحن نجاهد ونجتهد ولنا في النهاية من سيحاسب ويعطي المكافأة، وليست كل المكافآت مفاجآت حلوة في المجد، ولكن أيضاً يوجد وجـه مـقـطـب وعين حـزينـة وكـلام تبكيت مؤلم خطر: « وقال له أيها العبد الشرير والكسلان عرفت أني أحصد حيث لم أزرع وأجمع من حيث لم أبذر، فكان ينبغي أن تضع قضتي ( مواهبي فيك) عند الصيارفة (خدام المسيح الأمناء) فعند مجيئي كنت آخذ الذي لي (مواهبي) مع ربا (أعـمال شهادة). فخذوا منه الوزنة (الهبة) وأعطوها للذي له العشر وزنات … والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان . » (مت25: 26-30)

٢ ـ أما في الحياة الخارجية، أي التي من أجل الآخرين ، فهنا مجال الكنيسة المجيدة وأولاد الكنيسة الأماجد، هنا الشبان والشابات ، هنا الرجال والسيدات، كل قامة لها خدمة ولها جهاد ولهـا اجـتـهـاد مـن أجـل الذين لم يعرفوا بعد شمالهم من يمينهم، الذين لم تبلغهم البشارة المفرحة ، الذين لم يطرق على قلبهم مسيح الحب الذي يود أن يدخل إليهم ليتعشى معهم وهم معه ، الذين لم يعرفوا أنهم مختارون في المسيح قبل تأسيس العالم ومقدسون ومطلوب أن يأتوا إليه ليأخذوا نصيبهم في الميراث والمجد . وإن تأخرت عليهم مواكب الخدمة ماتوا ودمهم يشتكي، فكيف لا يكون جهاد واجـتـهـاد وعلى كل المستويات ؟ يوجد المرضى والجوعى والعطاش والغرباء والمحبوسون كلهم يثنون وعـيـونـهـم إليك!! وإن تأخرت زاد بؤسهم وزاد أنينهم وجوعهم وعطشهم وحبسهم، وها هم يموتون قبل أن تأتيهم أيدي الرحمة؛ فكيف لا يكون جهاد واجتهاد وعلى كل المستويات ؟

«حارين في الروح »:

هذا هو سر جـهـاد الإنسان المسيحي وسر حياة وبقاء الكنيسة إلى اليوم بل وامتدادها حتى  حدود الأبدية. فأن يكون الإنسان حاراً بالروح ، يكون الجهاد الحقيقي والاجتهاد المقبول . و بدون حرارة الروح ، يصبح الجهاد ثقلاً صعباً والاجتهاد بلا رجاء . ونحن لا يمكن أن نكون حارين بالروح من تلقاء ذواتنا بل من فعل النعمة وسكني الروح القدس ، لذلك ، سر الحياة المسيحية كلها يكمن في اقتناء الروح القدس ، فهو الذخيرة وهو النار الحية التي تشعل قلب الإنسان وتجعله يتحرك بـالمـحـبـة سـواء من جهة العبادة أو من جهة الخدمة. ولكن ق . بولس يطلب أن نكون حارين بالروح ، والروح هنا ليس هو الروح القدس بل روح الإنسان، والإنسان لا يقبل الروح القدس دون أن يسعی خلفه بصراخ ودموع بسهر الليالي وبصلاة لا تهدأ «فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه . » (لو11: 13)

وهذه شهادة الأب أنطونيوس ناسك الإنجيل وقديس البراري :

[ذلك الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا، اقبلوه أنتم أيضاً. وإذا أردتم أن تقبلوه ويسكن فـيـكـم قـدمـوا أولا أتـعـاب الجـسـد وتـواضـع القلب ، وارفعوا أفكاركم إلى السماء في الليل والنهار، واطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري ، وحينئذ يعطى لكم .
ولا تفكروا في قلوبكم وتكونوا ذوي قلبين وتقولوا من يقدر أن يقبل هذا. لا يا أولادي لا تـدعـوا هذه الأفكار تأتي على قلوبكم بل اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلونه . وأنا أبوكم أجـنـهـد معكم وأطلب لأجلكم أن تقبلوه، لأني عارف أنكم كاملون وقادرون على قبوله . لأن كل من يفلح ذاته بهذه الفلاحة (النسك الإنجيلي)، فإن الروح يعطى له في كل جيل وإلى الأبد. أديمـوا الـطـلـبة باجتهاد من كل قلوبكم، فإنه يعطى لكم، لأن ذلك الروح يسكن في القلوب المستقيمة . وإذا قبلتموه فإنه يكشف لكم الأسرار العلوية وأموراً أخرى لا أستطيع أن أعبر عنها ، ويكون لكم فرح سماوي ليلاً ونهاراً وتكونون في هذا الجسد كمن هو في الملكوت . ولا تعودون تطلبون عن أنفسكم فقط بل وعن الآخرين لأن كل من قبل هذا الروح يـسـتـطيع أن يطلب عن الغير … وأنا طلبتي الآن من أجلكم ليلا ونهاراً ليكون فيكم هذا الروح العظيم الذي قبله جميع الأطهار. ] الرسالة الثامنة 

وهـكـذا نـجـد بالنظرة العميقة المتسعة أن الله حينما يطالبنا بالأعمال والجهادات فإنه يكون هو المتكفل بتسهيلها ورفع المعوقات في سبيلها وإعطاء روح الشجاعة والجرأة على اقتحامها، فهذا هو قانون العبادة أن كل أمور الله يتكفل بها الله ولا أحد يستطيع أن يعمل أعمال الله إلا بالله .

 

«عابدين الرب » :

لا تأتي «عابدين الرب» وكأنها وصية قائمة بمفردها مقطوعة من الوصية سابقتها «حازين في الروح» بل هنا اتصال وثيق ، لأن عبادة الرب تأتي من حرارة وتنشىء حرارة . و بدون حرارة تـتـوقـف العبادة : «ليتك كنت بارداً أو حاراً، هكذا لأنك فاتر ولست بارداً ولا حاراً أنا مزمع أن أتقيأك من فمي . » (رؤ3: 15 و16)

بل إن وصـيـة «عـابـديـن الـرب » لها صلة تمتد حتى الآية «المحبة فلتكن بلا رياء» بل وتمتد حتى «قـدمـوا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية » . فالقديس بولس يضع أساس العبادة المسيحية حجراً على حجر لكي يتماسك البناء .

وكـم يـلـيـق بنا أن نأخذها آيه آيه ونطبق على واقعنا الذي تعيشه ثم نعدل ونصحح ، لأن هذه فرصة من فرص البناء على أساس التغيير والتجديد التي يتكلم عنها ق. بولس بإلحاح : «تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » . وكلام ق. بولس الرسول بحد ذاته يجدد الذهن ويوسع وعي الروح ، وفيه تنوير وتبكيت . ومن سار على الدرب وصل .

وأن ينهي ق. بولس هذه الآية «بعبادة الرب » ، فإنه يجعل كل الآية تنصب فيها ، فإن كان يطلب النشاط في الاجتهاد والحرارة في الروح، فذلك كله لكي يعطي للحياة كرامة العبادة للرب : « وكل ما فعلتم ، فاعملوا من القلب كما للرب، ليس للناس . عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث لأنكم تخدمون الرب المسيح . » (کو3: 23و24)

فالمسيحي الحق، حياته عبادة: «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله . » (1کو10: 31)

۱۲:۱۲«فرحين في الرجاء . صابرين في الضيق. مواظبين على الصلاة».

وإن كان روح التسرع يلح علينا أن نضم هذه الثلاث الوصايا معاً في شرح واحد بسبب ارتباطهما الوثيق، ولكن من أجل منفعة القارىء نأخذها وصية وصية .

«فرحين في الرجاء » :

ق. بولس يطرح هذه الحقيقة الإلهية على أساس ما تم وأخذناء بالإيمان . فبمقولة واحدة يتحقق لنا هذا الوعد، أي الفرح في الرجاء، وهو البر الذي منحه الله لنا. أما البنود التي شملها هذا البر والـتـي تـكـشـف لنا أكثر مسببات الفرح في الرجاء فهي مغفرة الخطايا ، والتقديس الذي أكمله المسيح لنا بالصليب، والذي أهلنا للمصالحة مع الآب وانسكاب الروح القدس وقبول التبني .

إذا الآن نـحـن في موقع التبني، والروح القدس يشهد لنا أننا أولاد الله ، وينطق فينا بالعلاقة الجديدة مع الله : « يا أبا الآب » ، واعداً بالحياة الأبدية التي عربونها هو الروح القدس نفسه فينا . هو مصدر الرجاء ومصدر الفرح . كيف لا نفرح والروح القدس يملأنا ؟ كيف لا نفرح ونحن في ملكوت ابن محبته ننعم الآن؟ كيف لا نفرح والحياة الأبدية تتفجر داخلنا ؟

فإن كنا نخوض كل يوم مع الزمن والجسد والعالم تحت أقنعة الشيطان المزيفة حرباً لا تكف ولا تهدأ، ففيها ـ وإن كنا نموت كل يوم ـ نحن أعظم من منتصرين بالذي أحبنا ( رو8: 37)، ولا يـسـتـطـيـع شيء فينا أو خارجنا من أي نوع أو مستوى أن يفصلنا عن محبة المسيح . وحينما تخور قـوانـا ويتشتت ذهننا ، فالروح القدس يتشفع فينا بأنّات لا ينطق بها ، فبعد ذلك كيف لا نفرح في الرجاء الموضوع أمامنا ؟

إن في اخـتـبـار آلامنا كل يوم ، روح المجد والله يحل علينا ( 1بط 4: 14)، وكل خطية نطرحها معترفين بها أمام الله الآب ننال عنها غفراناً بضمان دم المسيح (1 يو1: 7)، وإن كنا نئن في أنفسنا بسبب ثقل الجسد، فتكميل فداء الجسد موضوع أمام أعيننا برجاء الآتي (رو8: 23)، فكيف لا نفرح في الرجاء ؟

معروف أنه سيـكـون لـنـا في الـعـالـم ضيق، ولكننا بهذه الضيقات الكثيرة ندخل ملكوت السموات (أع14: 22)، فإن زادت الضيقات عن الحد فهذه بينة ( 2تس1: 4و5 ) أن خلاصنا قد صار الآن أقرب مما كان. فبعد هذا كيف لا نفرح في الرجاء ؟

«صابرين في الضيق » :

هنا ق. بولس اعـتـبـر أن الـضـيـق أمـر قد وضعنا له : «فأرسلنا تيموثاوس أخانا وخادم الله والـعـامل معنا في إنجيل المسيح حتى يثبتكم ويعظكم لأجل إيمانكم كي لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات فإنكم أنتم تعلمون أننا موضوعون لهذا . لأننا لما كنا عندكم ، سبقنا فقلنا لكم إننا عتيدون أن نتضايق كما حصل أيضاً وأنتم تعلمون . » ( 1تس3: 2-4)

ولـيـلاحـظ الـقـارىء أن ق. بولس يـقـول إننا موضوعون للضيق، وهذا تعبير إبداعي كما أن الجندي موضوع للحرب أو الرجل الرياضي موضوع للجري وكسب الكأس. فالوضع وضع اختياري للفخر والممارسة والنصرة ويتطلب منا التمرن على احتمال الضيق ، لأن الضيق هو مجالنا للربح ولـيـس الخسارة كما يقدمها ق. بولس صراحة : « وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق ينشىء صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزي ، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا» (رو5: 3ـ5 ). فالضيق للذي عنده الإيمان الوطيد يزيده إيماناً ويشعل الرجاء الذي له في الله والمسيح والملكوت ، وهكذا يزداد توقتُدأ ونوراً وصفاء كـمـا يـقـول بـطـرس الرسول: «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان ، الخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير الذي به تبتهجون مع أنكم الآن، إن كان يجب (أن) تحزنون يسيراً بتجارب متنوعة لكي تكون تركية إيمانكم …» (1بط1: 5-7)

أما سلاح الاحـتـمـال والـصـبـر على الضيق فهو الاتضاع ، فمن جهة الاتضاع الذي أنقذ ق . بولس من ضيقة خانقة حتى الموت يقول : «قد امتلأت تعزية وازددت فرحاً جداً في جميع ضيقاتنا ، لأننا لما أتينا إلى مكدونية لم يكن لجسدنا شيء من الراحة بل كنا مكتئبين في كل شيء من خارج خـصـومـات ، من داخل مخاوف ، لكن الله الذي يعزي المتضعين عزاَّنا . » ( 2کو7: 4-6)

وكما يقول بطرس الرسول، إننا بالإيمان محروسون ونحن في أتون الضيقة والألم، كذلك يقول بولس الرسول إننا ونحن في الضيقة إن وجدنا مطروحين وكأننا قد متنا، فالله يستحيل أن يتركنا ، ولـكـن كـل ما في الأمر أن الله يريد أن يتزكى هو بإيماننا ويظهر في موتنا حياة الرب يسوع !! «مكتئبين في كل شيء لكن غير مـتـضـايقين، متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين ، مـطـروحين لـكـن غير هالكين حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا . لأننا نحن الأحياء تُسلم دائماً للموت من أجل يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت » (٢ کو٤ : ۸-۱۱). والضيقة في حياة المؤمنين خطاب دوري يتسلمه الإنسان ويرد عليه ثم يسلمه لآخر: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية الذي يعزينا في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله. لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً . » (2کو1: 3-5)

وق. بولس له اختبار عجيب حقاً في موضوع الضيقة، إذا اشتدت حتى إلى درجة الموت، فهو يقول إنني لما تضايقت حتى الموت ، فرطت في الحياة وبدأت أستقبل الموت متيقناً أن الله إذا لم ينتشلني من الضيقة فهو حتماً سينشلني من الموت على قياس إبراهيم في تقديم ابنه إسحق : « فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في آسيا أننا تثقلنا جدا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضاً، لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم من الأموات، الذي نجانا من موت مثل هذا وهو ينجي الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد . » (2کو1: 8-10)

ومن الأمور التي تعطينا قدرة في الصبر على الضيقات ، المعادلة التي وضعها ق. بولس لتكون معروفة ومحفوظة ومحفورة في أذهاننا، أن الضيقة مهما تثقلت يستحيل أن توازن ثقل المجد المعد في مقابلها، لذلك فالضيقة تُحسب خفة: «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشيء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً . » ( 2كو4: 17)

و بولس الرسول علمته الضيقات الثقيلة حقاً والكثيرة صدقاً كيف يتفلسف ويحكي عن سروره بـالـضـيـقـات: «لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف (بنفسي ) فحينئذ أنا قوي (بالمسيح ) » ( 2کو12: 10). والذي يحب ق. بولس ويقرأ له بوعي وانفتاح ، فهو حتماً سيرى معه أن الضيقات مصدر قوة لا ضعف ! بل هي طـريـق يـؤهـل للملكوت : « حتى إننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله من أجل صـبـركـم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها ، بينة على قضاء الله العادل أنكم تؤهلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً . » ( 2تس1: 4و5)

وعجيب حقاً ق. بولس، أنه لكي يشجع المؤمنين على احتمال الآلام والاضطهادات والضيقات، يحاول أن يقنعهم أنها ليست فقط ينبغي أن تكون محل احتمال وصبر، بل يقول إنها ينبغي أن تكون محل فخر: «نفتخر بكم … من أجل صبركم … في الضيقات » (قارن رو5: 3 «نفتخر أيضاً في الضيقات » )، وكأنها ميدالية شرف يخرج بها الإنسان من العالم : «في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم . » (يو33:16) 

وق. بولس يوغي جماعة المسيحيين الذين قبلوا الإيمان حديثاً في رسالته إلى العبرانيين لكي يـحـتـفـظوا يسجل اضطهاداتهم وضيقاتهم في قلوبهم ، لأنها قادرة بحد ذاتها أن تدفعهم للمثابرة على حفظ وديعة الإيمان بلا تفريط ، لأنهم دفعوا ثمن إيمانهم عذاباً وتعذيباً ، فهو إيمان ثمين لا يستهان به يـل يـفـتـخـر به : « ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد ما أنزثم (تعمدتم )، صبرتم على مجـاهـدة آلام كثيرة. من جهة مـشـهـوريـن بـتـعـيـيـرات وضيقات، ومن جهة صائرين شركاء ( المسيحيين) الذين تصرف فيهم هكذا، لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً، وقبلتم سلب أموالكم بفرح ، عالمين في أنـفـسـكـم أن لـكـم مـالأ أفضل في السموات وباقياً، فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة لأنـكـم تحـتـاجـون إلى الـصـبـر حـتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد » ( عب ۱۰ : ٣۲-٣٦)، وكلمة أخيرة من فم القديس يعقوب الجليل في الرسل: «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة … أعلى أحد بينكم مشقات فليصل.» (یع ١: ٢، ١٣:٥)

«مواظبين على الصلاة»: 

أمر الصلاة معروف ولا مزايدة عليه ، والحديث فيه يملأ كتبا (١٨)، ولكن الذي يقصده ق . بولس هـو المـواظـبـة. والترجمة العربية هنا ميتة لا تفي بتوضيح الكلمة، والكلمة اليونانية معناها الحرفي «الاستمرار بعزيمة أو بشدة»، وتأتي بالإنجليزية : Steadfastly continuing ، ووجدتها في الـقـامـوس الـكـبير تعني أن يدوم بعناد ويلتصق بشدة persist obstinately . والذي نود أن نوجه إليه فكر القارىء أن الصلاة شيء، والصلاة المستمرة بشدة وعزيمة شيء آخر.

الرب يسوع أراد مرة أن يوضح قوة الصلاة المستمرة بشدة فعرفها كالآتي : « أفلا ينصف الله مـخـتـاريـه الـصـارخين إلـيـه نـهاراً وليلاً وهو متمهل عليهم ؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً . » ( لو18: 7و8)

هنا «الصلاة المستمرة بشدة وعزيمة » قد وضع الرب مواصفاتها ، فهي «صراخ » وليست مجرد صـلاة وكأنها تسليم رسالة، وصراخ يبدو أنه لا يكف بالنهار وبالليل . وفي المقابل فإن الله يظهر في الـبـدايـة وكـأنـه مـتـمهل كأنه لا يسمع، لماذا ؟ لكي يرتفع الصراخ إلى مستوى الصراخ الحقيقي. لماذا ؟ لكي ترتفع طاقات الروح والوعي للتلامس مع مشيئة الله وتكون على مستواها . حينئذ يستجيب الله سريعاً دون أي إبطاء . فعند بلوغ مشيئة الإنسان الإيمانية الحرة الصادقة من كل الوعي والروح والكيان إلى مستوى مشيئة الله ، يتحرك الله في الحال بالاستجابة مهما كلف الله ذلك، حتى وإلى أن يعطي الإنسان ما لم يكن مستعداً أن يعطيه : «حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني» (نش6: 5)، «ملكوت الله يـغـصـب والـغـاصـبـون يختطفونه ( بدموعهم ) . » (مت11: 12) 

في صلاتي، مثل كل من يصلي، اكتشفت أنه يوجد على مسافة زمنية من بدء الصلاة عرفته من التكرار، حاجز خطر، وهو الذي تسقط عنده ألوف الصلوات فارغة، هو «حاجز الملل». فبعد أن يبدأ الإنسان الصلاة بحرارة نوعاً ما وإذ يطول وقت الصلاة وتضعف العزيمة يبدأ الإنسان يـتـراخي فيصطدم بحاجز الملل، فيختم الصلاة ويكتفي بالعودة إلى ما كان منشغلا فيه . فلما تكرر الحال وتعرفت على حاجز الملل وأدركت أن وراءه أصبع العدو، صممت أن أخترقه بأي ثمن، فاستنجدت الله، وظللت أصلي بصراخ أن نجني يا رب من الملل ، فنجاني، وعبرت حاجز الملل ، فـوجـدت الصلاة وقد امتدت إلى ما شاء الله ، حتى قلت كفى يا رب إن هذا هو بروح الملكوت !

ق. بولس يطلب من المؤمنين أن يتعرفوا على هذا النوع من الصلاة ويتخذونه عدتهم في الجهاد والصبر. لذلك نجده يذكر هذا النوع من الصلاة بعد أن قال : «غير متكاسلين في الاجتهاد ، حارين في الروح ، عابدين الرب ، فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق » ، ذلك « بالاستمرار في الـصـلاة بعزيمة وعناد وبشدة». وفي الحقيقة فإن هذا يعتبر بحد ذاته سرأ من أسرار حياة الإيمان للإنسان المسيحي يقدمه ق. بولس في اختصار وفي لغة تحتاج إلى من يدقق فيها ويكتشف معناها ومقصدها ، وهوذا الرب أعطانا أن نكشفها . فلو أنت عملت بها ، عرفت معنى الصلاة وقوتها !

۱۳:۱۲ «مشتركين في احتياجات القديسين. عاكفين على إضافة الغرباء» .

« مشتركين في احتياجات القديسين » :

إنها تسمية من أجمل التسميات التي أطلقها ق. بولس على الفقراء، ويا ليت كل كنيسة في العالم تحذو حذو ق . بولس وتدعو الفقراء بـ «القديسين»، فهم أحق بهذا الاسم من كل شخص آخـر بـعـد شـهـداء المسيح، فهم شهداء بخل الإنسان، شهداء عظمة الأغنياء، شهداء أصحاب الملايين ! شهداء أنظمة العالم الجشع ! يا ليت الكنيسة تلغي اسم صندوق الفقراء وطبق الفقراء والـتـبـرع للفقراء وجمعية العناية بالفقراء، وتسميها صندوق احتياجات القديسين وطبق احتياجات الـقـديـسـين والتبرع لاحتياجات القديسين وجمعية العناية باحتياجات القديسين . ويقيناً، فإن الذي كان يتردد في العطاء سوف يعطي بسخاء من أجل هذه التسمية المباركة الكريمة العظيمة.

ق. بولس لـم يـكـن أول من رفع الفقراء إلى درجة القديسين ، فالمسيح رفعهم إلى درجته في الـكـرامـة والمـجـد: «الحق أقـول لـكـم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم » ( مت 25: 40). لقد اعتبر الفقراء والمحتاجين والمتغربين أهله الخصوصيين ، وكرامتهم من كرامته ، جوعهم جوعه وعطشهم عطشه وغريهم غزيه وغربتهم غربته بل وحبسهم حبسه، فمن ذا لا يتبارى ويطعم الرب ويسقيه ويستره ويواسيه ؟

فإن كان النظام الاجتماعي والاقتصادي في العالم مختلا وقد أفرز شعوباً بأكملها تحيا تحت ظروف الفقر المدقع، ومن هذه الشعوب ألوف بل ملايين ، سمعنا عنهم في وسائل الإعلام، كيف يتجمعون حول قصعة يوضع فيها كمية دقيق على جزء من الماء ويقاد تحتها النار وبعد لحظة توزع بالمغرفة واحدة لكل واحد يأخذها على قطعة من ورق الموز العريض نصيباً له كل يومين أو ثلاثة ، نعم ومنهم من لا يتحصل عليها ويقع ويموت وهو على خطوات منها . يلتفون حول مراكز الإغاثة صفوفاً صفوفاً ، نياماً على الأرض لا يقوون على الحركة ينتظرون مغرفة الدقيق بالماء وينتظرون الموت لأنه يكون على ميعاد معهم بعدها بقليل .

فإن كان العالم قد عجز تماماً عن أن يرعى حق البشرية، فأين الكنيسة ؟ لا نقول إن الكنيسة ترعى شعوباً غير شعبها فهذا وارد لدى الغرب فقط ، ولكن عندنا يكفي أن نقول عن قديسي شعبنا الـذيـن يـتـضـورون جـوعـاً ويمـوتـون عن عوز والأغنياء كثيرون، أغنياء بالروح وبالحق والمال معاً ، حـيـارى بمـالهـم لا يعرفون كيف يمدون يد العون لمثل هؤلاء القديسين المعوزين . دور الكنيسة ليس أكثر من تنظيم !

«مشتركين في احتياجات القديسين » :

الكلمة بعد فحصها جيداً باليونانية تفيد التزام العضو في نصيبه من الشركة one must give a share . والـقـديـس بـولـس وضحهـا أكـثـر في آية أخرى : «لأن أهل مكدونية وأخائية اسـتـحـسـنـوا أن يـصـنـعـوا تـوزيـعـاً لفقراء القديسين الذين في أورشليم . استحسنوا ذلك وإنهم لهم مـديـونـون، لأنه إن كان الأمـم قـد اشـتـركـوا في روحـيـاتـهـم يجـب عـلـيـهـم أن يخدموهم Aetroopyfaat في الجسديات أيضاً . » (رو15: 26و27) 

هكذا أوضح ق. بولس أنه ليس مجرد استحسان منك أن تخدم القديسين الفقراء من مالك بل هو دين عليك. ويلاحظ هنا أن كلمة «خدمة» جـــديـات القديسين جاءت باليونانية « لـيـتـورجية»، وهي لفظة تحمل معنى الخدمة الله أيضاً. ولكن إذا استثنينا موضوع أن هؤلاء كانوا فقراء قديسي أورشليم ، نعلم تماماً أن فقراء قديسي أي شعب لأي كنيسة هم في الشركة للكنيسة الـتـي تـشـتـرك فيها أنت . هنا الإلتزام بحق الكنيسة والمسيح في هذه الشركة المقدسة الإلهية لأنها شركة في جسد المسيح ( الكنيسة). فأنت، كعضو، أصبحت مديوناً للأعضاء الآخرين الذين أصـبـحـوا اضـطـراراً محتاجين إلـيـك، هـم يمنحونك دعاءهم وأنت تمنحهم ما يسد جوعهم ويستر جسدهم.

ونـحـن لـو تمعنا الكلمة التي اختارها ق. بولس لتفيد معنى الشركة في احتياجات القديسين ، نجدها كما قلنا تحمل أيضاً معنى المديونية لحفظ توازن الأعضاء في الشركة الواحدة وتعادل حياة الأعضاء في الجسد. لذلك فالقديس بولس لا يرجو ولا يطلب ، ولكن يكشف لك عن واجب منسي وعن إنسان يئن له حق عليك، ويكشف أن الكنيسة يتحتم أن تعرف قديسيها الفقراء ولا تنساهم لئلا ينساها الله من رحمته، لأنه لا ينبغي أن يفوت علينا معنى «الشركة». فمن أصعب الصعاب أن يتعرف الغني على فقير يساعده ، فالكنيسة لا تعرف ولا تعيش الفردية ولكن الكنيسة شركة والـشـركـة أعـضـاؤهـا يتحتم أن يكونوا معروفين ـ وإذا تعذر أن يكونوا جميعاً، فعلى الأقل المعوزون منهـم والـقـادرون على العطاء ـ الكنيسة هنا تأخذ هذا لتعطي ذاك إنما على مستوى المسئولية الكاملة وليس مجرد عطاء وقتي . 

ق. بولس يتكلم عن قيام «شركة عطاء» لها نظامها وقوانينها ومشتركين لهم شرف العناية بجسم المسيح وأعضائه .

«عاكفين على إضافة الغرباء » :

عاكفين

المعنى الـيـونـاني بديع حقاً فهو يفيد التتبع أو الاقتناص . وكأنما الغريب غنيمة يبحث عنها المسيحي، يتتبعها ويقتنصها لنفسه لـيـفـوز بضيافة الرب : «كنت غريباً فآويتموني » (مت ٢٥ : ٣٥)، وهذا بالحق ما نسمعه في روايات آبائنا القديسين و بيوتنا نحن في زمان أجدادنا ، فضيافة الغرباء كانت شهوة يتخاطفها أهل الحي أو أهل الحارة .

ولعل حادثة إبراهيم وإضافته للثلاثة الملائكة كان له تأثير كبير على الفكر المسيحي، فالقديس بولس يذكرها في سفر العبرانيين : «لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون» (عب13: 2). وبالأكـثـر مـا تم على يدي هؤلاء الثلاثة الملائكة إذ أعطوا الوعد لسارة بميلاد إسحق . فأصبحت إضافة الغرباء فيها احتمال بركة للبيت .

وقد أصـبـحـت إضافة الغرباء فضيلة عالية القدر تكشف عن إيمان الإنسان المسيحي وسخائه وروحه المتسعة ومشاركته الوجدانية مع الآخرين وعطفه على الضعفاء ومقدار بذله ومحبته بالدرجة الأولى، لذلك كانت من الشروط المحتمة لاختيار أي إنسان للأسقفية أن يكون : «صاحياً عاقلاً محتشماً مضيفاً للغرباء صالحاً للتعليم …» (1تي3: 2). ويلاحظ أن إضافة الغرباء جاءت كفضيلة قبل صلاحية التعليم !! كما نصت التعاليم الرسولية أيضاً على أن تكون فضيلة إضافة الغرباء أساساً لاختيار الأرملة لتكتتب في الكنيسة :

+ «مشهوداً لها في أعمال صالحة إن تكن قد ربت الأولاد، أضافت الغرباء، غسلت أرجل القديسين، ساعدت المتضايقين ، اتبعت كل عمل صالح . » (1 تي5 :10)

وإلى هنـا يـكـون ق. بولس قـد أكـمـل الجزء الثاني من الأصحاح الخاص بالتعامل الداخلي للجماعة أي الكنيسة ؛ ويبدأ بالتعامل الخارجي مع الآخرين.

«باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا» .

عمل المؤمنين، أي رسالة الكنيسة في العالم ، هي أن تتلمذ جميع الأمم (مت28: 19) وتعلم وتظهر معرفة المسيح، وهذا يضعها في مركز الداعي إلى المحبة والخير الساعي لصالح جميع الناس ومـصـالحـتـهـم ، بذلك يكون عمل المؤمنين هو من جهة الإيمان المناداة بالسلام والمحبة، وفي نفس الوقت مقابلة الرفض والمقاومة والاضطهاد بالاحتمال والصبر. أولا: «صابرين في الضيق» ، وهذا هو الإجراء الداخلي، أما ثانياً أي الإجراء الخارجي و إظهار المودة والمحبة والدعاء بالبركة، وهو الإجراء الإيجابي لهؤلاء المضطهدين .

 على أن الإجراء الداخلي ـ الـصـبـر في الضيقات ـ الذي سبق وأن قدمه ق . بولس كفضيلة عامة للكنيسة، فهو القوة الدافعة التي تعطينا الثبات والانطلاق في الإجراء الثاني أي أن نبارك على الذي يضطهدنا. وهذا وارد في وصـيـة المسيح : « ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص » (مت24: 13). وخلاص المسيحي في الضيقة، حتى ولو انتهى بتسليم الحياة كإستفانوس ، فإنه سيكون سبباً في خلاص الآخرين كشاول المدعو بولس .

والعكس صحيح، لأنه إن أخفق الإنسان وهو تحت الاضطهاد في الاحتمال والصبر، فإنه في الحال سـيـلـعـن مـضـطـهديه ، بل وإذا لم يضبط نفسه وتمادى في عدم الصبر وفقد الاحتمال ، فإنه سيلعن حاله وناسه وعالمه ثم يلعن الله : « وكانوا يعضون على ألسنتهم من الوجع وجذفوا على إله السماء من أوجاعهم ومن قروحهم ولم يتوبوا عن أعمالهم . » ( رؤ16: 10و11)

إذا فـكـون ق. بولس يقدم الوصية : «باركوا على الذين يضطهدونكم باركوا ولا تلعنوا»، فهذا يعتمد على أنه قدم قبلها وصية الأساس : «صابرين في الضيق. مواظبين على الصلاة». فإذا فقدنا وصية الأساس، اهتزت أسس الـعبـادة أمام أعيننا . فإذا حل الضيق، يتهاوى الإيمان وتختل مـوازيـن الـنـفـس ويبدأ الإنسان يتصرف ضد إيمانه وضد خلاصه وضد سلامه ، وأخيراً يفقد رؤيته لله . خسارة عظيمة !! 

علماً بأن الصبر، كما قلنا عنه بحسب ق. بولس، يؤدي إلى التركية ثم إلى الرجاء، والذي يبلغ الرجاء و يتمسك به لا يخزى أبداً. فإذا صدنا العدو عن الصبر وركبنا عقلنا ودسنا على إيماننا ونـبـذنـا الاحتمال وأفرغنا الصبر من صدورنا بإرادتنا بل بجهالتنا ، تحول الحال من صبر ورجاء لا يخزى إلى خزي وفـضـيـحـة وفقدان الرجاء ووقفنا نلعن ، نلعن الآخرين؛ وفي الحقيقة نكون نلعن أنفسنا التي لم تتمسّك بإيمانها وصبرها .

ثم لكي نحيط بما يقصد ق . بولس تماماً من جهة «باركوا ولا تلعنوا » ، يلزم أن نفهم أن إلقاء اللعنة على الأعداء في العهد القديم كان يعتقد أنها تحدث ضرراً بالذي يلعن. وقد انشغل اليهود بلعنة أعدائهم وصارت كأنها لغة كل يوم اعتادها الشعب : « اسمعوا قول الرب يا بني إسرائيل : إن للرب محاكمة مع سكان الأرض لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض، لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق . » (هو4 : 1و2)

+ حتى الآباء والأنبياء كانت اللعنة سهلة في أفواههم . وها هو نحميا يحكي :
+«فخاصمتهم ولعنتهم وضربت منهم أناساً …» (نح 13: 25)
+ «جيل يلعن أباه ولا يبارك أمه . » (أم 11:30)
+ «فمهم مملوء لعنة وغشاً . » (مز7:10)

 

ولقـد حذرهم الناموس أن لا يتفوهوا باللعن على رئيس الشعب : «لا تلعن رئيساً في شعبك . » (خر22: 28)

بهذا نفهم أن استخدام اللعنة كان قد سرى في الشعب وتفشى، وصار أحد قبائحه المكروهة من الله . لذلك فإن ق. بولس ، وإذ قد أعطي فرصة أن يضع أساساً لأخلاقيات الشعب ولغته وسلوكه، حذره من اللعنة ووضع بدلاً منها البركة : «باركوا ولا تلعنوا»، وهي تأتي في مقابل وصية المسيح : «باركوا لاعنـيـكـم» (مت5: 44)، وهي أرفع مستوى من قول ق. بولس . فالقديس بولس يطلب أن نبارك ولا نلعن، والمسيح يطلب أن نبارك حتى الذين يلعنوننا . والأمر يسترعي انتباهنا ، إذ قد أغلق علينا المسيح حتى لا تخرج من فمنا لعنة قط ، لأنه إن كان ردنا على الـذيـن يـلـعـنـوننا بالبركة، فإلى من يمكن أن تخرج اللعنة ؟ المسيحي ليس له عدو لأن محبة الله التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا حولت العداوة فينا نحو الله والناس إلى صلح وسلام . فـمـن الـصـلح والسلام والمحبة نأخذ ونعطي . فإن كان الإنسان الأول تقبل اللعنة بسبب الخطية، وهكذا سرت فينا اللعنة وصار الإنسان ابناً لها، فالمسيح جاء واحتمل اللعنة هذه من أجلنا ورفعها : « المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا ، لأنه مكتوب ملعون كل من غلق على خشبة» (غل13:3). وهكذا حمل المسيح اللعنة من أجلنا على الصليب ، فصرنا فيه أولاداً للبركة. لذلك كأولاد للبركة أصبح لنا أن نبارك فقط ولا نلعن قط .

 وق. بولس حينما قال : «باركوا على الذين يضطهدونكم»، ارتفع من عدم اللعنة إلى طلب البركة للذين يضطهدوننا، بمعنى أن نطلب لهم الخير من الله ومع الخير كل ما هو جيد وكريم . وقد كان هذا موقف المسيح تماماً أعدائه ، كما وصفه داود النبي في المزمور: «يبغضونني بلا سبب » (مزه۱۹:۳)، «يجاز ونـنـي عـن الخير شـرأ تكلا لنفسي، أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مشحاً (علامة الحزن)، أذللت بالصوم نفسي (لأشاركهم في حزنهم)، وصلاتي إلى حضني ترجع (كنت أصلي عنهم) كأنه قريب كأنه أخي كنت أتمشى (من الحزن والقلق ) كمن ينوح على أمه انحنيت حزناً (من أجلهم)، ولكنهم في ظلعي (بليتي) فرحوا واجتمعوا ، اجتمعوا علي شاتمين ولم أعلم ، مرقوا ولـم يـكـفوا» (مزه٣: ١٢-١٥). بمعنى أن الذين يضطهدونني يزيدون في اضطهادهم وأنا أزداد في بركتي لهم وصلاتي من أجلهم . 

ولكن لا المسيح ولا ق . بولس أوضح ما وراء هذه البركة، هل حينما نصلي من أجلهم يكفون عـن اضـطـهـادهـم ؟ لا نظن فإن هذا لم يكن قصد المسيح ولا القديس بولس . والذي نظنه أننا في بركـتـنا وصلواتنا من أجلهم إنما نسلك بما هو حق لنا وحق علينا، وأما هم فيسلكون بما لهم . وكل منا يجازى بحسب ما صنع . و بطرس الرسول يضع خاتمة لهذه المعادلة :

+« إن غيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم . » ( 1بط 4: 14)

+ « وإن تألمتم من أجل البر فطوباكم وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا.» (  1بط 3: 14).

15:12 «فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين» .

واضح أن ق. بولس هنا يطلب المجاملة مع الذين من الخارج، بعد أن أعطى وصيته السابقة مـن نـحـوهـم: «بـاركـوا على الـذيـن يـضـطـهـدونكم ، باركوا ولا تلعنوا». هنا الوصية : «فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين» تتمشى معها. فإن كانت لنا القوة والنعمة أن تبارك الذين يـضـطـهدوننا، أي نطلب لهم الخير والبركة، فليس من الصعب أن نجاملهم في أفراحهم وأحزانهم .

فتقديم البركة مقابل الاضطهاد أصعب بكثير من تقديم الفرح مقابل الفرح والبكاء مقابل البكاء هذا إن كانت البركة التي نبارك بها مضطهدينا صادقة ومن القلب ، والدعاء لهم حقيقياً أمام الله . والـقـديـس بـولـس سـواء في الآية الأولى أي قوله أن نبارك الذين يضطهدوننا أو نجاملهم في الفرح والحزن، إنما يجتذ العداوة من جذورها ويوقف تيار الاضطهاد بعمل إيجابي إلهي رائع حقا وهذا يتمشى مع الإنجيل: «لأنه إن كنا ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه … » ( رو5: 10)

 بل لو تمعنا في كل الوصايا الخاصة بالأعداء والمقاومين نجد أنها كلها تتجه ناحية الإيجاب المطلق، من أجل أن نوقف تيار الشر بعمل إيجابي شديد الإيجابية :

+ « من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين . » (مت 5 : 41)،

+ «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً . » (مت5: 39)،

+«من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً . » (مت 5 : 40)،

+«من أراد أن يقترض منك فلا ترده . » (مت 5 : 42)،

«كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق . » (مت5 : 25)

ولـكـن هذه الوصية الجديدة : «فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين» تأتي بإيجابية شجاعة ، فيها انفتاح قلب ظاهر وفيها محبة ملموسة ، فتكاد هذه الوصية تقوم على أنه لا توجد عداوة أبدأ حتى ولـو كـانـت مـوجـودة. هذا الإلغاء للسلبيات في ضمير المسيحي له قدره وقيمته . فهو وإن لم يلغ العداوة في قلب العدو فليس أقل من أن يخفف من غلوائها .

ولـكـن لا يزال في هذه الوصية سر أعمق من كل ما فات ، فالقديس بولس هنا لا يتكلم عن عداوة ولا عن اضطهاد، فهو يطلق هذه الوصية لتكون سبباً وأساساً لعلاقة لا تحتمل الاضطهاد والعداوة. فالذين عاشوا معاً في عشرة مجاملة ومودة في كل ما هو مفرح وكل ما هو محزن ، عسير كل العسر أن تتحول هذه العشرة إلى عداوة واضطهاد. إذا فهنا ق. بولس يبني أساساً للعلائق مع  الخارجين قادرة ، لو نحن أكملناها بحكمة روحية مسيحية، أن تجعلنا نتحاشي العداوة والاضطهاد ، لا خوفاً من عداوة ولا رعباً من اضطهاد، ولكن لتعطى حياة هادئة مطمئنة . هذه هي نظرة القديس بولس الرسول . 

ولـكـن لا تزال في هذه الوصية مخاطرة يلزم أن نتفاداها ، فالفرح غير المسيحي يحمل أحياناً من الـصـفـات مـا يـتـنـافى مع الروح المسيحية المحافظة والمتعففة جداً. هنا المسيحي في مشاركته مع الـفـرحين من الخارج يلتزم بالأصول الأخلاقية التي عاش فيها ولا يتعداها . أما في مشاركة الحزن فهنا مجال المسيحي حاضر حقاً ومتسع، فالمسيحية لها روح عزاء قادرة أن تؤثر تأثيراً إيجابياً ناجحاً في الآخرين. فهنا مجال نشط يتبارى فيه المسيحي ويكون محل تقدير وتكريم ومنفعة .

ولـكـن لا نزال نرى في المشاركة مع الذين من الخارج تجاوباً اجتماعياً يقوم على المودة الخالصة والمـسـاعـدة والبذل خصوصاً في وقت الحاجة والضيقة ، حيث يصبح التعاطف الخالص غير المغرض أساساً لرابطة المودة الصادقة والمحبة والاحترام المتبادل .

 16:12 «مهتمين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً غير مهتمين بلأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين. لا تكونوا حكماء عند أنفسكم» .

«منقادين إلى المتضعين،
غير مهتمين بالأمور العالية»:

اتجاهان متعاكسان، المتضعون والمتعالون ، وبينهما يقف المؤمن ليختار.
هنا يعود ق . بولس ليوغي الجماعة المسيحية من الداخل في مقابل ما يهددها من الخارج .

فالمسيحية من الداخل جماعة متضعين ، والمجتمع خارجها يتطلب المعالي ويسعى نحو العظمة والمجـد الـدنـيـوي . أما فيما يختص بالداخل فالقديس بولس يطلب أن تكون للجماعة وحدة الفكر والاهتمام « اهـتـمـامـا واحـداً »، واهتمام الكنيسة الوحيد يبقى دائماً في إطار اتضاع المسيح و وداعـتـه. كذلك يطالب ق. بولس أن يكون اهتمام كل عضو في المسيح لأخيه كما لنفسه . وهنا تكمن الوحدة المتماسكة على محور الإنجيل الذي يشد الجميع إلى المسيح النموذج الذي يحتذى .

بحد أما بالنسبة للخارج حيث الأمور العالية سواء من جهة التملك والجاه والمظهر والمجد، فهو يطالب الكنيسة أن لا يكون هذا اهتمامها بل أن ينصب اهتمامها إلى منهج المسيح، لا من جهة المظهر بل من جهة التقوى والعبادة والتواضع ، وكلام ق . بولس لا ينصب على التملك ذاته أو الـقـنـيـة أو المال والتجارة، ولكن ينصب على مظاهر « الأمور العالية» التي تعني الذات والكبرياء لأن الانقياد إلى المتضعين الذي يطلبه ق. بولس يأتي عكس تيار الانحراف أو ضد الانجراف في تيار المتعظمين الذي يفسد الكنيسة ويخرجها عن منهجها الإنجيلي ومثلها الأعلى والمـجـد الـدنـيـوي . في المسيح .

والآن وفي واقعنا العصري في هذه الأيام بماذا نفسر كلام ق . بولس ؟ نفسره بالمثل الآتي : دعـوتـان للـشـاب ، تأتي الأولى مـن جمـاعـة المتضعين للذهاب للكنيسة لتلقي دروس الكتاب المقدس ، والشركة في الصلاة والتسبيح والترنيم بالروح والقلب الواحد ، وتبادل مشاعر المحبة والمودة الأخوية والاهتمام الواحد بأمر من أمور الكنيسة والخدمة . وتأتي الثانية من جماعة المهتمين بالأمور الـعـالـيـة للإلتحاق بالنوادي المشهورة والتعارف على الشخصيات الكبيرة وعلى البنات والأثرياء وبحاراة تيار العصر في الحفلات والرحلات لمزيد من الاستمتاع مع أرقى المستويات والصديقات .

هنا ق. بولس يوغي الإنسان المسيحي أن الدعوة إلى المتضعين ضمان لحيوية الإيمان والثبات في منهج الإنجيل والخلاص، وتأمين لمستقبل الحياة في عناية الله ورضاه . أما الثانية فما من أحد سار في تيارها وبقي على إيمانه أو ثبت في المسيح أو تكللت حياته برضى الله .

والذي للشاب هو للشابة، هو لرجل الأعمال، هو للسيدة أم الأولاد والبنات . طريقان : طريق نحو المتضعين كله بركة وفيه رضى الله ، وطريق للأمور العالية من سار فيه عن إيمانه والمسيح .

«لا تكونوا حكماء عند أنفسكم » :

ق. بولس يقدم الوصية من وحي الروح واستعلان المسيح ، يرغب فيها ويحذر، وأخيراً يحاصر القارىء والسامع أنك إذا لم تخضع لحكمة الله ونداء الروح ، بل تشبثت بحكمة ذاتية منبعها شهوة الـنـفـس وغـوايـتـهـا، فالخسارة حاضرة. وكأنه يتوسّل : أرجوك أن لا تكون حكيماً عند نفسك، لا تصدقها: «فأنتم، أيها الأحباء، إذ قد سبقتم فعرفتم ، احترسوا من أن تنقادوا بضلال الأردياء فتسقطوا من ثباتكم . » ( 2بط3: 17)

۱۷:۱۲ «لا تجازوا أحداً عن شر بشر. معنيين بأمور حسنة قدام جميع الناس » .

عين القديس بولس هنا على الناموس المرفوض الذي خدم شعباً بدائياً ولم يعد يصلح أن يكون نوراً للعالم . فالناموس يخاطب الشعب القاسي القلب الغليظ الرقبة : « وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس وعيناً بعين وسنا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل، وكيا بكي، وجرحاً بجرح، ورضا برض. » (خر21: 23-25)

منظر بشع لا تطيقه النفس الروحية الحسّاسة، لا ينبىء قط عن روح تسامح، فالنقمة هنا لا تعالجها إلا النقمة والشر لا يزيله إلا الشر، غياب كلي لروح الله، بل ماذا نقول ؟ هو غياب كلي لروح الإنسانية . هكذا كان ناموس التعامل في إسرائيل .

ق. بولس حينما يتذكر الناموس أن ذاق نعمة الله وأحس بفيض مراحم الله عليه بعد أن سامحـه بـكـل خـطـايـاه، وغفر له كل آثامه وتعدياته بل : « أحبني وأسلم نفسه لأجلي » (غل2: 20)، «جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه» (2کو5: 21)، « المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا» (غل13:3). فماذا يكون ناموس التعامل الأخلاقي فيما بيننا كيف لا «نحتمل كل شيء»، كيف لا « نصبر على كل شيء»، كيف لا «تغفـر نـحـن أيـضاً للمذنبين إلينا » ؟ حينما حمل المسيح الصليب ثم ارتفع عليه كان هذا إعلاناً بالغلبة على الشر وغلبة العالم الشرير: «في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو16: 33) ـ كان إيذاناً بانتهاء عصر التعامل بالشر. كل من حمل صليب المسيح حمل عهداً بمقاومة الشر بالحب أو ببذل الذات حتى الموت . لابد أن أغلب الشر إن لم يكن يحبي نـبـمـوتـي، سوف أحب عدوي ، فإن لم يردع شره حبي ، فسوف يردعه موتي، ولكن يستحيل أن أجعل شره يغلبني، نعم سأغلبه بحبي  وإلا فسأغلبه بموتي كما غلب المسيح وأعطاني غلبته . 

المسيحي استلم بالإيمان وبالعماد ومن الجسد والدم سير النصرة على الشر. كنا عبيداً للخطية مـأسـوريـن تحت سلطان الـشـريـر، ولكن الذي غلب الخطية بموته أعطانا . غلبته وجدد طبيعتنا بقيامته من الأموات فصرنا محروسين بنعمته ولن تسود علينا الخطية بشرها بعد. فإن طلب ق. بولس أن لا نجازي أحداً عن شربشر، فهذا من واقع طبيعتنا الجديدة التي سادت عليها النعمة وتحكمها المحبة وتقتاد بروح الله : « الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح . » ( لو6: 45)

«معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس » :

نعم، فالإنسان الصالح حينما يخرج من كنزه صالحات الأعمال فهو يعرض بضاعة المسيح على جميع الناس، هكذا نكرز بالصليب . فعوض الشر المحيط يتجلى الصلاح وتعلو المحبة ويسود السلام، هكذا نكرز بالحياة من عمق الموت . فالخارج يفنى والداخل فينا يتجدد ويتجلى، نشتم فـنـبـارك فـتـحيا البركة وتسقط الشتيمة، تضطهد فنعظ فتسمو المودة ويسقط الاضطهاد ، هكذا نغير وجـه الـعـالـم وهـكـذا يتجلى المسيح . أم كيف يعرف الناس أن المسيح وهبنا طبيعة جديدة بشبه طبيـعـتـه ؟ أو كيف يفهم الناس فعل الموت والقيامة فينا ؟ أو كيف يفهمون أثر الفداء والخلاص الله الذي نلنـاه بـالـصليب ؟ أو كيف يدركون أننا قد تصالحنا مع الله وصرنا أبناء العلي  ؟ « أنتم نور الـعـالـم … فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة  ويمجدوا أياكم الذي في السموات » (مت5: 14و16)، «لأننا نحن الأحياء تُسلم دائماً للموت من أجل يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت . » ( 2كو4: 12) 

ألـم يـقـل ق. بولس في مستهل ذلك الأصحاح الفريد : « أن تقدموا أجسادكم الله ذبيحة حية مقدسة» ؟ إذا فنحن الذين نحمل المسيح ، نحمل موت المسيح أيضاً بالضرورة في جسدنا ، باستعداد إعلان القـيـامـة الـتـي فـيـنـا، بـاحـتـمال الموت عن فرح وقبول الضيقة بالشكر والإهانة بالبركة : «حاملين في الجسد كل حين إمـاتـة الـرب يـسـوع لـكـي تـظـهـر حياة يسوع أيضاً في جسدنا . » (2کو4: 10)

18:12 « إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس » .

«فحسب طاقتكم » :

الأصل اليوناني يعطي معنی أصح في الشرح ، فالترجمة الحرفية تقول : « إن كان ممكناً فبقدر ما هو من جهتكم سالموا جميع الناس » . هذا يعني أنه من جهتكم سالموا ـ أي قدموا السلام ـ إن كان ممكناً لجميع الناس ، ولكن الذي ليس من جهتكم لكم حيلة فيه إلا أن تقبلوا عدم السلام أي البغضة والمقاومة .

+ «إذا يا إخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب . » (  1کو15: 58)

هنا ق. بولس يطلب من المسيحي أن من جهته عليه أن يبادر بعمل السلام لجميع الناس قدر ما هو ممكن. هنا فعل المبادرة بالسلام هو من صميم عمل الكرازة أو من صميم عمل الطبيعة الجديدة المـفـدية . هنا يمتنع أي عذر لأي إنسان مسيحي أن يتوقف عن المبادرة من جهته في تقديم السلام، بأن يكتفي بحاله فلا يعطي سلاماً ولا شراً !! لأن المسيحي الذي لا يبادر بعمل السلام وتقديمه للآخرين بل ولجميع الناس إن أمكن، هو إنسان يعمل ضد طبيعته الجديدة المفدية التي نالت فيض النعمة والسلام من الله . وقانون عمل نعمة المسيح في الإنسان هو «الذي لا يعطي لا يأخذ»، و بهذا يتوقف عمل نعمة المسيح ويتوقف عمل سلام الله في القلب . « وأما من ليس له (العطاء ) فالذي عنده سيؤخذ منه » (مت13: 12). إذاً، خطر أن لا يبادر المسيحي بعمل السلام. من هـنـا يـأتـي طـلـب ق. بولس كوصية إلزامية من واقع مراحم الله التي سبق وأعطاها، فليس من فراغ يطالب ق. بولس أن ننطلق من جهتنا نصنع سلاماً . مع جميع الناس ، بل مـن فـيـض عـطـيـة الله وعمل نعمته وسلامه يطلب الله أن نعطي وأن نوزع بلا حساب و بلا خوف و بلا ندم أيضاً مهما كان الرفض .

من هذا نفهم أن الله ، بعطائه لنا الذي لا يحد من مراحم ونعم و بركات ، قد وضعنا في العالم موضع المعطي عن ضرورة وإلزام ، موضع المبادرة بصنع السلام .

« سالموا جميع الناس» : 

كلمة «سالموا» بالعربية لا تفي بامتداد المعنى الذي جاء في اليونانية «يسعى ويبحث عن السلام» seeking peace ، هذا يزيد من قوة معنى المبادرة ، فالمسيحي لا يجلس ينتظر أن يأتيه السلام فيسالم، بل يسعى ويبحث عن السلام حتى ولو كلفه جهداً وتعباً، فالذي يبحث يجاهد حتى يجد. هذا من روح الكرازة : « ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام» (رو10: 15). و بقدر ما تأتي كلمة «سالموا» في العربية محايدة ساكنة غير نشطة، تأتي كلمة « اسعوا وابحثوا عن السلام» ، الأصل اليوناني ولها صفة المبادرة والاقتحام . والخطر في الترجمة العربية أن كلمة «سالموا حسب طاقتكم» تعطي المعنى تخاذلاً وخوفاً ومحدودية فتبتعد كثيراً عن روح الكرازة المسيحية : «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . » (مر16: 15)

على أن دعوة المسيحي لكي يقتحم الآخرين بروح المودة منادياً وعاملاً بالسلام هي من أخص على أن خصائص منتهى قصد الله والمسيح في عمل البر وتعميمه في العالم : « وثمر البر يزرع في السلام من الذين يفعلون السلام . » (یع3: 18)

۱۹:۱۲ «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعظوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي، يقول الرب » .

ق. بولس ينتقل من طرح وصية المبادرة من جهتنا بالسلام لجميع الناس إن أمكن ذلك، إلى طرح الـوصـيـة التي تؤمن ذلك. لأن في معرض المبادرة بالسلام سنقاوم وربما يساء إلينا بشدة فما العمل ؟ أننتقم ؟ أنغضب ؟

«أعطوا مكاناً للغضب»: 

قد اتفق أكـثـر الـشـراح عـلـمـاً وكفاءة ـ مثل العالم الألماني ماير ـ  أن المعنى ينصب على الـتـنـحي من أمام وجه النقمة أو الغضب لنتلافى الضرر الذي تُصاب به من جهة الآخرين . ويقول « ماير» أن الغضب هنا هو خاص بالله وليس لنا. وهكذا أصبح علينا أن نفهم من قول ق. بولس أن تفسح فرصة الله الذي هو وحده له النقمة، وصاحب الرحمة، لا بمعنى أن نترك مكاناً للغضب ، أنـنـا نـوكـل الله على الذي أساء إلينا لكي يسيء إليه ؛ بل لأنه ليس من حقنا أن نغضب باطلاً :

«من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم» (مت5: 22) ـ أي غضباً يجلب الضرر، فعلينا أن نسلم الغضب لمن يستطيع في غضبه أن يرحم أيضاً، كما رحمنا ونحن أعداء بالذنوب والخـطـايـا والتعدي على نواميسه . والمعنى النهائي يكون : لا تنتقموا لأنفسكم ولا تغضبوا بل اتركوا الأمر لمن له الغضب وهو قادر أن ينتقم حسب تقديره .

+ «الذي إذ شـتـم لـم يكن يشتم عوضاً ، وإذ تألم لم يكن يهدد ، بل كان يسلم لمن يقضي بالعدل . » (1بط2: 23)

بل ونجد المسيح وهو في قمة الألم على الصليب بيد مضطهديه يطلب لهم الغفران، حتى لا يكون للشيطان مكان في صليبه ، ولهذا اندحر الشيطان على الصليب .

ويوجد في العهد القديم لفتات تستحق الإعجاب حقاً. إذ بعد ما وقع شاول ـ الذي كان يـطـلـب قـتـل داود ـ في يد داود ، لم يسىء إليه داود إذ قال له داود : « وراء من خرج ملك إسـرائـيـل، وراء مـن أنـت مـطـارد ؟ وراء كلب ميت ؟ وراء برغوث واحد ؟ فيكون الرب الديان ويقضي بيني و بينك ويرى ويحكم محاكمتي وينقذني من يدك » ( 1صم24: 14و15). فكان رد فـعـل عـمـل داود الصالح أن نطق عدوه بالصلاح : «قال شاول : أهذا صوتك يا ابني داود ؟ ورفع شاول صـوتـه وبكى، ثم قال لداود : أنـت أبـر مني لأنك جازيتني خيراً وأنا جازيتك شراً . » ( 1صم24: 16 و17)

وق. بولس إذ كان قد اختبر غضب الله ونقمته ومجازاته إزاء ما أجرم في حق المسيح بصورة لا تخطر على بال بشر، إذ بعد أن أهان اسمه وأتلف كنيسته وقتل وشهد على قتل أولاده رجالاً ونساءً بلا رحمة، دعاه الله إلى خـدمـتـه ووضع عليه نير الكرازة باسمه ، ولكن الله لم ينس أن يؤلمه من أجل اسمه الذي أهان، فأوقعه تحت اضطهاد مرير لم يذقه أحد قبله، وذلك دفاعاً عن اسمه الذي أهانه ومن أجل الصليب الذي ازدرى به وداسه ! وتكشفت نقمة الله على ق. بولس بقول المسيح : «لأني سأريـه كـم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي» (أع 16:9). هذا هو غضب الله على بولس ، وهذا أصبح هو غضب الله عند ق. بولس من جهة النقمة والمجازاة التي اختبرها . إذاً ، فحينما يـقـول ق. بولس : لا تنتقموا لأنفسكم ولا تغضبوا، بل اتركوا الغضب لمن له الغضب والـنـقـمة لمن له النقمة والمجازاة لمن له المجازاة، فهو أدرى بمن هو القادر أن يحول النقمة إلى نعمة : «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبه محبوبه . » (رو9: 25)

وهـنـا يليق بنا أن نعرج على الغضب وخطره الشنيع في إفساد حياة الإيمان. فروح الغضب إذا دخل قلب الإنسان أعماه عن الحق ، لأن الغضب قوة من الظلمة تداهم النفس فتخفي عنها نور الحق والعدل والـبـر والرحمة ، فيصير الإنسان في الحال غريباً متغرباً عن صاحب النور والحق والبر والرحمة والسلام، إذ تنسحب منه النعمة ويقف في تيار الشيطان يدفعه في كل اتجاه سلبي حتى يفقد قدرته على الانضباط ويأتي الشر والخطية والتعدي وهو مسلوب العقل والإرادة .

والغضب يدخل القلب قبل أن يتحرك فكره بروح النقمة ، فإذا استسلم الإنسان للغضب دخله روح النقمة، فيبدأ يتمنى الضرر والإساءة لمن صار تحت عتامة غضبه، بل ربما تطغى عليه ظلمة الـعـقـل فيبدأ ” يصلي” ويلح أن يتدخل الله ويضرب وينتقم ويسيء ويميت. وإذا لم يسمع الله -طبعاً ـ يـبـدأ يفكر كيف ينتقم هو بنفسه ويسيء ويجلب الضرر بيديه على عدوه. وهكذا ينحاز لجانب الشر ويـفـقـد روح التبني الله ويقف عارياً مفضوحاً وكأنه آلة في يد الشيطان . هنا وصية المسيح قاطعة : «من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم» (مت5: 22). يوجد هناك ليس باطلاً يقول عنه الكتاب : « اغضبوا ولا تخطئوا » (أف4: 26)، حيث يكون الغضب من أجل منفعة الآخرين. هنا الغضب هو غيرة الرب يغارها الإنسان ويغضب ليكف الآخرون عن الخطيئـة لـيـعـودوا إلى الله والكنيسة والسيرة الصالحة . لذلك فالآية التي بعدها تقول : « ولا تعطوا إبليس مكاناً» (أف4: 27 ). فالغضب الذي من أجل الله هو الذي يكون مقصده حياة الآخرين في العدل والصلاح والتقوى ، لا يشوبه حسد ولا حقد ولا نقمة، التي هي من أمور الشيطان. لذلك اعتنى ق. بولس أن يؤمن الغضب الذي ليس فيه خطية أن لا يكون للشيطان فيه أي نصيب . وهـكـذا فـيـوجـد غضب الله و يوجد غضب للشيطان، أما غضب الله فرأيناه في المسيح حينما قال : «غـيـرة بـيـتـك أكلتني» (يو2: 17)، وأمسك سوطاً من حبال وطرد الذين حولوا بيت الصلاة إلى بيت تجارة. أما غضب الإنسان فيستحيل أن يأتي من ورائه خير: «لأن غضب الإنسان لا يصنع برالله . » (یع1: 20)

۲۰:۱۲ «فإن جاع عدوك فأطعمة وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه » .

الآية بأجمعها منقولة عن سفر الأمثال كما جاءت هكذا: « إن جاع عدوك فأطعمه خبراً وإن عطش فاسقه ماء، فإنك تجمع جمراً على رأسه والرب يجازيك » ( أم25: 21و22). لقد تبارى جميع الآباء والعلماء في محاولة شرح : «جمر نار على رأسه » ، فانقسموا فريقين : فريق يقول إن عمل الخير مع عدوك يجعله يحس بالندامة التي تحرق فيه كجمر النار لا تغادر فكره، والفريق الآخر قال إن عمل الخير مع عدوك يجعل الله في النهاية يجازيه بعقوبة شديدة . أما رأي الفريق الثاني فهو لا يتمشي مع فكر ق . بولس أصلاً ولا يتمشى بالتالي مع الآيات السابقة التي كلها تشير إلى طلب الخير للعدو. وفوق هذا وذاك فهذا الرأي يخالف روح العهد الجديد وفكر المسيح .

ولـكـن هناك رأي مسيحي آخر متطرف ولكن فيه شيء من الظرف ، يقول إنك بعمل الخير هذا في عدوك تحوله إلى المحبة وتجعله يقيد ناراً في قلبه كجمر النار. وهذا طبعاً يتجه نحو الخيال الذي لا يتمشى مع صحو الفكر المسيحي و واقعيته .

اما نحن فنقول إن شرح هذه الآية له وجهان: وجه يتناسب مع العهد القديم الذي قيل فيه وله هذا المثل، فلهذا الوجه يتناسب الشرح الثاني الذي يقول بأن ذلك العمل يمهد لعقوبة وشيكة تأتي على العدو. أمـا الـوجـه الثاني وهو الوجه المسيحي فيناسبه الشرح الأول الذي يقول بأن عمل الخير للعدو يؤول إلى ندم يحرق القلب . ولكن لا ينبغي أن يكون هذا داخلاً في الاعتبار عند الذي يصنع خيراً مع عدوه، أي لا يـكـون قـصـده من فعل الخير العدو. ولكن ينبغي أن يكون فكره متشبثاً بصنع الخير والمحبة والمودة للعدو ـ في حد ذاتها ـ خلوا من أي غرض إلا وجه المسيح والمحبة العاملة في القلب ، لأن أية محاولة من جانب المسيحي الذي يتعامل مع العدو يلحظها العدو أنها مصنوعة له لتغييره إلى صديق سوف تنقلب إلى ضدها. لهذا كله فإن أخذ آية من العهد القديم ووضعها كما هي دون تغيير أو تحذير أو إضافة أو خوف لتكون نبراساً للعهد الجديد سيكون فيها شيء من القلق كما حدث في هذه الآية، لأنه ينبغي أن نعرف القاعدة العظمى التي تفرق بين الـقـديـم والجديد : هي أن روح العهد الجديد تسمو فوق الطبيعة البشرية ، وتتطلب فكراً وعملاً فوق الطبيعة البشرية، لأنها تنتهي ؛ بالإنسان إلى بلوغ ما هو فوق الطبيعة البشرية . أما العهد القديم برمته فهو محبوس على قياس الطبيعة الآدمية التي أخطأت وتحتاج إلى خلاص . 

فبالنسبة لشرح هذه الآية السالفة على روح العهد الجديد تكون كالآتي: أنا أطعم عدوي وأسقيه ؛

أولاً: لأنـي أحـيـا وأعمل وأكرز بطبيعة روحية جديدة تسمو فوق روح العالم وفوق طبيعة أهل العالم، فروح العالم وروح طبيعة أهل العالم تقول أن أطعم صديقي ولا أطعم عدوي بل آخذ منه الحذر بل ربما أعمل على تجويعه. أما روح المسيح فتقول : أنا أطعم كل جائع في شخص المسيح وكأنه المسيح، وأسقي كل عطشان في شخص المسيح وكأنه المسيح ، لأني أحمل روح المسيح وحبه المجاني الذي أحبني به وأنا كنت عدواً له ؛

ثانيا: أنا لا أخاف إن كان حبي له وخدمتي وإطعامي سيزيده جرأة علي ويزيده طمعاً وصلنا وأذيـة وابتزازاً ، لأني لا أعطي مما لي بل مما الله وحياتي وموتي ليست لي بل هي الله . فإن كنت أعطيه مما الله فالله كفيل برعاية ما له ؛

ثالثاً: من أخص خصائص العهد الجديد أن الإنسان المسيحي لابد أن يعلن عن روح المسيح الذي فيه . فمن جهة عدوي أنا أظهر له روح المسيح الذي في بحبي وإطعامي له وسقيه، إلى هذا الحد أنا أكرز وكـل مـا أرجـوه أن عدوي يحس بروح المسيح الذي في. أما ماذا سيكون تصرفه ؟ فهذا ليس من شأني. فالمهم أنني لا أنغلب لروح الشر.

۲۱:۱۲ «لا يغلبنك الشربل أغلب الشر بالخير» .

في هذه الآية يجمع ق . بولس مضمون كل الآيات من (14-20) بل يأتي إلى خلاصة الروح المسيحية. كما أنها توضيح إيجابي للآية (19): لا تنتقموا لأنفسكم، أعطوا مكاناً للغضب . فإذا تحرك قلب الإنسان بالغضب، وفكر مجرد فكر بالنقمة ، فقد انغلب للشر مرتين !! مرة للشر في حد ذاته إذ أطاع إيحاءاته الشيطانية في القلب، والمرة الثانية للعدو إذ أراد الله بإساءة العدو إليك يختبر مقدار برك أو صدق أمانتك الله ، فإن أنت بادلت الشر بالشر أو حاولت النقمة لنفسك أو حتى الغضب، فستكون قد سقطت مغلوباً للعدو إذ صرت مثله أو ربما أكثر. هنا يكون خذلان الإنسان المسيحي للمسيح والنعمة مضاعفاً في الداخل وفي الخارج، إذ يكون قد انغلب من الداخل ومن أن الخارج أيضاً .

فالآن مطلوب من المسيحي التحرك على مستويين معا :
أولا : المـسـتـوى الـداخلي بأن لا ينغلب لروح الشر فيستغيث بالمسيح وبنعمته للنجاة ليبقى في قلبه متمسكاً بالصلاح والتقوى ، لا يحيد عن روح المسيح ومشورة النعمة ولا إلى لحظة واحدة ، هذه أخـطـر مـراحـل الـوقـوف أمام الأعـداء ، حيث لا يهتز القلب في الداخل هرة واحدة نحو الشر أو ينحرف الفكر بالرديء ولا حتى قيد شعرة ؛ بل يبقى في الداخل متمسكاً بالكمال المسيحي وتسليم الحياة لمن له الحياة وتقبل الإساءة بالدعاء ، باستعداد قبول المزيد منها حتى الموت ، طالما هو في يد الله .

ثانياً : أن يبقى الفكر مع القلب في حالة سلام مع شخص العدو، فلا يسمح أن تكون صورة الـعـدو أمامه أو في مخـيـلـتـه كعدو، بل كإنسان مجرد إنسان أرسله الله ليختبر مدى صبره، ومدى احتماله ، ومدى اتساع قلبه ، ومدى خضوعه لوصية المسيح : « أحبوا أعداء كم » (مت5: 44 ). هنا يكون الصراخ نحو الله أن يعطي القوة على إتمام الوصية حسب إرادة الله . فإرادة الله لا يستطيع أن يكملها إلا الله. ومحبة العدو وتقبله كصديق أمر لا يدخل في قاموس البشر ولا يدركه إنسان ولا يـقـوى على تـنـفـيـذه كل ذي لحم ودم . واحد فقط في كل السماء والأرض من له القدرة ليس على حب أعدائه وقبوله لهم أصدقاء وأخصاء بل وأن يذبح لأجلهم على الصليب ، هو يسوع المسيح ، ومن غير المسيح يـسـتـحـيـل لإنسان أن يحب عدوه أو يقبله كصديق . إنها قوة تعادل قوة الصليب أي صـاحـب الـوصـية نفسه ـ الذي أكملها لنا كنموذج ـ هو وحده يعطي سر تنفيذ وصيته ومفتاحها السري في يده. لذلك فالمسيحي يقف أمام عدوه متسلحاً بحضور المسيح ، وليس بأقل من ذلك ، حتى يتواجه مع الشر وهو باستعداد حسبانه كصديق .

هذه هي الغلبة بالمسيح على الشر في الداخل والخارج . ومن ذا الذي يغلب الشر في الداخل وفي الخارج إلا الذي تمسك بالمسيح حتى الموت، وملك الخير على زمام قلبه وفكره وكل حواسه . لذلك ، فإن قـيـام الأعداء في وجه المؤمنين هو محك الإخلاص في اتباع الرب يسوع ، وامتحان عسير لمدى تأصل الإنسان في الـبـر والـتـقـوى والحياة الدائمة في حضرة الله ، هو اختبار مدى فعالية النعمة ووجودها، ومدى تمشك الإنسان بقلبه وفكره باسم الرب يسوع في كل وقت . ثم أليس بسبب يـقـول الـرب إنه : « بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله » (أع14: 22)؟ علماً بأن كلمة «ينبغي» هي ترجمة ضعيفة، والترجمة الصحيحة هي «يتحتم» = (must ) !! أي أن التجارب في نظر المسيح أساسية في حياة المسيحي حتى يمتحن إيمانه بالنار وتختبر قوة تمسكه بالبر والخير والحب من نحو جميع الناس .

تفسير رومية 11 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 13
 القمص متى المسكين
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى