تفسير رسالة أفسس أصحاح 1 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير أفسس – الأصحاح الأول

العظة الأولى
( ص 1: 1- 10)

“بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله إلى القديسين الذين في أفسس والمؤمنين في المسيح يسوع . نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح” ( ص ۱ : ۱ و ۲ )

لاحظ أنه قال “بمشيئة الله” هل هذا يعني أن يسوع المسيح أقل من الآب ؟ كلا . 

وقال أيضا “الى القديسين الذين في أفسس والمؤمنين في المسیح يسوع” . لاحظ أنه أطلق كلمة القديسين، على رجال لهم زوجات وأولاد وخدم : ومما ورد في ختام الرسالة يتضح أن هؤلاء دعاهم قديسين ، اذ قال : و أيتها النساء[1] اخضعن لرجالکن ، ( أف 5 :22) ، وأيضاً “أيها الأولاد[2] أطیعوا والديكم ، (أف1:6) ، وأيضا “أيها العبيد[3] أطيعوا سادتكم” ( أف 5:6) . انظر مقدار شدة البلادة المستحوذة علينا الآن ، ومقدار عظمة الفضيلة التي تحلى بها الرجال وقتئذ اذ قيل حتى عن العلمانيين انهم “قديسون ومؤمنون[4]

« نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح » 
النعمة هي كلمته ، وقد دعا الله و أبينا ، لأن هذه التسمية هي العلامة الأكيدة لعطية النعمة. ثم اسمع ما قاله في موضع آخر : ثم بما انكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا صارخاً يا أبا الآب( غل 6:4 )

« ومن الرب يسوع المسيح» ، لأنه من أجلنا نحن البشر ولد المسيح ، وظهر في الجسد

ع3 . وقال : « مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح[5]»

لاحظ انه هو اله المسيح الذي تجسد هو أبو الله الكلمة . 

 

ع ۳. « الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح»

هنا يشير إلى بركات اليهود . فتلك كانت بركة أيضاً، لكنها لم تكن بركة روحية . وكيف كان الأمر ؟ « يباركك ويبارك ثمرة بطنك»[6] ، ( تث 7: 13) ، « ويباركك في خروجك ويباركك في دخولك ، ( تث 6:28) لكن ليس هكذا الحال هنا : وكيف ؟ – بكل بركة روحية ، . وماذا يعوزك لقد صرت خالدا ( غير قابل للموت ) و تحررت ، وصرت ابناً وتبررته وصرت أخاً، وشريكاً في الميراث ، وصرت تملك مع المسيح و تمجدت مع المسيح . كل شيء وهب لك مجاناً 

وقال : “کیف لا يهبنا أيضا معه كل شيء” ( رو ۸ : ۳۲ ) . باکورات ثمارك بارکها الملائكة ، والشاروبيم والسارافیم : وماذا يعوزك بعد ؟”بكل بركة روحية” لا شيء جسدي هنا . وبناء على هذا استبعد البركات السابقة عندما قال “في العالم سيكون لكم ضيق” ( يو 16: 33) ، لكی يرشدنا الى هذه . لأنه كما ان من نالوا الجسديات لا يقدرون أن يسمعوا عن الروحيات ، هكذا من يهدفون إلى الروحيات لا يقدرون أن ينالوها الا اذا ابتعدوا عن الجسديات.

ثم أيضاً: ما هي البركة الروحية في السماويات ؟ هو يعني أنها لیست على الأرض كما كان الحال مع اليهود .. “تأكلون خير الأرض” ( اش ۱ : ۱۹ ) : « إلى أرض تفيض لبنا وعسلا ، ( خر ۸:۳) “یبارك الرب أرضك” ( تث ۷ : ۱۳ ) : هنا لا نرى شيئاً من هذا القبيل . وماذا نرى ؟ « ان أحبني أحد يحفظ کلامی ، ويحبه أبي ، واليه نأتي أنا وأبي ، وعنده نصنع منزلاً) ( يو ۱۶ : ۲۳ ) . « فكل من يسمع أقوالى هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل بنی بیته على الصخر : فنزل المطر ، وجاءت الأنهار ، وهبت الرياح ، ووقعت على ذلك البيت ، فلم يسقط ، لأنه كان مؤسساً على الصخر” ( مت 24:7 ،25).

وما هو هذا الصخر الا تلك السماويات البعيدة عن كل تغيير ؟ وقال المسيح : « فكل من يعترف بی قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام ابی الذي في السماوات . و كل من ينكرني أنكره أنا أيضاً« ( مت ۱۰ : ۳۲، ۳۳ ) . وأيضا : « طوبى للانقياء القلب لأنهم يعاينون الله ، ( مت ۸:۵ ) وأيضا ” طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” ( مت ۵ : ۳) . وأيضاً : « طوبي لكم أيها المضطهدون من أجل البر ، لان أجركم عظيم في السماوات ، ( مت ۱۱:۵ و ۱۲ ). 

لاحظ كيف يتحدث في كل موضع عن السماء، لا عن الأرض ، ولا عن الأرضيات . وأيضاً: « فان وطننا نحن هو في السماء التي منها أيضا ننتظر مخلصا هو الرب يسوع المسيح ( في ۲۰:۳ ) : وايضا : “اهتموا بما فوق لا بما على الأرض ، ( کو ۲:۳ ).

“في المسيح

أي أن هذه البركة لم تكن بيد موسى ، بل بالمسيح يسوع . ولذلك فاننا نتفوق عليهم ليس فقط في نوع البرکات ، بل في الوسیط أيضاً، كما يقول أيضاً في رسالة العبرانيين “وموسى كان أميناً في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلم به ، وأما المسيح فكان على بيته ، وبيته نحن » ( عب 3: 5 ،6).

ع 4. وبعد ذلك يقول : « كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة »

وهو يعني هذا : انه به بار کنا ، وبه إختارنا أيضاً: وهو الذي سوف يعطينا كل جزائنا فيما بعد : هو نفس الديان الذي سوف يقول : ” تعالوا یا مبارکى أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ” ( مت 25: 34) . وأيضاً: “أريد أن هؤلاء يكونون معي حيث أكون أنا” ( يو ۱۷ : ۲۶ ), وهذه نقطة أراد أن يقيم البرهان عليها في كل رسائله تقريباً، ولذلك فان فكرناً ليس أمراً مستحدثاً، بل هو مقرر منذ البدء ، و هو ليس نتيجة أي تغيير في قصده ، بل هو في الواقع تدبير الهي سبق أن عينه. وهذه تعزية كبيرة لنا .

وما هو معنى انه “اختارنا فيه ؟” ، يعني أنه بالايمان الذي هو فيه ، أي في المسيح ، دبر هذا لنا قبل أن نولد ، والأكثر من هذا : قبل تأسیس العالم . وما أجمل هذه الكلمة “تأسیس”، كأنه يشير إلى العالم على أساس أنه ساقط من ارتفاع شاهق : نعم ، ان سمو الله شاهق جداً بكيفية تفوق الوصف ، وسموه بعيد جداً، لا بالنسبة لمكانه ، بل باعتبار أنه أمر أبعد مما نقدر أن نتحدث عنه . وما أوسع المسافة بين الخالق والخليقة . وهذه كلمة يخجل الهراطقة أن يسمعوها.

ولماذا اختارنا ؟ “لنكون قديسين وبلا لوم قدامة”. لكي لا تتوهموا عندما تسمعون أنه اختارنا ، بان الايمان وحده يكفي . ولذلك أضاف إلى الكلام : الحياة والسلوك . فقال انه اختارنا لهذه الغاية وبهذا الشرط “أن نكون قديسين و بلا لوم” .

وبهذه الكيفية سبق أن أختار اليهود . تحت أي شروط ؟ , “لقد اختار هذا الشعب فوق جميع الشعوب ” ( تث 2:14 ) : وان كان البشر في اختيارهم يختارون الأفضل ، فبالأولى جداً يفعل الله هكذا . والواقع أن اختيار الله لهم علامة على محبته لهم ، وعلى صلاحهم الادبي : لأنه بالتأكيد لم يكن ممكناً أن يختار الأ المز کی : هو نفسه قد جعلنا أطهارا ( قديسين ) ، و نحن ينبغي أن نظل قديسين : الرجل الطاهر ( القديس ) هو الشريك في الإيمان ، والذي بلا لوم هو من يعيش حياة لا غبار عليها.

وهو لا يتطلب مجرد القداسة والخلو من اللوم ، بل يتطلب أن نظهر , امامه ، هكذا . فهنالك اشخاص قديسون و بلا لوم ، لكن هذا فقط في حكم الناس ، مع أنهم يشبهون القبور المبيضة ، ويلبسون ثياب الحملان . ليس هذا هو ما يطلبه الله ، بل كما يقول النبي : “كطهارة يدي” ( مز ۱۸ : ۲۶ ) . وأية طهارة ؟ هي التي تكون “أمام عينيه”۰ انه يتطلب القداسة التي تتطلع اليها عين الله.

واذ تحدث عن أعمال هؤلاء الصالحة عاد إلى نعمته ، فقال “في المحبة” لانه “سبق فعيننا”۰ وهذا لا يتم بأي مجهود من قبلنا ، ولا باعمالنا الصالحة ، بل “في المحبة” ، ولكن ليس بالمحبة فقط ، بل بفضيلتنا أيضاً . لأنه إن كان بالمحبة فقط لنتج عن هذا أن الجميع يجب أن يخلصوا. ومن الناحية الأخرى ان كان بفضيلتنا فقط لما كان هنالك مبرر لمجيئة إلى العالم ، ولا كان هنالك مبرر لتدبير الخلاص كله . ولذلك فانه يتم ليس نتيجة المحبته فقط ، ولا لفضيلتنا فقط ، بل لكليهما .

لذلك قال الرسول أنه اختارنا . والذي يختار يعرف ما الذي يختاره ثم أضاف قائلاً في المحبة اذ أنه سبق فعيننا ، . لأن الفضيلة لن تخلص احدا بدون المحبة . لأنه لو لم يكن الله قد دعا بولس منذ البدء، وبهذا أحبه ، وجذبه لنفسه فماذا كان ( بولس ) قد انتفع ، و كيف كان يمكنه أن يظهر ما أظهره؟

وعلاوة على هذا فانه منحنا هذه الامتيازات العظيمة . لم يكن ذلك بتأثير فضیلتنا ، بل بتأثير محبته . لأننا ان كنا قد حصلنا على الفضيلة ، والايمان ، والاقتراب اليه، فقد كان هذا بفعل من دعانا لنفسه ، ومع ذلك كان بفعلنا نحن أيضاً. وان كان ، بعد أن اقتربنا اليه ، قد منحنا مثل هذه الامتيازات السامية ، ونقلنا في الحال من حالة العداوة واتخذنا له بنين ، فهذا في الواقع هو عمل المحبة الفائقة جداً.

ع 4 و5. وقال : « في المحبة ، اذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه »

ألا تلاحظ أنه لم يتم شيء بدون المسيح ؟ ولا بدون الآب ؟ فالآب سبق فعين ، والمسيح قربنا اليه . وقد أضاف هذه الكلمات لكي يرفع من قدر الأشياء التي تمت ، بنفس الطريقة التي استخدمها عندما قال “وليس ذلك فقط ، بل نفتخر ايضاً بالله بربنا يسوع المسيح ” ( رو ه : ۱۱ ) : لأن البركات التي مُنحت عظيمة جداً فعلاً، لكنها صارت أعظم اذ مُنحت بالمسيح ، فانه لم يرسل أي خادم حتى للخدم ، لكنه أرسل ابنه الوحيد نفسه .

ع 5. ثم أكمل كلامه قائلاً : « حسب مسرة مشيئته».

أي لأنه أراد بشدة أي مشيئته الملتهبة ، كما يقولون : لأن عبارة مسرة مشيئته ، تعني في كل موضع آخر د مشيئته السابقة ، لأن هنالك مشيئة أخرى أيضا . فمثلاً: أن المشيئة الأولى هي أن لا يهلك أحد والمشيئة الثانية هي انه أن صار الناس أشرارا هلكوا . فيقينا انه ليس ضروريا أن يقتص منهم ، لكن القصاص اذا حل فيكون ذلك لأنه شاء . ولعلك ترى شيئاً من هذا القبيل ، حتى في كلمات بولس ، حيث يقول : “لاني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا ” ( ۱ کو ۷ : ۷ ) ، وأيضا : “فأريد أن ( الأرامل ) الحدثات يتزوجن ویلدن الأولاد ، ( 1 تی 5: 14) . 

فیکون المقصود اذن بهذه العبارة “مسرة مشيئته” المشيئة الأولى المشيئة الحارة ، المشيئة المقترنة برغبة ملتهبة ، كما هو الحال معنا ، لاننی لا أرفض استخدام التعبيرات الشائعة لكي أتكلم بوضوح للبسطاء . فنحن أنفسنا لكي نعبر عن عزم المشيئة نقول اننا نعمل وفق عزيمتنا.

اذن فیکون الرسول قد قصد أن يقول ان الله يهدف الى خلاصنا ، ویریده بشدة . فلماذا اذن يحبنا بهذا المقدار ، ويعطف علينا هذا العطف ؟ هذا ناشيء عن صلاحه فقط ، لأن النعمة نفسها ثمرة الصلاح ، ولهذا السبب قال انه « سبق فعيننا للتبني ، فقد شاء ، و كانت رغبته الملتهبة أن يتبين مجد نعمتة.

ع6 . وبعد أن قال : حسب مسرة مشيئته ، أكمل حديثه قائلا : « لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب »

وهكذا يقول : لكى يتبين مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. إذن فان كان قد بين لنا نعمة لمدح مجد نعمته ، ولكي يعلن نعمته فلنتمسك بهذا.

لمدح مجده” ، ما هذا ؟ ومن هم الذين يمدحونه ؟ ومن هم الذين يمجدونه ؟ حتى نحن الملائكة ، ورؤساء الملائكة ، أو كل الخليقة ؟ وما هو هذا ؟ لا شيء. فالطبيعة الالهية لا يعوزها شيء . اذن فهل يريدنا أن نحمده و نمجده ؟ ذلك لكي تزدا محبتنا له اشتعالاً في داخلنا. هو لا يريدنا أن نقدم اليه أي شئ. ولا يطلب خدمتنا ، أو مدحنا ، أو أي شيء . لا يريد الا خلاصنا . هذا هو الهدف في كل ما يعمل. ومن يحمد النعمة التي أظهرها ، ويعجب بها ، فانه يزداد تقوی ويزداد غيرة.

“التي أنعم بها علينا” . لم يقل “التي تعطف بها علينا” ، بل “التي بها أظهر لنا نعمة” . أي أنه لم يكتف بان يحررنا من خطايانا ، بل أهلنا لمحبه. كأن انساناً أخذ شخصاً أبرص ، شوهة المرض ، والشيخوخة ، والفقر ، والجوع ، وحوله فجأة إلى شاب وسيم الطلعة ، يفوق كل البشر في الجمال ، توردت وجنتاه ، يشع النور من عينيه ، وبعد ذلك أعاد اليه شبابه ، وألبسه الارجوان ، وتوج رأسه باکلیل ، وزينه بكل المظاهر الملكية.

هكذا مجَّد الله نفسنا وزينها ، وألبسها الجمال ، وجعلها موضوع مسرته ومحبته – مثل هذه النفس تشتهى الملائكة النظر اليها ، بل ورؤساء الملائكة ، وكل القديسين . لقد سكب علينا هذه النعمة ، وجعلنا أعزاء جداً عنده . قال المرنم : “يشتهي الملك جمالك” ( مز 11:45).

تأمل في مقدار الكلمات المؤذية التي نطقنا بها إلى الآن ، وفي الكلمات الكريمة التي نطقنا بها الآن : لم تعد الثروة تفتن عقولنا ولا أي شيء أرضي ، بل الأشياء التي في السماوات فقط . عندما يتمتع الطفل بجمال خارجی ، وتكون هنالك نعمة في كل ما يقول ، ألا ندعوه طفلاً جميلاً؟

هذا هو الحال مع المؤمنين : تأمل في الكلمات التي ينطق بها الموهوبون : هل يمكن أن يكون هنالك أجمل من الفم الذي ينطق بتلك الكلمات الرائعة ، بقلب طاهر وشفتين نقيتين ، ويتمتع بثقة كاملة مبهجة ، ويشترك في مائدة سرية كهذه ؟ هل هنالك أجمل من الكلمات التي بها ننبذ عبادة ابليس ، ونندمج في عبادة المسيح ؟ والاعتراف قدام جرن المعمودية ، والاعتراف بعد المعمودية ؟ ليتنا نتأمل في الكثيرين منا الذين دنسوا معموديتنا ، ليتنا نبكي لعلنا نستطيع أن نصحح الموقف .

ع6. وقال : « في المحبوب الذي فيه لنا فداؤنا بدمه ».

وكيف يكون هذا ؟ ليس العجب فقط في انه بذل ابنه ، بل الأكثر من هذا أن بذله يمثل تلك الكيفية بحيث يذبح حبيبه.

بل والأكثر روعة من هذا أنه بذل حبيبه من أجل من كانوا مكروهين . انظر مقدار عظمة الثمن الذي دفعه من أجلنا. وان كان قد بذل حبيبه من أجلنا نحن الذين أبغضناه و كنا أعداء ، فما الذي لا يفعله الآن بعد أن إصطلحنا معه بالنعمة؟

ع7 . وقال : “غفران تعدياتنا“.

هنا ينزل ثانية من أعلى إلى أسفل. فقد تحدث أولاً عن التبنی ، والتقديس ، والخلو من اللوم ، ثم عن الآلام. وفي هذا لم يتسفل في حديثه وينزله من الأعلى إلى الادنی ، کلا ، بل بالاحرى تسامی به ورفعه من الأدنى إلى الأعلى : لأنه ليس أعظم من أن يسكب عنا دم ابنه فانه، اذ بذل ابنه ، كان هذا أسمي من نعمة التبني ، و كل عطايا النعمة الأخرى. عظيم هو فعلاً غفران الخطايا ، والاعظم منه أن يتم بسفك دم الرب. هذا هو أعظم الكل : انظر کیف صاح ثانية هنا قائلاً:

ع ۷ و ۸ : « حسب غنی نعمته التي أجزلها لنا »

العطايا السابقة غنية ، أما هذه فانها أغني جداً. فقد قال أنه « أجزلها لنا ، فهي غنى ، وهي جزيلة ، أي انسكبت علينا بمقياس يفوق الوصف . ليس من الممكن أن نعبر بكلمات عن البركات التي اختبرناها فعلاً فهي فعلاً غنى ، وغني جزيل ، وقد أعطاها لنا بغنى ، ليس من انسان ، بل من الله . ولذلك فانه من المستحيل – بأي حال – التعبير عنها . ولكي يبين لنا كيف انه أجزلها لنا بوفرة ، أضاف قائلاً:

ع ۸ و ۹ : « بكل حكمة وفطنة اذ عرفنا بسر مشيئته »

أي أنه منحنا حكمة وفطنة في كل ما هو حكيم حقاً، وفطن حقا. يا له من أمر عجيب . يا لهذه الصداقة . لأنه حدثنا عن أسراره ، سر مشيئته ، كأن انساناً ما قال انه عرفنا بالاشياء التي كانت في قلبه. هنا حقاً السر المملوء من كل حكمة وفطنة ، وهل يمكنك أن تجد مثيلاً لهذه الحكمة؟ والذين كانوا لا يساوون شيئاً رفعهم إلى مركز الغني والثراء : هل هناك مثيل لهذا التدبير الحكيم ؟ فذاك الذي كان عدواً ، ومنبوذا ، رُفع إلى فوق في لحظة . وليس ذلك فقط ، بل الأكثر أن هذا تم في هذا الوقت بالذات . كان هذا هو عمل الحكمة ، وتم بواسطة الصليب. لقد أطلنا الحديث لنبین کیف أن كل هذا كان هو عمل الحكمة ، وكيف أن الله جعلنا حكماء . ولهذا كرر الكلمات :
« حسب مسرته التي قصدها في نفسه »
أي أنه أراد هذا ، وبذل الجهد في هذا ، لكي يستطیع – بلغة البشر – أن يعلن لنا السر : وما هو هذا السر؟ هو أن يجلس الانسان في الأعالى : وهذا ما قد تم فعلا .

ع ۱۰ : « لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ، ما في السماوات ، وما على الأرض ، فيه ».

 لقد قصد أن يقول أن الأرضيات خدمت السماويات . لم يبق لهم بعد رأس واحد. الى ذلك الوقت كان هنالك اله واحد فوق الجميع، لكن الحال تغير بعد انحراف عالم الأمم الفسيح ، فانفصلوا عن طاعته.

وقال : لتدبير مال الأزمنة ،  لقد دعاها ملء الأزمنة . لاحظ رقة كلامه . لقد أشار الى أصل الأشياء ، وهدف الله ، ومشيئته ، وقصده الأول ، على أساس أنها صادرة من الآب ، وتحدث عن الاتمام والتنفيذ بمعرفة الابن ، لكنه لم يذكر عنه في أي موضع أنه خادم.

وقال : “واختارنا فيه اذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه” ، “لمدح مجد نعمته الذي فيه لنا الفداء بدمه … التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح”. ولم يذكر عنه في أي موضع أنه خادم.

وان كان التعبير “في المسيح” ، أو “بيسوع المسيح” ، يتضمن أن المسيح مجرد خادم ، فانظر ماذا تكون النتيجة : لقد استخدم الرسول في بداية الرسالة « بمشيئة الآب، يعني أن الآب أراد ، والابن عمل . لكن لا يمكن قط أن يستنتج أنه إن كان الآب قد أراد فالابن لم يرد . ولا يمكن أيضا الاستنتاج بأنه إن كان الابن قد عمل فالآب لم يعمل فكل ما للآب للابن ، وما للابن للآب . لأنه قال : “كل ما هو لي فهو لك ، وما هو لك فهو لى » ( یو ۱۷ : ۱۰ ) .

وملء الأزمنة يعنى مجيء المسيح ، فبعد أن أتم كل شيء بواسطة خدمة الملائكة والأنبياء والناموس ، وعمل الانسان كل ما هو لهلاکه، وهلك الكل هلاكاً أشنع مما حدث في الطوفان ، دبر هذا التدبير ، أي بالنعمة ، لکی يتبين أن الإنسان لم يُخلق عبثاً وهذا ما سماه “ملء الأزمنة” ، وسماه “حكمة” ، ولماذا هذا ؟ لأنهم في ذلك الوقت نجوا ، لما كانوا على حافة الهلاك.

وقال : “ليجمع” وما هو معنى هذه الكلمة ؟ المعني هو “ليجمع معا” ، أو “ليربط معا” ، ولنحاول الوصول إلى المعنى الحقيقى : الكلمة تعني في أحاديثنا العادية تلخيص ، في كلمات وجيزة ، ما سبق أن قيل باسهاب : وهذا هو معناها هنا تماما ، لأن المسيح جمع في نفسه العهود التي استغرقت فترة طويلة ، أي لخصها ،”لأنه متمم كلمته وملخصها بالبر” ( رو ۹: ۲۸) . لقد فهم العهود السابقة ، وأضاف اليها بضعة اضافات : هذا هو معني “يجمع”.

ولها أيضا معنى آخر : وما هو ؟ انه أقام فوق الجميع رأساً واحداً، اي المسيح حسب الجسد ، فوق الملائكة والبشر . أي أنه أعطى الملائكة والبشر ادارة واحدة ، أو سلطة واحدة ، وأعطى للملائكة “الله المتجسد” ، وأعطى للبشر “الله الكلمة” ، كما يقول أحدهم عن بيت تهدم جزء منه والآخر سليم انه أعاد بناءه ، أي شدده ، ووضع له أساساً أقوى . هكذا الحال هنا فانه جعل الكل تحت رأس واحد . وهكذا يتم الاتحاد ، ويربط الكل برباط متين ، اذا ما جمع الكل تحت رأس واحد ، وهكذا يتم رباط الاتحاد من فوق.

واذ شرفنا الله بهذه البركة العظمى ، وهذا الأمتياز السامي ، وهذه المحبة الجليلة ، فينبغي أن لا نخجل المحسن البنا ، ينبغي أن لا نضيع هذه النعمة العظيمة هباء . لنتمثل بحياة الملائكة ، وفضيلة الملائكة ، وسيرة الملائكة بل انني أتوسل اليكم وأستحلفكم أن لا تجعلوا هذه الأمور تتحول إلى دینونتنا أو الحكم علينا ، بل دعوها تمتعنا بهذه الخيرات ، التي نتوسل إلى الله أن يهبها لنا أجمعين ، في المسيح يسوع ربنا ، الذي يليق له ، مع الآب والروح القدس ، المجد والقوة الخ الخ ..

العظة الثانية
( ص 11:1-14)

“الذي فيه أيضاً صرنا ميراثاً معينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب مشورة مشيئته” ع ۱۱.

كان بولس يحاول ، جدياً، في كل المناسبات أن يظهر باقصى ما يستطيع من قوة ، محبة الله ، التي لا يعبر عنها ، من نحونا . ولكي ندرك أن هذا كان مستحيلاً أن يفعله بدقة استمع إلى كلماته : ” یا لعمق غنی حكمة الله وعلمه ، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو۱۱ :۳۳). ورغم هذا فقد استطاع أن يظهرها على قدر الامكان. اذن فما هو هذا الذي قاله : « الذي فيه أيضا صرنا ميراثاً معينين سابقاً ؟ في الآيات السابقة استخدم هذه الكلمة : “اختارنا ” وهنا يقول “صرنا ميراثا” ، . لكن لأن القرعة[7] مسألة حظ ، لا مسألة اختيار مقترن بتدقيق ، ولا مسألة فضيلة ( لأن القرعة تقترن عادة بالجهل والصدفة ، وكثيرا ما تعدت الفضلاء واستقرت على من لا قيمة لهم ) فلاحظ كيف صحح هذه النقطة وقال « معينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شئ : أي اننا لم نجعل مجرد میراث ، كذلك لم يتم اختيارنا فقط ( لأن الله هو الذي يختار ) . كذلك لم تصبنا القرعة فقط ( لأن الله هو الذي يحدد النصيب ) ، لكن الأمر يتم “حسب قصد الذي يعمل” ، وهذا ما يقوله أيضا في رسالة رومية ( ص ۸ : ۲۸ – ۳۰ ) : “الذين هم مدعوون حسب قصده . لأن الذين سبق فدعاهم فهؤلاء بررهم : والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضا”.

واذ استخدم أولاً هذا التعبير “مدعوون حسب قصده” ، وفي نفس الوقت أراد أن يبين امتیازهم بالمقارنة مع باقي البشر ، فقد تحدث أيضاً عن الميراث بالقرعة ، بحيث لا يحرمهم من حرية الارادة . اذن فهذه النقطة المتعلقة بالحظ السعيد هي التي يشدد عليها . لان هذا الميراث بالقرعة لا يتوقف على الفضيلة ، بل على الظروف العرضية ، أي على المصادفة.

وكأنه قد قال : لقد القيت القرعة ، والله اختارنا ، لكن الكل يتم بالاختيار الحازم. لقد أفرز لنفسه أولئك الذين سبق فعينهم ، أي اختارهم لنفسه . كأنه قد رآنا ، واختارنا قبل أن نولد. لأن علم الله السابق عجیب وهو عليم بكل الأشياء قبل أن تبدأ.

لكن لاحظ كيف حرص الرسول على أن يشير بأن هذه الأمور قد رتبت منذ البدء ، لا نتيجة لتغيير في المقاصد ، ولذلك فنحن لسنا أقل من اليهود في هذه الناحية ، وكيف أن الله – تبعاً لهذا – يفعل كل شي مراعياً هذا الاتجاه . اذن فکیف قال المسيح نفسه : « لم أرسل الا إلى خراف بیت اسرائيل الضالة ؟ ( مت 24:10) ، وقال أيضا لتلاميذه : ” إلى طريق أمم لا تمضوا ، والى مدينة للسامريين لا تدخلوا ” ( مت 5:10) : ويعود بولس نفسه ليقول : ” كان يجب أن تكلموا أنتم أولاً بكلمة الله ، ولكن اذ دفعتموها عنكم وحکمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم” ( اع 46:13).

وأقول ان هذه العبارات قد استخدمت لهذا الغرض ، وهو انه يجب أن لا يفترض أحد بان هذا العمل ثم مصادفة فقط . فالرسول يقول : ” حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب مشورة مشيئته”. أي انه اذا أتم عملاً لا يعود اليه مرة أخرى ، لكنه اذ رتب كل شيء من البداية ، فانه يدفع كل شيء إلى الأمام “حسب مشورة مشيئته” ولذلك فان الله دعا الأمم ليس لمجرد رفض اليهود أن يسمعوا ، ولا لأن الأمر كان ضرورياً، ولا لای اغراء صدر منهم.

ع ۱۲ و ۱۳ . ” لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح : الذي فيه أيضا أنتم اذ سمعتم كلمة الحق انجیل خلاصكم ….

لاحظ كيف يتكلم الرسول عن المسيح في كل مناسبة ، على أساس أنه هو منشیء كل شيء . ولم يرد في أي موضع ادنی اشارة تفيد أنه دعاه عاملاً ثانوياً خاضعاً له ، أو قال انه مجرد خادم . وأيضا في مناسبة أخرى في رسالته إلى العبرانيين قال : “الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء بانواع وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه”، أي بابنه ( عب ۱ : او ۲ ).

“كلمة الحق” ، لم يقل الكلمة التي من هذا القبيل ، أو التي على هذه الصورة .

“انجیل خلاصكم ” وحسناً دعاه انجيل الخلاص ، لكى يبين أنه يختلف عن الناموس ، ويختلف عن القصاص القادم : وليست الرسالة الا انجیل الخلاص الذي يتحاشى هلاك من يستحقون الهلاك.

ع14 . « الذي فيه أيضا اذ آمنتم ختمتم بالروح القدس ، روح الموعد ، الذي هو عربون ميراثنا » .

هنا أيضا نجد الكلمة “ختمتم” وهي كلمة تشير الى تدبير سابق خاص : فهو لم يتكلم فقط عن سبق تعییننا ، أو اختيارنا ، بل عن ختمنا . وكما أن من يريد أن يجعل الذين سوف يكونون من نصيبه ظاهرین ، هكذا أفرزهم الله ليؤمنوا ، وختمهم للحصول على البرکات القادمة.

وهكذا ترون كيف انه بمرور الزمن يجعلهم موضوع تعجب : طالما كانوا في علمه السابق غير ظاهرين لأحد ، لكن عندما ختموا صاروا ظاهرین ، لكن ليس مثلنا ، لان قليلين هم الذين سوف يصيرون ظاهرین . والاسرائيليون أيضاً ختموا ، لكن ذلك كان بالختان ، كالبهائم والخليقة غير العاقلة . ونحن أيضا ختمنا ، لكن كبنين “بالروح”.

ولكن ما هو معنی : بروح الموعد ؟ لا شك في أنها تعني أننا قبلنا الروح حسب الموعد : لأن هنالك وعدين ، الأول بالانبياء ، والثاني من ” الابن” ۰

بالانبياء – استمعوا إلى كلمات یوئیل : “أسكب روحي على كل جسد ( بشر ) فيتنبأ بنوکم وبناتكم ، ويحلم شيوخكم أحلاماً ویری شبابكم رؤی” ( یوئیل ۲ : ۲۸ ) : واستمعوا أيضا لكلمات المسيح : « ستنالون قوة متی حل الروح القدس علیکم ، وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض ، ( أع۸:۱) : ويقينا أن الرسول يقصد أننا ينبغي أن نصدق المسيح على أساس أنه هو الله . وعلى أي حال فانه لم يؤسس تأكيده على هذا ، بل فحصها كقضية تخص الإنسان ، وأكثر الكلام عنها ، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين ( عب 6: 18) حيث يقول : « حتی بامرین عديمى التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما يكون لنا تشدید قوی”۰ 

هكذا نراه هنا أيضا يجعل الأشياء السابق منحها علامة أكيدة للوعد بالاشياء القادمة . لأجل هذا السبب دعاها عربونا : ( أنظر أيضا ۲ کو ۱ : ۲۲ ) . فالعربون جزء من الكل : لقد اشترى ما يخصنا كلنا ، أي خلاصنا ، وفي نفس الوقت أعطانا عربونا : ولماذا لم يعط الكل دفعة واحدة ؟ لأننا من جانبنا لم نتمم كل مهمتنا . فقد آمنا ، وهذه بداية ، وهو من جانبه أعطى عربوناً: وعندما نظهر ايماننا باعمالنا فانه يهب الباقی.

والاكثر من هذا أنه أعطى عربوناً آخر ، أي دمه ، ووعد بأخر أيضا وكما يحصل في الحروب بين أمة وأمة ، اذ يعطون رهائن ( أسرى ) تحت الفدية ، هكذا أعطانا الله ابنه كضمان للسلام ، ومعاهدة ثابتة ، وأعطانا أيضا الروح القدس الذي هو منه. لان الذين هم شركاء في الروح يدرکون أنه هو عربون ميراثنا.

هكذا كان بولس الذي تذوق هنا مقدمة البركات التي هي هناك . لهذا كان مشتاقا جدا ، ومتلهفا على أن يتحرر مما هو أسفل ، ويئن في نفسه . لقد وجه كل فكره الى هناك ، ورأى كل شيء بنظرة أخرى . أن لم یکن لك نصيب في الحقيقة ، فانك تفشل في فهم الوصف : لو كنا كلنا شركاء في الروح لرأينا السماء وما في السماء . والى أي شيء يهدف هذا العربون ؟

ع 14 : « فداء قنية الله[8] »

لأن فداءنا الكامل كمالاً مطلقاً[9] يتم وقتئذ : فنحن الآن نعيش في العالم ، معرضين لاحداث بشرية كثيرة ، ونعيش وسط أشخاص اشرار . لكن فداءنا الكامل يتم عندما لا تكون هنالك خطية ، ولا آلام بشرية ، وعندما لا نكون مختلطين بكل أصناف البشر اختلاطاً لا يمكن التمييز فيه بين هذا وذاك.

في الوقت الحاضر لا يوجد سوى العربون ، لأننا الآن بعيدون جداً عن تلك البرکات. لكن وطننا ليس على الأرض ، فاننا حتى في وقتنا الراهن بعيدون عن نطاق الأشياء الأرضية . نعم فنحن لا زلنا غرباء الآن.

ع 14. « لمدح مجده » 

وقد أسرع فاضاف هذه العبارة . ولماذا ؟ لأنها تساعد على اعطاء من سمعوها تأكیداً كاملاً. وقد قصد أن يقول : لو كان الله قد فعل هذا من أجلنا فقط لوجد المجال للريبة والشك . أما إن كان قد فعله من أجل نفسه ، ولكي يعلن صلاحة ، فقد قدم مبرراً لماذا لم تكن هذه الأمور على وجه آخر : وهذا الأسلوب من الحديث نجده يطبق في كل موضع على حالة الاسرائيليين : “اصنع هذا من أجلنا ومن أجل اسمك ” ( مز 21:109) : وايضا قال الله نفسه : “من اجل نفسي أفعل ” ( اش 11:48) . وهكذا ايضا قال موسى :” أفعل هذا ، ان لم يكن لشيء آخر ، فافعله لمجد اسمك”.

 

هذا يعطى السامعين تأكیداً كاملاً ، ويساعدهم على أن يصدقوا بانه لا بد أن يتمم كل ما وعد به ، وذلك من أجل صلاحه .

مغزی ادبی

يجب أن لا يكون الاستماع إلى هذا سبباً يدفعنا إلى التراخي ، فرغماً عن أن الله يفعل هذا من أجل نفسه الا أنه يتطلب منا واجبا نؤديه . فان قال : “انی أكرم الذين يكرمونني ، والذين يحتقرونني يصغرون” ( 1 صم ۲ : ۳۰ ) وجب أن نذكر بان هنالك أيضا ما يطلبه منا . صحيح أنه مما يؤدي إلى مدح مجده أن يخلص الإعداء ، وأن الذين صاروا أحباءه يستمرون بان يكونوا أحباءه. ولذلك فان عادوا إلى حالتهم السابقة ، وصاروا اعداء ، كان كل شيء عبثاً وبدون جدوى ، ولا يبقى هنالك مجال لمعمودية أخرى ، أو مصالحة ثانية ، “بل قبول دینونة مخيف تأكل المضادین ، ( عب ۱۰ : ۲۷ )۰

وفي نفس الوقت أذا أصرينا على الأستمرار دواما في عداوة معه ، ومع ذلك نطلب منه المغفرة ، فاننا لن نكف عن أن نكون أعداء ، ومتهورين ، ومتمادین في فجورنا ، وعميانا أمام شمس البر المشرقة. ألست ترى الأشعة التي تفتح عينيك ؟ اجعلهما أذنين صالحتين ، وسليمتين ، وحادتي النظر . لقد أظهر لك الرب النور الحقيقي : فان تجنبته ، وركضت الى خلف نحو الظلمة ، فماذا تكون حجتك ؟ أي نوع من المسامحة يمكن أن يعطيها لك ؟ لا شيء مطلقاً، لأن تصرفك هذا ينم عن عداوة لا يعبر عنها . وان كنت حقاً لم تعرف الله وصرت في حالة عداوة معه ، فقد يلتمس لك بعض العذر : أما أن كنت قد ذقت الصلاح والعسل ، ثم تركتهما ثانية ، وعدت إلى قيئك ، فانك انما تقدم دليلاً على بغضتك الزائدة لله واحتقارك له.

ولعلك تقول : نعم ، لكنني مغلوب على أمرى بسبب الطبيعة . ان كنت مغلوب على أمرك حقاً فانك قد تنال الصفح ، أما ان كنت خانعاً بسبب البلادة والكسل فلا تنتظر قط أي صفح. اذن تعال الآن لنبحث هذا الموضوع ، لنرى ان كانت الخطايا نتيجة قوة ضاغطة ، أو نتيجة التراخي وعدم المبالاة . يقول الناموس : لا تقتل ، فای نوع من القوة الضاغطة هنا ؟ فالضغط يستخدمه المرء لكي يضغط على نفسه ليقتل : لأنه من منا يدفع سيفه – بمحض رغبته – في رقبة أخيه ويلوث يده بالدماء ؟ لا أحد.

اذن فانت بالعکس ترى أن الخطية ترتكب بفعل قوة ضاغطة . لأن الله غرس في طبيعتنا سحرا يلزمنا بان نحب بعضناً بعضاً، وهذا السحر يقول : ” كل حيوان يحب نظيره ، و كل انسان قريبه” ( حكمة يشوع 13: 15) . ارایت کیف اننا نحمل في طبيعتنا بذوراً تتجه نحو الفضيلة ، أما بذورالرذيلة فهي تتنافى مع الطبيعة ؟ لكن اذا تسلطت علينا هذه الأخيرة فهذه علامة على شدة تراخينا.

وأيضا ما هو الزني ؟ ما الذي يلزمنا على ارتكابه ؟ لا شك في أنه سوف يقال انه ضغط الشهوة . لكن لماذا يحدث هذا ؟ أليس لكل واحد سلطان أن تكون له زوجته ، وبهذا يتخلص من هذا الضغط ؟ هذا صحيح لكنه قد يقول : ان نوعاً من الشهوة يضغط على لكي أشتهي زوجة قریبی . لكن المسألة لا تعني أن هنالك ضرورة حتمية . فالشهوة ليست ضرورية حتمية ، وليس محتماً ان كل واحد يجب أن يحب ، لكنه يفعل هذا بمجرد اختياره وحرية ارادته . قد يكون أشباع الطبيعة فعلاً أمراً ضرورياً. أما أن تحب امرأة معينة دون غيرها فهذا ليس أمراً ضرورياً. كذلك ليس الأمر معك شهوة طبيعية ، بل عبث واستسلام للدعارة. أيهما أقرب إلى العقل : أن تكون للمرء زوجته ، التي ولدت له أولاده ، أم امرأة ليست له صلة بها ؟ ألست تعرف أن كثرة التودد تنشی العلاقات القوية.

اذن ليست الطبيعة هي المسئولة عن هذه . لا توجه اللوم على الشهوة الطبيعية. فالشهوة الطبيعية اعطيت لنا بقصد التزوج ، لقد اعطيت الينا بقصد انجاب النسل ، لا بقصد الزنى والفساد .

والقوانين أيضا تعرف كيف تصفح عن الخطايا التي ترتكب بحکم الطبيعة ، وبالتالى كل ما يرتكب بحكم الطبيعة لا يعتبر خطية ، فكل خطية تنشأ من الخلاعة . والله لم يخلق طبيعة الانسان بحيث يجب أن يرتكب الخطية ، والا لما وجد هنالك مجال للقصاص. ونحن أنفسنا لا نبالي بما يرتكب بحكم الضرورة ، وبالاولى جداً الله المملوء رحمة ومحبة وعطفاً.

وأيضا : ما هي السرقة ؟ هل هي أمر حتمي ؟ قد يقول قائل : نعم ، لأن هذا ما يسببه الفقر . لكن الفقر بالاحرى يلزمنا بان نعمل ، لا بان نسرق . لذلك فالفقر له نتيجة عكسية : السرقة نتيجة الكسل والبلادة ، أما الفقر فانه لا يدفع عادة إلى الكسل ، بل الى محبة العمل : ولذلك فهذه الخطية هي نتيجة البلادة والتراخي كما رأيت : والآن أوجه هذا السؤال : ايهما أكثر مشقة ، وأيهما اکثر قبحاً واشمئزازا للنفس ، هل هو التجول طول الليل مع الحرمان من النوم ، واقتحام البيوت ، والتسكع في الظلام ، و تعريض الحياة للخطر ، والاستعداد دواماً للموت قتلاً، والفزع رعباً وخوفاً؟ أم أن يلتفت المرء إلى عمله كل يوم ، مع التمتع الكامل بالسلام والطمأنينة ؟ لا شك أن الحالة الأخيرة هي الأسهل . ولأنها هي الأسهل فان أغلب الناس يمارسونها . اذن فانت ترى أن الفضيلة تتفق مع الطبيعة ، وأن الرذيلة لا تتفق مع الطبيعة ، كما هو الحال مع المرض والصحة. 

وايضاً ما هو الحلف ؟ ما الذي يلزم المرء بان يحلف و ليس هنالك أي مبرر قط ، فهذه مسالة نلجأ اليها بمجرد اختيارنا : قد يقال : أن الناس لا يصدقوننا ، صحيح أن الناس لا يصدقوننا ، لأن هذا باختيارنا . فاننا أن قلنا – نستطيع أن نجعل الناس يصدقوننا بسبب أخلاقنا لا بسبب أقسامنا ، قل لي : لماذا لا نصدق البعض حتى أن أقسموا ، بینا نصدق الأخرين حتى وان لم يحلفوا ؟ الست ترى أنه ليس هنالك أي مبرر للاقسام مهما كانت الأحوال و نحن نقول : “عندما يتكلم فلان فاننى أصدقه حتی ولو لم يحلف ، أما أنت فانني لا أصدقك حتى ان حلفت “.

اذن فالحلف ليس ضرورياً، وهو في الواقع دليل على عدم الصدق . لا على الثقة ، لأنه عندما يكون المرء متأهباً للحلف فانه لا يترك لنا مجالا لكي نكون فكرة من وساوسه و تشککه : ولذلك فان من يحلف دواماً ليس له مبرر قط لكي يحلف و أما من لا يحلف قط في أية مناسبة فانه يحمل في نفسه الدليل على أنه صادق ، يقول البعض أن الأقسام ضرورية لجعل الناس يصدقون ، أما نحن فنقول أن من لا يحلف يلزم الناس بأن يصدقوه.

وايضا اذا كان يميل للثورة وقت الغضب، فهل ثورة الغضب هذه أمر ضروري ؟ قد يقول : نعم ، لأن غضبة يحتدم فيه ، ولا يجعل روحه في راحة.  لیست حدةالطبع نتيجة للغضب ، بل لصغر العقل ، فلو کانت نتيجة الغضب لتملکت ثورة الغضب على گل الناس كلما غضبوا ، اذا غضبنا فليس ذلك لكي تحتدم ثورة الغضب على أخو تنا، بل لكي نصحح اأخطاء من يخطئون ، لكي نتحرك ولا نكون فأترى الهمة . لقد غرس فينا الغضب کشوكة أو منخاس لکی يهیجنا على الشيطان ، ونثور عليه ، لا لگی نحارب بعضنا بعضاً ، نحن نعطي الأسلحة لا لكي نحارب بها بعضنا بعضاً، بل لكي نستخدم السلاح الكامل ضد العدو.

هل أنت تميل للغضب ؟ اغضب على خطاياك – أدب روحك ، اجلد ضميرك . كن قاضياً قاسيا غير رحيم في حكمك على خطاياك، هذه هي الطريقة للانتفاع من الغضب . وهذه هي الغاية التي لأجلها غرس الله الغضب فينا.

وأيضا ، هل السلب والنهب أمر ضروري ؟ كلا . قل لي ، ما هي الضرورة التي تلزمك بان تكون جشعاً؟ أي نوع من الالزم ؟ قد يقول المرء أن الفقر هو الذي يدفعه لهذا ، والخوف من أن يحرم من ضروريات الحياة العادية . هذا هو نفس السبب الذي يلزمك بان لا تكون جشعاً .

أن الأموال التي تأتي عن طريق السلب والنهب لا أمان لها : انك تفعل نفس الشيء الذي يفعله انسان ما أذا ما سئل عن سبب وضع أساس بينه على الرمل ، فقال انه فعل هذا بسبب الصقيع والأمطار ، مع أن هذا هو السبب الذي يدعوه لكي لا يضعه على الرمل فالأساسات التي توضع على الرمل في التي سرعان ما تسقط أمام الأمطار والعواصف والرياح.

ولذلك أن أردت أن تكون غنياً فلا تكن جشعاً، ولا تسلب  وان اردت أن تترك ثروة لاولادك فاحصل  على الثروة البريئة ، على الأقل أن وجدت ثروة كهذه . لأن هذه هي التي تبقى ثابتة ، أما التي ليست هي كذلك فانها سرعان ما تبيد وتتلاشی.

قل لي، هل تفكر بان تكون غنياً و تنهب أموال غیرك؟ یقینا ان هذه لا تدعي ثروة ، فالثروة تعني انك تقتني ما هو لك فقط ، أما من يملك أموال غيره فلن يمكن أن يكون غنيا لأنه على هذا القياس بصير تجار الحرير ، الذين يستلمون بضائعهم من غيرهم کامانة ، اغنى الناس ، فبالرغم من انهم يملكونها وقتياً , لكننا لا يمكن أن نعتبرهيم اغنياء و ذلك لأنهم يمتلكون ما هو لغيرهم، ومع أن مادة الثروة في أيديهم لكن الثمن الذي تساويه ليس ملكاً لهم ، وحتى أن كان المال في ايديهم فان هذه ليست ثروة ·

وان كانت الأمانات التي تودع عند الناس لا تجعلهم أثرياء ، لأنهم لا بد أن يسلموها لأربابها سريعاً فكيف تجعلهم الأموال التي حصلوا عليها بالاغتصاب أثرياء ؟

وعلى أي حال : آن كنت تريد – باية كيفية – أن تكون غنياً فای خیر حقیقی تجده ؟ هل تطيل أيام حياتك ؟ يقينا ان اشخاصا کهؤلاء تقصر أيام حياتهم ، فكثيراً ما حل بهم الموت قبل الأوان كقصاص لهم على السلب والنهب والاغتصاب وهم لا يحرمون فقط من التمتع بما جنوه ، وذلك كقصاص لهم ، بل يتركون الحياة دون أن يجنوا الا القليل ، ويضاف إلى هذا انهم ينالون جهنم ، وايضا كثيرا ما ماتوا بالأمراض ، التي هي ثمار الأنغماس في الشهوات ، والاجهاد الشديد والارتباكات والهموم.

والذي أريد أن أفهمه هو لماذا يركض البشر وراء الثروة ، ويقيناً ان الله – لهذا السبب – أقام حدودا لطبيعتنا لكي لا تكون لنا حاجة للبحث عن الثروة وراء هذه الحدود ، فمثلاً، لقد أوصانا بأن لا نرتدي الا ثوبا واحدا أو اثنين ، ولا داعي لاكثر من هذا لتغطية الجسد . فما النفع من وجود عشرة آلاف ثوب لتأكلها العثة؟

والمعدة لها سعتها المحدودة ، واذا ما أعطى لها أي شي اكثر من هذه الحدود اعتل جسم الانسان كله . وما الفائدة اذن من قطعانهم ومواشيك واتلاف الجسد ؟

نحن نحتاج الى سقف واحد ليظللنا · فما المنفعة من البيوت الفسيحة والمباني الفاخرة ؟ هل تجردون الفقير من ممتلكاته لكي تهيئوا للنسور والطيور امكنة تسكنها ؟ هذه كلها لا تهييء الا لجهنم . يشيد الكثيرون مباني فاخرة دون أن يسكنوها ، لقد تجلت فيها المهارة الشديدة ، ومع ذلك لا يجنون منها اية فائدة ، ولا اي واحد آخر. واذا ما احسوا بالوحدة والوحشة فان هذا لا يدفعهم للالتجاء إلى تلك البيوت ، ومع ذلك لا يكفون من تصرفاتهم.

وها أنت ترى أن الناس لا يقيمون هذه المباني للمنفعة . لكن الباعث على هذا هو الخيانة ، والسخافة ، والافتخار : ورجائي لك أن تتجنبها ، لکی تتجنب ايضاً كل شر أخر ، وتنال الخيرات التي وعد بها جميع من يحبونه ، في ربنا يسوع المسيح الذي يليق له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة ، إلى الأبد ، آمين

 

العظة الثالثة ( ص 15:1-20)

لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ، ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ،

لم يوجد مثيل لحنين وعواطف ومحبة المغبوط الرسول بولس الذي قدم كل صلاة من أجل مدن برمتها ، وشعوب كاملة ، وكتب نفس الكلام للكل:“لا أزال شاكراً الهی من أجلكم ، ذاكراً ایاکم في صلواتی”. تأمل في كم كان هنالك الكثيرون الذين في ذاكرته ، وفي مقدار المشقة التي كان يجدها في تذكرهم. ما أكثر الذين كان يذكرهم في صلواته ، شاكرا الله من أجل جميعهم ، كأنه هو نفسه قد نال اعظم بركة.

لقد قال : “لذلك” أي بسبب ما سوف يلي ، بسبب الخيرات المدخرة لمن يؤمنون حقاً، ويعيشون حقاً. إذن فقد كان يليق به أن يقدم الشكر الله من أجل كل ما أخذه منه البشر في الأيام السالفة والأيام القادمة . وكان يليق به أيضا أن يقدم الشكر من اجل ایمان من يؤمنون.

وقال أيضا “اذ قد سمعت بايمانكم بالرب يسوع ، الذي تظهرونه نحو جميع القديسين”.

هو في كل المناسبات يقرن معاً الايمان بالمحبة ، وهذان صنوان مجيدان. وهو لم يذكر قديسى تلك المملكة فقط ، بل و جميع القديسين.

“لا أكف عن الشكر ( لا أزال شاكراً) لاجلكم ، ذاكراً ایاکم في صلواتی.

وما هي صلواتك ، وما هي تضرعاتك؟

“كي يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والاعلان” لقد أرادهم أن يدركوا أمرين ، و كان واجباً أن يدركوهما . أي مقدار البركات التي دعوا اليها ، وكيف أنهم تخلصوا من حالتهم السابقة . وقد قال هو نفسه انه أرادهم أن يدركوا ثلاثة أمور . و كيف صارت ثلاثة ؟ لکی ندرك الأمور الآتية. لأننا من الخيرات المحفوظة لنا ندرك الثروات التي لا يُنطق بها ، والسامية جداً، واذ ندرك أنفسنا ، وکیف آمنا ، ندرك عظمته وسلطانه ، اذ أعاد لنفسه أولئك الذين كانوا قد تغربوا عنه زمناً طويلاً. “لان ضعف الله أقوى من الناس” ( 1 کو 1: 25) . فانه قد قربنا إلى نفسه بنفس القوة التي أقام بها المسيح من الأموات. وليست هذه القوة قاصرة على الاقامة من الأموات ، بل انها تفوقها جدا .

ع 21و 22. “واجلسه عن يمينه في السماويات ، فوق كل ریاسة وسلطان ، وقوة وسيادة ، وكل اسم يسمى ، وأخضع كل شيء تحت قدميه . واياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة ، التي هي جسده ، ملء الذي يملأ الكل في الكل”.

عميقة وفسيحة حقاً هي تلك الأسرار التي جعلنا شركاء فيها، ونحن لا نستطيع أن ندرك هذه الإ إذا کنا شركاء الروح القدس ، ونلنا نعمة غزيرة. ومن أجل هذا صلى بولس قائلاً “أبو المجد” ، ای ذاك الذي منحنا برکات غنية ، لأنه يخاطبه دائماً بما يتلاءم مع موضوع بحثه ، كما حدث مثلاً عندما قال : “أبو الرأفة واله كل تعزية” ( 2کو3:1) ويقول أيضا النبي : “الرب صخرتي وحصنی” ( مز 18: 1 ،2 ) .

ابو المجد” .

ليس له اسمم يمثل به هذه الأشياء ، وفي كل المناسبات يدعوها “مجداً”. وهذه التسمية في الواقع تمثل كل شي مجيد . ولاحظ أنه يقول “أبو المجد”( أنظر أع7: 2) . لكنه اذ يتحدث عن المسيح يقول انه هو الله : وماذا يعني هذا ؟ هل الابن أقل من المجد ؟ کلا ، لا يجرؤ أحد ان يقول هذا حتى وان كان معتوهاً.

کی یعطیکم“.

ای کی ينشط أذهانكم ، لأنه بدون هذا لا يمكن فهم هذه الأمور , لأن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله الأنه عنده جهالة ، ( 1 کو2: 14 ) . لذلك تدعو الحاجة إلى الحكمة لكي ندرك الروحيات ، فنری الخفيات. الروح يعلن كل شيء ، ويكشف أسرار الله . الروح وحده يدرك ، وهو أيضا يفحص أعماقه . لم يقل : “کی يعطيكم الملاك او رئيس الملائكة أو أية خليقة أخرى” ای یعطیکم هبة روحية . وان كان هذا عن طريق الاعلان أو الرؤیا صار اكتشاف الحجج باطلا . لأن من تعلم الله ، وعرف الله ، لن يتناقش في أي شيء . لن يقول : هذا مستحيل ، وهذا ممكن ، وكيف تم هذا الأمر : اذا ما تعلمنا الله وجب ان نعرفه ، أن تعلمنا الله من يجب أن نتعلم ، أي من الروح القدس نفسه ، فاننا عندئذ لا نتناقش في أي شيء آخر ، ومن أجل هذا قال : “مستنيرة عيون اذهانكم في معرفته” .

ان من تعلم الله لا يشك في مواعيده ، ولا يشك فيما حدث . بل يصلي أن يعطي ” روح الحكمة والاعلان”. وعلاوة على ذلك فانه أيضاً يؤيد هذا بالحجج ، و بالأمر الواقع . لأنه اذ كان على وشك أن يذكر بعض أشياء حدثت ، وأشياء لم تحدث بعد ، جعل تلك التي حدثت برهاناً على التي لم تحدث ، بكيفية ما ، مثلاً كالآتي :
لتعلموا رجاء دعوته
كأنها خافية ، لكنها لا تخفى على المؤمنين.
وأيضاً: « ما هو غني مجد میراثه في القديسين”.
وهذا أيضا لا يزال مخفی.
ولكن ما الذي أعلن ؟ اننا بقو ته آمنا أنه أقام المسيح . فان اقناع النفوس أمر معجزی أشد غرابة من اقامة شخص میت . وسأحاول توضیح هذه الحقيقة . استمع أذن . لقد قال المسيح للميت : « لعازر ، هلم خارجاً» ( یو 11: 43 ). وللحال أطاع الأمر الإلهي. وبطرس قال : “یا طابيثا قومی” ( اع 40:9 ) فلم تعص الأمر ، وهو نفسه سينطق بالكلمة في اليوم الأخير ، وعندئذ يقوم سريعاً أولئك “الأحياء الباقون ولا يسبقون الراقدين” ( 1 تس 4 : 15) ، والكل يركضون معاً “في لحظة في طرفة عين” (1کو 15: 52).

أما فيما يتعلق بالايمان فليس الأمر هكذا . وكيف يتم ؟ استمع اليه ثانية ، وانظر كيف قال : “كم مرة أردت أن أجمع اولادك ، ولم تريدوا » ( مت 23: 37) . هكذا ترون أن الإيمان أشد صعوبة . ومن أجل هذا فانه يبنی کل حجته على هذه الحقيقة . فمن الاحصاءات البشرية يتضح أن التأثير على الارادة أشد صعوبة من التأثير على الطبيعة. والسبب في هذا أنه يريد أن نكون صالحين بمحض رغبتنا ، ولهذا قال :” عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن الذين نؤمن”.

نعم ، فانه عندما عجز الأنبياء عن أن يفعلوا شيئاً، وكذا الملائكة و كل الخليقة – المنظورة وغير المنظورة ( فالمنظورة قائمة أمامنا عاجزة عن ارشادنا ، وكذلك غير المنظورة ) عندئذ رتب بان يأتي الينا ، لكى يبين أن الأمر يستدعي قوة الهية .

غنی مجد ميراثه

أي المجد الذي لا يعبر عنه : لأنه أية لغة تقدر أن تعبر عن ذلك المجد الذي سوف يشترك فيه القديسون وقتئذ ؟ هذا مستحيل . فالأمر يحتاج إلى النعمة لكي يدرك الذهن ولو شعاعة ضئيلة. لقد أدركوا فعلاً بعض الأشياء من قبل ، ولذلك أراد وقتئذ أن يدرکوا أشياء أكثر ، ویدرکوها بوضوح أكثر.

ألست تری کیف عمل أشياء عظيمة ؟ لقد أقام المسيح . هل هذا أمر يسير ؟ لكن أنظر أيضا . وأقامه عن يمينه . وهل توجد أية لغة تستطيع وصف هذا ؟ فالذي كانت تهزأ به الشياطين ، رفعه الله إلى فوق في لحظة . حقا أن هذه هي “عظمة قدرته الفائقة”. ثم أنظر إلى أين رفعه :

إلى السماويات

لقد رفعه فوق كل المخلوقات ، “فوق كل ریاسة وسلطان” . 

فوق كل ریاسة

اذن كانت الحاجة تدعو إلى الروح ، إلى الذهن الحكيم في معرفته . اذن كانت الحاجة تدعو الى الاعلان. تأمل في مقدار بعد المسافة بين طبيعة الانسان وطبيعة الله ، ومع ذلك فقد رفعه الله من هذه الحالة المتواضعة إلى هذه الكرامة الرفيعة : وهو لا يرفع بالتدريج ، أولاً خطوة واحدة ، ثم خطوة ثانية ، ثم ثالثة : يا له من أمر مذهل . فهو لم يقل فقط “فوق” بل “فوق جداً”، . لأن الله أعلى من هذه القوات العالية . اذن فالى هناك أقام المسيح ، الذي هو واحد منا ، رفعه من أدنى درجة إلى السماء الأعلى ، الذي لا يوجد مجد أعلى منه . فوق “كل” الرياسات ، لم يقل فوق ریاسة واحدة دون غيرها ، بل فوق « كل ریاسة »

ریاسية وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى

فصار فوق كل من في السماء ، وهذا ما قيل عن ذاك الذي أقيم من الأموات ، والذي يستحق منا كل تمجید . و كل الخليقة لا توازي شيئاً بازاء الله ، كما أن الحشرات لا توازی شیئاً بجانب الإنسان . وان كانت كل البشرية لا تحسب الا بصقة ، وحسبت کغبار الميزان ( اش 40 : 15) ، فان القوات غير المنظورة تحسب كحشرات . أما عن ذاك ، الذي هو واحد منا ، فهذا أمر مذهل جداً. لأنه أقامه من أقسام الأرض السفلى ( أف 4 : 9و 10) . وان كانت كل الأمم تحسب “كنقطة من دلو” ( أش 40 : 15) فلن يكون الانسان الا جزءاً من نقطة . ومع ذلك فقد جعل الله المسيح أعلى من كل شيء “ليس في هذا الدهر فقط بل في الدهر الآتی أيضا “۰ اذن فهنالك قوات غامضة وغير معروفة لنا . 

“وأخضع كل شي تحت قدمیه”

وليس المقصود أنه انما أكرمه فوقها ، أو فضله عليها ، لكنه جعله يجلس فوقها كعبيد له. هذا أمر مذهل ورهيب . لقد جُعلت كل القوات المخلوقة عبیداً للانسان لأن الله الكلمة حل فيه : فالانسان يمكنه أن يسمو على غيره من البشر ، دون أن يخضعوا له ، بل على أساس أنه أسمى منهم .

أما هنا فالأمر يختلف . فالله , أخضع كل شي تحت قدميه ، وهو لم يخضع كل شيء فقط ، لكنه أخضعه إلى أسفل الدرجات . ولذلك أضاف قائلا ” تحت قدميه”،

وایاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة

هذا أيضا أمر مذهل . فإلى أين رفع انكنيسة ؟ لقد رفعها . – كما بآلة رافعة – الى ارتفاع شاهق ، وأقامها على ذلك العرش ، لأنه حيث وجدت الرأس وجد أيضا الجسد . فلا يوجد فاصل يفصل الرأس عن الجسد : اذ لو كان هنالك أنفصال لما وجد بعد هنالك جسد ، ولما وجدت رأس .

فوق كل شي

وما هو المقصود بهذه العبارة ؟ انه لم يسمح لأي ملاك ، أو رئیس ملائكة ، أو لكائن آخر ، أن يكون فوقه . وهو لم یکرمنا بهذه الطريقة فقط ، اذ رفع ذاك الذي أخذ طبيعتنا ، بل أيضا لأنه أعد كل الجنس البشری ليتبعه ، ويتمسك به ، ويسير في ركبه .

التي هي جسده

حتى اذا ما سمعتم عن الرأس لا تخطر ببالكم فكرة الرئاسة فقط ،بل أيضا فكرة التماسك ، ولكي لا تتطلعوا اليه كرئيس قائد فقط ، بل کرأس لجسد .

وقال أيضا : « ملء الذي يملأ الكل في الكل”

كأن هذا لم يكن كافياً لأظهار الصلة والعلاقة . وماذا أضاف ؟ “للكنيسة” وحسناً فعل ، لأن الجسد يكمل الرأس ، والرأس تكمل الجسد . لاحظ دقة الكلام التي يراعيها الرسول بولس ، وكيف أنه لم يترك كلمة واحدة لكي يصور مجد الله . و كأنه قد قال ان الرأس یکملها الجسد ، الأن الجسد مكون من أعضاء مختلفة . والجسد في حاجة إلى الأعضاء ، ليس ككل ، بل إلى كل عضو بمفرده . لأننا ان لم نكن كثيرين : اليد ، والرجل ، وسائر الأعضاء ، فان الجسد لن يكمل : اذن فكل الأعضاء تملأ الجسد . وهكذا عندما نكون كلنا مرتبطين معا ، ومتحدين معاً، يصير الجسد كاملاً.

أرأيت اذن “غني مجد ميراثه ؟ عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن الذين نؤمن ؟ رجاء دعوتكم ؟”

مغزی أدبی

ينبغي أن نوقر رأسنا. ولنذكر أنه هو الرأس و نحن الجسد ، الرأس الذي أُخضع له كل شيء ، وفقاً لهذه الصورة ينبغي أن نكون نحن أفضل حتى من الملائكة ، وأعظم من رؤساء الملائكة ، فالله أكرمنا فوقها كلها. والرسول بولس قال في رسالته إلى العبرانيين أن “الله لم يمسك الملائكة بل أمسك نسل ابراهيم” ( عب 2: 16) لم يمسك الر ئاسات والسلطات والقوات والسيادات ، أو أية سلطة أخرى ، بل امسك طبيعتنا ، واجلسها عن يمينه . لقد جعلها ثوبه. وليس ذلك فقط ، لكنه “أخضع كل شيء تحت قدميه “. كم هي أنواع الموت كما ترى ؟ وكم نفسا عشرة آلاف ؟ کلا ، فان عشرة آلاف مرة لا تكفي ، لا يمكنك أن تتخيل.

لقد فعل أمرين ، وهما أعظم ما عمل : لقد نزل إلى أقصى حدود التواضع ، ورفع الانسان الى أسمى علو . لقد خلصه بدمه . لقد تحدث عن الناحية الأولى أولاً، وكيف انه وضع نفسه إلى أقصى حدود التواضع . والان يتحدث عما هو أقوى ، عن تاج كل شيء ، ولو كان قد قال اننا لا نستحق شيئاً، لكان ذلك يكفي ، وحتى لو كان قد قال اننا حسبنا مستحقين لهذه الكرامة ، لكان ذلك يكفي ، دون القول أنه أسلم ابنه للذبح . أما وقد تحدث عن الأمرين فاية لغة تستطيع التعبير عن هذا السمو؟ هذا أسمي من القيامة نفسها . وقد كان يقصد الابن عندما قال “اله ربنا يسوع المسيح” ولم يقل اله الكلمة.

ليتنا نرهب عندما نسمع عن صلتنا الوثيقة. ليتنا نخاف لئلا يُفصل أي واحد من هذا الجسد ، لئلا يُنزع منه ، لئلا يظهر بانه لا يستحقه. لو أن انساناً وضع تاجاً من ذهب فوق رأس أي واحد منا ، ألا يبذل كل ما في وسعة لكي يبدو مستحقا لهذه الجواهر عديمة الحياة ؟

والآن ، لم يوضع فوق رؤوسنا مجرد تاج ، بل ما هو أعظم جدا . فالمسيح قد صار رأسنا ، ومع ذلك نحن لا نبالي به ، ولا نقدم له أي ولاء أو احترام ومع ذلك فالملائكة توقر هذا الرأس ، ورؤساء الملائكة ، وكل القوات العلوية . وهل يليق بنا نحن ، الذين هم جسده ، أن لا نرهب ، لا لهذا السبب ، ولا لغيره ؟ وأين يكون اذن رجاء خلاصنا ؟

تأمل لنفسك ، في العرش الملكي : تأمل في عظمة الكرامة . هذه – على الأقل – قد تذهلنا أكثر من جهنم نفسها . لأننا ، ان كنا – بعد أن نلنا كرامة كهذه – نوجد متسفلين وغير جديرين بهذه الكرامة ، فای قصاص تستحقه ، وای انتقام ؟ اذكر ان رأسك جالس عن يمين الآب “فوق كل ریاسة وسلطان وقوة وسيادة “. لكن جسد هذه الرأس تطأه الشياطين . کلا ، حاشا أن يكون هذا . والا لما بقى جسد کهذا جسده . ان رأسك يوقره ويحترمه خدامك ، فهل تسمح بان يعرض جسدك لهزء الذين يهينونه ؟ أي قصاص تستحق أن تم شيء كهذا ؟ لو تجاسر انسان و قید قدمی الأمبراطور بالقيود والسلاسل ، ألا يعرض نفسه لا قسى انواع القصاص؟ فهل تعرض الجسم كله لوحوش كاسرة دون أن يقشعر بدنك ؟

وطالما كان حديثنا خاصاً بجسد الرب فلنحول تفكيرنا نحو ذلك الجسد ، الذى صلب ، وسمر على الصليب : ان كنت أنت جسد المسيح فاحمل الصليب ، لانه هو حمله ، تحمل البصق لأنه هو تحمله ، احتمل الآلام لأنه هو احتملها ، احتمل المسامير : هكذا كان جسده ، ذلك الجسد “الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مکر ” ( 1 بط 2: 22) يداه فعلتا كل شيء لخير من كانوا يحتاجون مساعدته . وفمه لم ينطق بكلمة واحدة لیست في محلها. لقد سمعهم يقولون عنه أنه شيطان ، ومع ذلك لم يجبهم بكلمة.

وعلاوة على هذا فان حديثنا يدور حول هذا الجسد . وكثيرون منا يشتركون في هذا الجسد ، ويذوقون ذلك الدم ، وهم لا يشتركون – بای حال من الأحوال – في أي شيء آخر يختلف عن هذا الجسد : اذكر باننا نشترك في ذلك الجسد الجالس في السماء ، الذى تسجد له الملائكة ، الذي له القوة غير القابلة للفساد ، أكثر الطرق المفتوحة أمامنا المؤدية الى الخلاص . ولقد جعلنا جسده ، ومنحنا أن نشترك في جسده . ومع ذلك لا شيء من هذه يحولنا عن الشر : يا لها من ظلمة عجيبة ، یا لعمق الهاوية ، يا للبلادة. لقد قال : “فكروا فيما هو فوق حيث المسیح جالس عن يمين الله” ( کو 3: 1) . ورغم كل هذا فهنالك من يركزون تفكيرهم في المال ، أو الدعارة ، وآخرو صاروا عبيدا لشهواتهم.

ألست تری بانه حتى في جسدنا : ان كان هنالك جزء زاد عن اللزوم ، أو عديم الفائدة ، فانه يقطع ويلقي بعيداً؟ لأنه لا فائدة منه للجسد ان كان زائداً عن حاجته ، أو كان قد مات أو تعفن ، أو أصبح ضاراً بباقي الأعضاء . فينبغي أن لا نفتخر لأننا كنا يوماً ما أعضاء في هذا الجسد . وان بتر من جسدنا هذا بعض الأحيان بعض الأعضاء ، بالرغم من انه جسد طبیعی فای خطر مروع يعرض له ان انحرف عن الاخلاقيات ؟ ان حرم الجسد من الطعام الطبيعي ، أو تعطلت مسام الجسد عن تأدية وظيفتها ، فانه يموت . وان أغلقت المسام فانه يصاب بالشلل .

هكذا الحال معنا أيضاً. فانه عندما تتوقف آذاننا عن أداء مهمتها أصيبت النفس بالشلل . عندما نمتنع عن تناول الطعام الروحي ، عندما تشلنا الميول الشريرة ، سببت كل هذه الأشياء المرض ، المرض الخطير ، المرض الفتاك . وعندئذ تدعو الحاجة إلى تلك النار ، أو البتر. لأن المسيح لا يحتمل أن ندخل إلى العرس بجسد كهذا . وان كان قد أخرج الرجل اللابس ملابس قذرة فماذا لا يفعله بالرجل الذي يلوث جسده ؟ ألا يخرجه خارجاً؟

انني ألاحظ أن هنالك كثيرين يشتركون في جسد المسيح باستخفاف ، ولمجرد العادة ، واتماماً للشكليات دون فهم أو تأمل : يقول البعض انه عندما يحل موعد الصوم الكبير المقدس ، أو عندما موعد عيد الظهور الإلهي ( عيد عماد الرب يسوع ) فان المرء – مهما كانت حياته – يمكنه الاشتراك في الاسرار الالهية . لكن الذي يهيي الفرصة المناسبة للاقتراب من الله ليس هو عيد الظهور ، أو الصوم المقدس ، بل هو اخلاص القلب وطهارة النفس – متى توفر هذان الشرطان فاقترب من الله في أي وقت ، وبدونهما لا تحاول قط ، لأنه يقول : “كلما فعلتم هكذا تخبرون بموت الرب” (1کو 11: 29) ، أي تذكرون الخلاص الذي تم لأجلكم ، والبركات التي وهبتها لكم.

تأملوا في الذين اشتركوا في ذبائح العهد القديم : ما هو مقدار زهدهم الذي مارسوه ؟ ألم يضبطوا أنفسهم ؟ ما الذي لم يمارسوه ؟ كانوا دواماً يطهرون أنفسهم ، وأنت عندما تقترب من الذبيحة ، التي ترهب منها الملائكة أنفسهم ، فهل تقيس الأمر بحسب تقلبات الظروف؟ و كيف تظهر نفسك أمام کرسی دینونة المسيح ، أنت الذي تتعدى على جسده بیدین دنستين وشفتين غير نقيتين ؟ أنت لا تجرؤ على تقبيل ملك بفم دنس ، فهل تقبل ملك الملوك بنفس دنسة ؟ هذه أهانة شديدة.

حدثني ، هل ترضى بالاقتراب إلى الذبيحة بيدين غير مغسولتين ؟ لا أعتقد هذا . فانك تفضل أن لا تقترب مطلقاً من أن تقترب بيدين دنستين . وان كنت تدقق هكذا في هذه الناحية التافهة ، فهل ترضى أن تقترب بنفس دنسة ، و تجرؤ على لمس الذبيحة ؟ ومع ذلك فاليدان تلمسانها برهة وجيزة ، أما هي فانها تذوب بكليتها في النفس . الست ترى الاوانی المقدسة نظيفة نظافة كاملة ، وتلمع جداً؟ ولماذا ؟ لأن هذه الأواني صنعت لأجلنا . هم لا يشتركون في ذاك الذي وضع فيها ، لأنهم لا يرونه . أما نحن فاننا نشترك حقا . 

والآن ، ان كنت لا ترتضي بان تستخدم أواني ملوثة ، فلماذا تقترب بنفس دنسة ؟ لاحظ المتناقضات ، ففي الأوقات الأخرى أنت لا تقترب من الاسرار المقدسة ، حتى وان كنت طاهراً، أما في عيد القيامة فانك تقترب رغم شناعة الخطية التي تكون قد ارتكبتها : آه ، یا لقوة العادة ، والجرأة . عبثاً تقدم الذبيحة اليومية ، وعبثاً نقف أمام المذبح ، إذ لا يتقدم أحد للاشتراك في الذبيحة . لست أقول هذا لأحثك على الاشتراك في الذبيحة ، بل بالحرى لكي أحثك على أن تجعل نفسك مستحقاً للاشتراك فيها .

هل أنت غير مستحق للذبيحة ، أو للاشتراك فيها ؟ ان كان الأمر كذلك فانت أيضاً غير مستحق للصلاة : أنت تسمع الخادم ( أي الشماس ) يقف ويقول : “على كل الخطاة الموعوظين أن يصلوا”. و كل من لا يشتركون في الذبيحة خطاة موعوظون. فان كنت واحداً من الموعوظين يجب أن لا تشترك في الذبيحة . لأن كل من لا يشترك يعتبر واحداً من الموعوظين .

ولماذا يقول اذن : “انصرفوا يا من لم تؤهلوا للصلاة” مع انك بوقاحة تستمر واقفا ً؟ لكنك لست من ضمن أولئك ، فانت من عداد المؤهلين للاشتراك ، ومع ذلك فانت غير مكترث بالأمر ، وتعتبره کلا شيء . : أتوسل اليك أن تتامل : “هوذا قد أعدت أمامك مائدة ملوكية  والملائكة يخدمون على هذه المائدة ، والملك نفسه هناك ، فهل يليق أن تقف وتتثاءب ؟” هل ثيابك قذرة ، ومع ذلك لا تبالي ؟ أم انها نظيفة ؟ اذن فاسجد واشترك . في كل يوم يدخل ويري الضيوف ، ويتحدث معهم كلهم. نعم ، فهو في هذه اللحظة يتحدث إلى ضميرك ، ويقول : “أيها الأحباء لماذا تقفون هنا وليس عليكم لباس العرس ؟”، أنه لم يقل : لماذا جلستم ؟ کلا ، فانه قبل أن يجلس صرح له بانه غير مستحق ، ولذلك لا يستحق الدخول.

ولم يقل : لماذا جلست لتأكل ، بل قال : لماذا دخلت ؟ ، وهذه هي الكلمات التي يوجهها في هذه اللحظة لكل الواقفين هنا بوقاحة وبدون خجل : لأن كل من لا يشترك في الاسرار انما هو واقف هنا بوقاحة وبدون خجل . لهذا السبب يخرج أولاً الخطاة . وكما انه اذا جلس سيد على مائدته وجب على الخدم الذين أساءوا اليه أن لا يوجدوا على المائدة ، بل يجب . ابعادهم ، هكذا الحال هنا عندما يؤتى بالذبيحة ، ويُذبح المسيح رب الخراف. و عندما تسمع الكلمات : “فلنصل معا ” وعندما ترى الستائر قد رفعت ، فاعلم بان السماوات قد نزلت من فوق ، وأن الملائكة نازلة.

اذن لا يليق بان يكون أي واحد من غير المؤهلين حاضراً، كذلك يجب أن لا يكون حاضراً أي واحد من المؤهلين ان كان في نفس الوقت دنساً. افرض أن أي واحد دعى الى وليمة ، و كان يجب أن يغسل يديه ، لكنه دخل ، و كل شي معد على المائدة ، وبعد كل هذا رفض الاشتراك في تناول الطعام . ألست ترى أنه قد أهان ذاك الذي دعاه ؟ الم يكن خيرا له أن لا يحضر قط ؟

بهذه الطريقة أنت دخلت هنا : لقد رنمت الترنيمة مع الباقين لقد أعلنت بانك من عداد المستحقين ، وذلك بعدم خروجك مع غير المستحقين . فلماذا بقيت دون أن تشترك في المائدة ؟ قد تقول : “أنا غير مستحق”. اذن فانت غير مستحق للصلوات التي اشتركت فيها . فالروح القدس لا ينزل بمجرد التقدمات فقط ، بل أيضا بتلك التسابيح. ألسنا نری خدمنا ينظفون أولاً المائدة بالاسفنجة ، وينظفون البيت ، وبعد ذلك . يعدون الوليمة ؟ هذا ما يتم بالصلوات وبصياح الشمامسة . ونحن ننظف الكنيسة ، كما باسفنجة ، لكى يُهيأ كل شيء في كنيسة نظيفة “لا دنس فيها ولا غضن”( أف 5 : 27) .

الواقع ان أعيننا غير مستحقة لهذه المناظر ، وآذاننا غير مستحقة كذلك . لقد قيل : ” اذا مست الجبل بهيمة ترجم رجماً” ( خر 13:19). هكذا لم يكونوا مستحقين أن يطأوها بأقدامهم. ومع ذلك اقتربوا ، ورأوا این يقف الله ، وأنت قد تقترب بعدئذ وتنظر. فخليق بك أن تنصرف عندما تراه موجوداً. لأنه غير مسموح لك بان تكون هنا ، كما انه غير مسموح للموعوظين : كان خيراً لك أن لا تقترب من الأسرار ، واذ اقتربت تعثرت بها ، واحتقرتها ، وجعلت نفسك غير مستحق لها . يستطيع المرء أن يفتح أبواباً أخرى ، وهي أكثر رعباً. لكننا نكتفي بهذا لئلا نثقل ذهنك . والذین لا يكفيهم هذا لاعادتهم إلى صوابهم فانهم يقينا لن يجديهم ما هو أكثر من هذا.

ولكي لا أكون سببا في زيادة دینونتك أتوسل اليك أن لا تمتنع عن المجيء ، بل أجعل نفسك مستحقاً للحضور ومستحقاً للاقتراب. قل لي ، لو أن ملكا أصدر أمرا وقال : ” ان فعل أي واحد هذا فلیشترك في مائدتی” الا تبذل كل ما في استطاعتك لكي يمكن أن تصير ضمن المصرح لهم بالدخول ؟ لقد دعانا الله إلى السماء إلى مائدة الملك العظيم العجيب . فهل نتراجع ونتردد بدلا من أن نسرع و نركض اليها ؟ واذن ، أي رجاء لنا في الخلاص ؟ نحن لا نستطيع أن نضع اللوم على ضعفنا ، أو على طبيعتنا . فالسبب الوحيد الذي يجعلنا غير مستحقين هو البلادة والتراخي.

الى هنا تحدثت من تلقاء نفسي. فليت الله الذي ينخس القلوب ويعطى روح التأنيب ، ينخس قلوبكم ، ويغرس البذار في أعماقها ، وهكذا بخوفه تدرکون روح الخلاص ، وتقتربون بجرأة . لأنه قيل : “بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك”( مز 3:128) : اذن ، ليته لا يبقى شيء عتیق ، أو شيء بری ، أو شيء خشن . لأن هذه هي أصل النباتات الرخصة ، التي تليق بالثمار ، الثمار الجميلة ، أي ثمار شجرة الزيتون . واذ تزدهر تكون كلها حول المائدة ، وتجتمع كلها هنا ، لا عبثاً أو بالمصادفة ، بل بخوف ووقار . لأنكم هكذا بجسارة ترون المسيح نفسه في السماء ، وتحسبون مستحقين لملكوت السماوات ، التي نبتهل إلى الله أن يهبنا اياها ، في يسوع المسيح ، ربنا ، الذي يليق له مع الآب والروح القدس ، المجد والقوة والكرامة الآن والى دهر الدهور : آمين . 

فاصل

  1. أيتها الزوجات ، كما ورد في الترجمة الانكليزية
  2. أيها البنون ، حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الانجليزية .
  3. أیها الخدم ، حسب الترجمة الانجليزية . 
  4. أمناء حسب الترجمة الانجليزية 
  5. مبارك الله وأبو ربنا يسوع المسيح ، كما جاء في ترجمة ذهبي الفم.
  6. ثمرة أحشائك ، حسب ترجمة اليسوعيين ، و ثمرة جسدك ، حسب ترجمة ذهبي الفم .
  7. كان الميراث يوزع بالقرعة
  8.   “فداء الشعب الذي اقتناء الله لنفسه” ، حسب ترجمة الاباء البولسيين .”فداء خاصته” ، حسب ترجمة اليسوعيين المنقحة .
  9. يتم الفداء الكامل عندما تبطل نهائياً الآلام والخطية والموت ، وذلك عند مجيء المسيح ثانية في مجده ( لو ۲۱ : ۲۷ )

فاصل

فاصل

مقدمة تفسير رسالة أفسس تفسير العهد الجديد
تفسير أفسس 2
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة أفسس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى