تفسير رسالة كورنثوس الثانية 6 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح السادس
«فَإِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ نَطْلُبُ أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ اللهِ بَاطِلاً. » (ع1).
لئلا تتراخوا وتهملوا بعد هذه العناية ولا تفعلوا شيئاً بشهامة فتسقطوا ومن ثم لا تحظون بمثل هذه الخيرات، فلا لكون الله أرسل رسلاً تظنون أن هذا الأمر سيكون ، سيكون ما دمنا هنا وأما بعد ذلك فنقمة وعذاب، ولهذا السبب علينا أن نقـبل نعمة الله ، لأن سرعة الزمان تتعجلنا دائماً.
«لأَنَّهُ يَقُولُ:«فِي وَقْتٍ مَقْبُول سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ». هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ.» (ع2).
فلا نهمل إذا الوقت الموافق بل سبيلنا أن نظهر الحرص لنكون أهلاً للنعمة ولنسرع معاينين سرعة زوال الزمان.
وما دمنا فى ميدان الجهاد وما دمنا نعمل فى الكرم إلى أن تنقضى الساعة الحادية عشرة فلنمض مقدمين سيرة صالحة ، لأن الأمر هين إذ أن المجاهد فى مثل هذا الوقت الذى فيه انسكبت موهبة هذا مقدارها وفيه اندفعت نعمة هذا مقدارها، بسهولة يحظى بالجائزة .
«وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَةُ.» (ع3).
لم يقل بولس الرسول لا نجعل مذمة وإنما قال ما هو صغير جداً فقال : « ولسنا نجعل عثرة » أعنى لوم ؛ أى لا تعطو سبيلاً لملامتنا لئثلا تعاب خدمتنا حتى لا يذمها أحد.
«بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ:فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ،فِي شَدَائِدَ،فِي ضَرُورَاتٍ،فِي ضِيقَاتٍ،» (ع4).
قول بولس الرسول « بل فى كل شىء نظهر أنفسنا كخدام الله » هذا الأمر
عظيم جداً، أى أن نظهر من كل جهة أننا خدام الله.
وقوله « فى صبر كثير » حيث وضع أساس الفضائل ، ولذلك لم يقل بصبر مطلقاً وإنما قال « فى صبر كثير».
«فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ،» (ع5).
مع أن كل واحدة من هذه بمفردها لا تطاق ؛ أى الضرب بمفرده والقـيود بمفردها وعدم إمكان الإقامة عند الطرد ، حيث جال بولس الرسول الليالى وهو يُعلَّم ومع هذا كله لم يكن يهمل الصوم مع أن هذه الشدائد تكفى عوض أصوام كثيرة.
«فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ،» (ع6).
معنى قول بولس الرسول « فى طهارة » عنى هنا عن العفة أو عن النقاوة فى كرازة الإنجيل مجاناً وفى كل أمر وبغير انتظار أجراً.
ومعنى قوله « فى علم » أى بالحكمة التى تعطى من قبل الله والتى هى الحكمة الحقانية ، ليس كأولئك المظنون بهم حكماء والمفتخرين بالحكمة العالمية.
وقوله « فى أناة فى لطف » أى إذا أغضب أحد ولدغ من كل جهة ، عليه أن يحتمل ذلك فى أناة .
أما قوله « فى محبة بلا رياء » فهذا هو سبب الخيرات كلها ، هذا يجعل الروح القدس يدوم عندنا .
«فِي كَلاَمِ الْحَقِّ، فِي قُوَّةِ اللهِ بِسِلاَحِ الْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ.» (ع7).
قول بولس الرسول «فى قوة الله » هذا الأمر يفعله بولس الرسول دائماً حيث لم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل لله ويعتقد أن أعماله كلها لله ، وهذا الأمر نفسه فعله هنا.
وقوله « بسلاح البر لليمين ولليسار » رأيت صرامة عزم بولس الرسول كونه أوضح أن الشدائد هى أسلحة ليست لا تهزم فقط ، بل تحصن وتقوى ، وباليسارية
سمى الشدائد التى تحسب محزنة.
«بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ، بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ وَنَحْنُ صَادِقُونَ،» (ع8).
قول بولس الرسول « بمجد وهوان » إذ أن الكثيرين من اليهود الذين لأجل المجد الذى من الكثيرين لم يريدوا أن يؤمنوا لأنهم خافوا ليس ألا يهلكوا بل لكى لا يصيروا خارجاً عن المجمع أما بولس الرسول فلم يفعل ما فعله اليهود .
وقوله « بصيت ردئ وصيت حسن » إذ أن أمور بولس الرسول قد أشرفت على نجاح البشارة حتى إن كثيرين من الإخوة لثقتهم بقيوده يجرأون متكلمين بلا خوف ، وكان بدافع الشرف أيضاً، ولذلك كان بولس الرسول يصير أوفر نشاطاً «بصيت ردئ وصيت حسن».
«كَمَجْهُولِينَ وَنَحْنُ مَعْرُوفُونَ، كَمَائِتِينَ وَهَا نَحْنُ نَحْيَا، كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ،» (ع9).
قول بولس الرسول « كمجهولين ونحن معروفون » لأنهم كانوا عند البعض معروفين ومرغوباً فيهم ، وأما البقية فما كانوا يريدون أن يعرفوهم.
وقوله « كمائتين وها نحن نحيا » أى كمساقين إلى الموت ومجرمين ، الأمر الذى كان من الهوان وقال هذا موضحا قوة الله التى لا ينطق بها ، وصيَّره من جماعة القتلة والمتآمرين الذين قد يموتون ، وأما من أجل الله فيفلتون من هذه المخاطر ، وبذلك أوضح بولس الرسول الربح الناتج لهم من الشدائد ، كما كان الثواب أيضاً عظيماً وأن الأعداء قد يفيدونهم.
«كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ، كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ، كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ.» (ع10).
قول بولس الرسول « كحزانى ونحن دائماً فرحون » إذ قد يتوهم الذين من غير المؤمنين إننا فى حزن وغم ، أما نحن فلا نصغى إليهم ، بل إن لذتنا تنمو ، ولم يقل فرحين فقط بل أضاف « دائماً» فأى عيشة إذاً تعادل هذه العيشة التى يلاقى فيها بولس الرسول شدائد بهذا المقدار والفرح يكون أكثر منها .
وقول بولس الرسول « كفقراء ونحن نغنى كثيرين » قد يقول قوم إن بولس الرسول قصد بالغنى هنا الغنى الروحانى ، وأما أنا فأقول إنه عنى أيضاً بالجسدانى لأنهم كانوا مستغنين بطريقة جديدة إذ كانت مساكن الكل مفتوحة لهم .
أما قوله « كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء » فإن كنت تستعجب فى كيف أن الذى لا يمتلك شيئا يمتلك الأشياء كلها ، فلنقدم هذا الرسول نفسه إلى الوسط الذى أخضع المسكونة ، وكانت المدن تقبله كملاك، ومن أجله وضعوا أعناقهم ، فكيف لم يكن بولس الرسول يمتلك كل شيء، وإن شئت أن تنظر الروحانيات فتراه فى هذه بالحرى مستغنياً، الذى كان هكذا صديق ملك الكل ، حتى إنه وهبه بعض الأسرار والمكتومات فكيف لا يكون أسعد من الكل ومالك الأشياء كلها ، لولا ذلك لما كان أخضع الأرو ح ولا كان يطرد الأسقام.
«فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ.» (ع11).
قول بولس الرسول « فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون» أى أن فمنا قد انفتح نحوكم يا أهل كورنثوس فلا نطيق أن نسكت نحوكم بل نفضل ونشتاق دائماً أن ننطق مخاطبين إياكم ، الأمر الذى هو عادة الذين يحبون ، فنحن دائماً نخاطبكم
بدالة كمحبوبين ولا نخفى عنكم شيئا ولا نكتمه.
أما قوله « قلبنا متسع» لأنه كما أن الذى يسخن من عادته أن يتسع هكذا يكون فعل المحبة أن يوسع ، لأن الفضيلة هى حارة ومسنحنة إذ فتحت فم بولس الرسول ووسعت قلبه ، لأنه لا يحب بالفم فقط بل قلبه متفق معه ، ولذلك تكلم بدالة بكل الفم والضمير ، فاتساع قلب بولس الرسول ليس هو شيء آخر سوى كونه يحب المؤمنين كافة ، كشىء معشوق ، ولم تكن محبته ممزقة وضعيفة بل بجملتها باقية فى كل واحد .
ولكن ما هو المستغرب إذا كانت محبة بولس الرسول فى المؤمنين وهى مع ذلك فى غير المؤمنين لأن المسكونة كلها قبلها قلب بولس الرسول حيث احتواهم جميعاً فى داخله ، وليس هذا كيفما اتفق بل باتساع كثير .
«لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ. فَجَزَاءً لِذلِكَ أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُتَّسِعِينَ!» (ع12، 13).
يشير بولس الرسول هنا إلى أنه يقبل مدينة بجملتها وجمهوراً هذا مقداره فى حين أن أهل كورنثوس لا يستطيعون أن يقبلوا واحداً.
«لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ:«إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا.» (ع14-16).
لم يضع بولس الرسول هنا المقايسة بين محبته ومحبة أولئك الذين أفسدوهم بل أظهر شرف حسبهم وحقارة أولئك ، لأن هكذا يكون القول موقراً أكثر ولائقاً به لاسيما أنه استمالهم ، كما إذا اتفق أن يقول أحد لصبى يغادر والديه ويسلم نفسه للأدناس ، ما هو الذى تفعله يا صبى ، أتحتقر أباك وتفضل عليه الأدناس الممتلئين من الشرور الكثيرة ؟ ألا تشعر بكم أنت أفضل منهم وأوفر كرامة ؟ أما تفطن فى شرف جنسك وسيادتك ، وحقارة أولئك ؟ أى شركة بينك وبين أولئك السراق الزناة السحرة ؟ وبذلك قد ترفعه بمدائحك له وتجعله يقلع عن معاشرتهم سريعاً.
وبعد مديح السامع يصير التوبيخ مقبولاً لأن السا مع يسترخى ويمتلئ من الاقتناع المعقول فيفارق مرافقتهم .
«لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، » (ع17).
لم يقل بولس الرسول لا تعملواً نجساً وإنما طلب ما هو أوفر احتراساً فقال «لا تمسوا نجساً» ولا تقربوا منه.
وما هو «النجس » ؟ هو الفسق والزنا وكل ظلماته ، وما هو نجس النفس؟ هو النظر الغير مرتب ، الحقد ، الغش ، وما يشبه ذلك .
فالناتج أن بولس الرسول يريدهم أطهاراً، حيث الانعتاق من الشرور والاتحاد بالله .
«لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، » (ع17).
رأيت النطق بشرف الحسب الذى فى الولادة من فوق أى إعادة الميلاد الكائن
بالنعمة .
تفسير 2 كورنثوس 5 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 7 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |