تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 6 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح السادس
أحاديث إيمانية

بعد أن تحدث عن السيد المسيح رئيس الكهنة السماوي، مقارنًا إياه بهرون، بدأ يتحدث عن جوانب إيمانية، حتى يتحدث عن السيد المسيح كرئيس كهنة على رتبة ملكي صادق إلى الأبد، ومنه ينتقل إلى عمل المسيح الكهنوتي.

1. الاستنارة والتوبة 1 – 8.

لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ، 

غَيْرَ وَاضِعِينَ أَيْضًا أَسَاسَ التَّوْبَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ، 

تَعْلِيمَ الْمَعْمُودِيَّاتِ، وَوَضْعَ الأَيَادِي،

قِيَامَةَ الأَمْوَاتِ، وَالدَّيْنُونَةَ الأَبَدِيَّةَ،

وَهَذَا سَنَفْعَلُهُ إِنْ أَذِنَ اللهُ [١-٣].

ماذا يقصد بكلام بداءة المسيح الذي يترك الرسول الحديث عنه ليتقدم إلى الكمال؟ إنه يسرد ستة بنود كأساسيات للإيمان المسيحي، كل بندين مرتبطان معًا، هذه التي تعلمها كل مسيحي نال المعمودية، وآمن بها كأمور أساسية لا تحتاج بعد إلى تفسير. إنها الحروف الأبجدية بالنسبة للمؤمن، أساسيات لازمة وضرورية لكنها كمبادئ أساسية لا تحتاج بعد إلى شرح بعد إيمانه بها وتمسكه بها قبل نواله سرّ الاستنارة. هذه الأساسيات هي: 

1، ٢. التوبة من الأعمال الميتة والإيمان: هذان هما أول بندان، بدونهما يفقد الإنسان عضويته في الكنيسة أو مسيحيته. لقد وضع التوبة عن أعمال الشر الميتة قبل الإيمان مع أن التوبة إنما هي ثمرة من ثمار الإيمان، لكن الرسول أراد أن يعطي للتوبة أهميتها فلا إيمان خارج التوبة. وكما يقول معلمنا يعقوب: “ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد ان له إيمانًا ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلصه؟… أرني إيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني” (يع ٢: ١٤، ١٨).

3، ٤. تعليم المعموديات ووضع الأيادي: من أساسيات الحياة المسيحية أن يتقبل الإنسان الدفن مع السيد المسيح في المعمودية لينعم بالقيامة معه، أي ينال الحياة الجديدة في المسيح يسوع (رو ٦: ٤)، وينعم بحلول الروح القدس عليه خلال وضع الأيدي لتقديس النفس والجسد معًا ليصير الإنسان هيكلاً مقدسًا.

5، ٦. قيامة الأموات والدينونة الأبدية: يكمن رجاء المؤمن في قيامة الأموات حيث ينعم جسده مع نفسه بالحياة الأبدية على مستوى ملائكي سماوي، مترقبًا الدينونة لينال إكليله من يدي عريس نفسه يسوع المسيح.

البندان الأولان يمثلان الأساس الذي تقوم عليه حياتنا وهو “الإيمان الحي المعلن خلال التوبة عن الأعمال الميتة”، والبندان التاليان فيمثلان إمكانيات عمل الله في حياته، أي التمتع بالبنوة لله في المعمودية وسكنى الروح القدس بوضع الأيدي (أو الميرون)، والبندان الأخيران هما رجاء المؤمن بدونهما يفقد طريقه ويتحطم باليأس!

يرى البعض أن الرسول وهو يحدث المسيحيين العبرانيين يشير إلى البنود الأساسية التي يقوم عليها الإيمان المسيحي ولها جذور في العهد القديم، لذا فلا حاجة له أن يحدثهم عنها، فالمسيحي الذي من أصل يهودي يسهل أن يتقبل طريق التوبة خلال الإيمان بالمسيا المخلص، ويدرك سرّ المعمودية ووضع الأيدي اللذين تعرض لهما العهد القديم خلال الرموز والظلال مهيئًا إياه لقبولها، ومترجيًا القيامة من الأموات والدينونة الأبدية.

إنه يترك الحديث عن هذه الأمور ليعالج أمرًا هامًا يبدو أنه قد حدث خلاف حوله، وهو ما هو موقف الكنيسة من المؤمن الذي اعتمد واستنارت نفسه بالروح القدس وارتوى بكلمة الإنجيل وتمتع ببهجة الخلاص واختبر قوة الحياة الجديدة السماوية، ثم عاد فارتد عن الإيمان أمام ضغط الاضطهاد أو تحت إغراءات الخطية؟ هل إن عاد تائبًا عن ارتداده يحتاج إلى التجديد مرة أخر خلال سرّ المعمودية؟ ويجيب القديس بولس رافضًا إعادة معموديته، إذ يقول: 

لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا (نالوا سرّ الاستنارة أي العماد) مَرَّةً، 

وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، 

وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي، 

الحياة الجديدة السماوية وَسَقَطُوا، 

لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضًا (أي أعادة المعمودية كسر التجديد) لِلتَّوْبَةِ، 

إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمُِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ” [٤-٦].

هذا التفسير قدمه لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مؤكدًا أنه يستحيل إعادة معمودية الراجعين إلى الإيمان بعد ارتدادهم، كما يقول: [لقد منعهم (من إعادة المعمودية) بقوله “لا يمكن” فإنه لا يمكن ممارسة ما هو مستحيل! يقول إن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية أي نالوا المغفرة وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة متحدثًا هنا عن التعليم، وقوات الدهر الآتي – ما هي القوات التي يتحدث عنها؟ إنها صنع المعجزات أو غيرة الروح (٢ كو ١: ٢٢) – وسقطوا يستحيل تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه… لا يعني هذا استبعاد التوبة، حاشا! إنما استبعاد (إعادة) التجديد بواسطة الجرن، إذ لم يقل “لا يمكن (يستحيل)” بخصوص التجديد بالتوبة، وإنما أكمل قائلاً: “يستحيل… إذ هم يصلبون ابن الله ثانية”. فكلمة “التجديد” هنا، أي “يجعله جديدًا” أي “يجعل الإنسان جديدًا” إنما هو من عمل الجرن وحده، إذ قيل يجدد مثل النسر شبابك” (مز ١٠٣: ٥)، أما التوبة فتعمل في الذين تجددوا لكن بالخطايا صاروا قدامى، فتحررهم من هذا القِدَم ليصيروا أقوياء.]

يؤكد القديس ذاته أن الرسول يتحدث عن إعادة المعمودية مدللاً بقول الرسول “إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه“، لأن المعمودية هي صلب مع السيد المسيح، وإعادتها إنما تعني تكرار صلبه فنكون كمن يشهر به.

لأَنَّ أَرْضًا قَدْ شَرِبَتِ الْمَطَرَ الآتِيَ عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، 

وَأَنْتَجَتْ عُشْبًا صَالِحًا لِلَّذِينَ فُلِحَتْ مِنْ أَجْلِهِمْ، 

تَنَالُ بَرَكَةً مِنَ اللهِ. 

وَلَكِنْ إِنْ أَخْرَجَتْ شَوْكًا وَحَسَكًا، 

فَهِيَ مَرْفُوضَةٌ وَقَرِيبَةٌ مِنَ اللَّعْنَةِ،

الَّتِي نِهَايَتُهَا لِلْحَرِيقِ” [٧-٨].

وكأن القلب الذي يتقبل نِعَم الله المجانية كالأرض التي ترتوي بالمطر مرارًا يصير بركة؛ هذه النعم الإلهية أو الأمطار هي عطايا ومواهب الثالوث القدوس المجانية التي ننالها خلال المعمودية وسر الميرون وسماعنا لكلمة الله الحية الخ. هذه النفس التي تتقبل المطر المجاني والبركات السماوية إذا لم تتجاوب معها ترتد إلى برية قاحلة، تنتج شوكًا وحسكًا لا يصلح لشيء إلاَّ لأن يحرق بالنار. لكن دموع التوبة الصادقة تعيد إلينا ثمر الروح، وتحول بريتنا إلى جنة مقدسة ينعم العريس السماوي بثمره فيها.

ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المطر هنا يشير إلى تعليم الكتاب المقدس كما جاء في الكتاب نفسه، إذ يقول الله على لسان إشعياء النبي متحدثًا عن كرمه المثمر: “وأجعله خرابًا لا يُقضب ولا يُنقب، فيطلع شوك وحسك، وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرًا” (٥: ٦). وعلى لسان عاموس النبي: “هوذا أيام تأتي يقول السيد أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز وعطشًا للماء بل لاستماع كلمات الرب” (٨: ١١). كما يقول المرتل: نهر الله ملآنة ماء” (مز ٦٥: ٩). فالأرض التي تتقبل مياه الأمطار الإلهية إي الكلمة السماوي تأتي بثمر الروح المفرح، وتصير هي نفسها بركة، أما التي تسمع الكلمة ولا تعمل تكون كأرض لم تتقبل المطر، فتصير تحت اللعنة. لهذا يقول السيد المسيح لليهود: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو ٢٥: ٢٢). لقد جاء وقدم لهم نفسه “الكلمة الإلهي” المطر السماوي، منتظرًا من كرمه الثمر فأخرج شوكًا (إش ٥: ٢)، أي أخرج خطية وجحودًا في عدم إيمان.

ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص بقوله: [أخشى أن تنطبق هذه الأمور علينا أكثر مما على غيرنا، إذ يقول: “لأن أرضنا قد شربت المطر الآتي عليها”، فإننا نشرب على الدوام، ونسمع باستمرار، لكن إذ تشرق الشمس (مت ٨: ٦) نفقد في الحال رطوبتنا ونخرج شوكًا، إذن ما هو الشوك؟ لنسمع المسيح يقول: “همّ هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر” (مت ١٣: ٢٢).]

2. الجهاد الحي ٩ – ١٢.

إذ تحدث بالأمور السابقة أراد أن يحذرهم لئلا يعيشوا بلا ثمر بالرغم من وجود المطر الإلهي المتكاثر، فيخرجون أشواكًا ويحملون اللعنة عِوض تمتعهم بغنى عطايا الله الكثيرة المجانية. وإذ خشي عليهم الرسول لئلا يسقطوا في اليأس أسرع يبعث فيهم روح الرجاء كعادته، مؤكدًا لهم أنه لا يرى فيهم أرض لعنة بل أرض بركة، قائلاً: “وَلَكِنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أُمُورًا أَفْضَلَ، وَمُخْتَصَّةً بِالْخَلاَصِ، وَإِنْ كُنَّا نَتَكَلَّمُ هَكَذَا [٩]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا يقول؟ لسنا ننطق بهذه الأمور لكي ندينكم، ولا لأني أظن أنكم مملوءون شوكًا، وإنما أخاف عليكم لئلا تصيروا هكذا، فمن الأفضل أن أرعبكم بالكلمات عن أن تسقطوا في هذه الأمور. هكذا هي حكمة بولس.]

يعود الرسول فيرد أنفاسهم بقوله: “لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ. وَلَكِنَّنَا نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هَذَا الاِجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ الرَّجَاءِ إِلَى النِّهَايَةِ، لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِالإِيمَانِ وَالأَنَاةِ يَرِثُونَ الْمَوَاعِيدَ [١٠-١٢].

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة السابقة، قائلاً: [يا له من مصلح لأرواحهم إذ يقدم لهم قوة جديدة بتذكيرهم بالأمور القديمة محضرًا إياهم إلى عدم افتراض أن الله ينسى (تعبهم السابق)… وذلك كما كتب لأهل غلاطية “كنتم تسعون حسنًا” (٧: 6)، وأيضًا: “أهذا المقدار احتملتم عبثًا؟!” (٣: ١٤). وكما يمزج المديح بالتوبيخ هنا بقوله: “إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين” (عب ٥: ١٢)، هكذا أيضًا في الرسالة إلى أهل غلاطية، إذ يقول: “إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعًا” (غل ١: ٦)، هكذا مع التوبيخ يوجد مديح.]

يا لحكمة الرسول بولس فيما هو يوبخ ويحذر مشبهًا إياهم بالأرض الرافضة للمطر الإلهي، الحاملة للشوك والحسك علامة اللعنة، يفتح لهم أبواب الرجاء، لئلا يهلكوا بسبب اليأس، فيعلن لهم أن الله ليس بظالم حتى ينسى أتعاب محبتهم التي أظهروها نحو اسمه وترجموها إلى عمل خلال خدمتهم السابقة للقديسين والحالية أيضًا، هكذا امتاز الرسول بولس – مع صراحته الشديدة وعدم مجاملته لإنسان على حساب الحق – أن يظهر لطيفًا للغاية في توبيخاته للآخرين. فهو وسط التوبيخ يشجع دون أن يتملق أو يداهن. إنه يحث الكل على الجهاد المستمر دون تباطؤ، يلهبهم بنيران الإيمان الحيّ وطول الأناة، ويرفع أنظارهم إلى ميراث المواعيد الإلهية. بحق يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يحملنا الرجاء إلى الأمام. إنه يشفينا! لا تكن قلقًا ولا تيأس، لئلا يصير رجاؤك باطلاً.]

هكذا يليق بكل خادم للسيد المسيح أن يتمثل بالرسول بولس، رسول الرجاء، يسند كل قلب حتى في أمر لحظات التوبيخ، متمثلاً بالسيد المسيح الذي قيل عنه: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء للأمم” (مت ١٢: ٢٠، ٢١؛ إش ٤٢: ١).

إن كان التوبيخ لازمًا كي لا تسترخي النفس في الشر وتستطيب له، فإن الرجاء يسندها على التوبة والجهاد بفرح دون أن يحطمها اليأس.

هكذا شجع الرسول بولس من يكتب إليهم، مؤكدًا لهم أن الله لا ينسى تعب محبتهم، خاصة خدمتهم للقديسين. فماذا يقصد بالقديسين؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كل مؤمن هو قديس بالرغم من كونه إنسانًا يعيش في العالم، إذ يقول (الرسول) “لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة، وبالمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل” (١ كو ٧: ١٤). انظر كيف يقيم الإيمان القداسة؟ فإن رأينا علمانيًا (واحدًا من الشعب) في ضيقة يلزمنا أن نمد يدنا إليه، فلا نكون غيورين تجاه سكان الجبال وحدهم، فإن هؤلاء بحق هم قديسون في سلوكهم كما بالإيمان، أما الأولون فقديسون بإيمانهم والكثير منهم بالسلوك أيضًا. إذن ليتنا لا نذهب إلى راهب ملقى في السجن بينما نمتنع عن الذهاب إلى واحد من الشعب. فالأخير قديس وأخ؛ بل وإن رأينا وثنيًا في ضيقة فلنظهر له حنوًا، وهكذا نحن نحنو على كل إنسان في ضيقة وخاصة المؤمن. أصغ إلى بولس القائل: فلنعمل الخير للجميع ولاسيما لأهل الإيمان” (غلا ٦: ١٠).] وكما يقول القديس چيروم: [من واجبك أن تكسي المسيح في الفقير، وتزوره في المريض، وتطعمه في الجائع، وتأويه فيمن ليس له مأوى، خاصة الذين هم من أهل الإيمان، فتسند جماعات البتوليين وتهتم بخدام الله الذين هم مساكين يعيشون الحياة الملائكية وينطقون بتسابيح الله وهم على الأرض.]

3. الوعد لإبراهيم بقسمٍ ١٣ – ٢٠.

إذ تحدث الرسول عن الجهاد الحيّ الصادر عن نفس مؤمنة ترجمت إيمانها عمليًا خاصة في خدمة القديسين يقدم لنا “إبراهيم” أب الآباء ورجل الإيمان العملي، هذا الذي نال الوعود الإلهية بقسم إلهي: “فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ، قَائِلاً: إِنِّي لأُبَارِكَنَّكَ بَرَكَةً وَأُكَثِّرَنَّكَ تَكْثِيرًا. وَهَكَذَا إِذْ تَأَنَّى نَالَ الْمَوْعِدَ” [١٣-١٥].

كان من جانب الله أن يهب الوعد ويثبته بالطريقة التي يفهمها الإنسان، إذ يقول: “فَإِنَّ النَّاسَ يُقْسِمُونَ بِالأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ التَّثْبِيتِ هِيَ الْقَسَمُ[١٦]. وكأن القسم هي اللغة التي يفهمها البشر لتثبيت الوعد؛ أما من جانب الإنسان فهو بالإيمان العملي ينال إن تأنَّى. العطية مجانية وعظيمة وأكيدة، لكن ينالها من تأنَّى في صبر وإيمان!

من جهة القسم الإلهي يقول القديس أغسطينوس: [إنه لأمر عظيم أن يتكلم الله فكم بالأكثر حينما يقسم!… إنه يستخدم القسم للتثبيت. وبمن يقسم؟ يقسم بنفسه، وبنفسه يثبت مواعيده.]

هكذا يهب الله الوعد ويعطي العون، لكننا لا نقف في سلبية تجاه هذا العون الإلهي إنما يجب أن نقابل وعود الله وعونه بالتجاوب العملي وطول الأناة، فهو يقدس الإرادة البشرية والحرية الإنسانية، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الله لا يريد أن تكون العطية بكاملها من جانبه… الله يريد أن يظهر العبد وكأنه ساهم في شيء، فلا يسقط في الخجل]، ويقول أيضًا: [النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا يسكب عليها بفيض غناه، وبغزارة تفوق كل طلبته.]

يختم الرسول حديثه عن الوعد لإبراهيم، قائلاً: “فَلِذَلِكَ إِذْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيرًا لِوَرَثَةِ الْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ، حَتَّى بِأَمْرَيْنِ عَدِيمَيِ التَّغَيُّرِ، لاَ يُمْكِنُ أَنَّ اللهَ يَكْذِبُ فِيهِمَا، تَكُونُ لَنَا تَعْزِيَةٌ قَوِيَّةٌ، نَحْنُ الَّذِينَ الْتَجَأْنَا لِنُمْسِكَ بِالرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، الَّذِي هُوَ لَنَا كَمِرْسَاةٍ لِلنَّفْسِ مُؤْتَمَنَةٍ وَثَابِتَةٍ، تَدْخُلُ إِلَى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا، صَائِرًا عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ، رَئِيسَ كَهَنَةٍ إِلَى الأَبَدِ [١٧-٢٠].

هنا يعلن الرسول “سرّ تعزيتنا” من جانبين:

الجانب الأول: تتحقق تعزيتنا بأمرين عديمي التغيير، هما الوعد الإلهي والقسم لتثبيته، فالله لا يكذب في وعده ولا يحنث بقسمه. بهذا الوعد المثبت بالقسم يمتلئ قلبنا رجاءً، ويكون هذا الرجاء أشبه بمرساة تسنده وسط تيارات العالم ولججه.

الجانب الثاني: تحقق الوعد الذي أُعطى لنا في إبراهيم بصورته الحقيقية في “يسوع” بكرنا، أو “السابق”. هذا هو سرّ تعزيتنا الحقيقية، أن ربنا يسوع المسيح كسابق لنا لم ينل مواعيد أرضية وبركة زمنية إنما دخل إلى ما وراء الحجاب إلى المقدسات السماوية بعينها وليس إلى ظلالها، فصار لنا حق التمتع معه بكوننا جسده المقدس. إنه رئيس كهنتنا الأبدي الذي على رتبة ملكي صادق، قادر أن يشفع فينا لدى الآب ليدخل بنا إلى سماواته. في هذا يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [إن كان من أجلنا دخل المسيح السماوات عينها، فإنه كان من قبل وعلى الدوام هو رب السماوات وموجدها، لذلك كتب أنه تمجد لأجلنا. وكما يقل هو نفسه الذي يقدس الكل أنه يقدس ذاته للآب من أجلنا (يو ١٧: ١٩) لا بمعنى أن الكلمة يصير مقدسًا، وإنما أنه يقدسنا نحن كلنا فيه، هكذا نفهم النص “مجد ذاته” لا بمعنى أنه يتمجد إذ هو الأعلى لكنه يصير بارًا لأجلنا فنتمجد نحن فيه، وندخل أبواب السماء التي فتحها لنا. لقد قال السابقون: “ارفعوا أبوابكم أيها الرؤساء ولترتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد” (مز ٢٤: ٧) لم تكن الأبواب مغلقة قط أمامه بكونه الرب وخالق الكل، لكن هذا كُتب من أجلنا نحن الذين أُغلقت أبواب الفردوس أمامنا.]

تفسير عبرانيين 5 عبرانيين 6  تفسير رسالة العبرانيين
تفسير العهد الجديد تفسير عبرانيين 7
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير عبرانيين 6  تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى