تفسير سفر أعمال الرسل أصحاح 2 الأب متى المسكين
ﺍﻷﺻﺤﺎﺡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ
ﻣﻌﻤﻮﺩﻳﺔ ﺍﻻﺛﻨﻲ ﻋﺸﺮ ﻣﺠﺘﻤﻌﻴﻦ، ﺃﻱ ﻣﻌﻤﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻜﻨﻴﺴﺔ
ﺣﻠﻮﻝ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻘﺪﺱ ﻓﻲ ﻋﻴﺪ ﺍﻟﺨﻤﺴﻴﻦ ﻋﻴﺪ ﺍﻟﺒﺎﻛﻮﺭﺍﺕ أو عيد الأسابيع “شبوعات” [١٣-١:٢]
١:٢ «ولمَّا حَضَرَ يومُ الخَمسِينَ كان الجميعُ معاً بنفسٍ واحدةٍ .»
«ولمَّا حضر يوم الخمسين»:
الترجمة العربية لا تعطي المعنى الحرفي الدقيق، فالكلمة تفيد “لمَّا اكتمل يوم الخمسين”، أي لمَّا بلغ الزمن إلى يوم الخمسين. لأن العدد يبتدىء من أحد القيامة ويُعدّ سبعة أسابيع تماماً ويأتي يومالخمسين. فالعيد يأتي لمَّا تكمل الأيام خمسين. لذلك فإن هذا العيد يسمَّى إمَّا عيد الأسابيع “شبوعات” أو عيد الباكورات أي تقديم باكورات القمح. ويقع دائماً يوم الأحد السابع بعد أحد القيامة.
«يوم الخمسين»:
وتعني باليونانية الخمسين عدداً . وبالعبرية يُدعو shabu’oth وترجمته “الأسابيع”.
وهو مذكور في (لا ١٥:٢٣)، وباسمه هذا مذكور في (خر ٢٢:٣٤)، (تث ١٠:١٦) ومذكور باسم عيد الباكورات في (عد ٢٦:٢٨)، (خر ١٦:٢٣). فهو عيد للشكر على بركات الحصاد . وفي الأيام المتأخرة لليهود اعتُبر أنه يوم نزول الشريعة في سيناء الذي كان في اليوم الخمسين من خروجهم من مصر، فهو ذكرى التحرُّر، وتحرُّرهم كان بالعجائب التي لم يُسمع مثلها قط، فهو عيد لذكرى العجائب.
وحينما أعطى الرب الشريعة لموسى في هذا اليوم أعطاها في وسط مظاهرة الطبيعة، الريح والنار والأرض والجبال، زلازل وبروق ورعود لم يَرَ مثلها الإنسان، فهو عيد ظهور جبرؤوت االله الذي أَعطى فيه الشريعة مكتوبة بإصبع االله على ألواح حجرية، فكان بدء تاريخ علاقات االله مع الإنسان مدوَّنة بالحروف!! لذلك كان يعيِّد له اليهود باهتمام بالغ وافتخار واعتزاز لأن فيه تحدَّد أنهم شعب االله. وحينما يُقال: «لمَّا حضر يوم الخمسين»، فإن هذا معناه أن يوم الخمسين الأول بعد قيامة الرب قد حضر ولم يَغِبْ ولن يغيب، لأن فيه تسجَّل حضور الروح القدس، الذي حضوره قائم من الأزل و إلى الأبد، ولكن هو استعلان حضوره على التلاميذ لقيام الكنيسة، فهو عيد الكنيسة الأَول وسيبقى عيدها الدائم الخالد، حاضراً بحضور الروح القدس . وحضور الروح القدس هو البقاء الدائم : فهو لن يُصبح ماضياً قط.
«كان الجميع معاً بنفسٍ واحدةٍ »:
هنا أخطأ كثير من المفسرين في فهم كلمة «الجميع»، فحسبوها مجموعة الذين كانوا في أورشليم، أي المائة والعشرين . ولكن إذا انتبهنا إلى ما جاء في نهاية الأصحاح الأَول والتحامه في الأصحاح الثاني، يتضح أنهم التلاميذ الأحد عشر والرسول الجديد معهم، فهنا جاءت كلمة الجميع ونقرأها هكذا: «ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحُسب مع الأحد عشر ولمَّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفسٍ واحدة» أي الاثنا عشر.
وأي شرح خلاف ذلك يكون قد جانبه الصواب، لأن حلول الروح القدس الذي رافقه نوال قوة من الأعالي كان وضعاً خاصاً جداً للرسل فقط في البداية، حسب وعد الرب لهم والوصية أن لا يبرحوا من أورشليم حتى يُلبَسوا قوة من الأعالي ويُعمَّدوا بالروح القدس عندما يحل عليهم : «وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير » (أع ٥:١). ومن هنا لزم بغاية السرعة وبوحي من االله، انتخاب الرسول الذي يكمِّل الا ثني عشر، لأن الكنيسة ممثَّلة بالاثني عشر هي التي ستقبل المعمودية الأُولى بالروح القدس : «نحن الذين لنا باكورة الروح » (رو ٢٣:٨) كميلاد جديد للرسل والكنيسة بآن واحد.
أمَّا دفاع العالِم ماير بأن نبوَّة يوئيل النبي لم تحصر حلول الروح القدس في التلاميذ فقط بل جعلته على العبيد والإماء أيضاً والشيوخ والشباب بالرؤى والأحلام، فهذا جيد وحقيقي وهو ما تمَّ بالحرف الواحد بعد ذلك، بعد الرسل، ولكن بواسطة الرسل وليس مباشرة من السماء . لأن هذا يخلخل مفهوم الكنيسة ويجعل الجميع رسلاً والجميع معلمين والجميع مفسرين والجميع عضواً واحداً،
وهذا خلل . ولكن مَنْ وضع عليه الرسل أيديهم حلَّ عليهم الروح القدس بدون تفريق بين أممي ويهودي، أو رجل وامرأة، أو عبد وحُرّ . فالعماد أساساً هو من اختصاص عمل الكنيسة ممثَّلة أولاً في الرسل، وبواسطتها يتم العماد ويتم وضع اليد ويتم حلول الروح القدس ثم التكلُّم بالألسن . أمَّا قبول العماد بالروح القدس وبدون ماء ومباشرة من االله، من فوق، فكان خاصاً بالرسل الاثني عشر أساساً وبجانبهم شخصيات شرفية للكنيسة كالعذراء مريم القديسة وبقية النسوة، ولكن جسم الكنيسة الأساسي هو الاثنا عشر وسيظل هو الأساس إلى أن نراه منقوشاً على أساس أورشليم الجديدة (رؤ ١٤:٢١). ولم نسمع في كل الإنجيل عن أن الروح القدس حلَّ بدون إجراء الكنيسة أو أن إنساناً عمَّد نفسه !! وإلا فلماذا اختار الرب الاثني عشر ولماذا ظهر لهم خاصة وأوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم؟ وإلاَّ فلماذا وعدهم هم وحدَهم بأنهم سيعمَّدون بالروح القدس؟ أو لماذا سينالون هم وحدَهم قوة من الأعالي ليشهدوا له في البداية؟
إذاً، فليفهم القارىء والعالم كله أن الرب رتَّب اختيار الكنيسة بدقة متناهية ورتَّب الحوادث لتخدم كلها معاً قيام الكنيسة ممثَّلة في الاثني عشر بصورة أساسية، وأضاف عليها بعد ذلك من أضاف ولكن بواسطة الرسل الاثني عشر . وإننا نؤكد هذه الحقيقة ونصرّ عليها لأن هذا يتسحب على قانونية الكنيسة ولزومية وجودها وامتيازها الإلهي ممثلة في الرسل أولاً وكل مَنْ اختارهم الرسل ثم الأساقفة وهكذا. ووضع ق. بولس الرسول يؤكِّد هذا . فبالرغم من أن المسيح ظهر له وخاطبه وعيَّنه رسولاً للأمم، إلاَّ أنه لم يقبل الروح القدس من الرب من السماء مباشرة، بل تحتَّم أن يُرسل المسيح له – خاصةً وبرؤيا مُسْـبَقة – حنانيا أحد التلاميذ الذين تقبَّلوا العماد وحلول الروح القدس من يد الاثني عشر لكي يعمِّده ويضع يده عليه ل يحل الروح القدس.
يشذ عن هذه القاعدة حالة حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته أثناء صلاة بطرس الرسول بدعوة خاصة من االله، وحدث مع حلول الروح القدس تكلُّم بألسنة، وكان هذا إيذاناً بانفتاح السماء على الأمم لقبول الإيمان بالمسيح. وكان حلول الروح القدس قبل وضع اليد والمعمودية لإقناع الرسل أن الأمم شركاء في الميراث والجسد . ولكن بدون تدخُّل بطرس الرسول كان هناك استحالة لقبول الروح القدس . هنا أخذت الكنيسة ممثَّلة في الرسول بطرس نعمة الكرازة للأمم، وهذا ما اعترف به بطرس الرسول أثناء اجتماع الرسل في أورشليم في الأ صحاح الخامس عشر.
٢:٢ «وصارَ بغتةً من السماءِ صوتٌ كما مِنْ هبوبِ ريحٍ عاصِفَةٍ وملأ كلَّ البيتِ حيثُ كانوا جالِسِينَ .»
الروح القدس يعلن عن نفسه علناً آتياً من “السماء”، هذه أول آية shme‹on، والإعلان يجيء معبِّراً عن طبيعة الروح الخاصة حسب قول الرب عنه : «الريح (pneàma = الروح) تهبُّ حيث تشاء » (يو ٨:٣). ومن هنا كان «الروح» و«الريح» يحملان اسماً واحداً تمادياً في فهم طبيعة الروح القدس . والاسم بالعربية واضح التقارب روح وريح، أمَّا باليونانية فهو كلمة واحدة pneàma = الروح = الريح ومنها ءpno التي جاءت هنا . وقد جاءت pneàma في سفر حزقيال (٩:٣٧) بالتعبير الذي يجمع عمل الروح وعمل الريح معاً : «فقال لي تنبأ للروح pneàma، تنبأ يا ابن آدم وقُلْ للروح هكذا قال السيد الرب هلمَّ يا روح من الرياح الأربع وَهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا». ويُلاحِظ القارىء هنا التقارب بين الروح والريح، وقولهnللروح هُبَّ وكأنه للريح تماماً.
«من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت»:
فلينتبه القارىء أنها لم تكن ريحاً طبيعية ولا هواء ولا أية حركة طبيعية، ولكن صوتاً من السماء . فالصوت هو الذي ملأ البيت كله، أي كان مسموعاً من جميع الموجودين في البيت أنه آتٍ من السماء . والأرجح جداً أنه لم يكن صوتاً تسمعه الأُذن الطبيعية بل الأُذن الروحية المُهيَّأة أن تسمع للروح يقول إنه ملأ البيت ولحركته الداخلية، حتى أن القديس مار أفرآم السرياني برائحة عطرة، وطبعاً هذه الرائحة هي للذين يستنشقون الروح القدس ويميِّزونه. والصوت أو الرائحة الذي أو التي تملأ كيان الإنسان ليس من الضروري أن يكون للجميع بدرجة واحدة ولا هو لازمة من لوازم الروح القدس الحتمية، تأتي بمجيئه وتذهب بذهابه، بل إن الروح القدس أراد أن يعلن عن نفسه وعن وجوده وعن اندفاقه داخل النفس ال بشرية ويستحوذ على حواسها، وذلك للتأكيد الشديد على صدق وجوده وصدق عمله، حتى يثبِّت الإيمان به والتعلُّق بوجوده . وهذا واضح من قوله «بغتة» (= فجأة)، فهو لم يَسْرِ من غرفة إلى غرفة، بل انطلق من فوق ليملأ الكل مرة واحدة ليحس الجميع أنه افتقاد قد جاء من السماء . وما جعلهم يشعرون شعوراً طاغياً بحلوله بهذا الصوت وهذه المفاجأة دون أن يخافوا أو يتزعزعوا هو أنهم كانوا في حالة صلاة عميقة، صلاة دامت عشرة أيام وهي على أشد ما يمكن من الانتباه والانتظار .
«وملأ كل البيت»:
هنا لأول مرة نسمع عن أن الروح القدس يملأ المكان، والمكان هو المكان الذي كان يجتمع فيه الرب مع تلاميذه وأحبائه في أعياد الخمسين التي مرَّت . وها الروح القدس يدشِّنه اليوم بحضور نفس التلاميذ والجمع الذي حضر لصلاة العيد، التي فيها يصومون حتى تنتهي الصلاة في الساعة العاشرة صباحاً، ليجتمعوا ويتناولوا الأغابي معاً. هنا تقدَّس البيت والجميع والطعام معاً، كنيسة مكتملة الصورة والرب في وسطها حسب الوعد:
+ «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم .» (مت٢٠:١٨)
+ «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (مت ٢٠:٢٨)
٣:٢ «وظهَرَتْ لهم ألسنةٌ مُنقسِمةٌ كأنَّها من نارٍ واستقرَّتْ على كلّ واحدٍ منهم .»
هذه هي الآية الثانية. إذاً، فقد اكتملت مظاهر الروح القدس، الريح والنار، فإن كان الريح يكشف عن طبيعة الاختفاء المنبثَّة في الروح القدس : «الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل مَنْ وُلِدَ من الروح » (يو ٨:٣)، فهنا سماع الصوت الشديد الذي يعبِّر عن حلول الروح لأداء مهمَّته الخطيرة، ثم ظهور النار ليكشف عن طبيعة الروح وطبيعة الأداء الذي سيؤديه الروح كروح إحراق وتطهير : «جئت لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت » (لو ٤٩:١٢). وهذان معاً يدخلان ليكمِّلا الصورة والموضوع الذي سبق الرب وأعلن عنه لتلاميذه أنهم سيعمَّدون بالروح القدس وحسب قول المعمدان : «هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار» (لو ١٦:٣). وهو لم يقل “ألسنة من نار ” بل «كأنها من نار »، فهي تحمل شكل النار وليس فعلها الطبيعي الحارق، «إلهنا نار آكلة » (عب ٢٩:١٢)، تأكل الخطية وتأكل كل ما ينحاز ضد االله أو برِّه أو قداسته أو عدله فلا يوجد، وذلك لحساب طبيعته البارة القدوسة العادلة . ففعل نار االله إيجابي، هو يحرق السالب ليزداد الإيجابي ليزداد البر والقداسة وال حق والعدل .
وحينما يقول : «استقرت على كل واحد منهم » (من الاثني عشر ) فهذا يعني أن الروح الناري ارتاح في كيانهم الرسولي ليحوِّله إلى كيان قدسي «إنكم هيكل االله وروح االله يسكن فيكم» (١كو ١٦:٣)، يعمل فيهم ويعمل بهم بآن واحد ! لأنه قال بعد ذلك إنه لم يدخل فيهم بل ملأ كل واحد فيهم !! والملء بالروح هو احتلال الروح لكل الكيان ليصير كيان الإنسان كياناً الله، جسداً للمسيح !! الملء هو اتحاد : كيان بكيان . ومن هنا جاء التكلُّم بالألسن، فهو نُطق جسدي وروحي بآن واحد، فعل بشري إلهي بآن واحد، معجزة على المستوى البشري والإلهي بآن و احد.
بهذا يكون التلاميذ قد جازوا التعميد والتطهير والتقديس بواسطة الرب الحاضر غير المنظور وبروحه القدوس.
إذاً، فقد وُلدت الكنيسة في أشخاص الاثني عشر ! كياناً إلهياً واحداً، جسداً واحداً بأعضاء. فكما حل الروح القدس على العذراء وظلَّلتها قوة العلي حتى أن القدوس المولود منها دُعي ابن االله الوحيد، هكذا خطب المسيح لنفسه عذراء عفيفة بحسب تعبير القديس بولس وحلّ عليها بروحه القدوس وأعطاها قوة من الأعالي، والمولود منها هو شعبه المقدَّس والمفدي، كنيسته الجامعة الرسولية، كنيسة االله الحي. وكما لمَّا تعمَّد المسيح في النهر حلَّ الروح القدس واستقرَّ عليه بهيئة مجسَّمة مثل حمامة تعبيراً عن عمل ووظيفة حمامة نوح بشير السلام على العالم بعد الطوفان، هكذا تعمَّدت الكنيسة بالروح القدس وظهرت ألسنة الروح كنار منقسمة ومستقرَّة عليهم تعبيراً عن حلول الروح فيهم وتقديسهم وتطهيرهم ثم العمل بواسطتهم.
٤:٢ «وامتلأَ الجميعُ من الرُّوحِ القدسِ وابتدأُوا يتكلَّمون بألسنةٍ أُخرى كما أَعطاهُم الروح أن ينطِقوا».
هنا نحن أمام ظاهرة جديدة لعمل الروح القدس وهو الامتلاء الفورى مع النطق الفوري، إمَّا باللغة العادية وإمَّا بلسان يعطيه الروح القدس يكون غريباً عن لسان الشخص، وذلك كبرهان لعمل االله، أي معجزة تتناسب مع وظيفة التلاميذ الأُولى : وهي إمَّا الكرازة للعالم أجمع بلغاته المعروفة والأمثلة توضح ذلك : «حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم، يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل » (أع ٨:٤)، وفي نفس الأصحاح: «ولمَّا صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس وكانوا يتكلَّمون بكلام االله بكل مجاهرة» (أع ٣١:٤)، وأيضاً: «وأمَّا شاول الذي هو بولس أيضاً فامتلأ من الروح القدس وشخص إليه وقال … فالآن هوذا يد الرب عليك فتكون أعمى …» (أع ١٣: ٩و١١)، وإمَّا بلغة أخرى غير لغة الكارز وهي التكلُّم بالألسنة، وسيجيء ذكرها.
«وامتلأ الجميع من الروح القدس :»
في البداية يتحتَّم أن نعرف أن هناك ملئاً بالروح القدس يتمُّ في المعمودية مرة واحدة. كما يوجد ملءٌ آخر بعد المعمودية يتكرر كلما شاء الروح واحتاج الكارز . الملء الأول في المعمودية هو تقديس هيكل الإنسان للسكنى والإقامة: «أنتم هيكل االله وروح االله يسكن فيكم » (١كو ١٦:٣). وهذا الملء هو الذي يؤهِّلنا للشركة مع الروح القدس والمسيح، وبالتالي في عضوية الجسد أي الكنيسة . أمَّا الملء المتكرر فهو زيارة مفاجئة للروح القدس تتم في حدود عملية معينة يضعها االله على كاهل الكارز لإعلان حق االله والشهادة للمسيح.
كما أن هناك فرقاً بين حلول الروح القدس في القديم على الأنبياء والملوك وهذا قابل أن يفارق من يحلّ عليه؛ وبين حلول الروح القدس في العهد الجديد فهو للعمل في الداخل وهو الملء، وهذا قابل للإحزان وقابل للإطفاء، أمَّا الذي يزد ري به فلا خلاص له بل يوضع للهلاك.
والتكلُّم بالألسن أو اللسان له أشكال متعددة، فهنا في سفر الأعمال جاء بأوضح صورة وأقوى مفاعيله حيث يتكلَّم الرسول بلغة لا يعلمها وينطقها دون إرادته، فهذا إعلان صارخ عن وجود الروح القدس ونشاطه واشتراكه في الشهادة بقوة، لذلك سبق المسيح في إنجيل ق . يوحنا وقال : «ومتى جاء المعزِّي الذي سأرسله أنا إليكم … فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً (بآن واحد)…» (يو ٢٦:١٥و٢٧). كما أن هناك تكلُّماً بالألسن بلغة غير مفهومة تحتاج إلى مترجم كما سمعنا في (١كو ٢٧:١٤و٢٨). كذلك يوجد أيضاً تكلُّم بلسان لا يفهمه أحد ولا يفهمه صاحبه وهو مجرد انفعال بالروح، كما يوجد تكلُّم باللسان مزيَّف من الأرواح الشريرة، لذلك يقول ق . يوحنا: «أيها الأحباء لا تصدِّقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من االله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم »
(١يو ١:٤). أمَّا الاختبار فهو التأكيد من أن هذه الأرواح تشهد للمسيح وتنطق بعظائم االله.
«وامتلأ الجميع »:
«الجميع» هنا هم الاثنا عشر، وهم فقط الذين يمثلون الكنيسة الرسولية الواحدة، أي الجسد الواحد، ولكن كل واحد نال هذا الملء، فهو ملء لكل رسول ونفس الملء للاثني عشر . وهنا تظهر الوحدة المقدَّسة التي ربطت الكل في الواحد . والواحد هو الروح القدس والمسيح . هذه هي الشركة المقدَّسة بالروح الواحد في الروح الواحد، وهي بعينها الوحدة معاً وفي المسيح بالروح القدس : « أنتم فيَّ وأنا فيكم» (يو ٢٠:١٤). وهكذا نفهم ونتيقَّن أن أصل وحدة الكنيسة هو الملء من الروح القدس لكل فرد كالآخر . نقول، ملء كل فرد من الروح القدس وملء كل واحد كالآخر، هذا هو أساس سر الوحدة في الكنيسة وبالتالي سر الشركة في المسيح. واضح أيضاً من هذا أن وحدة الكنيسة ليست وحدة مصنوعة أو مركبة، بل وحدة إلهية مصدرها الملء من الروح الق دس من فوق الذي هو بعينه ملء التجديد، ملء الخليقة الجديدة . وبالنهاية يمكن الآن أن نقول بكل ارتياح ويقين إن وحدة الكنيسة هي بعينها الخليقة الجديدة ممثَّلة بالاثني عشر . فإن كانت الكنيسة هي الخليقة الجديدة فهي الملكوت، ملكوت المسيح على الأرض الذي يضم، بواسطة الرسل أو تعليم الرسل أي الإنجيل، كل الذين يخلصون ليكونوا بالنهاية مع المسيح كل حين .
وكل مَنْ امتلأ بالروح القدس بعد ذلك بتعليم الرسل والإنجيل ثم بالمعمودية والصلاة مع الصوم والطلبة التي مارسها الرسل الاثنا عشر، كنموذج حتمي لمن يريد أن يحل عليه الروح القدس و يملأه، فإنه يتأهل للاتحاد بالمسيح إذ ينال نفس الملء الذي في الكنيسة . فنقول عنه – بعد أن يشترك في جسد الرب ودمه – إنه اتحد بجسد المسيح، أي الكنيسة، وصار عضواً في الجسد الواحد، حتى أن ق. بولس تجرأ ونقلها نقلة واحدة غاية في العلو والسمو والسرِّية فقال : «لأننا
أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه » (أف ٣٠:٥)!! فالاتحاد ليس بالتصوُّر ولا بالعقل ولا حتى بالافتراض حسب منطوق الإيمان أو التعليم، ولكنه اتحاد واقعي صنعه المسيح في نفسه قبل أن يمنحه بالسر لنا، فقد اتحد لاهوتياً بلحمنا وعظامنا بتجسده، فصار لحمه لحمنا وعظمه عظمنا، وبالتالي صار بلاهوته متحداً بنا، فصرنا متحدين بلاهوته بعد أن اتحد هو بناسوتنا . وصدقت أحجية
الكنيسة التي نرددها في التسبحة : «هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له فلنسبحه ونمجده ونزيده علواً » ( ثيئوتوكية الجمعة )!! فإن كان هو الذي تنازل وأعطانا، فكيف لا نتجرأ ونأخذ؟!
ولكي يعلن الرب عن امتلاء الكنيسة بالروح القدس الذي بحسب وعده المبارك أنه – أي الروح القدس – يأخذ مما له ويخبر رسله القديسين قال: «مَنْ غفرتم خطاياه تغفر له ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت » (يو ٢٣:٢٠). إذاً فالملء بالروح القدس تحدَّدت له وظائفه في الاثني عشر، والذين بدورهم سلَّموها لمَنْ استأمنوهم على الروح القدس ووظائفه.
«ابتدأوا يتكلَّمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا :»
هنا وضحت فاعلية الروح القدس في الاثني عشر، فهم وهم جليليون أي أُميّون لا يعرفون اليونانية إلاَّ القليل – بدأوا أو شرعوا، على وجه الأصح، يتكلَّمون بلغات أخرى، لا كما هم يعرفون، ولكن كما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا . بمعنى أن الروح القدس استخدم ألسنتهم كأداة يتكلَّم بها هو بحسب ما يرى وحسب ما يريد أن يتحدَّث إلى السامعين الذين يقصدهم . هذا وضع جديد للغاية، فالإ نسان بدأ يتكلَّم ليس بما عنده ولا بما يفهمه أو يعقله أو بما يريده، بل كما يرى الروح ويشاء.
ويصفها مرقس الرسول بفم المسيح هكذا : “ويتكلَّمون بألسنة جديدة” (مر ١٧:١٦).
وفي الحقيقة إن كلمة «جديدة» هنا تأتي شارحة معنى المعجزة، فهي ليست لغة حسب إمكانيات أو قدرات الإنسان، فهو لا يتعلَّمها ولا يستذكرها ولا يتمرَّن عليها حسب أصول التعليم والنطق والدراسة البشرية العادية أو القديمة، ولكن بحسب مواهب الإنسان الجديد بمواهبه الجديدة التي يخدم بها الحياة الجديدة.
وكما أن الإنسان الجديد يولد من ا لروح فجأة، هكذا ينطق بلغة جديدة فجأة، هي ليست لغته القديمة ولم يسبق له أن تكلَّم بها أو عرفها أو فهمها . فهي ليست فقط لغة أخرى ولكنها لغة جديدة فهي بالحري لغة جديدة أخرى، أو لغة أخرى جديدة . وهنا الجدّة ذات معنى عميق فهي لغة لا تتبع لغة الإنسان القديمة ولا تتبع طبيعته القديمة بل وليست على أصول بشرية بالمرة بل من فعل إلهي.
هذه الموهبة لم يقصد بها االله أن يستخدمها الرسل أو البشيرون لمخاطبة كل بلاد العالم بلغتهم، بل أعطاها االله كآية وكمعجزة يُفهم منها أنهم مدعوُّون لكرازة العالم كله بكل لغاته . ولكن دون أن يحملوا همَّ اللغة، فهو كفيل بأن يجعلهم يكرزون وينجحون بإمكانياتهم العادية، لذلك وجدنا أن هذه الموهبة لم تتعدَّ زمانها الأول الذي جذبت فيه أنظار الأمم وإيمانهم، ولم يتبقَّ منها إلاَّ نماذج قليلة لتبرهن عن صدق حدوثها.
وقد ثبت فعلاً أن الكرازة لم تتم بالنطق بالألسن، فقد كانت اللغة اليونانية ومعها العبرية أو الأرامية كافية جداً لنشر الإنجيل بين الأمم، وأكبر مثل لذلك كرازة ق. بولس. فبالرغم من أنه كان حائزاً على موهبة التكلُّم بالألسن إلاَّ أنه لم يكن يحتاج إليها قط في كرازته.
وهكذا بقيت في العصر الرسولي كمعجزة للروح القدس تشهد ليوم الخمسين، وتشهد بالدرجة الأُولى أن المسيحية هي ديانة كل بلاد العالم ولغاته . لأنه إن كانت المسيحية قد نطقت بالروح على يد رسلها الاثني عشر الكارزين بلغات العالم أجمع، فقد أصبح العالم كله هدفها.
لذلك فموهبة التكلُّم بالألسن لم تدخل التاريخ كعنصر أساسي للكرازة ولكنها بقيت موهبة قائمة بحد ذاتها، بدأت مع العماد ووضع اليد ولكنها صارت بعد ذلك موهبة (خارزما) مع بقية مواهب الكنيسة: «ولكنه لكل واحد يُعطي إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة ولآخر ترجمة ألسنة، ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد » (١كو ٧:١٢-١١)، «ألعل الجميع يتكلَّمون بألسنة»؟ (١كو ٣٠:١٢). لاحِظ هنا أن القديس بولس جعلها آخر المواهب.
ولكن قد تتحوَّل هذه الموهبة تحولات لا حصر لها، فقد يدخل المتكلِّم باللسان في حالة اللاوعي أي الغيبوبة ويصير كلامه غير مفهوم، فلا يصبح كلاماً للفائدة، وقد يتدخل الشيطان ويحوِّل التكلُّم باللسان إلى خداع . من أجل هذا لم تعد الكنيسة تحتضن هذه الموهبة أو تشجِّع عليها، ولكنها موجودة.
أمَّا بالنسبة للرسل في يوم الخمسين، فكان في الكلام الجديد تأثير خاص من الروح يستخدمه لإقناع السامعين وتبكيتهم ليفتح أمامهم باب التوبة وطلب المزيد من معرفة االله:
+ «فلمَّا سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل . ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة.» (أع ٣٧:٢)
ولا يظن القارىء أن الأمر كان يتعلَّق بجملة من هنا وجملة من هناك بلسان مَلْوِىّ يُفهم نصفه ويسقط الباقي عن الفهم . كلاَّ، فبطرس الرسول وقف مع الأحَد عَشَرَ في حشد من يهود الشتات من كل أمة ولسان تحت الشمس وأخذوا يخاطبونهم بلسان كل شعب وكل لغة، والكل فَهِم ما يقوله الروح بلغتهم التي وُلِدُوا فيها، وظلُّوا يتكلَّمون بصحو الروح ربما ساعة أو يزيد : «وتحيَّروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلَّمون بلغته، فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض أترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين . فكيف نسمع نحن كل واحد منَّا لغته التي وُلِدَ فيها : فرتيون وماديون وعيلاميون … إلخ إلخ …» وآخرهم العرب، خمس عشرة لغة، «فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته – بلسان) – وقال لهم أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون (يهود الشتات بلغاتهم)… إلخ.» (أع ٥:٢-١٥).
ونحن هنا مرة أخرى فوق مستوى كلام االله للأنبياء قديماً، فكان الروح القدس يحل عليهم من الخارج وتأثيراته كانت كلها في الظاهر كما وَصَفَها حزقيال النبي «كانت عليَّ يد الرب» (حز ١:٣٧). ولكن في يوم الخمسين حلَّ الروح القدس وملأ الداخل وملك الفكر والنطق والتعبير وتكلَّم فيهم وبواسطتهم : «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأمَّا أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» (يو ١٧:١٤).
في القديم كان عمل الروح القدس في الخارج ومن الخارج كقوة مؤقتة وغير ثابتة، أمَّا بعد يوم الخمسين فصار عمله من الداخل ويبقى ويدوم بانسجام واتحاد وسكنى: «ويكون فيكم» (يو ١٧:١)، «أما تعلمون أنكم هيكل االله وروح االله يسكن فيكم» (١كو ١٦:٣). هذا ليس من فراغ أن يحل الروح القدس ويملأ ويسكن ويتحد، فهو “روح المسيح ” والمسيح سبق ودخل وملأ واتحد بمؤمنيه : «في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم » (يو ٢٠:١٤)، «مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه » (يو ٥٦:٦)، «فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي » (يو ٥٧:٦)، «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ.» (غل ٢٠:٢).
إذاً، فدخوله وم لؤه تحصيل حاصل أَوْجَبَه المسيح للذين آمنوا واتحدوا به. والمسيح نفسه جعل هذا المستحيل، أي أن يملأ روح االله القدوس الإنسان ثم يتحد به، جعله واجب الحدوث حينما اتحد لاهوته بجسد إنسان، فأصبح الروح القدس روح الإنسان يسوع المسيح مع روحه البشري، فبعد أن تمجَّد المسيح واستعاد كل أمجاد بنوَّته وجسد الإنسان فيه، نالت البشرية فيه ذروة الكمال وصارت بحكم كمالها منفتحة على البشرية التي فداها المسيح لنفسه وصالحها مع أبيه، ليعبر
الروح القدس إليها، لتؤهَّل بدورها للاتحاد بابن االله في هيئة كنيسة تركزت فيها هذه المواهب والإمكانيات.
ونحن نرى أن كل ما قاله يوئيل النبي بالنبوة سابقاً ها هو يتحقق يوم الخمسين . فالروح القدس انسكب على الرسل فتكلَّموا بكلام االله دون أن يدروا بما ينطقون، لأن الروح القدس كان هو الناطق بواسطتهم، وأكبر دليل على ذلك أنهم تكلَّموا بلغات يجهلونها لم ينطقوها سابقاً ولا تعلموها ولا يعرفونها . وبذلك صار مثلهم كمثل مَنْ يتكلَّم في رؤيا أو في حلم . وخاصية التكلُّم في الرؤيا أو في الحلم لا تكون خاضعة للعقل الواعي. وهكذا صارت مواصفات انسكاب الروح كما وصفها يوئيل النبي: يرون رؤى وأحلاماً.
لهذا بعدما انسكب الروح القدس على الاثني عشر وامتلأوا منه، تكلَّموا بألسنة – أو هو على الأصح لسان واحد هو لسان الروح القدس الناطق بكل اللغات – هؤلاء أُعطوا من االله أن يعمِّدوا الناس بالماء، وعندما كانوا يضعون أيديهم على المعمَّدينركان يحل عليهم الروح القدس. وكانوا يتنبأون، أي يتكلَّمون باللسان في الحال والتوِّ، ويرون الرؤى والأحلام، رجالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وشبانٌ وعبيدٌ وإماءٌ، لا فرق، ويهود وأمميون لا فرق أيضاً كما صرَّح بذلك بطرس الرسول وشهد:
+ «فلما ابتدأت أتكلَّم حلَّ الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداءة .
فتذكرت كلام الرب كيف قا ل إن يوحنا عمَّد بالماء وأمَّا أنتم فستُعمَّدون بالروح القدس (االله هو المعمِّد بالروح). فإن كان االله قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضاً بالسويَّة مؤمنين بالرب يسوع المسيح فمَنْ أنا . أقادر أن أمنع االله . فلمَّا سمعوا ذلك سكتوا وكانوا يمجدون االله قائلين إذاً أعطى االله الأمم أيضاً التوبة للحياة.» (أع ١٥:١١-١٨).
وهكذا حلَّ الروح القدس على الرسل وتنبأوا وتكلَّموا بلسان (الروح)، وعمَّدوا بقية الشعب والأمم فانسكب عليهم الروح بالسوية وتكلَّموا بألسنة:
+ «فبينما بطرس يتكلَّم بهذه الأمور حلَّ الروح القدس على جميع الذين ك انوا يسمعون الكلمة، فاندهش المؤمنون (اليهود) الذين من أهل الختان كل مَنْ جاء مع بطرس. لأن موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأمم أيضاً لأنهم كانوا يسمعونهم يتكلَّمون بألسنة، ويعظمون االله.» (أع٤٤:١٠-٤٦).
وهكذا وسَّع االله تُخُم الكنيسة من الجسد الواحد للرسل المملوئين من الروح الواحد إلى جسد يلتحم فيه كل مَنْ اعتمد وحل الروح القدس عليه وامتلأ بذات الملء واتحد، كعضو في الجسد الواحد بمقتضى الملء الواحد . فأصبحت الكنيسة حقاً وبالحقيقة الجسد الواحد المملوء بالروح القدس المتكلِّم بلسان االله والناطق بعظائم االله والشاهد للمسيح:
+ «فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس .» ( أع٤١:٢)
+ «وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون.» (أع ٤٧:٢)
فلو عدنا بالفكر إلى معمودية المسيح في نهر الأردن على يد آخر الأنبياء وأعظمهم، ورأينا كيف بعد أن مسحه االله بالروح القدس والقوة انطلق ينادي بقرب ملكوت االله، والآن وبعد أن قام من الأموات وسكب الروح القدس من عند الآب – وهو روحه بآن واحد – على الرسل الذين اختارهم لنفسه ومُسحوا هم أيضاً بالروح والقوة، انطلقوا بدورهم يكرزون بملكوت االله الذي انفتحت أبوابه “عن سعة .” فإن صحَّ القول أن البشرية في المسيح قبلت عمادها الأول بالماء على الأردن، فهنا وفي يوم الخمسين قبلت عمادها بروح الموعد القدوس، موعد الآب وروحه، وهكذا وُلِدَت الكنيسة الله في
يوم الخمسين – بشرية جديدة تحيا بالروح – بشبه عريسها، وقدَّمها الآب لابنه عروساً أبديةً، وهي الآن تكمِّل رتبتها بشهدائها وأتقيائها القديسين:
+ «وتكلَّم معي قائلاً هلمَّ فأُريك العروس امرأة الخروف . وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عالٍ وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدَّسة نازلة من السماء من عند االله لها مجد االله … وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.» (رؤ ٩:٢١-١١و١٤).
٥:٢-٧ «وكان يهودٌ رِجالٌ أتقياءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تحت السماءِ ساكنينَ في أُورشليمَ . فلمَّا صار هذا الصوتُ اجتَمَعَ الجمهُورُ وتحيَّروا لأَنَّ كلَّ واحدٍ كان يسمعهم يتكلَّمونَ بِلُغَتِهِ، فَبُهِتَ الجميعُ وتعجَّبوا قائلينَ بعضهُم لبعضٍ أَتُرى ليس جميعُ هؤلاءِ المُتكلِّمينَ جليليينَ .»
وهذا هو عمل االله المنسَّق البديع، فقبل أن يحل الروح القدس كان االله قد أعدَّ نوَّاباً عن كل شعوب الأرض ولغاتها ليروا ويسمعوا ويؤمنوا ويذهبوا ليخبروا ويشهدوا كرسالة يحملها هؤلاء اليهود والمتهودون الأتقياء الآتون من كل بقاع العالم المتمدِّن آنذاك. ١٥ دولة بخمس عشرة لغة جاءوا مدفوعين بحب وطنهم يتزوَّدون بزاد عواطف أهاليهم وذويهم ومنظر هيكلهم وبهاء عبادتهم وعظمة قدسهم: «لأن عبيدك قد سُرّوا بحجارتها وحنُّوا إلى ترابها » (مز ١٤:١٠٢)، ولكن كان الروح وراء حنينهم يدفعهم بحنين أعظم وأبقى، حنين الروح إلى مواطن الروح والتزوُّد بزاد النعمة لحياة تدوم. جاءوا من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ حُجَّاجاً على الأقدام ورُكْبَاناً، فكان يوم الخمسين وكان حلول الروح القدس بجلاله، وكانت أصوات الرسل تم جِّد االله بكل اللغات وتشق عنان السماء . خرجوا مذهولين، واجتمعوا مدهوشين متحيِّرين، شيء لم يُرَ ولم يُسمع عنه قط . جليليون أُميُّون ينطقون اليونانية بأفضل من أبنائها، بل وباللاتينية والمصرية والعربية وبكل اللهجات التي قلَّ مَنْ يعرفها، يسبحون االله ويهتفون للحي، ويشهدون للمسيح الذي مات وقام وسكب هذا السيل من المواهب واللغات.
«يهود رجال أتقياء »
كان هذا اللقب الجميل يخلعه اليهود على إخوتهم الذين في الشتات الذين يتجشمون مشاق الحج إلى أورشليم : اليهود منهم والمُتهوِّدون على حد سواء، لأن السفر كان مكلِّفاً ومضنياً للغاية فلا يقوى عليه إلاَّ مَنْ كانت روح التقوى قد استبدَّت به وروح العبادة استعبدته لحسابها فكنز لها كل ما كنز من أموال وهدايا . فبالرغم مما يُشاع عن اليهود أن المال عندهم يقيِّم كل شيء حتى التقوى، إلاَّ أن هؤلاء الأتقياء كانوا يوزعون أموالهم على فقراء اليهود وخدَّام الهيكل. فكانوا – لهذا السبب. – محبوبين للغاية لدى المواطنين وخدَّام الهيكل.
«ساكنين في أورشليم :»
كان هؤلاء الحجاج الآتون من مشارق الأرض ومغاربها غالباً ما يقضون الخمسين يوماً من عيد الفصح إلى عيد الحصاد في أورشليم، يسكن ون فيها ليُشبعوا عاطفة الحنين نحو أرض الوطن ويرتاحوا من وعثاء السفر، فكانوا يجولون في المدينة ليتعرَّفوا على كل شيء فيها ويتمتَّعون بكل ما يسمعون، لذلك ما أن تبادر إلى أسماعهم هذه الضجة الكبرى إن من صوت الريح الذي عصف أو من أصوات المهلِّلين لما تثقَّلوا بنعمة الروح القدس وشدة قوته وأخذوا يمجِّدون االله بكل اللغات، وكأن الروح القدس قد وضع في أفواه هؤلاء الناطقين بالروح أبواقاً تشد انتباه القوم وتجمعهم للسماع، وما تبقَّى كان يقوم به الروح القدس نفسه من نخس القلوب ووخز الضمائر لتوبة ودعوة لحياة جديدة بقبول الإيمان الذي يلقي الروح بذرته في القلوب وفي الألسنة بآن واحد: «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم » (أع ٣٧:٢). وهكذا حملت القلوب بذرة الإيمان عن انعطاف شديد وبرهان العيان إلى كل بلد وكل أمة، وابتدأ الإيمان يزحف نحو البلاد البعيدة كشروق الفجر بعد ليل طال ظلامه لينير على الجالسين في الظلمة وظلال الموت.
٨:٢-١١ «فكيفَ نَسمَعُ نحنُ كلُّ واحدٍ منَّا لُغَتَهُ التي وُلِدَ فيها . فَرتِيُّونَ ومادِيُّونَ وعِيلاميُّونَ والساكنونَ ما بينَ النهرينِ واليهوديَّةَ وكَبَّدُوكيةَ وبُنتُسَ وأسِيَّا وفريجيَّة وبمفيليَّةَ ومِصْرَ ونواحي ليبيَّة التي نحو القيروانِ والرُّومانيُّونَ المستوطِنُونَ يهودٌ ودُخلاءُ كريتيُّونَ وعربٌ نسمعهُم يتكلَّمون بعظائمِ االلهِ .»
يُلاحَظ أن المذكورين هنا كلهم يهود أو متهودون، لذلك بالرجوع إلى البلاد التي ذكرها ق . لوقا هنا نجد أنه أسقط أسماء بلاد كثيرة أو مقاطعات بجملتها وهي التي لم يكن فيها يهود . كما يلاحَظ أن أول البلاد التي ذكرها فرتيون وماديُّون وعيلاميون هي المناطق الشرقية التي سُبي فيها الشعب – العشرة الأسباط – ومعظمهم بقي هناك ولم يعد من السبي، أمَّا سبي بابل خاصة الذين استوطنوا هناك كانت لهم مدرسة لاهوتية خاصة، لها أفكارها ومبادئها الخاصة المأخوذ بها لكثرة علمهم، والذين عُرفوا بيهود ما بين النهرين أو يهود بابل، وكان تأثيرهم شديداً على أهل شمال الفرات فتهوَّد كثير منهم، كذلك الذين استوطنوا أنطاكية وأخذوا حق المواطنة وفي أسِيَّا خاصة على الشواطىء الغربية، كانت لهم جالية من أكبر الجاليات، ولهم مدرسة ووجود وتأثير، ولكنهم كانوا يهوداً منحلين ويقول عنهم سفر الرؤيا مخاطباً فيلادلفيا: « هأنذا أجعل الذين من “مجمع الشيطان ” من القائلين إنهم يهود وليسوا يهوداً بل يكذبون، هأنذا أصيِّرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك ويعرفون أ ني أنا أحببتك » (رؤ ٩:٣). كذلك فإن يهود بمفيلية وفريجية وغلاطية والبنتس كانت الجاليات اليهودية هناك لها تأثير كبير وهوَّدت كثيرين . كذلك قبرس حيث كانت لهم جالية كبيرة وخطيرة قامت بثورة أيام حكم تراجان، وذبحت مئتين وأربعين ألفاً من مواطني قبرس وذكرها المؤرخ ديوكاسيو ولكن يهود قبرس عادوا وقبلوا الإيمان المسيحي وساعدوا كثيراً في نشر الإنجيل. ولا يمكن أن ينسى التاريخ المسيحي برنابا (يوسف برناباس ) وهو لاوي يهودي أصلاً قبرسي الجنس وهو خال مرقس وهو الذي قاده في رحلته إلى مصر.
فإذا جئنا إلى يهود مصر فنحن نكون أمام أقوى جاليات العالم وأهم يهود الشتات بلا نزاع . فهم الذين قاموا بأهم ترجمة للعهد القديم من العبرية إلى اليونانية. وهي التي عُرفت باسم الترجمة السبعينية . وكان عددهم مليوناً بحسب تحقيق العالم اليهودي فيلو الإسكندري الجنس، وكان لهم في الإسكندرية حيٌّ يهوديٌّ بأكمله يقتطع من الإسكندرية الكبرى قسمين من خمسة أقسام مساحة المدينة. وأهميتهم هي في مقدرتهم اللاهوتية ذات الطابع الأفلاطوني الليبرالي التي وقفت لتصل بين الهيللينية واليهودية وكان يمثِّلها العلاَّمة فيلو . ولكنهم في سنة ٣٧-٣٨ عانوا اضطهاداً مرعباً على يد مواط ني الإسكندرية الأمميين، والذي بسببه أرسلوا فيلو زعيمهم إلى روما ليرفع شكواهم إلى الإمبراطور كاليجولا. ولا يغيب عن بالنا هنا أبلُّوس فهو يهودي إسكندري الجنس من هذه الجماعة، ونذكر فلسفته وقدرته على المحاجاة، وكيف تعمَّد على يدي أكيلا وبرسكلا وقام وبشَّر بالإنجيل وكان حاراً بالروح وناجحاً . وكثيرون يُعْزُون إليه كتابة سفر العبرانيين، ولكن هذا غير معترف به . ويُظن أن القديس استفانوس هو أيضاً ربيب مدرسة الإسكندرية اليهودية. أمَّا ليبيا وأهم مدنها القيروان فقد أمدَّتنا بيهود قبلوا الإيمان وصاروا قديسين وأئمَّة. ولا يمكن أن ننسى سمعان القيرواني حامل صليب المسيح، ولوكيوس النبي في أنطاكية وأيضاً القديس مرقس كاروز الديار المصرية، وقد كان لهم مجمع خاص بهم في أورشليم.
أمَّا يهود روما فكانوا أصلاً ضمن الأسرى الذين أسرهم بومبي من أورشليم سنة ٦٣ ق.م، وقد تحرَّروا بعد ذلك وكوَّنوا مجمعاً ولكن بعدد متواضع، وعلى المدى كوَّنوا جالية أصبحت ذات تأثير كبير حتى على رجال الحكم. ولكن ضعفت شوكتهم بعد أن طردهم كلوديوس. ثم عادوا وكوَّنوا لهم جالية كانت ممثَّلة في أورشليم تمثل أهل روما: الليبرتينيين.
أمَّا الكريتيون فكانت الجالية اليهودية هي أساس تكوين الكنيسة هناك التي أقام عليها ق. بولس تيطس أسقفاً. وأمَّا العرب سواء شرق الأردن أو جنوبه فكان ملكهم أريتاس (الحارث انظر ٢كو ٣٢:١١)، وكان متعاهداً مع اليهود . وكانت عاصمته بِتْرا، وصنع لنفسه إمبراطورية، وزحف واستولى على أنطاكية في سوريا . وقد تزوج هيرودس أنتيباس رئيس ربع الجليل بنت أريتاس العربي ثم طلَّقها وأخذ عوضاً عنها هيروديا امرأة أخيه. وقامت حرب بين هيرودس هذا وأريتاس العربي، وقد هُزم هيرودس على يد أريتاس العربي، فالتجأ إلى روما التي أسقطته من الحكم. ولكن سرعان ما انقلبت روما على العرب في و قت كتابة سفر الأعمال، وقد أرسل أوغسطس قيصر بعثة إلى بلاد العرب هُزمت أولاً، ثم عادت حكومة روما فأرسلت جيشاً سنة ٧٠م تغلغل جنوباً وهزم العرب واستولى على عدن.
١٢:٢و١٣ «فتحيَّر الجميعُ وارتابُوا قائلينَ بعضُهُم لبعضٍ ما عسَىَ أن يكونَ هذا، وكان آخرونَ يستهزئُونَ قائلينَ إنَّهم قد امتلأُوا سُلافَةً .»
«فتحيَّر الجميع وارتابوا ُ»
الترجمة العربية جانبها الصواب، فالمعنى الصحيح بحسب اليوناني «اندهشوا وتحيَّروا» وذلك بحسب العلاَّمة ماير = astonished and perplexed. لأن المعجزة غير العادية تُحدث أولاً اندهاشاً لأول وهلة، ثم بعد تفكير لا يجد الإنسان لها حلاً معقولاً وحينئذ تكون الحيرة . فالحيرة تأتي بسبب توقُّف الفهم أو استخدام العقل . ولكن لا يوجد في الأصل اليوناني ما يفيد الارتياب.
«يستهزئون»:
تأتي بالأكثر بمعنى “يسخر من”، حيث السخرية يكون لها تشبيه، والتشبيه هنا أنهم سكارى، والرجل السكران مصدر سخرية أكثر منه مصدر استهزاء . والسبب أن بعض السامعين كانوا لا يفهمون الكلام لأن التكلُّم بالألسن لا يعني التكلُّم بلغة أدبية ولكن بلغة يفهمها أصحابها بصعوبة، لأن المتكلِّم لا يجيد النطق مائة بالمائة . فهنا إمَّا أن السامع يكون جاداً فيصغي باهتمام ليتبين الكلام فيفهمه، أو غير جاد وغير مهتم فيفوت عليه الكلام وكأنه كلام إنسان سكران لا يُفهم.
«امتلأوا سُلافَةً :»
الكلمة اليونانية التي تُرجِمت إلى «سُلافَةً» في طبعة بيروت، تعني العنب المختمر حديثاً حيث تكون نسبة السكر فيه عالية لم يكمل اختمارها بعد أو أُوقف تخميرها دون الحد النهائي، لذلك يكون حلو المذاق، لأن الكلمة تعني حلو وتعني سكر العنب (ومنها كلمة الجلوكوز).
وينبغي أن ندرك لماذا عثر هؤلاء القوم في المتكلِّمين بالروح بالألسنة الأخرى، إذ أن الذين يتكلَّمون كانوا يتنبأون لأن حلول الروح القدس في البداية كان يصحبه التنبؤ بلسان آخر : «فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع، ولمَّا وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبأون.» (أع ٥:١٩و ٦)
خطاب بطرس الرسول [١٤:٢-٤٠]
«روح الحق … يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً
لأنكم معي من الابتداء» (يو ٢٦:١٥ و٢٧)
هذه أول شهادة يقدِّمها بطرس الرسول، على خلفية ناطقة من الروح القدس. حينما انسكب الروح القدس يوم الخمسين وطفق الرسل يتكلَّمون بألسنة جديدة ويشهدون ويعظِّمون االله علناً، تجمَّع سكان أورشليم اليهود الآتون من كل بلاد العالم. وهكذا صنع الروح القدس الخلفية اللازمة لكي تنطلق منها الشهادة ويتم قول الرب: «روح الحق … يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً.» (يو ٢٦:١٥و٢٧).
المناسبة، تحليل الخطاب:
يبدأ من الواقع المنظور والمسموع لما هو حادث أمام أعينهم، فالرسل الجليليون الأميُّون يتكلَّمون ويعظمون االله بكل لغات الأمم آنئذ، خمس عشرة لغة لخمس عشرة دولة شرقاً وغرباً . ويعود بالحادث أمام أعينهم إلى النبوة التي سبقت ووصفت ما هو حادث ووصفت زمانه وهي نبوة يوئيل النبي، ثم يستخرج من الواقع ومن النبوة أهمية هذا الحادث الفريد ومعناه والظروف التي أدَّت إليه : كيف رفضوا المسيَّا وقتلوه، وكيف قام وسكب الروح القدس حسب الوعد (مستشهداً بالمزمور الذي ينص على موت داود وعدم فساد جسد “القدوس )” ، فلمَّا فسد جسد داود وصار تراباً تثبَّتت النبوَّة على أنها تخص المسيَّا وليس داود، إذ أن االله أقام المسيَّا “يسوع” من الموت ولم يَرَ جسده فساداً إذ قام به . ثم سكب الروح القدس الذي سبق فوعد به قبل موته، وهكذا ثبت أنه المسيَّا . فلمَّا تحرك السامعون مصدقين الكلام طالبين ماذا يعملون، طالبهم القديس بطرس بالتوبة والمعمود ية باسم يسوع المسيح ليدركوا حقيقة كل شيء لينالوا الروح القدس الذي هو موعود به لهم ولأولادهم . فآمنوا واعتمدوا واشتركوا في عطية الروح القدس وبدأوا حياة جديدة، وبحياتهم الجديدة بدأت الكنيسة تنمو وتزداد.
ولتصديق كل ما قاله ق . بطرس فحص العلماء لغة هذا الخطاب وكلماته فوجدوها مطابقة لكلام بطرس الرسول ولغته واصطلاحاته التي وردت في رسالته الأُولى لأهل الشتات اليهود والمتهوِّدين.
ولكي يستوثقوا أن ق . لوقا إنما كتب عن صحة ونقل عن واقع حي فحصوا الكلام مرة أخرى فوجدوه باصطلاحاته اللاهوتية أقدم من زمن ق . لوقا والكلمات هي الكلمات التي نطق بها الرسل منذ بدء قيامة المسيح والشهادة له . ولكن كان ق . لوقا – بآن واحد – مسئولاً مسئولية كبرى عن صحة ما يقول وينقل لاهوتياً، فالناقل إن لم يكن لاهوتياً بواقعه لاستحال عليه النقل الصحيح الدقيق. نفهم من ذلك أن ق. لوقا كاتب سفر الأعمال هو لاهوتي بالدرجة الأُولى . ثم فحصوا ما قاله ق . بطرس على أساس ما استشهد به من النبوات وكيف عالجها وشرحها، ومدى الاستنارة التي طبَّق بها، فوجدوا أن هذه استحالة أن يكون بطرس «الجليلي» على هذا المستوى من الاستنارة، فظهر في الحال صدق قول الرب للرسل: «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو ٤٥:٢٤). فلولا هذه النعمة التي وهبها المسيح بعد قيامته لهؤلاء الرسل لما استطاع ق. بطرس أو غيره من الرسل أن يبلغوا هذا المبلغ من المهارة والقدرة العجيبة في استخدام النبوات وشرحها لحساب الشهادة للمسيح.
خطاب بطرس الرسول:
ينقسم الخطاب إلى ثلاثة أقسام، كل قسم منها يبتدىء بمخاطبة خاصة للسامعين وينتهي باستشهاد من الكتاب وخاتمة عملية:
القسم الأول :(١٤:٢-٢١)
الحدث الظاهر أمامهم الذي استدعى أن يتكلَّم أمامهم، تقبُّله أن يكون رجلاً جليلياً (عد ٧) يخاطب الجموع يهود اليهودية وكل الساكنين في أورشليم ويرد على استهزاء البعض بأنهم سكارى أن
الوقت من النهار ليس ميعاد سُكْر، فهو كلام ليس بالخمر ولكن بالروح القدس.
القسم الثاني :(٢٢:٢-٢٨)
يشرح لهم عمل الرب «يسوع» أنه كلمة الإنجيل المرسلة إليهم كشعب مختار، «رجال إسرائيل » وأنها «شهادة يسوع » (رؤ ١٠:١٩)، شهادة حياته وموته وقيامته.
القسم الثالث :(٢٩:٢-٣٦)
شرح القيامة كحقيقة تدعمها النبوة، وأنها الحقيقة التي يشرحها عملياً انسكاب الروح القدس . فهذه الحقيقة هي هبة وهي التي تبرهن أن المسيح هو الرب رجاء الموعد المنتظَر بفارغ الصبر لإسرائيل، وهي التي ستجمعهم كإخوة حقاً فهي موهبة الأُخوَّة .
دعوة للتوبة والمعمودية لكل فرد على حدة (٣٧:٢-٤٠):
كوسيلة لنوال غفران الخطايا وقبول عطية الروح القدس، هذه التي يرونها التي هي بلا حدود، مع التحذير من الاستعفاء .
وعلينا لكي نلمَّ بهذا الخطاب أن نضم عظات بطرس الرسول الأخرى:
- التي ألقاها على اليهود (١٢:٣-٢٦).
- والتي ألقاها على الأمم (٣٤:١٠-٤٦).
- ثم عظة بولس الرسول لليهود أيضاً (١٦:١٣-٤١).
القسم الأول من الخطاب [١٤:٢-٢١]
موضوعه “الروح القدس” من واقع الحال
١٤:٢ «فوقفَ بُطرسُ مع الأَحدَ عَشَرَ ورفعَ صوتهُ وقالَ لهم أَيُّها الرجالُ اليهودُ والسَّاكنونَ في أُورشليمَ أجمعونَ، ليكن هذا معلوماً عندكم وأَصْغُوا إلى كلامي .»
«فوقف بطرس مع الأحد عشر :»
القديس بطرس يتكلَّم عن الاثني عشر وهو مع الاثني عشر، واضح هنا طبعاً أن الاثني عشر بما فيهم بطرس الرسول يتكلَّمون بألسنة أخرى، وق . بطرس يخاطب كل المجموعات التي ذُكرت أسماؤها وكلهم تقريباً لا يعرفون الأرامية، وإن عرفوها فلن يفهموها، لأن ق. بطرس يتكلَّم لغة أهل الجليل وهي أرامية عامية جداً. فمن غير المعقول أن يخاطب اليونانيين والفارسيين والعرب بلغة أهل الجليل . إذاً، فالموقف يحتِّم على ق. بطرس أن يتكلَّم بلغة ولسان الروح القدس، والذي حتَّم بهذا الموقف هو الروح القدس، ولولا أن هؤلاء اليهود الذين لا يعرفون الأرامية سمعوا لغتهم التي وُلِدُوا فيها أي اليونانية واللاتينية والفارسية والعربية لما تجمعوا وما حضروا وما سمعوا وما فهموا . فإذا لم يكن ق . بطرس قد تكلَّم باللسان “الجديد” الذي أعطاه الروح القدس في ذلك اليوم وتلك الساعة فماذا كانت قيمة يوم الخمسين وانسكاب الروح القدس؟
نحن نتعجَّب جداً من العلماء الذين استبعدوا أن يكون ق . بطرس قد تكلَّم بألسنة هذه البلاد، فما منفعة الموهبة إذاً، هل أخذها ق . بطرس ليكلِّم بها الاثني عشر؟ أليس هذا أكبر دليل على أن هؤلاء العلماء وكل من يقول بقولتهم هذه أنهم لا يؤمنون بحلول الروح القدس وبإعطاء موهبة التكلُّم، ويكون موقفهم كموقف الذين قالوا إنهم سكارى؟ إن عظمة يوم الخمسين وقوة حلول الروح القدس ومجد عمل االله بإعطاء هذه الموهبة العجيبة والفريدة في تاريخ البشرية يتوقف على أن خطاب ق . بطرس كان بلسان الروح القدس، وأن كل واحد من الحاضرين فهم تماماً ما قاله بطرس الرسول.
فلا يغترّ أحد ولا يضل بكلام العلماء والمفسرين الذين ينكرون على ق .بطرس أنه كلَّم هذه الجموع الحاشدة بلغاتها وفهموها وندموا وطلبوا المشورة وخلصوا، لأن هؤلاء العلماء والمفسرين لا يؤمنون أصلاً بأن التكلُّم بالألسن موهبة روحية من االله، فمعظمهم لكي يخفى عدم إيمانه وجحوده لكلام الإنجيل قالوا إنها كانت هستيريا وانفعالات نفسانية، وانزعاجات بسبب حلول الروح القدس بهذه
القوة، وقالوا ما قالوا، وكل ما قالوا هو شبه تجديف ومغالطة صارخة لكلام الإنجيل، لأن المكتوب واضح أن كل واحد سمع لغته التي وُلِدَ فيها، وأنهم اعترفوا وتابوا واعتمدوا وخلص منهم ثلاثة آلاف في يوم واحد . وكان هذا المشهد المهيب بمثابة رفع الستار لرؤية أول مشهد من مشاهد الكنيسة وهي تسير وتنطلق نحو المجد بقيادة الروح القدس، ومن يؤمن فليؤمن.
وعلى القارىء أن يُلاحِظ هدوء ق . بطرس غير العادي وشجاعته الفائقة، فهو في خطابه يأخذ صفة الآمر، وليس التوسُّل، لكي يقبلوا الإيمان بالمسيح، وهو أيضاً يحذر كمن له سلطان . وبعد ذلك أخذ يوعِّي، ويقبل الاعتراف والتوبة، ويعمِّد، ويعطي المغفرة، ويهب لهم نعمة الخلاص وموهبة الروح القدس للتكلُّم بالألسن. هذا ليس بطرس الرعديد الذي خاف من الجارية وأنكر معلِّمه ثلاثاً . هذا بطرس المسيح الناطق بالروح القدس والشاهد الأمين لرئيس الإيمان ورب النعمة والخلاص.
كل هذا يكشف أنه امتلأ حقاً بالروح، والذي يمتلئ بالروح يتكلَّم بالروح !! فإن كان بطرس ليس على مستوى التكلُّم بالألسن لإقناع هذه الحشود بلغاتها، فحلول الروح القدس إذاً بلا قيمة بالنسبة لهذا اليوم بالذات، وموهبة التكلُّم بالألسن لم يكن لها أية قيمة ولا منفعة . هذا غير مقبول ونحن نحسبه خروجاً عن الإيمان بيوم الخمسين وبالروح القدس وموهبة الروح.
« ورفع صوته»:
الوضع العادي أن يقول وقف وقال، ولكن كلمة رفع صوته هنا تعط ي لخطاب ق. بطرس روح المناداة للإعلان والشهادة بالصوت العالي ذي لهجة الآمر وليس التوسُّل أو مجرَّد الدفاع.
«وقال»:
ليس مجرَّد قول، فالمعنى هنا يحمل قولاً ملهماً ، ونحن نعلم أن أقوال الآباء القديسين اسمها “الأبوفثجماتا” وهو اصطلاح مشهور ويعني “أقوال ملهمة ” تؤخذ مأخذ التقليد كمصدر رسمي موثوق به للتعليم.
ولو تأمل القارىء لوجد أن هذا التعريف صادق، فما قاله ق . بطرس في هذا الخطاب صار ليس بمثابة أقوال تقليدية رسمية فقط، بل أقوال إنجيل واجبة التكريم منزَّهة عن الخطأ.
«أصغوا إلى كلامي»:
ترجمتها “أعطوني آذانكم ”، وهو اصطلاح عبراني مأخوذ من كلمة أُذن “ أعطِ أذنك”. وفي الحقيقة يظهر ق. بطرس هنا بمظهر الحكيم المتمهل الذي يود أن يستميل السامعين لقضيته الموثوق بها. وواضح في هذا عمل النعمة الخاص الذي صنع من بطرس المتعجِّل المنفعل هذا النموذج للواعظ والمبشر لحساب المسيح وعلى مستوى الروح القدس. لأننا لا يمكن أن نعتبر ق. بطرس يتكلَّم هنا مما له بل هو الروح القدس المتكلِّم به.
١٥:٢ «لأنَّ هؤلاءِ ليسُوا سَكارَى كما أنتم تَظُنُّونَ، لأنها السَّاعةُ الثَّالثةُ مِنَ النهارِ .»
يلزمنا هنا أن نكرر لماذا عثر هؤلاء القوم في مظاهر هذه الموهبة الجليلة، أي التكلُّم بألسنة أخرى أو بلسان جديد كما يقول ق. مرقس في إنجيله، لأن الكلام هنا لم يكن كلاماً عادياً بل كان تنبُّؤاً، والتنبؤ يحتاج إلى تدقيق في الفهم وتصديق لأن الكلام لم يكن عن الماضي أو الحاضر فقط بل معظمه كان عن مجد المسيح الآتي وشكل الكنيسة في العالم ومعالم الملكوت الذي افتُتح اليوم عن سعة . وهذا واضح جداً ومنذ الابتداء أن التكلُّم بالألسنة رافقته موهبة التنبُّؤ:
+ «ولمَّا وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبأون.» (أع ٦:١٩)
ولماذا لا يسكرون في الساعة الثالثة من النهار؟ ليس لأنها ميعاد مبكر فقط، ولكن هذه الحشود وهؤلاء الرسل هم يهود وهم في أورشليم، واليوم يوم عيد الخمسين حيث صلاة العيد والذبائح الرسمية. فميعاد رفع الذبائح ومعها الصلوات تستمر حتى دون العاشرة بقليل فبطرس الرسول ينبههم أن واقع الحال لا يتناسب مع هذا المقال وكأنه يقول لهم: “اختشوا” فلا يليق هنا أن يُقال هكذا.
ولكن في الحقيقة نحن نعطف كثيراً على هؤلاء الذين نظروا حال هؤلاء الرجال وقالوا إنهم سكارى، فالروح القدس حينما ينسكب بالفعل على الإنسان فإنه يصير إنساناً آخر، وأول مظاهر الملء من الروح القدس هو “الفرح الشديد”، والفرح الشديد من العسير أن نفرِّقه عن “الدهش الإلهي” ecstasy حتى أن ترجمة ecstasy هي الفرح المفرط، حيث يتحوَّل إلى التهليل. وعسير على الإنسان أن يحتفظ برزانته وهو ممتلىء من الروح القدس، فهو لا بد أن يعلن عن الفرح الذي فيه، إن لم يكن بالكلام فبالحركة والبهجة الطافحة على القلب والوجه ومحاولة الإنسان إشراك الآخرين معه في فرحه وبهجته وسروره.
والمعروف أن الخمر إذا امتلأ منها الإنسان تؤدي إلى مثل هذه العوارض، ولكن السكران فرحه وسروره إلى حين و يكون محصوراً فيه . لذلك فالتفريق بين الممتلىء من الخمر (السلافة – أي الخمر الحلو الخفيف ) والممتلىء من الروح القدس أمر صعب ويحتاج إلى تمييز روحي . علماً بأن الذي يشرب الخمر (الخفيف) يكون هدفه البلوغ إلى حالة الفرح وطرح الهموم ونسيان حاله وأوجاعه وهو يبلغ بالفعل إلى هدفه ولكن لا يدوم، وقد يزداد في سكره فينقلب الحال إلى عكس ما كان يهدف إليه . والآية القديمة تنص على ذلك ولكن في قراءتها الصحيحة : «أعطوا مُسْكِراً لهالك (لمتهالك أو مُتعب ) وخمراً لمُرّي النفس، يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد » (أم ٦:٣١و ٧). والقديس بولس يعرف هذا بيقين لذلك يقول لتلميذه تيموثاوس : «لا تكن في ما بعد شرَّاب ماءٍ بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدَتِكَ وأسقامِكَ الكثيرةِ » (١تي ٢٣:٥)، ولكن هو نفسه ينصح الذين يريدون أن يكونوا دائماً في حالة راحة وعزاء والساعين وراء طرح همومهم والدخول في راحة فكرية أن لا يسكروا بل يقول : «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح (القدس)» (أف ١٨:٥). لأن النتيجة في حالة الروح القدس تكون يقينية وثابتة وتصيِّر النفس متعزية وقادرة أن تعزِّي، فَرِحَةً وقادرة أن تفرِّح الآخرين، لأن قوة الروح القدس تضاف لحسابها نهائياً فتصبح مؤهلة على الدوام أن ترتفع إلى حالة ما فوق الطبيعة بقوة الروح . وهذا منتهى قصد االله . فاالله أراد بالفعل أن يفرِّح قلب الإنسان ويُنسيه همومه ويرفعه فوق ذاته .
علماً بأن ليس كل الذين كانوا مجتمعين قالوا إنهم سكارى، ولكن جاءت هكذا : «فتحيَّر الجميع وارتابوا … وكان آخرون يستهزئون قائلين إنهم قد امتلأوا سلافة». إذاً، يتضح من هذا أن قلَّة هي التي ظنَّت هذا الظن، وذلك بسبب عدم خبرتهم وقلة تمييزهم بين فرح الروح ومسرَّة الجسد، بين تهليل النفس باالله وفرح الجسد بحاله . وق. بطرس كان يمكن أن يتجاوزهم ولكنه اتخذها فرصة ومدخلاً يدخل منه ليستعلن سر الروح القدس وحقيقة ما هو حاصل، وفي هذا كان حاذقاً لمَّاحاً، أو على الأصح كان على مستوى الإلهام.
١٦:٢-٢١ «بل هذا ما قِيلَ بيوئيلَ النبيِّ . يقول االله ويكون في الأيامِ الأخيرةِ أَنِّي أسكُبُ مِنْ روحي على كلِّ بشرٍ فيتنبَّأ بنوكُم وبناتُكُم ويَرَى شبابُكُم رُؤَى ويحلُمُ شيوخُكُم أحلاماً. وعلى عبيدي أيضاً وإِمائي أسكُبُ من روحي في تلك الأَيَّامِ فيتنبَّأونَ . وأُعطي عجائب في السماءِ من فوقُ وآياتٍ على الأرض مِنْ أسفلُ دماً وناراً وبُخارَ دُخَانٍ . تتحوَّل الشمسُ إلى ظُلمةٍ والقمرُ إلى دمٍ قبل أن يجئَ يومُ الربِّ العظيمُ الشَّهيرُ . ويكونُ كلُّ مَنْ يدعو باسم الربِّ يخلُصُ .»
«بل هذا»:
هذا الذي رأيتموه سكراً وظننتموه مجُوناً وسخرتم منه، لا هو خمر ولا هو مجونٌ وموضع سخريةٍ، بل هذا هو قول االله عينه الذي سبق وقاله وتمَّ في زمانه.
«ما قيل بيوئيل النبي :»
أي ما قاله على لسان يوئيل عن آخر أيام هموم الإنسان، آخر الغربة التي تغرَّبها الإنسان على أرض شقائه ونهاية العزلة عن االله وختام البغضة.
يقول االله عن آية تسبق مجيء المسيَّا حامل خلاص الإنسان ورافع غضب االله ومؤتي الرحمة والبر والإيمان . والآية هي التي ترونها أمامكم اليوم، هذا هو الروح القدس الذي سمعتم صوته والناطق في أفواه رسله بالنبوَّة، لاستعلان ملكوت المسيَّا الذي افتُتح بالإنجيل . والذي ترونه الآن هو أول مشاهد الملكوت وفتح الستار عن أعمال المسيح الرب الروح من السماء . ليس كما كان يحل الروح على أنبياء العهد القديم إلى ساعة ليغادرهم بعد ساعة، بل هوذا حلَّ وملأ ونطق وملك وأهَّل الإنسان ليملك في ملكوته . فالكل صاروا ملوكاً وأنبياء وكهنة الله العلي، لا فرق، الكبير كالصغير، العبد كالحر، لا يهودي ولا أممي بل ولا أُمة أفضل من أُ مة، ولا رجل ولا امرأة، فالكل صار واحداً في المسيح.
«أسكب من روحي على كل بشر»!!!:
الكل يتنبأ، كل مَنْ يؤمن بالمسيح !! اليوم تبدأ بداية النهاية، والذي يبلغ سر هذا اليوم يكون قد بلغ النهاية، وكل مَنْ انفتحت عيناه على المسيح يكون قد بلغ النهاية في البداية. فالقديس بطرس صاحب هذا السر ومكتشفه يقول: «مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة االله الحيَّة الباقية إلى الأبد … وأمَّا كلمة الرب فتثبت إلى الأبد وهذه هي الكلمة التي بُشِّرتم بها » (١بط ٢٣:١-٢٥). فإن كنَّا نكلمكم اليوم بلسان آخر فهذا لأننا وُلدنا ثانية من كلمة أخرى هي كلمة االله التي بها نتكلَّم كآية وبرهان لِما تمَّ اليوم، وهذه هي كلمات الرؤى وكلمات الأحلام التي تكلَّم عنها يوئيل لآخر الأيام . ومن يعوزه الفهم فليطلب حكمة من أبي الأنوار الذي يعطي بسخاء ولا يعيِّر.
ثم إذ تنتهي أيام البُشرى السعيدة وتكمل أقدام المبشرين وما أحلى بُشراها لكل الأرض، تأتي أيام الحساب الأخير، الأيام التي وصفها الآباء والأنبياء منذ الدهر وكررها الرب في إنذاراته الأخيرة، أيام تَزَعْزُع الأُسس المستقرة، حيث تحجب السماء إشراقها والليل يزداد ظلامه، ومعالم السماء تتغيَّ ر، تمهيداً لسماء وأرض ونظام لا يتزعزع، وزمان لا يُحسب بالأيام بعد . وفي كل هذه الأهوال تُحفظ نفوس عبيد االله الأمناء، وكل مَنْ يدعو باسم الرب يخلص. وهنا ولأول مرة يطرق آذان اليهود اسم “الرب” “أدوناي” و“شداي” اسم يهوه العظيم مشيراً إلى “يسوع”.
القسم الثاني من الخطاب [٢٢:٢-٢٨]
وموضوعه “يسوع الناصري”
٢٢:٢ «أيُّها الرجالُ الإسرائيليُّونَ اسمعوا هذهِ الأقوالَ . يسوعُ النَّاصريُّ رجلٌ قد تبرهنَ لكُم من قِبَلِ االله بقوَّاتٍ وعجائبَ وآياتٍ صَنَعَها االله بيدهِ في وسطِكُم كما أنتم أيضاً تعلمونَ .»
«أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال :»
نفس الجملة التي استهل بها مقطع خطابه الأول . ولكن الموضوع هنا هو “يسوع” الذي به ومن أجله حلَّ الروح القدس وتعيَّن يوم الخمسين.
« يسوع الناصري »:
هذا اللقب قديم منذ بدء الإنجيل بل وبعد الميلاد «ويُدعى ناصرياً»، لأنه أتى وسكن في الناصرة فاحتُسِبَت أنها رأس ميلاده . والناصرة سُمِّيت كذلك لخمول ذكرها كمدينة صغرى لا قيمة لها فدُعيت باسم فرع شجرة صغير نابت من مكان غير مناسب بقرب الجذر الذي يسمَّى بالعربية “نسر” ويُدعى بالعبرية “نتسير”. من هنا جاء اسم الناصرة، وبسبب خ مول ذكرها بين المدائن في المنطقة احتجَّ نثنائيل على فيلبس حينما قال له إن المسيَّا مولود بالناصرة : «فيلبس وجد نثنائيل وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع بن يوسف الذي من الناصرة. فقال له نثنائيل أَمِن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ قال له فيلبس تعالَ وانظر.» (يو ٤٥:١و٤٦)
«رجل قد تبرهن لكم»:
كلمة تبرهن جاءت كثيراً وبألفاظ أخرى في تحقيق شخصية المسيح في سفر الأعمال فمثلاً جاءت بكلمة “تعيَّن”:
+ «وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأن هذا هو المعيَّن ( الأصح هذا هو الذي
قد تعيَّن) من االله.» (أع ٤٢:١٠)
+ «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عيَّنه مقدِّماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات.» (أع ٣١:١٧)
كما جاءت في مستهل الرسالة إلى رومية هكذا: «وتعيَّن ابن االله بقوة …» (رو ٤:١). كل هذه الاصطلاحات تتركز في معنى كيف حقق االله شخصية المسيح ابنه للإنسان.
«تَبَرهن لكم من قبل بقوات وعجائب وآيات»:
واضح هنا السبب الذي على أساسه عمل المسيح كل القوات والآيات والعجائب،
وهو أن يفهم الشعب ويدرك أن عصر المسيَّا قد جاء كما نصَّت عليه كل النبوات
موضِّحة أن في زمن المسيح يُقبل عليهم ملكوت االله، وقد قالها المسيح بفمه : «إن
كنت أنا بروح االله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت االله»!! (مت ٢٨:١٢)
وقوله «قوات dun£mesi» يعني إظهار واستعلان قوة االله المذّخرة فيه وتحت
هيمنته، وأمَّا معنى “الآيات والعجائب” فقد سبق وشرحناها في كتاب : “المدخل
لشرح إنجيل القديس يوحنا” صفحة ٢٩٤ – ٢٨٩.
«آيات وعجائب صنعها االله بيده»:
اصطلاح لاهوتي فريد في عمقه . وواضح هنا أيضاً أن الآيات والعجائب التي
صنعها المسيح هي آيات لا يعملها إلاَّ االله، وعجائب لا يعملها إلاَّ االله، هذه دفعها الله
ليد المسيح فعملها لكي يؤمن الشعب : «لأني خرجت من قِبَلِ االله وأتيت » (يو
٤٢:٨)، وأن «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عمله» (يو ٣٤:٤)، وأن
«أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل » (يو ١٧:٥)، «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه
شيئاً إلاَّ ما ينظر الآب يعمل، لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك . لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله … لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحيي كذلك الابن أيضاً يُحيي مَنْ يشاء» (يو١٩:٥-٢١). وأخيراً يركز المسيح بقوة على مفهوم عمله الآيات والمعجزات التي لا يعملها إلاَّ االله كيف أ نه إذا عملها هو كان ينبغي أن يؤمنوا به أنه من االله، وبالتالي أنه المرسل لخلاصهم : «إن كنت لست أعمل أعمال (االله) أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل (الآيات والمعجزات)
فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال (الآيات والمعجزات) لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنا فيه.» (يو ٣٧:١٠و٣٨).
٢٣:٢ «هذا أخذتموه مُسلَّماً بمشورة االله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه .»
«مُسلَّماً بمشورة االله المحتومة :» وعلمه السابق
وتأتي في اليونانية بمعنى “بترتيب محدد أسلمتموه”. وهنا ينتبه العلماء إلى لغة ق. بطرس الرسول التي كتب بها رسالته الأُولى إذ يأتي هذا الاصطلاح نفسه مكرراً كما جاء هنا مكرراً . فقد جاء في سفر الأعمال أيضاً في (٢٨:٤) هكذا: «ليفعلوا كل ما سبقت وعيَّنت يدك ومشورتك». هكذا جاءت مكررة في رسالته الأُولى : «بمقتضى علم االله الآب السابق … »(١بط ٢:١)،
«معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم » (١بط ٢٠:١). وبهذا دلَّل العلماء على يقينية نسبة هذا الخطاب لبطرس الرسول، وبهذا يظهر ق . لوقا في وضعه لهذا السفر بمظهر الدقة والأمانة المدهشة.
«بأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه :»
هذا الاصطلاح غير معروف في التعبيرات اليونانية، فهو يكشف عن أرامية صرف لبطرس الرسول، وتأتي بالأرامية (بي يد be-yad)، كذلك قوله «بيد أثمة »، هنا كلمة «أثمة» هي في أصلها أرامية أيضاً وتعني بلا ناموس -قاصداً بذلك الرومان، فاليهود يسمُّون مملكة روما “بمملكة الشر” . وجاءت عند القديس مرقس هكذا : «هوذا ابن الإنسان يسلَّم إلى أيدي الخطاة» (مر ٤١:١٤) قاصداً بهم الرومان.
كل هذا يكشف عن أرامية الخطاب وصحة نسبته لبطرس الرسول. وهذه الآية بجملتها تُعتبر أقدم تعبير لاهوتي عن موت الرب وظروفه المنظورة وغير المنظورة وذلك في التعليم الرسولي.
ولينتبه القارىء أن من ضمن السامعين من ساروا في موكب صليبه وهتفوا «اصلبه اصلبه» تحت تأثير رؤساء الكهنة الضالين المُضلِّين . الذين من مركزهم
العالي الممنوح لهم لتدبير الشعب لمسيرة الحق أضلُّوا الشعب وزيَّفوا عليه الحقائق
وساقوه أمامهم في موكب عارهم ودمارهم، وصنعوا بالشعب آلات هدم للأمة
اليهودية: «دمه علينا وعلى أولادنا» (مت ٢٥:٢٧). لذلك حينما يسمع القارىء في
آخر هذا الخطاب الناري – الذي يُعتبر أخطر خطاب أُلقي على الناس، كل الناس
من يوم آدم إ لى يوم المسيح هذا، حينما يُسمع عن أن من الشعب من نُخِسَتْ قلوبهم
وندموا واعترفوا وتابوا واعتمدوا، فهذا لأنهم كانوا يعلمون كل ما جاء في هذا
الخطاب.
٢٤:٢ «الذي أقامه االله ناقِضاً أوجاعَ الموتِ إذْ لم يكن ممكناً أن يُمسَكَ منه .»
«الذي أقامه االله»: =« االله الذي أقامه من الأموات» (١بط ٢١:١)
إذاً لا يزال ختم القديس بطرس على الكلمات والآيات والتعبيرات.
«ناقضاً أوجاع الموت »:
«ناقضاً»: بمعنى “يفك أو يحل ” وكأنه يقطع قيودها أو حبالها.
«ناقضاً»:
اصطلاح قديم منذ أيام أيوب الصديق (٢:٣٩) وهل حللت أوجاعهم » (حسب السبعينية) حيث «حللت» جاءت بدل “نقضت” والكلمة اليونانية واحدة. وجاءت «أوجاع الموت» بمعنى حبال الموت هكذا في (مز ٤:١٨و٥ ): «اكتنفتني حبال الموت وسيول الهلاك أفزعتني، حبال الهاوية حاقت بي، أشراك الموت انتشبت بي ». ووصف المزمور هنا يظهر كأنه يعطي للموت شخصية الذي ينصب الفخاخ كصياد الموت، أمَّا المسيح فقد فكَّ فخاخ الموت التي كان الموت قد أسره داخلها.
في حين أننا نرى في وصف ق . بطرس (على لسان ق. لوقا) أنه «حلَّ أوجاع الموت»، وكأنه «مخاض»، فولد (كمن شقَّ رحم الم وت أو الهاوية ) وأقام نفسه، وكأن الموت ظلَّ يمخض بالمسيح وأخيراً لَفَظه مُجبراً، أو كيف أن الموت يصطاد الحياة والعكس هو الصحيح؟ والمزمور السابق يشبِّه الموت بعدو يربط وثاق الإنسان بحبال أسماها حبال الموت أو قيود الموت، حيث ليس مَنْ يحل أو يفك أو ينقض، ولكن كلمة «ينقض» أقواها لأن فيها استهتار بقوة قيود الموت، كحبال شمشون التي مزَّقها كما يمزِّق فتلة خيط رفيعة، بل وأكثر: «فقالت له (بعد أن أوثقته بأوتار جلد ): الفلسطينيون عليك يا شمشون (والكمين لابث في الحجرة ) فقطع الأوتار كما يُقطع فتيل المُشاقَة إذا شمَّ النار .» والمرة الثانية أوثقته بحبال جديدة وقالت له: «الفلسطينيون عليك يا شمشون والكمين لابث في الحجرة فقطَّعها عن ذراعيه كخيط» (قض٩:١٦-١٢). وكل هذه نبوات عن جبرؤت المسيح تجاه الشيطان وأعماله.
هكذا أيضاً صوَّر داود النبي المسيح كأنه إنسان امتلأ خمراً وثمل ثم استفاق مرَّة واحدة: «فاستيقظ الرب كنائم كجبَّارٍ مُعيِّطٍ (يصيح عالياً ) من الخمر .» (مز٦٥:٧٨).
وهي بذات التصوُّر الأرامي = حبال الموت، حبال الهاوية وكلمة “نقض” أو “حلَّ” بالأرامي تأتي باستخدام الفعل من الاسم فتأتي أي “فك الحبال” أو “نقض القيد”.
علماً بأن مخاض الموت أو مخاض الولادة يُحسب كأنه قيود على الإنسان، فلكي يلد أو يقوم من الموت عليه أن يقطعها أو ينقضها، وهي نفس الكلمة التي استخدمها بطرس الرسول هنا أي وجع . لذلك عندما كان المزمور يقول : «اكتنفتني حبال الموت»، فكان يعني بحسب اللفظ العبري “مخاض الموت حلَّ بي”، أي رباط الموت التفَّ عليَّ. وعندما قال بطرس الرسول هنا «نقض أوجاع الموت» فالمعنى العبري هو قطع حبال مخاض الموت أو قطع قيود الموت، فالمخاض والأوجاع
والقيود واحد!
وقد استخدم هذا الاصطلاح القديس الشهيد بوليكاربوس (٦٩؟ – ١٥٥؟م) حسب قاموس Webster) مما يعطينا تأكيداً أن سفر الأعمال كان بين يديه في هذا الوقت المبكِّر، إذ كتب في رسالته إلى أهل فيلبي (٢:١) يقول:
« إذ قد نقض أوجاع الهاوية»
وهكذا إن كان الموت قد تعيَّن بمشورة االله المحتومة وعلمه السابق، حينئذ وبالضرورة الحتمية فإن القيامة تكون قد وُضعت بالتالي في ذات المشورة المحتومة وعلمه السابق.
«إذ لم يكن ممكناً أن يُمسَك منه»:
« يمسك منه »
الترجمة العربية هنا غير دقيقة والمعنى واضح باللغة اليونانية وهي «إذ لم يكن ممكناً أن يُمسك بواسطته وهنا يكمل التصوير . فالمسيح مات حقاً وجسده كان ميتاً تماماً، ونزل إلى الجحيم ككل الموتى، ولكن كانت – لو صحَّ التعبير – مفاجأة عظمى لأن الجسد الميت كان يحوي الحياة : «أنا هو الأول والآخر والحي وكنت ميتاً وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين » (رؤ ١٨:١). هنا قوتان اجتمعتا مقابل بعضهما، الحياة والموت، أو الحياة في بطن الموت (الجحيم)، أو كما يصوِّرها الآباء الأُول
“رحم الموت ”، فرحم الموت حَمَل بالحياة (لمَّا اصطادها في جوفه ) فكان لابد للحياة أن تشق بطن الموت أو رحمه وتخرج غالبة ومنتصرة، الحياة على الموت . الحياة قطعت رُبُط الموت وقيوده، والحي شقَّ رحم الموت والهاوية وخرج بجلال عظيم ومن ورائه المفديون في موكب نصرته : «سبى سبياً (المسبيين بواسطة الشيطان) (وخرج) وأعطى الناس عطايا » (أف ٨:٤). بهذا يفهم القارىء بسهولة كل مزامير داود النبي التي تصف هذا المنظر هكذا:
+ «اكتنفتني حبال الموت، وسيول الهلاك أفزعتني، حبال الهاوية حاقت بي، أشراك الموت انتشبت بي . في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه دخل أذنيه، فارتجت الأرض وارتعشت أُسس الجبال (الهاوية) … أرسل من العُلا فأخذني، نشلني من مياه كثيرة»(مز ٤:١٨-٧و١٦).
+ «اكتنفتني حبال الموت، أصابتني شدائد الهاوية كابدت ضيقاً وحزناً وباسم الرب دعوت، آه يا رب نجِّ نفسي … ارجعي يا نفسي إلى راحتكِ “[ أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده (راحته)” (لو ٢٦:٢٤)]. لأن الرب قد أحسن إليك . لأنك أنقذت نفسي من الموت … أسلك
قدام الرب في أرض الأحياء (السماء).» (مز ٣:١١٦و٤و٧و٩)
هذه كلها أوصاف المسيح بالنبوَّة في عتمة الليل، من وراء الدهور، وهي تصف كيف أن الحياة اصطادها الموت خدعةً وأَودع ها بطنه فلم يطقْها الموت، ولمَّا لفظ الحياة (المسيح) لفظ هو (أي الموت) أنفاسه!!
ثم عودة مرة أخرى بالقارىء، هل أدركت عزيزي القارىء لماذا كان من المستحيل أن يقبض الموت على المسيح أو يمسك فيه؟ لأنه هو هو الحياة، وهو هو القيامة: «أنا هو القيامة والحياة»!! (يو ٢٥:١١). فإن كان قد مات فلأنه أخذ جسدك المحكوم عليه بالموت وتقبَّل حكم الموت فيه من أجلك، لكي حينما يقوم به تقوم معه وينتهي من عليك حق الموت (الأبدي) وحكم اللعنة وغضب االله، فتشترك في قيامته لأنه هو اشترك في موتك. لأنه لمَّا اشترك في موتنا مات وهو هو الحياة، ولمَّا مات قام حتماً فاشتركنا في قيامته وفي حياته التي لا تموت بعد، هذا بحكم سر جسدنا الذي مات به وبحكم جسدنا الذي قام به!
بطرس المفتوح الذهن يستشهد بالمزامير:
صحيح أنه منذ بداية العصر الرسولي والكنيسة تستشهد بالمزامير في كون القيامة من الموت هي استجابة وتكميل للوعد الذي وعده االله لداود، متخذين من نبوَّة إشعياء أساساً كالآتي:
+ «أميلوا آذانكم وهلمُّوا إليَّ، اسمعوا فتحيا أنفسكم، وأقطع لكم عهداً أبدياً مراحم داود الصادقة. هوذا قد جعلته شارعاً للشعوب رئيساً وموصياً…» (إش ( ٣:٥٥و٤)
والسؤال هنا، ما هي مراحم داود الصادقة؟ هذا السؤال يرد عليه ق . بولس الرسول بلسان ق. لوقا في سفر الأعمال بأسلوبه الخاص:
+ «ونحن نبشِّركم بالموعد الذي صار لآبائنا إن االله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني : أنت ابني أنا اليوم ولدتُك. إنه أقامه من الأموات، غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد فهكذا قال إني سأعطيكم مراحم داود الصادقة. ولذلك قال أيضاً في مزمور آخر: لن تَدع قدوسك يرى فساداً . لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة االله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فساداً، أمَّا الذي أقامه االله فلم يرَ فساداً.» (أع ٣٢:١٣-٣٧).
واضح من تفسير بولس الرسول أن: «أنا اليوم ولدتُك» هي في حقيقتها القيامة من الأموات. وهذا التحقيق الجميل للقديس بولس يثبت أن قول المزمور : «أنا اليوم ولدتك» هو الذي حدث بالفعل للمسيح في القيامة من الأموات . والدليل الذي يؤكد هذا التفسير الصحيح ما جاء مرة أخرى لبولس الرسول في الرسالة إلى أهل كولوسي هكذا: «الذي هو البداءة بكر من الأموات لكي يكون هو متقدِّماً في كل شيء» (كو ١٨:١). بمعنى أنه أول مَنْ قام أو باكورة مَنْ قام من الأموات . وكان هو البكر بين الذين سينالون بواسطته القيامة من الأموات أيضاً ! ثم يشرح مراحم داود الصادقة أنها هي القيامة من الأموات.
وأمَّا بطرس الرسول فيعتمد على المزمور (٨:١٦-١٠) هكذا:
+ «جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني فلا أتزعزع . لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي، جسدي أيضاً يسكن مطمئناً لأنك لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيَّك يرى فساداً».