تفسير رسالة غلاطية 5 – أ/ حلمي القمص يعقوب
تفسير غلاطية – الأصحاح الخامس
بعد أن قدَّم بولس الرسول صفحات من تاريخه الشخصي وعلاقته بكنيسة أورشليم من خلال الأصحاحين الأول والثاني، وبعد أن دخل في حوار لاهوتي ومجادلات حول مشكلة التهوُّد خلال الأصحاحين الثالث والرابع، استكمل هذا الحوار في بداية الأصحاح الخامس (غل 5: 1-12)، ثم بدأ في القسم الثالث والأخير من الرسالة (غل 5: 13-16 : 18)، وهو القسم العملي التعليمي التطبيقي، ويُعدّ هذا القسم تاج الرسالة، والنغمة الواضحة فيه هي نغمة الإيمان العامل بالمحبة، وفي الأصحاح الخامس يحدّثنا عن حريتنا التي حصلنا عليها في المسيح، وكيف يسلك الإنسان المسيحي الحر بالروح، فينأى عن أعمال الجسد ويسعى لاقتناء ثمار الروح القدس.
ففي الآية الأولى من هذا الأصحاح يستكمل حديثه عن الحرية التي تحدّث عنها في الفقرة الروحية (غل 4: 21 – 31) التي اعترضت الحوار اللاهوتي، ثم يعود بولس الرسول إلى حواره اللاهوتي الذي توقّف عند (غل 4: 20) ليستكمله في الفقرة الأولى من هذا الأصحاح (غل 5: 2-12) فيحث أولاده في غلاطية على الثبات في الحرية المسيحية محذرًا إياهم من العودة لعبودية الناموس، ففي (غل 5: 2 – 6) يحدّثهم عن عدم نفع الختان، وفي (غل 5: 7-12) يحدّثهم عن معلمي الختان المزعجين الذين يخدعونهم ويفسدون إيمانهم فأنهم سيتحملون نتيجة تصرُّفاتهم، ويرد على القائلين بأن بولس الرسول يشجع الختان في أماكن أخرى، فقال لهم لو كنت أوافق المتهوّدين على ضرورة الختان ما كانوا يضطهدونني.
ثم يحذّرهم بولس الرسول من مغبة سوء استخدام الحرية، ويحثهم على الحرية العملية (غل 5: 13 – 15) ناصحًا إياهم بأن يخدموا بعضهم بعضًا بمحبة، فالمحبة هي كمال الناموس، كما حذّرهم من خطورة الانقسامات.
وفي الجزء الثالث والأخير من هذا الأصحاح (غل 5: 16-26) يوضح بولس الرسول الصراع بين الجسد والروح، وأن المتمسكين بالناموس فأنهم لا يسلكون بحسب الروح، وأيضًا الذين يسلكون بالروح لا يخضعون لعبودية الناموس، ثم يُلقي الضوء سريعًا على أعمال الجسد وثمار الروح.
ويمكن تقسيم الأصحاح الخامس إلى:
أولًا: التبرير بالإيمان العامل بالمحبة (1 – 12).
ثانيًا: الحرية العملية (13 – 15).
ثالثًا: أعمال الجسد وثمار الروح (16 – 26).
أولًا: التبرير بالإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 1 – 12):
” فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا المَسِيحُ بِهَا وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ. هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيئًا. لكِنْ أَشْهَدُ أَيْضًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ. فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ. كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ. هذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ. خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ. وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئًا آخَرَ. وَلكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ. وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ، فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ إِذًا عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ. يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا“(غل 5: 1 – 12).
تعتبر الآية الأولى من هذا الأصحاح استكمال للآية الأخيرة من الأصحاح السابق، فما دمنا أولاد الحرة فينبغي أن نثبت في الحرية التي حرَّرنا المسيح بها ولا نعود نرتبك بنير العبودية لأننا لسنا أولاد الجارية، وبهذه الفقرة يختتم بولس الرسول الحوار اللاهوتي الذي بدأه في الأصحاح الثالث والرابع، فيؤكد لهم عدم نفع الختان، وحتى لو أختتن الإنسان فإن الختان لا يمثل إلاَّ جزئية من الناموس، فالختان لا يمثل كل الناموس، فمن تمَّم الختان عليه أن يلتزم بكافة وصايا وأحكام وفرائض الناموس، مثل الإنسان الذي يحصل على جنسية دولة معينة فأنه بلا شك عليه أن يلتزم بكل قوانينها بلا استثناء، والختان لن يبرّر الإنسان فالذين يريدون أن يتبرَّروا بالناموس فقد أنكروا كفاية نعمة المسيح، وبالتالي فإن نعمة المسيح لن تدركهم بل هم سقطوا من النعمة، فلا تبرير إلاَّ بالإيمان العامل بالمحبة، أما المعلمون الكذبة الذين يسعون للإيقاع بالآخرين فأنهم سيتحملون دينونة ذلك العمل، فيا ليتهم يقطعون حتى لا يضلوا الآخرين.
“فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ“ (غل 5: 1).
فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ.. حرف “الفاء” يربط هذه الآية بما قبلها، فبما أننا لسنا أبناء هاجر الجارية بل أبناء سارة الحرة، وبما أننا قد حصلنا على هذه الحرية كهبة إلهيَّة، فاثبتوا في هذه الحرية، ولا ننسى أن الرسالة عندما كُتبت كُتبت كوحدة واحدة لم يكن بها أية تقسيمان لأصحاحات وآيات، إنما هذا تم بعد ذلك بمئات السنين لتسهيل الرجوع إلى أي جزء منها، وقول معلمنا بولس “فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ“ يمثل النتيجة المنطقية المفرحة والمعزية والتطبيق العملي للجهد الذي بذله خلال محاججته مع الغلاطيين، فهو يفترض أن الغلاطيين قد اقتنعوا بآرائه وتخلوا عن أفكارهم الخاطئة واختاروا أن يعيشوا كأولاد سارة الحرة، أولاد أورشليم العليا منتظرين الميراث السمائي، أحرارًا من عبودية الناموس، فهم ليسوا أبناء هاجر الجارية، ولهذا يدعوهم أبوهم الروحي للتشبث بالحرية التي وهبها لهم السيد المسيح، ولا يخضعون لمن يسعون لإخضاعهم لعبودية الناموس.
فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا.. قديمًا حرَّر اللَّه شعبه من عبودية فرعون المُرة، وكسر نيره عنهم، وقال لهم: “أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمُ الَّذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ كَوْنِكُمْ لَهُمْ عَبِيدًا وَقَطَّعَ قُيُودَ نِيرِكُمْ وَسَيَّرَكُمْ قِيَامًا“ (لا 26: 13)، وكان كسر نير عبودية فرعون إشارة ورمزًا لكسر نير عبودية الشيطان، فقد أستعبد الشيطان الإنسان من خلال الخطايا والشهوات، وقد أبصر المرنم بعين النبوة السيد المسيح على الصليب وهو يسترد حريتنا المسلوبة فهتف قائلًا: ” وَبِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ. نَبْلُكَ الْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ“ (مز 45: 4، 5)، ورأى إشعياء النبي أيضًا بعين النبوة جمال أورشليم المدينة المقدَّسة أي قلوبنا وعقولنا وقد تحرَّرت بدم المسيح فهتف قائلًا: “اِسْتَيْقِظِي اسْتَيْقِظِي الْبَسِي عِزَّكِ يَا صِهْيَوْنُ الْبَسِي ثِيَابَ جَمَالِكِ يَا أُورُشَلِيمُ الْمَدِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ لأَنَّهُ لاَ يَعُودُ يَدْخُلُكِ فِي مَا بَعْدُ أَغْلَفُ وَلاَ نَجِسٌ. اِنْتَفِضِي مِنَ التُّرَابِ. قُومِي اجْلِسِي يَا أُورُشَلِيمُ. انْحَلِّي مِنْ رُبُطِ عُنُقِكِ أَيَّتُهَا الْمَسْبِيَّةُ ابْنَةُ صِهْيَوْنَ. فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ مَجَّانًا بُعْتُمْ وَبِلاَ فِضَّةٍ تُفَكُّونَ” (إش 52: 1 – 3).
ويقول “دكتور وليم آدي“: ” فِي الْحُرِّيَّةِ وهي حرية روحية لا جسدية كالتي نالها اليهود بأمر كورش بعد أسرهم سبعين سنة في بابل وهي التحرُّر من لعنة الناموس وعبوديته والخطية والموت الروحي وقوة إبليس وجهنم وهي تشتمل على الشعور بتمام مغفرة خطايانا والاقتراب إلى عرش النعمة بلا مانع والحصول على كل حقوق الابن في بيت أبيه. فالمسيحي الذي حصل على هذه الحرية يكون شاكرًا للَّه وسعيدًا في خدمته تعالى لأنك ملك وابن ملك، ولو كان كبولس يوم كان مقيدًا في سجن رومية فأنه كان يومئذٍ حرًا أكثر من نيرون الذي سجنه لأن هذا كان عبدًا لشر الشهوات وأفظعها“(294).
فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا.. إننا لم ننل هذه الحرية من أي إنسان، لا من رئيس آباء ولا نبي ولا ملك ولا ملاك بل من المسيح يسوع ابن اللَّه الحي، فاثبتوا إذًا في هذه الحرية ولا تعودوا إلى عبودية الناموس، فهذه الحرية غالية جدًا وثمينة جدًا لأن ثمنها دم المسيح، ومع كل هذا فاللَّه وهبها لنا مجانًا، فهذه هي الحرية الحقيقية في المسيح، وكل حرية خارج نطاق المسيح إلهنا فهي بالحقيقية عبودية، فطالما ارتكب الناس الخطايا والآثام بِاسم الحرية، وإذ هذه الخطايا وتلك الآثام تستعبدهم، لأن الذي يفعل الخطية هو عبد للخطية والذي يفعل البر هو عبد للبر: “فَشُكْرًا ِللَّهِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ وَلكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا. وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ” (رو 6: 17، 18)، ولهذا يجب أن يحسن الإنسان استخدام الحرية: “كَأَحْرَارٍ وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُ-مْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ بَلْ كَعَبِيدِ اللَّه“ (1بط 2: 16).
وجاء في “التفسير التطبيقي“: ” لقد مات المسيح ليحرّرنا من الخطية.. لقد جاء المسيح ليحرّرنا، لا لكي نفعل ما نشاء، لأن هذا يعود بنا إلى العبودية لرغباتنا الأنانية. ولكن شكرًا للمسيح، لقد صرنا الآن أحرارًا وقادرين على عمل ما كان قبلًا مستحيلًا، أن نحيا حياة خالية من الأنانية. فالذين يستغلون حريتهم لفعل ما يشاءون أو لتحقيق رغباتهم، يرجعون إلى الخطية، فهل تستخدم حريتك لنفسك أم للآخرين“(295).
الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا.. الذي خلق الكون كله بكلمة، لم يحرّرنا بكلمة بل دفع دمه الثمين لهذه الحرية: “عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ. بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ دَمِ الْمَسِيحِ. مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ العَالَمِ“(1بط 1: 18-20).. لقد كان مُغلَقًا على الجميع في سجن الخطية فأطلقنا ابن اللَّه من هذا السجن عقب معركة رهيبة دارت رحاها على عود الصليب مع مملكة الظلمة: ” إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ. إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ“(كو 2 : 14، 15)، فهل يصح بعد أن حصلنا على هذه الحرية الثمينة بدم المسيح أن نعود إلى عبودية أهوائنا وشهواتنا؟!
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “لقد حرَّرنا المسيح من أجل الحرية، لا لنسقط في عبوديات جديدة. يستعمل بولس كلمة حرَّر (إلاتارون) بالمعنى المُطلق، فلا يقول كيف تم التحرُّر ولا مم تحرَّرنا. هناك تلميح إلى صليب المسيح. فكل ما عمله يسوع قد عمله على الصليب، وقد صار هذا التحرُّر شخصيًا للغلاطيين يوم سمعوا الكرازة الرسولية وتقبَّلوها. في ذلك اليوم دُعوا إلى الحرية (إلاتاريا)، وهم يلبون الدعوة بقوة الصليب.
فَاثْبُتُوا إِذًا: يرد هذا الفعل مرارًا عند القديس بولس الذي يصوّر الحياة المسيحية فيستعمل صورتين متكاملتين: صورة الجري في الميدان، وفيه ننسى ما هو وراءنا (في 3: 14). وصورة الجندي الواقف مكانه لا يتحرّك. والسياق يدل على أننا أمام ثبات تعليمي، وأمانة للتعليم الرسولي كما حمله بولس (1كو 16: 13، في 1: 27، 4: 1،1تس 3: 15).
هناك محاولات خارجية تسعى إلى استعباد الغلاطيين، فهم ما فكروا يومًا بالختان وأزمنة السنة. هناك من يدفعهم دفعًا إلى ذلك. فليدافعوا عن أنفسهم، ويتحدَّث بولس عن نير العبودية. هناك استعباد للخليقة كلها للفساد (رو 8: 21)، وهناك استعباد الإنسان للشريعة (غل 4: 24، 5: 1). حرَّض بولس مراسليه أن لا يعودوا إلى هذا النير”(296).
وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ.. الأمور المربكة هي الأمور التي اختلطت وتداخلت معًا حتى صار يصعب التمييز بينها، وها بولس الرسول ينبّه أولاده حتى لا يدخلوا في دائرة الارتباك هذه ويتوهون في متاهاتها ثم يتساءلون: ألم يكن الختان وصية إلهيَّة لإبراهيم وقد أوصاه بأن كل نفس لا تختتن تُقطع؟!.. وهل اللَّه يغير وصاياه؟!.. إلخ، من هذه الأسئلة والتي سبق مناقشتها ويدخلون في دوامة يصعب عليهم الخروج منها، ويُثقَّلون بنير العبودية، والنير هو الخشبة العرضية التي توضع على عنقي ثورين وتتصل بالمحراث الذي يُقلّب الأرض ويحرثها، أو بالنورج الذي يدرُس القمح، والمقصود بنير العبودية هنا وصايا الناموس وأحكامه وفرائضه كقول مُعلّمنا بطرس الرسول في مجمع أورشليم: “لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللَّه بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ“(أع 15: 10).. عوضًا أن يحمل الإنسان نير عبودية الناموس خير له أن يحمل نير المسيح الذي قال: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ“ (مت 11: 28 – 30).. نير الناموس لم يستطع أي إنسان أن يحمله، فهو يحكم على الإنسان باللعنة، أما نير المسيح فهو هين وخفيف يرفع الإنسان إلى عنان السماء، فهو في فحواه ومعناه ومحتواه يعني كمال الحرية، والذين تحرَّروا بحمل نير المسيح أعداد لا تُحصى من الشهداء والقديسين ولُبَّاس الصليب، وهناك صورة مصغّرة توضّح مدى الفرق الشاسع بين نير الناموس ونير المسيح، وهي المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل وقدّموها للمسيح ليحكم عليها، وقالوا أن الناموس يأمر برجمها فماذا تقول أنت؟.. قال لهم مَن منكم بلا خطية فليلقها أولًا بحجر، فواضح أن الناموس لم يمنح هذه المرأة الخاطئة الحياة، بل حكم عليها بالموت، أما السيد المسيح فقد منحها الحياة وأعطاها فرصة جديدة للتوبة وحياة القداسة، أما شيوخ الناموس الذين أشهروا الحجارة في وجهها فقد انصرفوا في خزي عظيم.
ويقول “ماكدونل“: “ولدينا هنا توضيح جيد عن الفرق بين النعمة والناموس. فالناموس يقول: “إذا حصلت على حريتك تكون حرًّا”، لكن النعمة تقول: “لقد تحررت بفضل الثمن العظيم الذي دُفِع بموت المسيح. لذلك ينبغي عليك عرفانًا بالجميل أن تثبت في الحرية التي حررك المسيح بها”. إذًا الناموس يأمر لكنه لا يمنح قوة للتطبيق. وأما النعمة فهي تؤمِّن للناموس مطالبه، ثم تُعطي الإنسان قدرة ليحيا بشكل يتوافق مع مقامه، وذلك بواسطة قوة الروح القدس، ثم تكافئه على ما عمله.
وكما يقول شارلز ماكنتوش Mackintash : “يطلب الناموس قوة ممن لا قوة له، ويلعنه إن لم يستطع إظهارها. أما الإنجيل فيُعطي القوة لمن لا قوة له، ويباركه لأنه أظهرها”.
قال لي الناموس: “عِش واركض أيها الفتى لكنه لم يعطني اليدين ولا الرجلين. أتى الإنجيل بخبر أطيب إذ دعاني لأن أطير وأعطاني الجناحين“(297).
ولاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ.. لا تصغوا لمثل أولئك الذين قال عنهم سفر الأعمال: “وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا“(أع 15: 1)، أولئك الذين ذهبوا إلى أنطاكية وسجَّسوا أهلها وسببوا لهم ربكة، وراحوا ينتقلون من مدينة إلى أخرى يبثون سمومهم، وقال عنهم بولس الرسول: “الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا“(غل 2: 4)، أما بولس الرسول فقد شجّع أولاده لكي يتركوا روح اللَّه يقودهم في طريق الحرية: “لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللَّه فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللَّه. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ يَا أَبَا الآبُ“(رو 8: 14، 15).
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “انظروا، كم من الطرق يقودهم بها بعيدًا عن خطأ التهود:
أولًا: يُظهر أنه غاية الحماقة أن يبتغي أولئك الذين صاروا أحرارًا بعد العبودية العودة إلى العبودية عوض الحرية.
ثانيًا: أنهم سيدانون على تجاهلهم مصدر النعم التي نالوها وجحودهم إياه، باحتقارهم من يخلصهم وحبهم من يستعبدهم.
ثالثًا: بقوله “أثبتوا” تشير إلى تذبذبهم“(298).
وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ.. هل الأصوام الكنسيَّة وصلوات الأجبية والقداسات الإلهيَّة تدخل تحت بند نير العبودية؟.. كلاَّ لأن هذه الأصوام قد وضعتها الكنيسة كأم حنون تساعد أولادها للتحرُّر من عبودية الجسد ولذة الطعام، وصلوات الأجبية هي الوجبات اليومية التي تقدّمها الكنيسة لأولادها، وهي لا تلغي الصلوات الارتجالية، وفي القداسات الإلهيَّة ننال طعام الحياة الأبدية ونثبت في المسيح وهو يثبت فينا، ويقيمنا في اليوم الأخير إلى حياة الملكوت.
“هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا. لكِنْ أَشْهَدُ أَيْضًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ“ (غل 5: 2 – 4).
بعد أن قارن بولس الرسول بين ابن الجارية وابن الحرّة ينتقل هنا لمناقشة أهمية التبرير بالختان، وفي رسالته إلى رومية أوضح أن التبرير بالختان يستلزم العمل بجميع وصايا الناموس: “فَإِنَّ الْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِالنَّامُوسِ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً. إِذًا إِنْ كَانَ الأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ النَّامُوسِ أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَانًا“ (رو 2: 25، 26)، ثم أوضح أن ختان القلب والحواس هو أهم من ختان الجسد: “وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللَّه“(رو 2: 29).
هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ.. هذه لمسة من لمسات بولس الرسول في رسائله، وهي أن يذكر اسمه وسط بعض الرسائل:
- “أَنَا نَفْسِي بُولُسُ الَّذِي فِي الْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ وَأَمَّا فِي الْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ عَلَيْكُمْ“(2كو 10: 1).
- “أَنَا بُولُسُ أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ“(أف 3: 1).
- “الَّذِي صِرْتُ أَنَا بُولُسَ خَادِمًا لَهُ“(كو 1: 23).
- “أَنَا بُولُسَ كَتَبْتُ بِيَدِي. أَنَا أُوفِي“(فل 19).
هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ.. يتجه بولس الرسول لأولاده في غلاطية بلهجة الإنذار والتنبيه من الخطر الداهم الذي يهدّد مستقبلهم الأبدي، ولهذا يستهل قوله بعبارة “هَا أَنَا“ أي ها أنا أحذّركم.. ها أنا أنذركم.. ها أنا أقول لكم.. ها أنا أخبركم.. أنه يثير انتباههم نظرًا لخطورة الكلام القادم، فهوذا بولس الرسول يبدو ثابتًا على المبدأ يعطي رأيًا صريحًا واضحًا حازمًا قاطعًا، بلا أدنى تذبذب ولا تأرجح ولا مواربة.. ها أنا أقول وأتحمل مسئولية ما أقوله.. ها أنا أجاهر برأيي ورأي الإنجيل وليسمعني القاصي والداني.. أنا بولس رسول يسوع المسيح واللَّه الآب للأمم.. أنا بولس أقول بِاسم السلطان الرسولي الممنوح لي من الثالوث القدوس.
هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا.. بينما تمسَّك المتهوّدون بالختان كضرورة لنوال الخلاص (أع 15: 1) فإن بولس الرسول كيهودي متعلّم وفريسي ومتزمّت سابق، وقد آمن بالمسيح الذي ظهر له عيانًا على أبواب دمشق يعلنها صراحة وبأعلى صوته أنه ليس هناك أية فائدة للختان، والذي يختتن كالذي لم يختتن، فالختان والغرلة سواء،
وإن تساءل أحد: فلماذا ختن بولس الرسول تلميذه تيموثاوس؟.. لقد ختنه لأنه سيخدم مؤمنين من أصل يهودي: “لأَنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ“ (أع 16: 3)، فحتى لا يتسجَّسوا من جهته وحتى لا يعثر أحد، لذلك ختنه بولس الرسول لتسهيل خدمته بين اليهود، وليس لأن الختان ضرورة للخلاص، والدليل الدامغ على هذا أن بولس الرسول قد أصرَّ على عدم ختان تلميذه تيطس الأممي، بل واصطحبه معه إلى مجمع أورشليم وأجلسه مع أعمدة الكنيسة بطرس ويعقوب ويوحنا، ولم يطلب واحد من هؤلاء منه أن يُختَّتن.
إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا.. وقوله “إِنِ اخْتَتَنْتُمْ“ يوضح أن الغلاطيين لم يختتنوا بعد، وإن كانوا في طريقهم لهذا الختان بعد أن أضلَّهم المتهودون، فهو يكلّمهم بصيغة الحاضر “إِنِ اخْتَتَنْتُمْ“، ولم يكلمهم بصيغة الماضي: “إن كنتم قد اختتنتم”، فينبغي أن الأممي الذي يجيء للمسيح أن لا يسعى للختان، واليهودي المختتن إذا جاء للمسيح لا يسعى لإزالة علامة الختان كما تشبَّه اليهود بالأمم وفعلوا هكذا في عصر المكابيين: “ابْتَنوْا مَدْرَسَةً فِي أُورُشَلِيمَ عَلَى حَسَبِ سُنَنِ الأُمَمِ. وَعَمِلُوا لَهُمْ غُلْفًا وَارْتَدُّوا عَنِ الْعَهْدِ الْمَقْدِسِ وَمَازَجُوا الأُمَمَ وَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِصَنِيعِ الشَّرِّ“ (1مك 1: 15، 16).
ويجب ملاحظة أن بولس الرسول يوجّه حديثه لأولاده في غلاطية ومعظمهم من الأمم، أما كنيسة أورشليم حيث الغالبية العظمى من اليهود، فقد ظلوا يتمّمون الختان وينظرون إليه نظرة الاحترام اللائق والإجلال كعهد مع اللَّه منذ أيام إبراهيم، ولم يستطيعوا التخلُّص من هذا إلاَّ بعد مرور عشرات السنوات، وكاد الموضوع ينتهي بخراب أورشليم على يد تيطس سنة 70م.
والحقيقة أن اليهود بالرغم من أنهم مارسوا الختان لكنهم أغفلوا المعاني الروحية المخفية وراء هذا الطقس، فقديمًا قال لهم موسى النبي: “فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ“ (تث 10: 16)، وقال الرب لهم على لسان إرميا النبي: “اِخْتَتِنُوا لِلرَّبِّ وَانْزِعُوا غُرَلَ قُلُوبِكُمْ” (إر 4: 4).. “هَا إِنَّ أُذْنَهُمْ غَلْفَاءُ فَلاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَصْغَوْا“(إر 6: 10).. “وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ الْقُلُوبِ“(إر 9: 26)، وقال أسطفانوس لليهود: “يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ“ (أع 7: 51)، وقال بولس الرسول: “إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً. إِذًا إِنْ كَانَ الأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ النَّامُوسِ أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَانًا“(رو 2: 25، 26).
إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا.. أيها الغلاطيون لو اختَّتنتم بعد إيمانكم فمعنى هذا أنكم لا تثقون في كفاية الخلاص بدم المسيح، وبالتالي لن تستفيدوا شيئًا من فداء المسيح، وجاء تعبير معلمنا بولس: “لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا“ تعبيرًا صادمًا للغلاطيين إذ كيف يصبح الإله المتجسد غير نافع لهم إذا اعتقدوا أنهم بالختان والناموس يكمّلون خلاصهم؟!.. والحقيقة أن هناك طريقان: أولهما: إن دم المسيح يُطهّر من كل خطية ويُخلّص ويُبرّر ويُقدّس الإنسان، وثانيهما: الالتجاء للختان وحفظ الناموس بجوار دم المسيح في آن واحد، وهذا أمر مستحيل، فمن يؤمن بالمسيح عليه أنه يضع ثقته في المسيح وحده ويموت عن الناموس، بينما الذي وضع رجاءه في الختان فهو ملتزم بالناموس ويحيا للناموس، ولا يمكن للإنسان أن يموت عن الناموس ويحيا بالناموس في آن واحد، ومن يتذبذب ويتأرجح بين الطريقين فلن يستفيد شيئًا، والحقيقة أن من يزايد على المسيح هو في الحقيقة ينتقص من قدره له المجد، فمن يضم للمسيح الختان وحفظ الناموس لضمان الخلاص لن يستفيد من خلاص المسيح، وعندما قال بولس الرسول “لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا“، لا يقصد أبدًا أن المسيح غير نافع، ولكنه يقصد أنه غير نافع لمن لا يضع كل ثقته ورجاءه فيه وحده، فعلى الإنسان أن يختار بين المسيح القادر أن يخلّص إلى التمام ويصل بنا إلى شط الأمان، وبين الناموس الذي يكشف لنا خطايانا ويفضحنا أمام أنفسنا ولا يقدر أن يخلصنا ولا أن يفتح أمامنا أبواب الملكوت.
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “من يُختتن إنما يختتن لأجل خوفه من الناموس، ومَن يخالف الناموس لا يثق في قوة النعمة، ومَن لا يثق لا يمكنه أن يتلقى نفعًا مما لا يثق فيه.. إن قال أحد أن في هذا تناقض، مثل هذا لا يؤمن بالمسيح ولا بالناموس أيضًا بل يقف (مذبذبًا) بينهما راغبًا في الانتفاع بكليهما، بالواحد والآخَر، ولكنه لا يحصد شيئًا”(299).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “أنا بولس: أصدر بولس حكمه وأسبقه بِاسمه أنا بولس (راجع 2كو 10: 1) يذكّرنا بولس هنا بسلطته الرسولية.. الختانة تحرم من الخلاص وذاك الذي يخضع لها (آية 2). كما أنها تستعبده للشريعة الموسوية كلها (آية 3). الختانة هي النقطة الحاسمة التي تقرّر مصير الغلاطيين. لا نستطيع أن نجعل ثقتنا في يسوع المسيح ثم في أعمال الشريعة الموسوية”(300).
لكِنْ أَشْهَدُ أَيْضًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ.. “لكِنْ“ علامة استدراك يكثر بولس الرسول من استخدامها، وقوله “أَشْهَدُ“ تماثل ما يتلوه الشاهد عقب حلف اليمين أمام منصة القضاء، فكأن بولس الرسول يقف أمام القضاء الرسمي يدلي بشهادته، والشهادة أمر هام وخطير إذ تضع الإنسان تحت المسئولية الأدبية أمام ضميره وأمام الجميع، وقوله “أَشْهَدُ أَيْضًا“ أقوى من قوله في الآية السابقة: ” أَقُولُ لَكُمْ“، وقوله هنا يذكّرنا بقوله في رسالته إلى أهل رومية: “أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ. لاَ أَكْذِبُ وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ“ (رو 9: 1)، فبولس الرسول يتكلّم بجدية كاملة وصدق لا حدود له. أمّا قوله أن كل إنسان مُختتنٍ ملتزم بكل الناموس فهذه حقيقة لأن الختان عهد واتفاقية، فكل من يُوقّع عليها بمحض إرادته عليه أن يلتزم بكل مطاليب الناموس وإلاَّ يسقط تحت لعنة الناموس: “لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ“(غل 3: 10) (راجع تث 27: 26، ار 11: 3)، وقال معلمنا يعقوب: “لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ“ (يع 2: 10)، فمن يلتزم بالختان فعليه الالتزام بحفظ السبت والأعياد والمواسم.. إلخ.
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم: “فالذي أستعبد نفسه تاركًا حرية المسيح يجب ألاّ يسلك فيما بعد كإنسان حر، بل كعبد ملتزم بكل قوانين الناموس.. والالتزامات القانونية مترابطة: فالختان يرتبط بالذبائح والمواسم، وهذه ترتبط بالمكان، والمكان يستوجب تطهيرات خاصة، وهذه تحتاج إلى حذر شديد في أمور كثيرة.. وهكذا يجرنا الناموس إلى أمور كثيرة بسبب الالتزام بوصية واحدة، فإن مارسنا جزءًا التزمنا بالكل”(301).
كما يقول “القديس يوحنا الذهبي الفم” أيضًا: “أجزاء الناموس مرتبطة بعضها ببعض.. فبالنسبة (للناموس) إذا ما وضعت على عاتقك جزءًا صغيرًا منه تخضع للنير كله وتجلب على نفسك سلطانه الكامل عليك.. فمثلًا: الختان مرتبط بالذبيحة وحفظ الأيام، والذبيحة أيضًا مرتبطة بحفظ الأيام والمكان وتتضمن تفاصيل خاصة بتطهيرات لا تنتهي تضم حشدًا كاملًا من طقوس متنوعة..
فإن اختَّتنت، لكن ليس في اليوم الثامن، أو كان في اليوم لكن دون تقديم ذبيحة، أو قدمت الذبيحة لكن ليس في الموضع المحدَّد لها، أو كانت في الموضع المعين لها ولكن ليس حسب الطقوس، أو كانت حسب الطقوس لكنك لم تكن طاهرًا، أو كنت طاهرًا لكنك لم تتطهر حسب الأحكام السليمة، يُحسب كل شيء لغوًا، لذلك يقول: “أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس”.. “(302).
قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ.. أن بتمسككم بالختان وأعمال الناموس قد جعلتم عمل المسيح بالنسبة لكم باطلًا، فقد قطعتم علاقتكم مع المسيح، وانفصلتم عنه، وجعلتم عمل المسيح فيكم باطلًا، وبطل اتحادكم بالمسيح، فلم يعد للمسيح تأثير وفاعلية في حياتكم حتى صارت حياتكم عقيمة بلا ثمر.. لقد سقطتم عن المسيح فأقصيتم أنفسكم بعيدًا عن نعمته، ونفيتم أنفسكم من رحمته، وأبعدتم أنفسكم من أمام وجهه. أما من جهتنا فلنحذر من الاعتماد على برنا الذاتي وجهادنا الشخصي وأصوامنا وصلواتنا وأفعالنا الخيَّرة، لأن كل هذه بدون المسيح لا قيمة لها على الإطلاق.
ويقول “الأب متى المسكين“: “ولكن الكلام لنا أيضًا، لأنه إن كنا نحاول بأعمالنا من فرائض أن نخضع أنفسنا بإرادتنا بأصوام وإذلال للنفس وحرمانات متعددة الأشكال والألوان سواء من طعام وفسحة أو ملابس.. إلخ بنوع التكفير عن أخطاء وخطايا بغية نوال رضى اللَّه أو بره، نكون قد تبطلنا عن بر المسيح المجّاني الذي منحه لنا بموته وقيامته، موته لأجل خطايانا وقيامته لأجل تبريرنا أمام اللَّه مجانًا. ولكن إن كنا نعمل هذه الأعمال عينها بنوع القناعة والاتضاع وسحق الذات كمشاركة حب وإيمان لصليب المسيح وآلامه فنعم ما نعمل. لأننا إن كنا نتألم معه طوعًا أو كرهًا فسوف نتمجد معه! بل وتصير نعمة المسيح مؤازرة لأصوامنا وتقشفنا وفقرنا الطوعي ومسكنتنا حبًا وتعلمًا من الذي قال “تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ” (مت 11: 29). وهنا تصبح أصوامنا وتقشفاتنا وفقرنا مصدر فرح وسعادة واكتفاء لا مثيل له: “مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ” (رو 8: 36) حبًا في من أحبنا..
حدث ذات يوم أن دخل عليَّ إنسان معبَّس الوجه بدرجة أوجعت قلبي فبادرته: مالكيا فلان؟ فبادرني: مالي؟ أسأل عن خطاياي التي صارت كالجبال فوق ظهري. أنا لا أحسب خاطئًا وحسب بل أنا الخطية ذاتها، فقلت له مرحا مرحا فأنت صرت المسيح نفسه لأن لا أحد قال هذا وكان هذا الفعل إلاَّ المسيح الذي “صار خطية لأجلنا” (2كو 5: 21). فعنّفني كيف أسخر منه وهل هذا وقت مداعبة، فجلست معه أحكي له ماذا عمل المسيح من أجل خطاياه وكيف حملها جميعها كمًّا ونوعًا وما من خطية عملها في الماضي أو سيعملها في المستقبل إلاَّ والمسيح حملها في جسده على الصليب ودفع ثمنها جميعًا ألمًا وصلبًا وموتا،ً وأصبحت لا وجود لها إلاَّ في تصوُّر الشيطان الذي استولى على نفسه ليُدخِله هذه الكآبة ليميته حيًّا. وقليلًا قليلًا انفرجت أساريره ولم أتركه إلاَّ مبتسمًا!!..
وهكذا إن دخلت الخطية ومعها محاولة علاجها بالأعمال التكفيرية خرج المسيح. أمَّا إن كنا في عمق الخطية ودخل المسيح دخلت النعمة ومعها فرحة القيامة“(303).
قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ.. يا من تريدون أن تتبرَّروا بالناموس قد فصلتم حياتكم عن المسيح لأنكم أتبعتم المعلمين الكذبة، وربطتم أنفسكم بأعمال الناموس، وتشكَّكتم في عمل النعمة الكافي، فكل مَن يعتمد في تبرّير نفسه على الناموس فإنه بصريح العبارة هو لا يؤمن بكفاية خلاص المسيح، ويظن أنه يحتاج بجوار إيمانه بالمسيح إلى الختان والناموس، أما نحن فقد تركنا أعمال الناموس عن اقتناع ورضى، مكتفين بالإيمان برب الناموس الذي يبرّرنا بعمل المسيح الكافي والشافي.
أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ..إنهم يتجاهلون: “أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا“(غل 2: 16) ولو كان في الناموس الكفاية لخلاص الإنسان وتبريره فلماذا تجسّد المسيح؟!.. إن النعمة والناموس لا يمكن أن يسيرا معًا، وبتعبير معلمنا بولس: “لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللَّه. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ” (غل 2: 21)، وتعبير “سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ“ يؤدي نفس معنى التعبير السابق “قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ“، فسقطتم وتبطلتم يعطيان نفس المعنى، فقط استبدل بولس الرسول اسم “الْمَسِيحِ“ بكلمة “النِّعْمَةِ“، فالمسيح هو نعمة اللَّه الآب لنا، ولا توجد نعمة بعيدًا عن السيد المسيح، وكل مَن يعتمد في تبرّيره على الناموس فأنه يفصل نفسه عن دائرة النعمة، وتصير النعمة عديمة الجدوى بالنسبة له، وبدون النعمة يستحيل على الإنسان أن ينال خلاصه، وفي رسالته للعبرانيين حذّر بولس الرسول العبرانيين قائلًا لهم: “مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ” (عب 12: 15).
قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ.. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ.. قبل أن نؤمن كنا محمَّلين بدين ضخم وثقيل يستحيل علينا تسديده، فجاء ابن اللَّه ورُفِع على خشبة العار وذُبح على الصليب لكيما يوفي عنا هذا الدين الثقيل، وعندما آمنا به صرنا أغنياء في النعمة بل صار لنا: “غِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى“ (أف 3: 8).. فهل يرتد الإنسان إلى عبودية الناموس وتلك الأركان الضعيفة الفقيرة ويترك غنى نعمة المسيح؟!
وليس معنى هذا، أهل غلاطية قد فقدوا خلاصهم ولم يعد هناك أمل في نجاتهم وقد هلكوا هلاكًا مبينًا، لأنه لو كان هذا قصد معلمنا بولس فلماذا كتب لهم هذه الرسالة؟! وكيف يدعوهم تارة بأنهم إخوة وتارة أخرى بأنهم أولاده؟!.. ولكن هذه عبارات صادمة للغلاطيين لعلهم ينتبهون ويسرعون إلى خلاص أنفسهم، وأيضًا يجب التنبُّه بأن السقوط في الخطية لا يعني السقوط من النعمة ولا يعني الهلاك الأبدي، ونحن لا نوافق أصحاب تعليم السقوط النهائي الذين ينادون بأن على الإنسان لكيما يحافظ على خلاصه أن لا يسقط في الخطية بتاتًا، فبولس الرسول هنا لا يتحدّث عن السقوط في الخطية، إنما يتحدث عن التبرّير بالمسيح وليس بالختان، ولا يوجد إنسان لا يخطئ، وقال الكتاب: “لأَنَّ الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَعْثُرُونَ بِالشَّرِّ“ (أم 24: 16)، فبالرغم من سقوطه سبع مرت فأنه ما زال يُدعى صديقًا لأنه كل مرة يسقط فيها يقوم.
ويقول “دكتور وليم آدي“: “وبولس لم يقصد أن يصرح بأن مؤمني غلاطية قد بلغوا هذا الحد من الارتداد أي حد السقوط من النعمة، بل أراد أن يوضح لهم ما ينتج بالضرورة عن قبولهم تعليم المفسدين والتسليم بوجوب حفظ الرسوم الموسوية. ولا يستلزم ذلك ظن بولس أن الإنسان بعد أن يؤمن الإيمان الحق يسقط من النعمة كل السقوط ويهلك لأن ذلك الاستلزام منافٍ لكثير من أقواله، فمعظم غايته مما قاله هنا أن يرى الناس الخطر العظيم الذي يعرّضون أنفسهم له حتى يعرضوا عنه”(304).
“ويقول “ويليز” إن المؤمن الحقيقي:
لا |
|
لكنه |
1 يقبل نعمة اللَّه باطلًا (2كو 6: 1). |
|
1 يثبت في نعمة اللَّه (أع 13: 43). |
2 يبطل نعمة اللَّه (غل 2: 21). |
|
2 يقيم في النعمة (رو 5: 5). |
3 يسقط من النعمة (غل 5: 4). |
|
3 يتقوى بالنعمة التي في المسيح (2تي 2: 1). |
4 يزدري بروح النعمة (عب 10: 29). |
|
4- يتقدم بثقة إلى عرش النعمة (عب 4: 6). |
5- يخيب من نعمة اللَّه (عب 12: 15). |
|
5- له قلب ثابت بالنعمة (عب 13: 9). |
6- يحول نعمة اللَّه إلى الدعارة (يه 4). |
|
6- ينمو في النعمة (2بط 3: 18)“(305). |
“فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“(غل 5: 5، 6).
فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ.. هنا ينتقل بولس الرسول من صيغة المخاطب للغلاطيين المتذبذبين في إيمانهم (اخْتَتَنْتُمْ – تَبَطَّلْتُمْ – سَقَطْتُمْ) إلى صيغة المتكلم (فَإِنَّنَا – نَتَوَقَّعُ)، وهنا يضم بولس الرسول نفسه إلى الغلاطيين ليشدّد من أزرهم، ولكن عند قوله “فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ“ أي روح يقصد؟.. أنه يقصد الروح القدس، فقد نالوا مواهب الروح القدس بالإيمان وليس بأعمال الناموس: “أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هذَا فَقَطْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ“ (غل 3: 2، 5)، فعن طريق الإيمان حصلنا على الروح القدس الذي منحه الرب لنا، ويؤكد بولس الرسول على هذه الحقيقة فيقول: “فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ“ مؤكدًا أننا حصلنا على مواهب الروح القدس عن طريق خبر الإيمان، فإن “الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللَّه“ (رو 10: 17)، وهنا يضم بولس الرسول الكلمتين “بِالرُّوحِ“ و“الإِيمَانِ“ ليصل إلى مفهوم أعمق.
فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ.. وما هو رجاء البر الذي نتوقعه؟.. أنه الرجاء في الخلاص والحصول على التبرير، أنه البر الذي نتوقعه في الزمن الحاضر، وأيضًا في الحياة الأخرى في حياة الخلود والمجد في أورشليم السمائية، وتعدُّ هذه الآية من الآيات القلائل التي تحدّثنا في هذه الرسالة عن الحياة بعد الموت فنحن نتوقّع رجاء البر، أي المكافأة والأجر السمائي، ليس بناءً على أعمالنا ولا صلاحنا ولكن بناءً على هبات اللَّه المجانية لنا التي يمنحنا إياها الآب في المسيح يسوع بالروح القدس.
ويعلّق “الخوري بولس الفغالي” على قول بولس الرسول “نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ“ قائلًا: “هناك انتظار الإيمان الهادئ، وروح اللَّه يجعله ممكنًا وحقيقيًا في حياة المؤمن. هذا الروح يختم في القلوب يقين الإيمان. فيه يكون الانتظار بنويًا وواثقًا. وفعل انتظر هذا يدل أيضًا على انتظار مجيء الرب أو الدينونة الأخيرة (رو 8: 19، 1كو 1: 7، في 3: 20) إذًا، نفهم من رجاء البر (أو: البر المرتجى) أيضًا في معنى اسكاتولوجي. هو الرجاء الذي يعطيه البر للمؤمن، وهو البر الذي نرجوه في الدينونة الأخيرة (رو 8: 24).. ميَّزت (آية 5) الحياة المسيحية كانتظار واثق للدينونة الأخيرة.. وهكذا بدت الحياة المسيحية مشدودة بين حدثين: حدث من الماضي هو الصليب، وحدث من المستقبل هو الدينونة”(306).
فبالإيمان نحصل على بركات الروح القدس، وبالروح القدس نحصل على رجاء البر والإيمان، والروح القدس هو الذي يهبنا حياة البر في الملكوت، هذا هو رجاؤنا، وهو يختلف تمامًا عن رجاء الإنسان اليهودي الذي يرتبط بالجسد والختان، أما الرجاء المسيحي فأنه يرتبط بالإيمان والمحبة في الروح القدس، وفي هذه الآية الخامسة تحدث بولس الرسول عن الإيمان والرجاء، وفي الآية السادسة عندما قال: “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“ فأنه تكلَّم عن الإيمان والمحبة. إذًا عبر الآيتين الخامسة والسادسة يتحفنا مُعلّمنا بولس الرسول بالحوار حول الإيمان والرجاء والمحبة: “أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ“ (1كو 13: 13).
فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ.. نحن الذين آمنا بأن التبرّير بدم المسيح وحده، قد شملتنا نعمة الروح القدس، ولذلك فإننا ننتظر البر الذي نرجوه والمكافأة التي تتبع ذلك: “لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً. لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا. وَلكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ“ (رو 8: 24، 25)، وعلى رجاء القيامة كان بولس الرسول يتوقع وينتظر إكليل البر: “وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ وَلَيْسَ لِي فَقَطْ بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا“(2تي 4: 8).
فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ.. وكلمة “نَتَوَقَّعُ“ التي جاءت هنا وردت في عدة مواضع في العهد الجديد، وهي تشير للمجيء الثاني أو البركات المرتبطة بهذا المجيء، وبينما كان المتهوّدون يدَّعون أنهم يحصلون على كمال البر في هذه الحياة بالختان وحفظ الناموس، فالحقيقة أن الإنسان يحصل على البر في الحياة الآتية.
ويقول “ماكدونل“: “فالمسيحي ينتظر رجاء البر، إذ يرجو حلول الساعة التي فيها سيأتي الرب ثانية فيُعطىَ الجسد المُمجَّد ويُعتَق من الخطية بالتمام. وتجدر الملاحظة أنه لا يقول أن المسيحي يرجو الحصول على البر، فهو قد أصبح مقبولًا لدى اللَّه بواسطة الرب يسوع المسيح (2كو 5: 21)، لكنه ينتظر الوقت الذي فيه يغدو كامل البر في ذاته. وهو لا يرجو تتميم ذلك الأمر عن طريق مجهوده الشخصي، بل بِالرُّوحِ وبواسطة الإِيمَانِ. فإن الروح القدس سيقوم بالعمل كاملًا والمؤمن يتطلع إلى اللَّه بالإيمان ليُحقّق ذلك. أما الناموسي فأنه يرجو اكتساب البر عن طريق أعماله الشخصية وحفظ الناموس أو الممارسات الدينية. وهذا رجاء باطل لأنه لا يمكن الحصول على البر بهذه الطريقة“(307).
فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ.. اهتم بولس الرسول بإبراز عمل الروح القدس، فحدثنا عن قبولنا الروح القدس بخبر الإيمان (غل 3: 2) وإننا بعد أن ابتدأنا بالروح ينبغي أن لا نكمل بالجسد (غل 3: 3) وقد حصلنا على قوات ومعجزات الروح القدس بالإيمان وليس بأعمال الناموس (غل 3 : 5) وهنا يحدّثنا عن عمل الروح القدس في انتظار رجاء التبرير، ثم يحدّثنا بتوسع عن السلوك بالروح، وثمار الروح القدس.. إلخ، والرجاء الذي يزرعه الروح القدس في قلوبنا هو رجاء واثق وثابت وأكيد “لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ“ (عب 10 : 23). أما رجاء هذا العالم فقد يتحقق وقد يخيب:
“1 رجاء البر يأتينا بواسطة روح اللَّه، فروح اللَّه الذي يسكن في المؤمن ينشئ الرجاء، كما يؤكد له أن اللَّه يحسب إيمانه برًا.
2 ننال رجاء البر عن طريق المسيح يسوع وحده، لا بممارسات طقسية (ختان، ناموس) ولا بعدم ممارستها..
لا شيء بالمرة يمكن أن يؤكد رجاء البر في المرء، إلاَّ يسوع المسيح، فببر المسيح وموته فقط ينال الإنسان الرجاء“(308).
وكل عمل نعمله بالروح وهو نابع من إيماننا فهو يحوي داخله الرجاء، أما كل عمل نعمله ليس بالروح وليس نابعًا من إيماننا فحتمًا سيخلو من أي رجاء صادق، والإيمان مرتبط بالرجاء لأن: “الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى“ (عب 11: 1).
لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.. كل ما نحصل عليه من بركات وخيرات وهبات إلهيَّة مجانية هي من اللَّه الآب بواسطة يسوع المسيح، ولذلك كل مرّة نصلّي فيها الصلاة الربانية التي علَّمنا إياها الرب يسوع نختتمها بقولنا: “بالمسيح يسوع ربنا”، وكل مَن يتحد بالمسيح سواء كان يهوديًا أو أمميًا فأنه لا يهتم بالختان ولا بالغرلة، لا يشغله هذا ولا ذاك، بل شغله الشاغل هو الإيمان العامل بالمحبة، الإيمان العملي الذي يطبق الوصية الإنجيلية: “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ“ (مت 5: 16).
لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ.. تصدى معلمنا بولس الرسول بقوة لبدعة التهوُّد التي تنادي بضرورة الختان لنوال الخلاص، وقال لأولاده في كورنثوس: “لَيْسَ الْخِتَانُ شَيْئًا وَلَيْسَتِ الْغُرْلَةُ شَيْئًا بَلْ حِفْظُ وَصَايَا اللَّه“(1كو 7: 19)، وهو ما أكده أيضًا في هذه الرسالة موضع دراستنا: “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ” (غل 3: 28) ومعروف تمسُّك اليهودي بالختان، أما اليوناني فلا يشغله هذا الأمر من قريب ولا من بعيد، كما قال بولس الرسول أيضًا في ذات الرسالة: “لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ” (غل 6: 15)، وأيضًا قال لأهل كولوسي: “حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ“ (كو 3: 11)، فهدف بولس الرسول أن لا يشعر اليهودي بأفضليته ويفتخر بختانه، ولا يشعر اليوناني الأممي بالدونية لأنه لم يختتن، فقبل الإيمان بالمسيح يتساوى هذا مع ذاك، وأيضًا بعد الإيمان بالمسيح يصير هذا أخًا لذاك.
لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ.. الختان لا ينفع شيئًا إلاَّ إذا عمل الإنسان بكل وصايا الناموس وفرائضه وأحكامه لم يقصر في أمر ما ولم يخالف وصية ما، ومن يستطيع أن ينفذ كل هذه الأوامر والنواهي دون أن يخطئ في واحدة؟!.. إذًا الختان لن يصل بالإنسان إلى الخلاص والتبرير، وهو ما أكده بولس الرسول منذ لحظات عندما قال: “هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا“(غل 5: 2). وإن كان الختان بدون حفظ الناموس بكل حذافيره لا يفيد شيئًا، فبالأولى الذي في الغرلة الذي لم يختتن ولم يسلك بحسب ناموس موسى فلن يستفيد شيئًا أيضًا.
ويقول “الأب متى المسكين“: “فلمَّا أكمل المسيح رسالته لخراف بيت إسرائيل الضالة وأعطى البنين خبز السماء ورفضوه وأهانوه وقتلوه، ثبت للإنسان عامة وللتاريخ خاصة أن الختانة لم تسعفهم ولا الناموس هذَّب أخلاقهم. فكان ذلك إيذانًا بنهاية عصر الناموس والختانة.. لذلك كان من أخصّ خصائص العهد الجديد القائم على الروح والإيمان أن يلغي نهائيًا الختانة وتميّزها على الغرلة، فأصبحت الختانة لا تمتاز عن الغرلة في شيء لأنها كانت لعهد أُلغيَ”(309).
ويقول “ماكدونل“: “فما دمنا في المسيح يسوع (أي مسيحيين مؤمنين) فالختان لا يحسننا والغرلة (عدم الختان) لا تجعلنا أسوأ. فما يهم اللَّه في المؤمن هو الإيمان العامل بالمحبة. والإيمان هو الاعتماد الكامل على اللَّه. وهو ليس إيمانًا باطلًا بل أنه يُظهر نفسه بالخدمة المضحية للَّه والناس. ودافع كل هذه الخدمات هو المحبة. هكذا يكون الإيمان عاملًا بالمحبة. فالمحبة لا الناموس هي التي تحث المؤمن على الخدمة”(310).
بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.. ويُفصّل القديس بولس هذه العبارة عندما قال لأهل تسالونيكي: “مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ“ (1تس 1 : 3)، وفي هذه العبارة جمع بولس الرسول بين الإيمان والأعمال، وكرَّرها ثانية قائلًا: “فَإِذْ جَاءَ إِلَيْنَا تِيمُوثَاوُسُ مِنْ عِنْدِكُمْ وَبَشَّرَنَا بِإِيمَانِكُمْ وَمَحَبَّتِكُمْ“ (1تس 3: 6)، وهي القضية التي أثارها معلمنا يعقوب عندما تحدّث عن عدم جدوى الإيمان النظري: “هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ. لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ. أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي.. أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ“ (يع 2: 17-20)، بالإيمان نرضي اللَّه: “وَلكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ“(عب 11: 6) وبالمحبة نسر قلبه، وبموجب أعمال المحبة نستطيع أن نقيس مقدار إيماننا.
بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.. الذي يَفصِل بين إنسان وآخَر ليس الختان ولا الغرلة، ولكن الإيمان العامل بالمحبة، فمن له هذا الإيمان يَخلُص، ومن يفتقد هذا الإيمان ليس له نصيب في ملكوت ابن محبته، فالإيمان الصحيح العامل هو جوهر المسيحية، حتى أن يوحنا الحبيب يقول: “يَا أَوْلاَدِي لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ“ (1يو 3: 18)، أما العمل الخالِ من المحبة فلا قيمة له، وقد دعى الكتاب أعمال المحبة ب “النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ“: “فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ“(يع 2: 8).
بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.. فلا يجب أن أحدًا يستخف بالإيمان، ولا أحد يستخف بالأعمال، والذين يلقون بثقلهم تجاه الإيمان فقط معتمدين على بعض الآيات مثل: “آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ“ (أع 16: 31) متجاهلون أن هذه الآية قيلت لسجان فيلبي الذي اعتمد هو وأهل بيته، كما يغفل هؤلاء أن الإيمان بدون أعمال ميت (راجع يع 2: 17-20)، وأن الإنسان سينال أجرته في النهاية بحسب عمله وتعبه (راجع مت 25: 35، 36، مر 9: 41، 1كو 3: 14)، وأن الأعمال الحسنة تؤول إلى تمجيد اسم اللَّه (مت 5: 16).
الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.. لا ينفصل الحب عن الإيمان، فيقول “القديس أغسطينوس“: “هذا الإيمان يميّزنا عن إيمان الشياطين (يع 2: 19) وعن سلوك الدنسين الفاسدين.. انزع الإيمان يتبدَّد كل ما تعتقد به! انزع الحب، تتبدَّد كل أعمالك! فإن عمل الإيمان أن تعتقد والمحبة أن تعمل!..
لستُ أُحثكم على الإيمان بل على الحب، فأنكم لا تقدرون أن تقتنوا الحب بدون الإيمان، أقصد حب اللَّه والقريب، إذ كيف يوجد دون الإيمان، كيف يمكن لإنسان أن يحب اللَّه مالم يؤمن به؟ كيف يمكن للجاهل أن يحب اللَّه الذي يقول في قلبه ليس إله (مز 53: 1). يمكنك أن تؤمن بأن المسيح جاء دون أن تحبه، لكن لا يمكنك أن تحبه وأنت تقول بأنه لم يأتِ“(311).
ويقول “الأب متى المسكين“: “وطبعًا هنا ق. بولس يعتصر من رحيق الصليب شرابًا يسقي به أهل غلاطية، فأعمال المسيح وكلها مرتكزة في الصليب ونابعة منه، عنصرها الأساسي والفعَّال هو المحبة.. وبنظرة ثاقبة تتخلل هذه الآيات كلها نرى أن المحبة هي سر قوة الإيمان المسيحي كما أن الإيمان المسيحي هو سر قوة الأعمال.. فبدون محبة ليس إيمان وبدون إيمان ليس أعمال”(312).
“كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ. هذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ. خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ” (غل 5: 7 – 9).
في الآيات (غل 5: 7-12) يدعو بولس الرسول أولاده لإطاعة الحق:
“1 أطيعوا الحق، لأن الحياة المسيحية سباق (ع 7).
2 أطيعوا الحق، لأن اللَّه دعاكم للحرية (ع 8).
3 أطيعوا الحق، لأن ضلالًا قليلًا يفسد الجميع (ع 9).
4 أطيعوا الحق، لثقة خدام اللَّه فيكم (ع 10).
5- أطيعوا الحق، لأن المعلمين الكذبة سيُلقَون عقابهم (ع 10 – 12)“(313).
كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا.. تمثل الآيات الستة (غل 5: 7-12) مجادلة شخصية مع الغلاطيّين، وفعل “تَسْعَوْنَ“ مقتبس من السباقات الأولمبية اليونانية القديمة، فكلمة “سعى” تأتي بمعنى “السباق” أو “الحرب”، وكان بولس الرسول مُغرمًا بالربط بين ما هو شائع في المجتمعات اليونانية من مسابقات وبين طبيعة حياة الجهاد، وكانت مسابقات الركض في الميدان من الصور المحبَّبة لبولس الرسول، فاستخدمها في أكثر من موضع، فقال: “إِذًا أَنَا أَرْكُضُ“ (1كو 9: 26)، وقال لأهل كورنثوس: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا. أَمَّا أُولئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلًا يَفْنَى وَأَمّا نَحْنُ فَإِكْلِيلًا لاَ يَفْنَى“ (1كو 9: 24، 25). وقرب نهاية مشوار الحياة قال: “قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ“ (2تي 4: 6).. ولم يكن يحق لأي لاعب أن يشارك في المباريات الأوليمبية إلاَّ إذا كان مواطنًا أصيلًا، وهكذا نحن إذ صرنا مواطنين سمائيين يحق لنا المشاركة في السباق لكي نفوز بالجعالة في الجائزة: “أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضًا الْمَسِيحُ يَسُوعُ.. أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللَّه الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (في 3: 12، 14)، وقال في نفس الرسالة أيضًا عن سبب صعوده إلى أورشليم: “لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا” (غل 2: 2)، وقال لأولاده في فيلبي بأن تمسكهم بكلمة الحياة يعني أنه لم يسعَ باطلًا، بل أن جهاده جاء بالثمرة المرجوة: “مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الْحَيَاةِ لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ الْمَسِيحِ بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلًا وَلاَ تَعِبْتُ بَاطِلًا” (في 2: 16).
كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا.. وقوله حسنًا يشبه قوله لأهل فيلبي: “أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَق كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ. إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا“(في 4: 8).. فيامن سعيتم إلى كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر ومسر وما صيته حسن، كيف ترتدون على أعقابكم؟!.. كنتم تسعون حسنًا في طريق الإيمان فعرفتم اللَّه، بل بالحري عُرفتم من اللَّه. فكيف تعودون إلى ماضيكم المُظلم؟!
فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ.. يسألهم بولس الرسول: “فَمَنْ صَدَّكُمْ“، وهل كان يجهل من صدهم؟.. كلاَّ، فهو يعرف أن المتهوّدين والمعلمين الكذبة هم الذين فعلوا هذا. إذًا لماذا يسألهم؟.. أنه يعطيهم فرصة للإجابة، ولينتبهوا ويدركوا ماذا فعل هؤلاء المتهودون والأنبياء الكذبة.. أنه يذكّرهم بالسعي في طريق الحق حتى يرتدوا عن طريق الباطل.
مَنْ صَدَّكُمْ.. أي من أعاقكم عن السباق والجري، “والعبارة في الأصل اليوناني تدل على تخريب الطريق وجعله غير صالح للمرور. فكأن الرسول يسألهم قائلًا: من وضع العراقيل أمامكم حتى لا تطيعوا الحق”(314).. فمن صدكم أي من أخرجكم عن المسار القانوني للسباق حتى خالفتم الإيمان الحقيقي الذي سلمتكم إياه، ومن قبل قال لهم بنفس المعنى: “أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ“ (غل 3: 1)، ومن لا يطيع الحق فأنه يطيع الإثم، والذين يطيعون الإثم يسقطون تحت السُخط الإلهي: “وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحَزُّبِ وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ” (رو 2: 8).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “تعبير يحمل الرثاء والدهشة والأسى. أنتم الذين تقدَّمتم حتى مستوى المعلمين لم تحتفظوا لأنفسكم حتى بمستوى التلاميذ”(315).
“سعى الغلاطيون وجروا جريًا جيدًا آمنوا بالمسيح، وعاشوا لأجل المسيح حياة طاهرة ونقية، ولهم شهادة حية عن المسيح، بل كانوا يتعبدون له ويخدمونه بغيرة وحماس، وكانوا يعيشون ما يعترفون وما يؤمنون به. لم يكن فيهم اعتراف كاذب، ولم يوجد فيهم زيف أو رياء. ولم يكونوا أبدًا مسيحي يوم الأحد فحسب، إنما انشغلوا بخدمة المسيح طوال أيام الأسبوع، حتى كان الناس يأتون من كل أرجاء المدينة ليعرفوا المسيح.
لكن حدث أن تعطّل البعض في السباق وبدأوا يتراجعون. ونعلم من الأصحاحات الأربعة السابقة أنه قام معلمون كذبة في كنائس غلاطية. لكن يبدو أن الإشارة هنا إلى فرد، تزعم إثارة البلبلة وبث التعاليم الزائفة. وكلمة صد “enekopsen” تعني يعوق، يدفع تدريجيًا، يتدخل، يسد، يعترض. فالصورة هنا لا تزال في سباق للجري، فبينما كان الغلاطيون يركضون في السباق المسيحي، اعترضهم البعض، فبدأوا يتعطلون في ركضهم، فلم يستطيعوا الإذعان للحق، وهكذا تراهم الآن يحاولون الاقتراب إلى اللَّه عن طريق آخَر غير المسيح“(316).
فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ.. من منعكم من مواصلة سعيكم نحو ما هو حسن وجليل؟!.. من منعكم من السعي نحو الإكليل؟!.. وما الذي دعاكم للرجوع للأركان الضعيفة الفقيرة التي تفتقر للتبرّير ولا تصنع خلاصًا؟!.. وكيف استطاع الذين صدوكم أن يسحروكم بحلو كلامهم الباطل المخادع، حتى تنازلتم عن الإيمان المسلَّم مرة للقديسين؟!.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “افتدانا المسيح، فلا ننتقل من عبودية (الأوثان) إلى عبودية (الشريعة). افتدانا فأعطانا حرية أبناء اللَّه (رو 8: 15). لنترك نير الشريعة الموسوية (مت 11: 29-30، 23: 4، أع 15: 10). ولكن المتهوّدين يعلنون أنهم أحرار منذ الخروج، وأنهم يعيّدون حريتهم في كل عيد فصح. فيجيب بولس أنها حرية جزئية تتوجه إلى شعب واحد. إذًا نحتاج إلى حرية نهائية وشاملة نالها لنا يسوع، حمل الفصح الحقيقي، فعلى الغلاطيّين أن يختاروا: إن جعلوا نفوسهم تحت نير الشريعة انفصلوا عن المسيح. ظنوا أنهم بذلك يكمّلون تنشئتهم المسيحية. ألا يكفي الإيمان من أجل البر، وهل يحتاج إلى زيادة؟ هل مات المسيح عبثًا (غل 2: 21)؟ ويعلن بولس: أنت حر حين تطيع الحقيقة، ويبدأ فيعبّر عن خيبة أمله (آية 7) بسؤال بلاغي لا ينتظر جوابًا: “من الذي مال بكم عن الحقيقة؟“(317).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “أما الكلمة الأصلية المُترجمة “صَدَّكُمْ” فهي تدل على ما كان للذين صدُّوهم من قوة في الحجة، وشدة في الاقتناع، وبراعة في التأييد، فكان لتأثيرهم في أولئك الغلاطيّين فعل سحري قوي صدهم عن السعي الحسن. ومال بهم إلى الارتداد للهلاك. لذلك بنفس متألمة وبقلب متواضع وبخوف شديد عليهم يكتب لهم قائلًا ” كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا. فَمَنْ صَدَّكُمْ“..“(318).
هذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ.. المطاوعة أي الإذعان للمتهوّدين والمعلمين الكذبة الذين نادوا بضرورة الختان لتمام الخلاص، فهذه الطاعة التي تقدمونها لهم ليست من اللَّه الذي دعاكم للإيمان القويم من خلال إنجيلي، بل أنتم قد تحولتم من طاعة الحق لمطاوعة المبتدعين الذين سبوكم وسحروكم وأقنعوكم بأنه لا خلاص بدون الختان، وهذه العبارة حملت نفس المعنى الذي حملته بداية الرسالة عندما قال له: “إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ“ (غل 1: 6).
واللَّه الذي دعاكم هو دعى شعبه قديمًا: “اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّه وَلَيْسَ آخَرَ” (إش 45: 22)، وهو الذي يدعو العالم كله: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ“(مت 11: 28).
خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ.. جاءت الخميرة في الإنجيل بمعنيين:
1- معنى حسن: مثلما شبه السيد المسيح له المجد انتشار ملكوت السموات بالخميرة: “يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ” (مت 13: 33)، فالخميرة حيَّة ومن خصائصها النمو السريع، فهكذا ينتشر ملكوت اللَّه على الأرض في سرعة، وأيضًا في هدوء بدون إزعاج ولا ضوضاء.
2- معنى رديء: فأشار الكتاب المقدَّس للشر على أنه خميرة، فأوصى اللَّه شعبه عند تقديم الذبيحة قائلًا: “لاَ تَذْبَحْ عَلَى خَمِيرٍ دَمَ ذَبِيحَتِي“ (خر 34: 25)، وفي عيد الفطير لم يكن مسموحًا لأحد بالاحتفاظ بالخميرة في بيته، حتى أن الرجل اليهودي كان يفتِّش البيت بمصباح لئلا يكون هناك خميرة مخبأة في أحد أركانه، فمنذ عيد الفصح يجب أن يتخلص الشعب كله من أي خميرة، وكان هذا تصرفًا صحيحًا، حيث يصنع الشعب بعد انقضاء عيد الفطير خميرة جديدة من مصادر طبيعية من عام إلى عام.
وهكذا البدعة تبدو صغيرة في بدايتها كالخميرة، ولكنها تفسد العجينة البشرية بالكامل، ولهذا قال بولس الرسول عن بدع المبتدعين: “وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَآكِلَةٍ“ (2تي 2: 17)، كما قال في رسالته لأهل كورنثوس: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ. إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ.. إِذًا لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ“ (1كو 5: 6-8).. “لاَ تَضِلُّوا فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ“ (1كو 15: 33). والخميرة هي الخطية التي تقع في قلب الإنسان بحسب هواه فتنمو وتُفسد الإنسان كله، ولهذا حذر معلمنا الصالح تلاميذه: “انْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ.. مِنْ تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ“(مت 16: 6، 12).. “أَوَّلًا تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ“ (لو 12: 1).
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “لا تتهاون مع الخطية الصغيرة لئلا تقودك لما هو أكبر، لأن الشيطان في الغالب يسحبك تدريجيًا إلى الشر. فكن مدقّقًا وراجع نفسك كل يوم في توبة مع صلاتك، واهتم بكشف كل خطاياك وأسبابها في سر الاعتراف“(319).
“وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئًا آخَرَ. وَلكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ. وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ. إِذًا عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ. يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا“(غل 5: 10 – 12).
وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ.. عجبًا أن بولس الرسول بعد أن بكَّت أولاده الذين مالوا إلى بدعة التهوُّد، الآن بإلهام الروح القدس يشدّدهم ويشجعهم ويبعث فيهم روح الرجاء والثقة، وهذا ما فعله أيضًا مع أولاده في كورنثوس قائلًا: “وَاثِقًا بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ“ (2كو 2: 3)، كما قال لأهل رومية: “وَأَنَا نَفْسِي أَيْضًا مُتَيَقِّنٌ مِنْ جِهَتِكُمْ يَا إِخْوَتِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ مَشْحُونُونَ صَلاَحًا وَمَمْلُوؤُونَ كُلَّ عِلْمٍ قَادِرُونَ أَنْ يُنْذِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (رو 15: 14)، فهو يعلن ثقته بالقائمين، والذين سقطوا وقاموا، وأيضًا الذين سقطوا ويستعدون للقيام، فهو يبث روح الرجاء والثقة في جميع أولاده قدر ما يستطيع.
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “الرسول يخلط شكره للَّه بشكواه، وكأنه يقول لهم: أعرف استعدادكم للاستقامة، وعندي رجاء عظيم بسبب الرب الذي يعمل لخلاصكم وبسبب اهتمامكم السريع بتصحيح خطئكم، وفي الحديث تشجيع لهم ليقوموا بجهدهم الخاص لأن الرب لا يعيننا مالم نقم بواجبنا”(320).
وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ.. بعد أن قال لهم في الأصحاح السابق: “أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا“(غل 4: 11)، وبعد أن قال لهم: “لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ“ (غل 4: 20)، وإذ بلهجته تتغير فيفاجئهم بقوله: “وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ“، فما الذي دعاه لهذا التحوُّل العجيب؟!.. الحقيقة أن بولس الرسول نظر إلى أحوال أولاده المتعثرة فحدّثهم بلغة الخوف والحيرة، ولكن بعد أن علّمهم وأرشدهم وثق في الرب أنه سيعيدهم إلى حالتهم الأولى.
وتعبير “فِي الرَّبِّ“ مساوٍ لتعبيره السابق “فِي الْمَسِيحِ“ فالمسيح الرب هو مصدر ثقة بولس الرسول وليس الإنسان، فكاروز الأمم يثق في الغلاطيّين في الرب، لأن الإنسان بطبيعته مُتقلّب أما اللَّه فليس عنده تغيير ولا ظل دوران، والإنسان قد يضعف ولا يستطيع أن ينفذ ما التزم به، أما اللَّه فهو الذي يمنحه القوة والإرادة، ولهذا قال لأولاده في فيلبي: “وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلًا صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ“ (في 1: 6) وقال لأهل تسالونيك-ي: “وَنَثِقُ بِالرَّبِّ مِنْ جِهَتِكُمْ أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ مَا نُوصِيكُمْ بِآهِ وَسَتَفْعَلُونَ أَيْضًا“ (2تس 3: 4).
وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ.. العلاقة في الخدمة ليست علاقة ثنائية بين خادم ومخدوم، ولكنها علاقة ثلاثية لأنها تعبر عن علاقة بين الخادم والمخدوم في حضور الرب، يضع الخادم مخدوميه بين يدي ملك المجد: “الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ“ (مز 24: 8) القائل بفم نبيه إشعياء: “هَلْ تُسْلَبُ مِنَ الْجَبَّارِ غَنِيمَةٌ وَهَلْ يُفْلِتُ سَبْيُ الْمَنْصُورِ؟ فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ حَتَّى سَبْيُ الْجَبَّارِ يُسْلَبُ وَغَنِيمَةُ الْعَاتِي تُفْلِتُ. وَأَنَا أُخَاصِمُ مُخَاصِمَكِ وَأُخَلِّصُ أَوْلاَدَكِ“ (إش 49: 24، 25)، وهو الذي قال عن خرافه: “وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي“ (يو 10: 28)، فبولس الرسول يثق أن المعلمين الكَذَبَة لن يقوُّوا فيما بعد على خداعهم، لأنهم لم يعودوا: “فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ بِحِيلَةِ النَّاسِ بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ“(أف 4: 14)، وهو يثق أيضًا أن صلواته من أجلهم فقد قُبلت.
ويقول “دكتور وليم آدي“: “فِي الرَّبِّ يسوع المسيح. كانت ثقته برجوعهم مبنية على ثقته بالمسيح الذي اتحد به وعمل فيه وبه ( في 2: 24، 2تس 3: 4 ). فأنه واثق أن المسيح يسمع صلواته من أجلهم ويجعل كلامه يؤثر في قلوبهم وأنه يكمل فيهم العمل الصالح الذي ابتدأ فيهم إلى يوم يسوع المسيح كما وثق بمؤمني فيلبي (في 1: 6)”(321).
أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئًا آخَرَ.. إنني أثق في الرب أنه سينير عيون أذهانكم حتى لا ترتأون شيئًا آخَر غير الحقيقة المجردة، ولا تفتكرون إلاَّ في إنجيلي الذي بشرتكم به، وأنني مُصرُّ أن هذا الإنجيل ثابت لا يمكن أن يتغيَّر، وأي كائن آخَر يبشركم بغير ما بشرناكم سواء إنسان أو ملاك فليكن “أناثيما” أي محرومًا، وإن افتكرتم شيء آخَر فأنني أثق أن الرب سيعلن لكم الحقيقة ويؤكدها، هكذا قال لأولاده في فيلبي: “فَلْيَفْتَكِرْ هذَا جَمِيعُ الْكَامِلِينَ مِنَّا وَإِنِ افْتَكَرْتُمْ شَيْئًا بِخِلاَفِهِ فَاللَّه سَيُعْلِنُ لَكُمْ هذَا أَيْضًا“ (في 3: 15).
وَلكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ.. ربما كان هناك شخص معين يتزعم المتهوّدين ولم يشأ بولس الرسول أن يذكر اسمه، فأشار إليه بقوله “الَّذِي“، وقد يكون قوله هنا مُطلَق، يقصد به أي إنسان يحاول أن يزعج أولاده، أيًا من كان، والذين أزعجوهم هم الذين بشروهم بإنجيل آخَر: “أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ“ (غل 1: 7)، ومثل هؤلاء الذين قال عنهم الآباء الرسل: “إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَال مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا النَّامُوسَ الَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ“ (أع 15: 24)، وقال بولس الرسول لأهل تسالونيكي عن الذين اضطهدوهم وأزعجوهم: “إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللَّه أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا. وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ. فِي نَارِ لَهِيبٍ مُعْطِيًا نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللَّه، وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (2تس 1: 6 – 8).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “أما الذي يقلقكم: هي صيغة مفرد، وبولس يفكّر في شخص محدَّد ويتجنب تسميته، إما لأنه شخص مرموق، وإما لأنه لا يستحق أن يُسمَى. ولكن يبدو أن هذا “المقاوم” يدل على مجموعة تقدرها جماعة غلاطية. من سيحكم عليهم؟ ربما الكنيسة، بل دينونة اللَّه الأخيرة وحكمه (رو 2 : 2، 5، 16، 11: 33)“(322).
وَلكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ.. هؤلاء الذين يزعجونكم سيخضعون لدينونة اللَّه العادلة “أَمَّا الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ فَاللَّه يَدِينُهُمْ“ (1كو 5: 13).. “الَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ“ (2كو 11: 15).. ومَن يستطيع الوقوف؟!.. هؤلاء الذين أزعجوكم وأعثروكم سينالون جزاء عملهم بحسب حُكم اللَّه العادل: “لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ. خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ“ (لو 17: 1، 2).. وهذه الدينونة لن تكون أمام قاضٍ أرضي يعلم بعض الأمور وتُخفى عنه أمور أخرى، إنما ستكون أمام اللَّه العالِم بكل شيء، فاحص القلوب والكُلى، وعيناه تخترقان أستار الظلام.. سيقفون أمام الغضب الإلهي “لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ“ (رؤ 6: 17).. “لأَنَّ غَضَبَ اللَّه مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ” (رو 1: 18)، فهؤلاء المتهوُّدون الذين حجزوا الحق سيحملون الدينونة، وفعل “يحمل” المُستخدم هنا في الأصل اليوناني هو نفس الفعل الذي استخدمه بطرس الرسول عندما قال: “فَالآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللَّه بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ“(أع 15: 10)، فالمتهوُّدون يريدون أن يُحملوا الغلاطيين هذا النير الثقيل.
سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ.. فكل إنسان سينال المجازاة حسب أعماله خيرًا كانت أم شرًا، لن يستثنى أحد قط، ولن يعفى أحد قط: “وَمُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرّ أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ. وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ اسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ“(رؤ 6: 15، 16).
فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟.. اتهم المتهوُّدون بولس الرسول بأنه كرز بالختان في أماكن أخرى غير غلاطية، وأنه ختن تلميذه تيموثاوس لاقتناعه بضرورة الختان للخلاص، فرد عليهم بولس الرسول ردًا منطقيًا، وهو لو أنني أكرز بضرورة الختان فلماذا أُضطهد من هؤلاء المتهوّدين؟!.. لو كنت أشجع الختان لسرَّ بي المتهوُّدون، وإن كنت قد ختنت تيموثاوس فذلك لظروف خاصة بالخدمة، بينما أصرَّيتُ على عدم ختن تيطس.. ولاحظ يا صديقي أن كاروز الأمم لم يقل أنني لم أقم بالختان، بل قال أنني لم أكرز بالختان، وهناك فرق شاسع بين قيامه بختن تيموثاوس وبين أن يكرز بضرورة الختان، وأن خلاص الإنسان لن يكمل إلاَّ بالختان.
فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟.. قال الرب يسوع: “إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ“ (يو 15: 18، 19)، وعلى نفس الخُطى سار بولس الرسول حاملًا صليبه تابعًا سيده، فيقول: “كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ هكَذَا الآنَ أَيْضًا“ (غل 4: 29)، وتحدث عن الأتعاب والاضطهادات التي تعرّض لها في (2كو 11: 23 – 33) وتساءل: “وَلِمَاذَا نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ“ (1كو 15: 30)، وفي نهاية هذه الرسالة يقول “فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ“ (غل 6: 17).. طوبى لكل نفس تستكمل مسيرتها نحو الملكوت مهما كانت المتاعب والعقبات والاضطهادات والعراقيل التي يضعها عدو الخير في طريقها.. كان شاول يضطهد كنيسة اللَّه بإفراط ويتلفها، أما الآن فصار يُضطهَد من أجل تمسكه بالإيمان القويم.
وجاء في “التفسير التطبيقي“: “كان الاضطهاد دليلًا على أن الرسول بولس كان يكرز بالإنجيل، لأنه لو علَّم بما كان يعلّمه المعلمون الكذبة، ما غضب أحد. ولكن لأنه كان يُعلّم الحق اضطهده كل من اليهود والمتهوّدين. فهل تنكَّر لك أصدقاؤك وأحباؤك لأنك شهدت للمسيح يسوع؟ إن اختبار الرسول بولس يذكّرنا بأن هذا هو ما يجب أن نتوقعه. لقد قال الرب يسوع لتلاميذه ألا يتعجّبوا إن كان العالم يبغضهم لأنه قد أبغضه هو من قبلهم (انظر يو 15: 18، 19)، وكما استمر بولس الرسول يكرز بأمانة ببشارة المسيح، يجب أن تواصل عملك الذي أعطاك إياه اللَّه، رغم كل العقبات التي قد يضعها الآخرون في طريقك“(323).
إِذًا عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ.. تمثل “عَثْرَةُ الصَّلِيبِ“ ركنًا هامًا في فكر بولس الرسول اللاهوتي، و“عَثْرَةُ“ تعني مصيدة أو فخ أو شرك، فالصليب طالما كان حجر عثرة للبعض: “كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى“(رو 9: 33)، وركز بولس الرسول على المسيح المصلوب رغم أنه نظر إليه البعض أنه عثرة وآخرون ظنوا أنه جهالة: “لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً. وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً” (1كو 1: 22، 23)، وبالرغم من أن الصليب كان عثرة لهؤلاء المتهوّدين والمعلمين الكَذَبَة، فإن لسان العطر يقول في نفس الرسالة: ” وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غل 6: 14).
إِذًا عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ.. ما المقصود بهذه العبارة؟.. لقد كنى بولس الرسول عن المسيحية بالصليب، وأن الفداء بالصليب فيه كل الكفاية لنوال الخلاص والتبرير، وكنى عن ناموس موسى بالختان، ويرى المتهوّدون أن تمام الخلاص يحتاج للختان وحفظ الناموس، فلو نادى بولس الرسول بضرورة الختان للخلاص لوافق اليهود في عقيدتهم، وبذلك لم يعد الصليب عثرة لهم ” نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً” (1كو 1: 23).
ويقول “دكتور وليم آدي“: “قد كنى الرسول” بالختان “عن كل رسوم الناموس لأن أهل الناموس امتازوا به. وكنى “بالصليب” عن الدين المسيحي لامتياز المسيحيين به. فلو نادى بوجوب الختان لكان كأنه نادى بناموس موسى فقرَّر أنه يهودي فاستحال أن يضطهده اليهود. ولكن اليهود كانوا لا يزالون يبغضونه ويضطهدونه وهذا دليل قاطع على أنه نادى بأن الإيمان بيسوع المسيح مصلوبًا الواسطة الوحيدة للخلاص وهذا أعظم عثرة لليهود“(324).
ويقول “ماكدونل“: “ويحاول بولس الآن الرد على القائلين بأنه هو أيضًا كان يكرز بضرورة الختان، فهو ما زال يقاسي الاضطهاد على أيدي اليهود، فلو كان يكرز بالختان لتوقف الاضطهاد مباشرة، لأن ذلك يعني أنه قد ترك الكرازة بالصليب، لأن الصليب عثرة للناس، فهو يُعثِر الإنسان إذ يخبره أن لا قيمة لأعماله مهما كانت، للحصول على الخلاص. فالصليب لا يدع مجالًا للجسد ومجهوداته بل يضع حدًا للأعمال البشرية. فلو أدخل بولس الأعمال من طريق الكرازة بالختان لوضع بالحقيقة جانبًا كل معنى الصليب”(325).
يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا.. بعد أن صحح بولس الرسول أخطاء أولاده المخدومين توجه بلهجة التهديد للذين خدعوهم.. هؤلاء القوم المزعجون الذي سجَّسوا مسيحي أنطاكية قائلين لهم: “إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا“ (أع 15: 1)، هؤلاء المبتدعين يا ليتهم يقطعون أنفسهُم بأنفسهم من شركة القديسين، أو يا ليت الكنيسة تقطعهم من شركتها كأعضاء فاسدة تفسد الجسد كله، أو لعل اللَّه يقطعهم، هؤلاء الذين كدَّروا صفوكم كما كدَّر قديمًا عخان بن كرمي بني إسرائيل، إذ بسبب خطيته انكسر الشعب أمام القرية الصغيرة عاي وقُتل منهم ستة وثلاثون رجلًا: “فَقَالَ يَشُوعُ كَيْفَ كَدَّرْتَنَا يُكَدِّرُكَ الرَّبُّ فِي هذَا الْيَوْمِ. فَرَجَمَهُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ بِالْحِجَارَةِ وَأَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ وَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ“ (يش 7: 25)، وأيضًا مثل أخاب الملك الشرير الذي كدَّر الشعب، وبسبب تجاوزاته الشديدة انقطع المطر عن الأرض نحو ثلاث سنين وستة أشهر، وعندما التقى بإيليا: “قَالَ لَهُ أَخْآبُ أَأَنْتَ هُوَ مُكَدِّرُ إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ لَمْ أُكَدِّرْ إِسْرَائِيلَ بَلْ أَنْتَ وَبَيْتُ أَبِيكَ بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا الرَّبِّ وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ“ (1مل 18: 17، 18)، وانتهت حياته بأنه قُتل في الحرب، فكل من عخان بن كرمي وآخاب سقط تحت دينونة اللَّه العادلة.
وفعل “يَقْطَعُونَ” يُطلَق أيضًا على كهنة سبيلية الحكيمة الذين يعبدون الأوثان، وإكرامًا لآلهتهم يخصون أنفسهم، فقد صار الختان بلا فائدة، فيا ليتهم يقطعون أي ليصيروا مثل كهنة الأوثان الذي يخصون أنفسهم، ويقول “الأب متى المسكين“: “كثير من العلماء قالوا بأن ق. بولس يصب غضبه على الذين قالوا بقطع الغرلة أي الختانة للمسيحيين في غلاطية فقال ليت هم أيضًا يقطعون الخصية أيضًا لأنفسهم، كما جاءت هذه الكلمة باليونانية في القاموس الكبير اليوناني.
ويقول كل من العالِم ليتفوت والعالِم ريدريوس أن في غلاطية خاصة الأقليم الشمالي كان كهنة سبيلية الحكيمة يُفرض عليهم أن يخصوا أنفسهم تماديًا في التقوى. فالقديس بولس يهزأ بهؤلاء المفترين الذين يودون أن يضيفوا على المسيحية طقس قطع الغرلة أي الختانة تماديًا في الطهارة فيقول وينصحهم هم أن يخصوا أنفسهم ليزدادوا طهارة فوق الختانة“(326).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “يَا لَيْتَ (آية 12) نحن أمام تمنٍ ورغبة بشكل تعجُّب “ساخر” (راجع 2كو 11: 1). يا ليتهم “يَقْطَعُونَ“، يشوَّهون، تقطع أعضاؤهم، افتخر الشريعانيون بالختان، افتخروا بهذه “العملية الطبية”. فليستخلصوا النتائج على ما فيها من كره. ليخصوا نفوسهم (في 3: 2 – 3). هكذا اعتاد أن يفعل الكهنة في عبادة فريجية بفعل تعصُّب ديني. غير أن هذه الاحتفالات أثارت القرف والاحتقار لدى اليهود. وهكذا يكون الختان على مستوى هذه الممارسة الوثنية0 فماذا يقول المتهوُّدون؟!
إن كان المخصيون يُطرَدون من جماعة اللَّه كما يقول (تث 23: 2)، فالمختونون لا يختلفون عنهم فيما يخصّ كنيسة المسيح التي في غلاطية. فليأخذ المؤمنون مسؤولياتهم“(327).
ثانيًا: الحرية العملية (غل 5: 13-15):
“فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ،بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (غل 5: 13 – 15).
بعد أن حطّت الحرب العالمية أوزارها، وقد خلَّفت ورائها نحو ستين مليون قتيل من دول عديدة، وفي 6 يناير 1941م وقف “فرانكلين روزفلت” الرئيس الأمريكي أمام مجلس الشيوخ يتحدّث عن أمنياته في المستقبل، وهي أن يتمتّع العالم بكافة صور الحرية من خلال:
1 حرية التعبير. 2- حرية العبادة.
3- الحرية من الاحتياج. 4- الحرية من الخوف.
ونسى أهم صور الحرية، وهي حرية الإنسان من الأنانية والطبيعة القديمة وعبودية الجسد.
وتعتبر هذه الفقرة امتداد للآية الأولى من هذا الأصحاح التي تحدّث بها عن الثبات في الحرية (غل 5: 1)، أما الأعداد الإحدى عشرة (غل 5: 2-12) فهي تعتبر جملة اعتراضية طويلة، عاد بعدها بولس الرسول لاستكمال حديثه في الأمور الروحية، فبعد أن تحدّث وأفاض عن التحرُّر من عبودية الناموس وضرورة الإيمان بالمسيح، بدأ يدخل في الجانب العملي السلوكي وهو كيف نسلك في الحرية التي قبلناها من المسيح، لا بموجب ناموس وقوانين بل بموجب المحبة. إذًا من هذه الفقرة ينتقل كاروز الأمم من المنطقة العقائدية اللاهوتية إلى المنطقة الروحية السلوكية، وهذا هو منهج بولس الرسول الذي عوَّدنا عليه، وهو أن يسبح أولًا في الأمور اللاهوتية، ثم ينتقل إلى السلوك العملي، وبهذا يُعلّمنا مبدأ “اللاهوت المُعاش” وليس لاهوت النظريات المنفصل عن حياة الإنسان وواقعه العملي وسلوكه الأخلاقي، وهنا وقد انتهى من محاضرته الأولى عن عقيدة التبرير بالإيمان وعدم نفع الختان وعبودية الناموس، بدأ على الفور محاضرته الثانية عن السلوك الأخلاقي المسيحي، فيوضح لنا الالتزام تجاه اللَّه، الذي وهبنا الحرية ليس كفرصة لممارسات الأمور الجسدية الخاطئة والشهوات، بل كالتزام تجاه الآخَرين بخدمتهم بمحبة كاملة بعيدًا عن التطاحن.
“فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“(غل 5: 13).
وتعتبر هذه الآية همزة الوصل بين الفقرة السابقة والحالية، ففي بداية الفقرة السابقة أوصانا معلمنا بولس بأن نثبت في الحرية التي حرَّرنا المسيح بها بسفك دمه على عود الصليب، وأن لا نرتبك بنير عبودية الناموس ومطالبه الثقيلة.
فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. تناول بولس الرسول موضوع الحرية في هذه الرسالة أكثر من مرة، ففي الأصحاح السابق أكد على حرية البنين: “لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا“(غل 4: 7)، كما أشار إلى أورشليم العليا الحرة: “فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا“ (غل 5: 1)، وهنا يُلقي الضوء على دعوتنا للحرية، وقوله “إِنَّمَا“هو تأكيد للدعوة، فالدعوة ثابتة وأكيدة، والدعوة للحرية في حقيقتها هي الدعوة للإنجيل، الدعوة للقداسة بنعمة المسيح: “لأَنَّ هذِهِ هي إِرَادَةُ اللَّه قَدَاسَتُكُمْ. أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الزِّنَا.. لأَنَّ اللَّه لَمْ يَدْعُنَا لِلنَّجَاسَةِ بَلْ فِي الْقَدَاسَةِ“(1تس 4: 3، 7).. في ظل الناموس كان على الإنسان أن يعيش القداسة بقوة القانون لأن كل من يزني يُرجم، أما في ظل الإيمان بالمسيح فقد صارت القداسة هي إرادة اللَّه التي يقبلها الإنسان، ودعوة اللَّه للقداسة مؤيدة بقوة إلهيَّة تساعد الإنسان على الحياة المقدَّسة، فبعد أن كان الناموس يطالب الإنسان بحياة القداسة دون أن يمنحه قوة ليحيا فيها ففشل الإنسان في هذا، جاء المسيح يدعو الإنسان لحياة القداسة من خلال الإتحاد به، فصارت حياة القداسة سهلة وحلوة.
ويقول “الأب متى المسكين“: “فالمسيح وهبنا القداسة هبة، وأعطانا الحرية على أساس روحي فائق، ويكفي من جهة اللَّه أن تكون “إرادة اللَّه هي قداستنا”. ومن جهتنا يكفي أن نؤمن أن قداستنا هي إرادة اللَّه لتصبح هي إرادتنا. لذلك إذا انعكست الحرية في المسيح واستخدمت ستارًا لإشباع شهوات الجسد ورغباته كانت الخسارة فوق ما يتصوَّر الإنسان”(328).
فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ.. هذه الحرية التي دُعيتم إليها هي حرية مسئولة بعيدة تمامًا عن التسيب والإباحية، ليست حرية لارتكاب المعاصي إنما حرية لأعمال المحبة، ليست حرية نابعة من الطبيعة القديمة الساقطة، إنما نابعة من الطبيعة الجديدة والنوايا الحسنة.. مفهوم الحرية المسيحية ليس فعل كل ما يحلو لنا خيرًا كان أم شرًا، إنما فعل ما يتوافق وروح الإنجيل، ليست هي الحياة بحسب الجسد وشهواته وأهوائه، وليست هي التحرُّر من المبادئ ووصايا الكتاب، بل هي الحياة الإنجيلية المنطبقة: “الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ“ (غل 5: 24) أما الذين انغمسوا في الشهوات الجسدية تحت شعار الحرية، فقد صاروا عبيدًا وليسوا بأحرار: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ“ (يو 8: 34)، أما الإنسان الحر فهو الذي تحرَّر من قيود الخطية والشر: “فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا” (يو 8: 36)، والإنسان الحر يقول مع “القديس أغسطينوس“: “وضعتُ قدميَّ على قمة هذا العالم عندما صرت لا أخاف شيئًا ولا أشتهي شيئًا”.. وكم من الخطايا والشرور والآثام تُرتكب بِاسم الحرية، فالبعض يعتبر عدم مراعاة شعور الغير يدخل ضمن الحرية الشخصية، والبعض يظن أن المعاشرات الجسدية قبل الزواج تدخل ضمن الحرية الشخصية، والبعض يعتبر أن الزواج المثلي حرية شخصية، وحسرة على الولايات المتحدة التي قنَّنت مثل هذا الزواج المثلي وسمحت به في جميع ولاياتها الخمسين، وبينما سجلوا على عُملتهم “نحن نؤمن باللَّه” أو “نحن نثق باللَّه”In God we trust” فأنهم يحطمون وصايا اللَّه عيانًا بيانًا.
لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ.. ظن البعض أن الحرية هي فرصة ليفعلوا كل ما يشاءون بغض النظر عما كان هذا التصرف صحيحًا أم خاطئًا، فأطلقوا لأجسادهم عنان الشهوات، وظن البعض الآخر أن الوصية هي قيد ثقيل على الإنسان، تحد من حريته.. أما الحرية من منظار مسيحي فهي فرصة وانطلاق لعمل الخير مع التحفُّظ من كل شر، هي حرية لفعل الخير وخدمة الآخرين بمحبة، وليست رخصة لفعل الشر، وقول بولس الرسول: “فُرْصَةً“ أي أن تصير الحرية في مفهومها الخاطئ نقطة انطلاق لرغبات الجسد، وعندما كان يهاجم ملك مدينة كان يبحث عن أي ثغرة أو مكان ضعف ليعتبره قاعدة الانطلاق للعمليات الهجومية على هذه المدينة، هكذا عدو الخير يجعل الجسد نقطة الانطلاق للهجوم علينا، والشهوة هي السنارة التي يصطادنا بها، ولذلك تعلمنا المسيحية ضبط شهوات الجسد حتى لا تصير فرصة لعدو الخير ليهجم من خلالها علينا، أما من لا يضبط جسده فإن عدو الخير سيقهره وينحدر به إلى هوة الجحيم.
وما دعاه بولس الرسول “فُرْصَةً” دعاه معلمنا بطرس “سُتْرَةٌ“ فقال: “كَأَحْرَارٍ وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ بَلْ كَعَبِيدِ اللَّه“ (1بط 2: 16)، والذي يعيش عبدًا للَّه فهو يعيش في كمال الحرية، الحرية من الإحساس بالذنب لأن اللَّه قد غفر لنا خطايانا، والحرية من عقوبة الخطية لأن السيد المسيح له المجد حمل عنا عقوبة خطايانا، والحرية من عبودية الناموس ولعنته لأن المسيح افتدانا من عبودية الناموس.. إلخ.
بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.. بعد أن تحدَّث عن المفهوم السلبي للحرية إذ صيّرها البعض فرصة للجسد، بدأ يتحدث مُعلّمنا بولس عن المفهوم الإيجابي للحرية وهو خدمة الآخَرين، وبعد أن تحدَّث عن الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6) يتحدث هنا عن خدمة الآخَرين بدافع المحبة، فالخدمة الحقيقية ليس لها دافع إلاَّ محبة اللَّه والآخَر، والخدمة ليس لها هدف سوى تمجيد اسم اللَّه، وقد نفّذ بولس الرسول هذه الوصية وقطع فيها شوطًا طويلًا حتى أنه لم يخدم الآخرين فقط، إنما استعبد نفسه للآخرين، فصار تحت أمرتهم طالما هم تحت إمرة اللَّه، فماذا يقول؟.. يقول: “فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ“ (1كو 9: 19)، فبولس الرسول يوصينا بدلًا من الخضوع لعبودية الناموس أن نخضع لعبودية المحبة، فكل منا يشعر بإلزام المحبة تجاه إخوته، وكلمة “اخْدِمُوا“ في هذه الآية في الأصل اليوناني جاءت بمعنى “عبودية” أي بالمحبة استعبدوا أنفسكم بعضكم لبعض، وعبودية المحبة هذه هي كمال حريتنا في المسيح، وعبيد المحبة هم الذين يملكون زمام أنفسهم ويتمتعون بكامل حريتهم، وعبودية المحبة هي التي تحفظنا من الانزلاق في الإباحية والتسيُّب، وعبودية المحبة لا تصيّرنا أسيادًا نسيطر على الآخرين، بل أن نخدمهم كإخوة، كقول بولس الرسول في نفس الآية: “أَيُّهَا الإِخْوَةُ“، وقد رأى بولس الرسول أن حمل أثقال الآخَرين والتخفيف عنهم هو تتميم لناموس المسيح الذي قال عن نفسه: “إنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (مت 20: 28) وقال لتلاميذه: “فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ“ (يو 13: 14) وأوصى بولس الرسول أولاده في غلاطية أن يحملوا أثقال بعضهم البعض: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ” (غل 6: 2)، فعندما تجتمع الحرية مع المحبة نستطيع أن نخدم الآخَرين بمحبة، بينما الحرية الخالية من المحبة توقعنا في نقد الآخَرين وبغضتهم.
ويقول “أ. ت. بيرسون” A. T. Pierson : “الحرية الحقيقية موجودة في إطاعة القيود الصحيحة. فالنهر يتمتع بحرية الجريان بين الضفاف فقط، وبغير هذه الضفاف قد يتحوَّل النهر إلى مستنقع موحل راكد. وقد تتحطَّم الكواكب وتحطم الكون معها لو توقف عن العمل ناموس الطبيعة المتحكّم بدورانها.. فإن ما يجعل المرء حرًّا ليس مجرد الضوابط، بل الضوابط الصحيحة مع الطاعة الممتزجة بالفرح”(329).
“لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“(غل 5: 14).
لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ.. قد يتساءل أحد كيف يرجع بولس الرسول إلى ذكر الناموس بعد محاضرته الطويلة عن التحرُّر من عبودية الناموس؟.. الحقيقة أن بولس الرسول رفض الاستعباد لفرائض الناموس ومطالبه مثل الختان وحفظ السبت والمواسم والأعياد والقيود المفروضة على الأطعمة.. إلخ، كما أوضح بولس الرسول أن ما عجز الناموس في منحه للإنسان من تبرَّير وخلاص حصل عليه الإنسان من خلال الإيمان بالمسيح، وكمال الناموس أي الوصول إلى ذروته، وهذه العبارة تحمل معنيان:
المعنى الأول: إن هذه الوصية تتضمن الناموس كله، مثلما قال الرب يسوع: “فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ لأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ“ (مت 7: 12)، وعندما سأل أحد الناموسيّين السيد المسيح: “يَا مُعَلِّمُ أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هي الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هي الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا. تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ“(مت 22: 36 – 40).
المعنى الثاني: أن المحبة المسيحية تعتبر تتميم للناموس، فقال معلمنا يعقوب: “فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ“ (يع 2: 8)، وقد نبه بولس الرسول أن المحبة هي تكميل الناموس: “لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ. لأَنَّ لاَ تَزْنِ لاَ تَقْتُلْ لاَ تَسْرِقْ لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ لاَ تَشْتَهِ وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى هي مَجْمُوعَةٌ فِي هذِهِ الْكَلِمَةِ أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرًّا لِلْقَرِيبِ فَالْمَحَبَّةُ هي تَكْمِيلُ النَّامُوسِ“ (رو 13: 8 – 10).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “المحبة هي تتممة الشريعة: كان بعض المعلمين الفريسيين قد اهتموا بإيجاد مبدأ يتيح لهم أن يجمعوا فرائض الشريعة وعددها 613 ويُروي الخبر الآتي: جاء وثني إلى شمعي وقال له: اسمعني التوراة وأنا واقف على رجل واحدة. طرده المعلم. أما هذا فقال بوداعة ما تكرهه لا تعمله لقريبك. هذه هي الشريعة كلها والباقي تفسير لها. اذهب وادرس”(330).
تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.. هذه هي وصية اللَّه للإنسان منذ طفولته المبكرة، فوجَّه نظر قايين حتى لا يرتكب حماقة ويقتل أخيه، وعندما امتلأ قلب قايين حقدًا على أخيه هابيل فقام عليه وقتله، أدانه اللَّه ولعنه، أما إبراهيم الذي أحب لوط ابن أخيه وفضَّله على نفسه تاركًا له فرصة اختيار المرعى الذي يناسبه أولًا فقد نال بركة من اللَّه، وأوصى اللَّه شعبه بفم موسى النبي: “لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. أَنَا الرَّبُّ” (لا 19: 18)، وأوضح السيد المسيح مفهوم القريب في مَثَل السامري الصالح أن القريب هو مَن يحتاج إلى خدمتك حتى لو كان عدوًا لك (لو 10: 30-37)، ووصية: “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“ في العهد القديم تحوَّلت إلى “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ” (مت 5: 44) في العهد الجديد، وسبق بولس الرسول وأوضح في ذات الرسالة محل البحث أننا جميعًا واحد في المسيح: “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (غل 3: 28).
تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.. لماذا تعتبر هذه الوصية بالذات تكميل للناموس؟.. لأن محبتنا للآخرين كأنفسنا لا يمكن أن تتحقَّق بدون محبتنا لله، فمحبتنا للقريب هي انعكاس لمحبتنا للَّه، فنحن نقف مثل نقاط صغيرة على محيط دائرة مركزها هو اللَّه، وكلما أحببنا بعضنا بعضًا كلما ازداد تقاربنا بعضنا لبعض، كلما صغر محيط الدائرة التي نقف عليها، وبالتالي كلما ازددنا قربًا للَّه الذي يمثل مركز هذه الدائرة.
وعندما نتكلم عن المحبة لابد أن نرجع إلى رسول المحبة، فنجده يؤكد على:
1 محبة الآخَرين دليل على أننا انتقلنا من الظلمة إلى النور: “مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ. مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي النُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ” (1يو 2: 9، 10).
2 محبة الآخَرين دليل على أننا انتقلنا من الموت للحياة: “نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ“(1يو 3: 14).
3 محبة الآخرين دليل على أننا نعرف اللَّه وقد وُلدنا منه: “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هي مِنَ اللَّه.. وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللَّه وَيَعْرِفُ اللَّه. لأَنَّ اللَّه مَحَبَّةٌ“(1يو 4: 7، 8).
4 محبة الآخَرين توضيح أن اللَّه ثابت فينا: “إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا فَاللَّه يَثْبُتُ فِينَا وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا“(1يو 4: 12).
5 محبة الآخَرين دليل على محبتنا للَّه: “وَلَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّه يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا“(1يو 4: 21)، ومن يحب اللَّه لا بد أن يحب الآخرين: ” كُلُّ مَنْ يُحِبُّ الْوَالِدَ يُحِبُّ الْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضًا. بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلاَدَ اللَّه إِذَا أَحْبَبْنا اللَّه وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ” (1يو 5: 1، 2).
ومرحلة محبة القريب كالنفس مرحلة سامية ورفيعة لا يبلغها الإنسان بدون عمل الروح القدس في حياته: “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا“ (رو 5: 5)، وعندما يصل الإنسان لمحبة الآخَر كنفسه فإن كافة المشاكل المتعلّقة بالعلاقات الإنسانية ستختفي، وفي غياب هذه المحبة تفيض القلوب بالأنانية ومحبة الذات.
” فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (غل 5: 15).
فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.. فعل النهش لا يتفق مع السلوك الآدمي، إنما يشير للسلوك الوحشي، فمن يمارسه يهبط لمستوى الحيوانات المفترسة، فالذي ينهش هو الذئب أو الدب أو الأسد أو النمر أو الفهد أو الضبع أو الكلب.. فمن ينهش لحم أخيه فهو غريب تمامًا من محبة اللَّه: “إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنِّي أُحِبُّ اللَّه وَأَبْغَضَ أَخَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللَّه الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ. وَلَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّه يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا“ (1يو 4: 20، 21)، وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “هدف المسيحية هو المحبة، التي عندما تزداد نحو اللَّه تظهر في معاملتنا مع الآخَرين والشيطان يحاول تقييد محبتنا بانشغالات الخطية وهم العالم. فإذ نتحرّر منها بالتوبة ننطلق في حب نحو كل أحد، فدليل حريتك هو نمو محبتك نحو الآخرين وميلك للعطاء حتى لمن يسيء إليك“(331).
ولاحظ قول بولس الرسول: “فَإِذَا كُنْتُمْ“ أتى في صورة نصيحة بعيدة عن التوبيخ، وهذه حكمة رسول الأمم الذي سبق ووبخهم: “أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ“ (غل 3: 1)، أما هنا فأنه ينصحهم كأولاد أحباء له.
وجاء في “التفسير التطبيقي“: “عندما لا يكون دافعنا هو المحبة، نصبح نقَّادًا للآخرين، نكف عن رؤية ما هو صالح منهم، ولا نرى إلاَّ أخطاءهم، وسرعان ما تتحطّم وحدة المؤمنين، فهل تحدّثت عن إنسان آخَر من وراء ظهره. هل ركزت نظرك على نقط الضعف في الآخرين عوضًا عن نقط القوة فيهم؟ اذكر وصية الرب يسوع بأن نحب الآخرين كما نحب أنفسنا (مت 22: 39). عندما تحس بأنك تنقد الآخَرين أكتب قائمة بالصفات الإيجابية في ذلك الشخص، ولا تقل شيئًا من وراء ظهره لا تستطيع أن تقوله في مواجهته“(332).
فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.. عندما تفتر المحبة وتسقط وتُداس تحت الأقدام تنفتح عيني الإنسان نحو النقد الهدَّام، فلا ترى إلاَّ النقاط السوداء وأماكن الضعف والقبح في حياة الآخَرين، وتتعامل معهم في استعلاء وكبرياء، وتدخل في تصادمات لا طائل من ورائها، وكان المعلمون الكَذَبَة من هذه العينة التي أثارت انقسامات وانشقاقات، حتى صاروا ينهشون ويأكلون بعضهم البعض.
والحقيقة أن هناك طريقان، أولهما: طريق المحبة وبالمحبة نخدم بعضنا بعضًا، وثانيهما: طريق تختفي فيه المحبة فتنتشر فيه الكراهية والبغضة والخصام والتحزُّب والانشقاقات والبدع ومثل هذه الأمور التي سيذكرها بعد قليل بولس الرسول تحت عنوان “أعمال الجسد”، ومثل هذا المجتمع ينهش فيه بعضهم البعض، فينهار المعبد على رأس الجميع، وقد رأينا مثل هذه الصور البغيضة عبر التاريخ، فسُفكَت دماء الآلاف من المسيحيين بيد مسيحيين آخرين، فإن لم يتعايش الناس معًا رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ودياناتهم وثقافاتهم.. إلخ فإن هذا يعني التطاحن حتى الفناء لأن: “كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ“ (مت 12: 25) وقال بولس الرسول لأولاده في فيلبي: “فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا. لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ بَلْ بِتَوَاضُعٍ” (في 2: 2، 3)، ويقول “وليم باركلي“: “ويختم بولس كلامه بنصيحة جادة فيقول: {ما لم تجدوا حلًا لمشكلة الحياة معًا، فأنكم ستجعلون الحياة نفسها مستحيلة تمامًا}، فالأنانية لا تعظّم الإنسان ولكنها تحطّمه”(333).
فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.. قول بولس الرسول: “فَانْظُرُوا“ يلفت نظر أولاده للعواقب الوخيمة التي قد تحل بهم نتيجة هذه الخلافات، ويبدو أنه كان هناك تيارات مختلفة، فتيار يشايع حركة التهود ويهاجم بولس الرسول، وتيار يتمسَّك بالتعليم والإيمان الذي سُلِّم لهم، وهذا يشايع بولس الرسول، وتيار ثالث يظن أن الحرية هي انطلاقة للأهواء الشخصية، ولا سيما أن الغلاطيين من أصل أممي امتزجت عباداتهم الوثنية بالعهر المقدَّس والقبائح التي كانت ترتكبها كاهنات المعابد كنوع من العبادة، وكل هذا دعى رسول الأمم أن يذكر لهم هذه النصيحة.
ثالثًا: أعمال الجسد وثمار الروح (غل 5: 16-26):
“وَإِنَّمَا أَقُولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ الَّتِي هي زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ. عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّه. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ إِيمَانٌ. وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ. لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا“(غل 5: 16 – 26).
لقد أدرك بولس الرسول بإرشاد الروح القدس مدى فساد الطبيعة البشرية وميلها الطبيعي للخطية، ففي هذه الفقرة أوضح أن الحرية المسيحية لا تعني على الإطلاق الانغماس في أعمال الجسد، ولكنها تعني السلوك بحسب الروح، وألقى الضوء على الصراع القائم بين الروح والجسد، ويدعو أولاده للخضوع لقيادة الروح القدس، ثم تحدَّث عن أعمال الجسد الظاهرة فذكر سبعة عشر خطية نابعة من أعمال الجسد هذه، وأن كل من يسلك في أعمال الجسد فلن يكون له نصيب في ملكوت اللَّه، ومن الجانب الآخَر ذكر تسع ثمار من ثمار الروح القدس، وأعاد الوصية ليعيش أولاده بحسب الروح مع البُعد عن الكبرياء والعجب بالنفس وأيضًا الجسد.
“وَإِنَّمَا أَقُولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ” (غل 5: 16 – 18).
وَإِنَّمَا أَقُولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ.. بعد أن قال بولس الرسول للغلاطيين: “لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ“ يستكمل حديثه مؤكدًا على نفس المعنى وهو السلوك بالروح، فيقول: “اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ“، وسبق وقال عن إسحق الذي وُلِدَ “حَسَبَ الرُّوحِ” (غل 4: 29)، وسأل الغلاطيين عن كيفية قبولهم عطية الروح القدس: “أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ“ (غل 3: 2)، وأيضًا عاتبهم قائلًا: “أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ“(غل 3: 3)، وحديث بولس الرسول هنا يمكن قبوله على أساس المقصود بالروح الروح البشرية أو الروح القدس، روح اللَّه القدوس، روح القداسة الذي يريدنا أن نعيش في حياة القداسة: “لأَنَّ هذِهِ هي إِرَادَةُ اللَّه قَدَاسَتُكُمْ. أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الزِّنَا” (1تس 4: 3) ويدعونا للتمتُّع بثماره المقدَّسة.
وجاء في “التفسير التطبيقي“: “يصف الرسول بولس الرسول القوتين المتصارعتين داخلنا: الروح القدس وأهواءنا الشريرة، ولا يقول الرسول بولس أن هاتين القوتين متعادلتان، فلا شك في أن الروح القدس أقوى بما لا يُقاس، ولكننا نحن ضعفاء، لو تُركنا لخطايانا، لأخطأنا الاختيار، والسبيل الوحيد أمامنا للتحرُّر من رغباتنا الطبيعية الشريرة، إنما بالقوة التي يمنحنا إياها الروح القدس (انظر رو 8: 9، أف 4: 23، 24، كو 3: 3-8)“(334).
وَإِنَّمَا أَقُولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ.. السلوك أي السير المستمر في طريق هذه الحياة، وقد تم استعارة لفظ “السلوك” للتعبير عن الحياة المسيحية في البشائر ثلاث مرات، وفي رسائل بولس الرسول ثلاثة وثلاثين مرة، وفي رسائل يوحنا الحبيب عشرة مرات، وفي سفر الرؤيا مرة واحدة (راجع دكتور وليم آدي – الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ج 7 ص 72)، فالإنسان الروحي يسلك سلوكًا روحيًا في شتى مناحي حياته، يسلك بروح الحرية المسيحية وخدمة الآخَرين بمحبة، والنتيجة الطبيعية لمن يسلك بالروح أنه يرفض الشهوات الجسدية، خاضعًا لروح اللَّه القدوس، والذي يسلك بالروح ينجي نفسه من الدينونة التي ستقع على السالكين بحسب الجسد: “إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ“ (رو 8: 1)، والذي سلك بالروح يخلُص من مناوشات الجسد.
ويقول “ماكدونل“: “ينبغي للمؤمن أن” يسلك بالروح “لا بالجسد. وهذا السلوك يعني السماح للروح بأن يقودنا في طريقه. وهو يعني أيضًا البقاء في حالة شركة مستمرة مع اللَّه بالروح القدس.. وعندما نسلك هكذا بالروح يُحسَب الجسد أو حياة الذات تحت حُكم الموت عمليًا.. ويقول “أشكوفيلد” Scofield في هذا المجال:
“تكمن صعوبة الحياة المسيحية في الحقيقة التالية: ما دام المؤمن يعيش في العالم فهو شجرتان، إذا جاز التعبير: الشجرة القديمة شجرة الجسد، والشجرة الجديدة شجرة الطبيعة الإلهيَّة المكتسبة عند الولادة الجديدة، والصعوبة بحد ذاتها هي كيف نُبقي الشجرة القديمة عاقرًا ونجعل الشجرة الجديدة مثمرة في الوقت عينه. فالحل الوحيد لهذه الصعوبة هو السلوك بالروح”.
يرينا هذا العدد، مع الأعداد التي تلي، أن الجسد ما زال حاضرًا في المؤمن“(335).
فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ.. أوصانا مُعلّمنا بطرس أن نحذر الشهوات الجسدية: “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ“ (1بط 2: 11)، لأنه لو تملَّكت الخطية في هذا الجسد لأشتعل بالشهوة: “إِذًا لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ” (رو 6: 12)، فإن مَن يسلك بحسب الجسد فأنه سيرث الموت: “لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ“ (رو 8: 12).
فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ.. فإن الروح والجسد في نزاع وصراع مستمر، لأنه يستحيل على الإنسان أن يتمّم رغبات الروح وشهوات الجسد في آن واحد، فإما أن الجسد يُخضِع الروح فيصبح الإنسان جسداني شهواني حيواني، وإما الروح تسيطر على الجسد وتضبطه فيصير الإنسان روحاني، وكلما سلكنا بالروح كلما منحنا اللَّه النُّصرة على نوازع الجسد وشهواته، وكلما صار للإنسان صورة المسيح الحلوة: “بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ“ (رو 13: 14) فيكون لنا فكر المسيح، فلا ننشغل بتدبيرات وترتيبات لتكميل شهوة الجسد، وكلما حاول الفكر أن يسرح بعيدًا نضبطه بقوة الروح القدس: “وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ“(2كو 10: 5)، فتصير ليست أعمالنا فقط مقدَّسة، بل وأفكارنا أيضًا ونياتنا.
فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ.. وفي الأصل اليوناني “فلَنْ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ“، أي أننا عندما نسلك بالروح فإننا نتلقى وعدًا إلهيًّا بقهر الشهوات الجسدية، فبقوتنا الجسدية لن نستطيع أن نضبط أهواء الجسد، ولكننا نستطيع أن نسلك بالروح فيهبنا اللَّه ضبط نزعات وشهوات الجسد وميوله الرديئة.
ويقول “الأب متى المسكين“: “فكأن بولس الرسول يعطيهم وعدًا من خبرته والنعمة التي فيه أنهم إذا انقادوا للروح وسلكوا بمشورته وأعطوه الأولوية في الطاعة فإن الروح هو الذي سيقوي إرادتهم حتى أنه سيجعلهم لا يكمّلون شهوة الجسد، لأن هذا هو وعد المسيح: “فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا” (يو 8: 36). أَحْرَارًا هنا ليس من الناموس وحسب بل من الخطية وسلطان الجسد.
كان اليهود والربيون والحكماء مثل فيلو الحكيم اليهودي يعتقدون أن ختانة الجسد تسلّح الإنسان اليهودي ضد النجاسة والشهوة والزنا، ولكن كانت هذه أوهام وتمنيات لم تتحقق، فهنا ق. بولس يرد على ادعاء اليهود الذين كانوا يعدّونهم أن بالختانة تحفظ طهارتهم فلا ينحرف الجسد للنجاسة والزنا. ق. بولس هنا يعطيهم الطريق الصحيح والوحيد وهو طريق الإيمان بالإنجيل والسلوك بالروح، أي أن يعيشوا متمسكين بالروح القدس ومنقادين بنعمته، فهذا هو وحده الذي يجعلهم لا ينقادون لشهوة الجسد..
فيا قارئي المتألم من الجسد وشهواته لا خلاص إلاَّ بالنعمة، وأعلم تمام العلم أن خطاياك السالفة والآتية جميعها حملها المسيح في جسده على الخشبة، فلا وجود لها عند اللَّه ولكن في ضميرك أنت الذي يغزيه الشيطان بالأوهام ليضغط عليك اليأس، فهذه الأوهام لا يكشفها إلاَّ الروح القدس بنعمته فيرفع المسيح عنك بدمه ضمير الخطايا (عب 9: 14) فأنت ليس عليك خطية عند المسيح بل لك عند المسيح نعمة“(336).
لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ.. في الكتاب المقدَّس نلتقي بمفهومين للجسد:
المفهوم الأول: الجسد بمعناه المجرد (الجسم)، وهذا عطية من اللَّه، وهو الذي يحمل الروح، وهذا الجسد لا يمثل خطية ولا شر كقول ماني وأتباعه الذين نظروا للمادة على أنها شر، ولو كان الجسد شرًا ما كان اللَّه يتحد به في تجسُّده: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا“(يو 1: 14)، وعلى الإنسان أن يهتم بجسده، يقوته ويربيه: “فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ“(أف 5: 29)، ونحن نكرّم أجساد الشهداء والقديسين ونتبارك بها، وكثيرًا ما يجري اللَّه آيات ومعجزات وعجائب بواسطة هذه الأجساد، فجسد يشوع بن نون بعد موته أقام ميتًا، ولا ننسى أن الجسد سيشارك الروح في المكافأة في اليوم الأخير.
المفهوم الثاني: الجسد بمعنى الشهوات الجسدية، وبهذا المفهوم قال بولس الرسول: “فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ“ (كو 3: 5).. “وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ” (رو 7: 24).
وقد شرح “القديس يوحنا ذهبي الفم” هذا الأمر قائلًا: “يتصوَّر البعض أن الرسول ينادي بثنائية وتناقض في تكوين الإنسان، ولكن كلمة “الْجَسَدَ” هنا لا تعني الجسد، بدليل قوله: “يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ“، مع أن الأعضاء لا تشتهي بل تخضع لتأثير الشهوة، والشهوة في الواقع تخصّ الروح كقول المرنّم: “تَشْتَاقُ نَفْسِي“(مز 84: 2)، “مَهْمَا تَقُلْ نَفْسُكَ أَفْعَلْهُ لَكَ“(1صم 20: 4)، “سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ“ (2بط 3: 3)، “تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللَّه“(مز 42: 1). إذًا فالرسول يقصد بالجسد الإرادة المنحرفة، إذ يقول: “أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ“ (رو 8: 9)، “فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللَّه“(رو 8: 8). الجسد هو الذهن الأرضي الفاسد والمستهتر، والكلام هنا ليس ضد الجسم بل ضد الروح المنحرفة، فالجسم آلة في يد الروح ونحن لا نغضب من السلاح بل ممن أساء استخدامه في القتل.
وقد يفترض البعض أن مجرّد تسميّة انحرافات الروح بالجسد إتهام للجسم، وبالحقيقة الجسم أقل من الروح ولكنه خير أيضًا، والشر لا ينشأ من الجسد بل من “الإرادة المنحرفة”. كلمة (الجسد) اُستعملت لوصف أمور كثيرة مقدَّسة، فعندنا “جسد المسيح” في سر التناول، و”جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة” (كو 1: 24)، كما أن حواس الإنسان مفيدة جدًا لحياته الروحية إذ يقول الرسول: “لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ“(رو 1: 20)، فكيف نرى بلا أعين؟ وإن كان “الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ” (رو 10: 17) فكيف نسمع بلا أذن؟ وإن كانت الكرازة بالكلام والأقدام فكيف تتم بلا جسد؟
أما قوله “الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ” فيعني حالتين عقليتين تتصارعان معًا، هما الخير والشر، وليس الروح والجسد. الروح تهتم بالجسم، وهذا يقدِّم لها المعرفة ويتجاوب مع رغباتها، فكيف يتصارعان إذًا؟ إنهما مترابطان وليس فقط غير متعارضتين. هي الميول المتعارضة إذًا، والمصارعة فينا“(337).
كما يقول “القديس يوحنا ذهبي الفم” أيضًا: “الخطية لا تبدأ من الأعضاء بل من الإرادة المنحرفة، وإلاَّ يلزمنا أن نقطع اليد حتى لا تسرق، والرجل حتى لا تسعى للإثم، واللسان حتى لا ينطق بالباطل! ولم يخلق اللَّه الأعضاء شريرة بطبعها، بل يبدأ الشر من إرادتنا المنحرفة، ومن هنا أيضًا يبدأ التصحيح ويمكن العلاج. إن اشتعال الجسد بالشهوة لا يتصل بالجسد بل بالروح وفي قدرة الروح أن تُخضِع الجسد لسيطرتها المُطلقة. لقد وُضعت فينا الغرائز من أجل التكاثر وتأمين الحياة لا من أجل الزنا والنجاسة، أقول هذا للذين ينسبون الشر إلى خليقة اللَّه والذين يتجاهلون توجيه الروح فيُعذّبون أجسادهم بلا طائل”(338).
ويقول “العلامة ترتليان“: “بكلمة” الْجَسَدَ “نُؤمر أن نتجنبه، لا تجنب المادة بل أعمال الجسد، لذلك فأنه باستخدام نفس الكلمة يتبرأ ملكوت اللَّه من أعمال الجسد لا من كيانه، فأنه لا يُدان الجسد الذي حدث فيه الشر.. وضع السُّم هو جريمة، لكن الكأس الذي اُستخدم لا ذنب له. فالجسد هو إناء لأعمال الجسد بينما النفس هي التي تمزج السُّم كعمل شرير“(339).
لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ.. وهذا ما ناقشه بولس الرسول بتفصيل أكثر في رسالته إلى رومية: ” وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي” (رو 7: 23)، فالناموس الكائن في أعضائي هو شهوة الجسد، وشتان بين السالك بحسب الجسد والسالك بحسب الروح:
1 السالك حسب الجسد يتدنى للمستوى الحيواني، أما السالك بحسب الروح فأنه يسمو ويترفَّع فوق الغرائز البهيمية، فيضبطها ويسيطر عليها وهي لا تسيطر عليه.. الإنسان السالك بحسب الروح أشبه بحمامة نوح الحاملة بشرى السلام، أما السالك بحسب الجسد فهو أشبه بالغراب الذي تجذبه الجيف الطافية فوق وجه المياه.. الإنسان السالك بالروح أشبه بالحمل الذي لا يطيق السقوط في الطين، أما السالك بحسب الجسد فهو أشبه بعودة “خِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ“ (2بط 2: 22)، والروح الأمينة التي تخضع للروح القدس يهبها الروح نعمة وقوة فيخضع لها الجسد، فلا تعد ثمة صراع بين الجسد والروح، ويصير شعار الإنسان: “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي“ (في 4: 13).
2 السّالك حسب الجسد يسلك في طريق الموت ومعاداة اللَّه، أما السالك بحسب الروح فأنه يسلك في طريق الحياة والسلام: “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ. لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ ِللَّهِ.. فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللَّه“(رو 8: 6 – 8).
3 السّالك حسب الجسد يتقسّى قلبه بالشهوات ويفقد نصيبه في الميراث السمائي: “إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللَّه وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ” (1كو 15: 50)، أما السالك بحسب الروح فأنه يكون موضع سرور اللَّه والملائكة ويتمتع بالميراث السمائي ويحصل على الجسد الممجد النوراني: “الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ” (في 3: 21).
وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ.. الجسد له ميوله الجسدية الترابية، والروح لها ميولها ورغباتها السامية السمائية، وكل منهما يقاوم الآخَر ويتصارع معه محاولًا تنفيذ مشيئته ورغباته، فمتى أراد الإنسان أن يعيش حياة الطهارة والتقوى والصلاح فإن الجسد يقف مقابله يقاومه، ومتى أراد الإنسان أن يعيش حياة إباحية متسيبة، فإن الروح تحتد داخله ولا تهدأ حتى يعود الإنسان إلى حياة الصواب.. حقًا أن كلٍ من الجسد والروح له رغباته وشهواته المختلفة مع الآخَر، وكل منهما يحاول اجتذاب الإنسان إليه، فالإنسان العتيق يقاوم الإنسان الجديد، والذي وُلِد حسب الجسد يضطهد الذي وُلِد حسب الروح. قال السيد المسيح: “اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ” (يو 3: 6)، وقال بولس الرسول: “فَإِنَّ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ وَلكِنَّ الَّذِينَ حَسَبَ الرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ“ (رو 8: 5)، ولهذا أوصانا أن نخلع الإنسان العتيق الفاسد ونلبس “الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللَّه فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ“ (أف 4: 22، 23).. الإنسان “الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ“(كو 3: 10)، وسيظل الصراع بين الروح والجسد قائمًا ومستمرًا إلى أن يتدخّل روح اللَّه فيهبنا النصرة على أهواء الجسد وشهواته، لأنه من المستحيل بالجسد أن نضبط شهوات الجسد.
“فعندما يعاني المؤمن من الصراع بين الجسد والروح، اللذين يقاوم أحدهما الآخَر، عليه أن يطلب اللَّه ليهبه شجاعة ليواصل السباق حتى النهاية.. وعلى المؤمن أن يدرك أنه ليس هناك تعايش سلمي بين الطبيعة الخاطئة (الجسد) والروح.. تمنع الطبيعة الخاطئة (الجسد) صاحبها من فعل ما يريد، وقد عانى كل شخص من سطوة الجسد، حتى فعل ما لا يرغب في فعله.. فالفكرة أن الطبيعة الخاطئة من القوة بحيث تمنعنا من عمل ما نريد. الرجاء الوحيد للسيطرة على الطبيعة (الجسد)، هو أن نحيا بالروح ونسلك في الروح، في محضره وقوته”(340).
حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ.. تحت سطوة الشهوات الجسدية، وتحت ضعف الطبيعة البشرية، قد يسقط الإنسان ويسلك بحسب الجسد، مع أن رغبته عكس هذا، فهو يريد أن يفعل الصلاح ولكن شهوات الجسد تسبيه، فيعيش في صراع: “لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ. إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ“ (رو 7: 15، 19).
ويقول “الأب متى المسكين“: “سيُبرِز ق. بولس العنصر الثالث وهو إرادة الإنسان الحرة التي تهذبت بالإيمان والمعرفة الروحية فعليها الثقل كله في تحديد إلى أي من القوتين سينحاز الإنسان؟ هل إلى غرائز الجسد الطبيعية المثارة أم إلى نداء الروح والنعمة؟ بالإرادة البشرية المهذبة بالنعمة هنا للإنسان المسيحي هو المعوَّل عليها إلى أقصى حد، وهي التي ستعطي الإنسان إمَّا الانحياز للجسد فالسقوط والدينونة وإمَّا الانحياز للروح فالانتصار والتبرّير! فبدون إرادة الإنسان الواعية والمهذبة بالإنجيل لا ينجح الروح وحده في مقاومة جذب الجسد مهما صرخ الإنسان، وذلك حتى لا يجرح الروح حرية الإنسان التي سيُجازى بمقتضاها عن السقوط أو الانتصار..
فالروح يقول: لا تزن، والجسد يرى أن الزنا متعة ولذّة لذلك يصبح الروح والإنجيل مكروهًا لدى الجسد الطبيعي.. فالجسد بجهالته يجري وراء متعة ولذّة وقتيّة ويتمادى فيها بلا ضابط حتى يؤذي نفسه ويخسر ما ينتظر الإنسان من حياة أبدية أعظم سعادة وامتدادها إلى الأبد“(341).
وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ.. والذي ينقاد بالروح القدس غير الذي ينقاد بالروح البشرية مهما بلغت أمانتها.. لماذا؟.. لأن الروح البشرية تخضع للضعف البشري، وتغشاها المشاعر الإنسانية، وهذه قد تكون صالحة أو طالحة، أما الذي ينقاد بالروح القدس فهو يخضع لقيادة روحية حكيمة، ولا يمكن للروح القدس أن يخطئ لأنه هو روح اللَّه القدوس الذي يكتب وصايا اللَّه على قلوبنا: “وَيَشْهَدُ لَنَا الرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضًا.. بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ“ (عب 10: 15، 16)، والذي يسلك تحت قيادة وإرشاد الروح القدس لا يخضع لناموس الخطية، بل يتمتع بالبنوة للَّه: “لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللَّه فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللَّه“(رو 8: 14)، ومَن يخضع لقيادة الروح القدس تستيقظ فيه الشهوات الحسنة، وتنطفئ داخله نيران الشهوات الجسدية، ومَن يخضع لقيادة الروح القدس يتمتَّع بحس روحي مُرهف ويسهل عليه التمييز بين الخير والشر، وأيضًا بين الأمور المختلطة، وما أجمل قول الكتاب عن السيد المسيح أنه: “كَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ“(لو 4: 1)، أما الإنسان الجاهل فلا يقبل قيادة الروح القدس له: “وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّه لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ“(1كو 2: 14). وما يجب ملاحظته أن هناك فرق بين الانقياد وبين الانسياق، فالانقياد عن وعي وعن اختيار، أما الانسياق فهو عن جهل وعن قسر، مثلما يُساق الأسرى أمام الجنود، أو تُساق الأبل أمام أصحابها.
وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ.. أي لو أنقدتم بالروح القدس فأنتم لستم بعد تحت عبودية الناموس (غل 4: 9)، ولا تحت عبودية ناموس الخطية: “فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ“(رو 6: 14)، ولا تحت عبودية الموت: “لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ” (رو 8: 2)، والإنسان الذي ينقاد بالروح يتخطى مطالب الناموس، فالإنسان السالك بالناموس يتمسك بالوصايا “لاَ تَزْنِ.. لاَ تَقْتُلْ“ أما المُنقاد بالروح فأنه لا ينظر إلى امرأة ليشتهيها، ولا يغضب على أخيه باطلًا.
ويقول “الأب متى المسكين“: “سلطان الخطية هو حُكم الموت بأمر الناموس: فألغى المسيح الموت والناموس معًا: داس الموت وأماته بقيامته وأبطل الناموس وأعطى العهد الجديد لمغفرة الخطايا مجانًا مجانًا مجانًا. فأصبح شعار العهد الجديد هو مغفرة الخطايا وإعطاء الحياة الأبدية بدم المسيح مجانًا! عوض شعار العهد القديم بتتميم كل الوصايا وكل من يخطئ يموت! فالآن يقول ق. بولس: أنه إذا أنقدتم “بِالرُّوحِ” وهو “الرُّوحِ الْقُدُسِ” روح الحياة الجديدة في المسيح، فالروح هو المنوط به أن يقودنا في موكب قيامة المسيح الظافر إلى السماء دائسين مع المسيح على الخطية والموت وبالتالي أحرارًا من الناموس إلى الأبد.. “إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“(رو 8: 1). بمعنى أننا إذا صرنا في المسيح يسوع تمزَّق صك خطايانا على الصليب فنجونا من الدينونة. وانتهت الخطية برغبتها إذ ألغى المسيح حكم الموت عنا إلى الأبد ومنحنا حياة جديدة مع اللَّه أبدية!!.. فلستم تحت الناموس يعني أيضًا باختصار ليس تحت خطية ولا تحت حكم الموت!! وهذا يعني حتمًا وباختصار أننا نكون تحت نعمة! ويا لنعيمنا تحت نعمة اللَّه“(342).
“وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ الَّتِي هي زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ. عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّه“ (غل 5: 19 – 21).
” وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ الَّتِي هي زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ” (غل 5: 19).
وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ.. قال اللَّه عن أعمال الجسد التي سقط فيها الإنسان قبل الطوفان: “وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ“(تك 6: 5)، وبعد الطوفان: “قَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ“(تك 8: 21)، وعن أعمال الجسد قال السيد المسيح له المجد: “مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا“(مت 7: 16) وأعمال الجسد تنبع من قلب إنسان جسداني كقول السيد المسيح تبارك اسمه: “لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ. سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ. جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ“(مر 7: 21-23)، والذي يسلك بحسب أعمال الجسد هو إنسان جسداني: “لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ“(1كو 3: 3)، وأعمال الجسد عديدة وكثيرة، وقال الكتاب عن الذين يرتكبونها: “مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلًا وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا. نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ مُبْغِضِينَ ِللَّهِ ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ. بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ” (رو 1: 29 – 31).
وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ.. قد يتساءل المرء لماذا يكتب بولس الرسول لكنائس القديسين عن مثل هذه الخطايا البشعة؟.. لأن هذه الخطايا كانت تمثل ماضيهم، فهوذا صوت الروح القدس يحذر هؤلاء من الرجوع والانغماس في تلك الخطايا الشنيعة: “لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ “(غل 5: 13)، ولم يقصد بولس الرسول أن يذكر جميع الخطايا إنما ذكر ما كان شائعًا من أعمال الجسد لدى الغلاطيين قبل إيمانهم، لأنه خاف عليهم أن يعودوا إليها ثانية، وهو لم يتهمهم بارتكاب هذه الخطايا، إنما فقط يحذرّهم منها، والحقيقة أن المسيحية اقتحمت عالم وثني متدني انتشرت فيه كافة الخطايا والرذائل، ففي خلال الإمبراطورية الرومانية كانت كافة الخطايا الجنسية من الأمور العادية، دون أن ينهي عنها أفضل فلاسفتهم مثل سقراط وأفلاطون وشيشرون، إلاَّ بوصف هذه الخطايا مجرّد تعدي على حقوق الزيجة، بل امتزجت بعض العبادات الوثنية مثل عبادة فينوس (أرطاميس) بهذه الرذائل، وصدق من قال أن المسيحية جاءت للعالم بفضيلة الطهارة.
وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ.. دعى بولس الرسول هذه الخطايا بأعمال الجسد، وليس معنى هذا أن الجسد في حد ذاته خطية أو شر، فالجسد قد دُشِّن بزيت الميرون وصار هيكلًا للروح القدس: “إن الجسد في حد ذاته ليس خاطئًا، فجسم الإنسان عطية من اللَّه، ويستخدم لمجد اللَّه، والواقع أنه بتجديد شخص ورجوعه للمسيح، فإن جسده يصير هيكلًا للَّه وسكنى الروح القدس، وليس مطلوبًا من المسيحي تطهير نفسه من جسده، إنما من “شهوات الجسد” (غل 5: 16)، “من كل ما يدنس الجسد” (2كو 7: 1)، ومن أعمال” الطبيعة الخاطئة” (رو 3: 12، غل 5: 19) وأعمال الطبيعة الخاطئة هي ثمر سكنى الخطية. والخطية تتأصل في القلب وليس في الجسد. وتجد قائمة بأعمال الجسد واضحة في هذه الفقرة، كما أنها واضحة جدًا في المجتمع.. وتفشّي مثل هذه الخطايا الجسدية، تظهر مدى قوة الطبيعة الخاطئة وسطوتها، ومدى عجز الإنسان للسيطرة على طبيعته الخاطئة“(343).
وقد شملت قائمة الخطايا التي ذكرها بولس الرسول هنا سبعة عشر خطية، شملت الآية (19) أربعة خطايا (1 – 4)، وشملت الآية عشرين تسعة خطايا (5 – 13)، والآية الواحدة والعشرين شملت أربعة خطايا (14-17)، ويمكن تقسيم هذه الخطايا إلى ثلاث مجموعات:
أولًا: خطايا خاصة بالجسد: وهي الزنا، والعهارة، والنجاسة، والدعارة، فهذه ضد طهارة الجسد، وأيضًا خطيتان خاصتان بإدمان الخمر وهما السُّكر، والبطر.
ثانيًا: خطايا ضد عبادة اللَّه: وهما عبادة الأوثان، والسّحر.
ثالثًا: خطايا خاصة بالعاطفة الجامحة: وهي تسع خطايا هيَ: العداوة، والخصام، والغيرة، والسُخط، والتحزُّب، والشقاق، والبدعة، والحسد، والقتل.
ونعرض لهذه الخطايا باختصار شديد:
الَّتِي هي زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ.. هي درجة من درجات الزنى تعبر عن مدى التردي فيه وممارسته، وكلمة “زِنىً“ يكنى بها عن كافة الانحرافات الجنسية، بل وأيضًا عبادة الأوثان حيث دُعيت زنا روحي، وهذه الأمور لا تليق بأبناء اللَّه: “وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ“ (أف 5: 3)، ولذلك أوصانا بولس الرسول قائلًا: “فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ“(كو 3: 5)، وقال لأولاده في كورنثوس: “أَنْ يُذِلَّنِي إِلهِي عِنْدَكُمْ إِذَا جِئْتُ أَيْضًا وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ النَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالْعَهَارَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا“ (2كو 12: 21) ومثل هذه الخطايا تسيء إلى جسد الإنسان: “كُلُّ خَطِيَّةٍ يَفْعَلُهَا الإِنْسَانُ هي خَارِجَةٌ عَنِ الْجَسَدِ لكِنَّ الَّذِي يَزْنِي يُخْطِئُ إِلَى جَسَدِهِ” (1كو 6: 18)، فالجسد الذي دُشّن بالميرون يتدنس ويتنجس: “أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ“ (1كو 6: 19)، وعدو الخير يستغل الغرائز الطبيعية في الإنسان ليسقطه بواسطتها، أمَّا الإنسان الواعي فأنه يصلب هذه الغرائز وتلك الشهوات: “وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ“(غل 5: 24).
1- الزنى: وهو ممارسة المعاشرات الجسدية خارج نطاق الزواج، وللأسف الشديد فإن بعض المجتمات في الغرب تقبل هذه الممارسات بأي حجة كانت، ويستاء منها في حالة ارتباط الإنسان بشريك الحياة، فإذا انفكت هذه الشركة بسبب أتفه الأسباب أو الإحساس بالملل، فيحق لكل طرف التصرف كما يحلو له، والذين يفعلون هذا يتغافلون تمامًا وصايا الكتاب:
* “لاَ تَزْنِ“ (خر 20: 4).
* “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ” (مت 5: 28).
* “الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ“ (1كو 6: 14).
2 العهارة: والكلمة المستخدمة هنا تعبّر عن الإنسان الذي لا يلتزم بالنظافة الجسدية، وبالتالي فأنه لا يستطيع أن يمثُل أمام الحضرة الإلهيَّة.
3 النجاسة Akathorsia: وهي تعبر عن الفساد الأخلاقي والتمرُّغ في الشهوات الجسدية، والكلمة المستخدمة هنا تُطلق على القُبح الناتج من الجروح الملوثة، كما تُطلق على الشجرة التي لم تقلَّم أبدًا، وأيضًا تُطلق على المادة التي لم يتم تنقيتها، ويقول “الأب متى المسكين“: “وهي خطية أوسع معنى واستخدامًا من الزنى، فهل تشمل كل استخدام التلوث الخُلقي بكل أنواعه، وهو ينسحب على الشر والانحلال الخلقي وبقصد إفساد الغير. ولكن أصل الكلمة لغويًا تأتي بنفي الطاهر والطهارة، فمثلًا إذا تلوث الجرح فهو في حالة “أكاثارسيا” التي تخرج منها حالة “الوساخة”، فأصبحت تُستخدم على الإنسان الذي يخرج عن الطهارة الطقسية أو الناموسية – أي نجاسة.. كما تأتي عكس القداسة وبذلك فهي شديدة الصلة بالزنا”(344).
وقال بولس الرسول: “لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللَّه أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ“(رو 1: 24).. “أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيًّا مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ جَسَدِكُمْ. لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ هكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ“(رو 6: 19).
4 الدعارة: Aselgia: والدعارة هي ممارسة الزنا بصفة مستمرة بدون استحياء وبوجه مكشوف، سواء بقصد التربُّح أو بقصد آخَر، وتُطلق الكلمة على التوغُّل في الملذات بدون رادع أخلاقي، حتى أن الإنسان لا يهتم بانتقادات الآخرين، ويقول “الأب متى المسكين“: “وواضح من الآية التي نحن بصددها كونها جاءت مع الزنا والنجاسة تكون الدعارة أختهم الثالثة من بنات الشيطان، وتكون أكثرهم شيوعًا وظهورًا. والرجل العاهر كالمرأة العاهرة لهم صلة بتجارة الجنس لا يقر لهما قرار، يوزعون بضائعهم بلا حياء ويكشفون عن عورتهم للإثارة”(345).
وقيل عن الدعارة أنها: “قلة الاحتشام، الوقاحة، فالسمة المميزة لهذا السلوك هي الإباحية والوقاحة. تعني أفكار وسلوك شرير منفلت. إنها الاستسلام لشهوات بهيمية، والسعي وراء أي مُتعة. إنها إنسان بلا قيد، ولا ضابط، أو شخص أخطأ كثيرًا لدرجة أنه لا يهتم بما يقوله الناس عنه وبما يفكرون فيه، أنها أكثر من مجرد شيء كريه بغيض، وأكثر من مجرد ارتكاب خطأ. لأن الداعر أو الفاسق لا يهتم بمن يعرف عن وقاحته وإباحيته. يحدث عادة أن الشخص الذي يسيء التصرُّف، أنه يحاول إخفاء خطأه، ولكن الداعر لا يهتم بمن عرف وقاحته وفسقه. ولأنه يرغب في المتعة، فهو يسعى لإشباعها. لا يهم عنده الاحتشام ولا اللياقة ولا الأدب. عندما بدأ يخطئ فعل كل ما يفعله غيره من الناس، ارتكب حماقته في الخفاء سرًا. ولكن أخيرًا استحوذت عليه الخطية لدرجة أنه لم يعد يهتم إذا ما رآه أحدهم أو عرفه. حتى صار مستعبدًا للعادة، وخاضعًا لسيد قاسي، وعبدًا لخطايا كثيرة“(346).
“عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ” (غل 5: 20).
5 عبادة الأوثان Idols: أي عبادة أوثان أو أصنام هي من صنع الإنسان، ويدخل ضمن هذه العبادة عبادة المال، أو أي شيء آخَر يؤلّهه الإنسان ويسيّده، وقد أوصانا الكتاب قائلًا: ” لِذلِكَ يَا أَحِبَّائِي اهْرُبُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ” (1كو 10: 14).
6 سحر Pharmakeia: والكلمة في الأصل اليوناني مشتقة من كلمة “فارماكيا” أي صيدلية، والمقصود بها استعمال العقاقير، ففي القرن الأول الميلادي الذي كُتبت فيه هذه الرسالة كان السحرة يستخدمون العقاقير في ممارسة السحر، والمعنى الحرفي لكلمة “سحر” تعني تناول مخدرات تؤدي إلى التسمم، أو التخدير الذي يقوم به الطبيب، وتقع غلاطية في منطقة آسيا الصغرى التي غرقت في أعمال السحر والتنجيم، ففي أفسس: “وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ السِّحْرَ يَجْمَعُونَ الْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ الْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ“(أع 19: 19)، ويدخل ضمن أعمال السحر الرقية، والعرافة، والتنجيم، وقراءة الطالع من خلال الكف أو الفنجان، وكتابة الأعمال والطلاسم، والدجل والشعوذة.. إلخ، وقد مات شاول الملك بخيانته لأنه سأل الجان (1أي 10: 13)، وقال إشعياء النبي: “وَإِذَا قَالُوا لَكُمُ اطْلُبُوا إِلَى أَصْحَابِ التَّوَابعِ وَالْعَرَّافِينَ الْمُشَقْشِقِينَ وَالْهَامِسِينَ. أَلاَ يَسْأَلُ شَعْبٌ إِلهَهُ أَيُسْأَلُ الْمَوْتَى لأَجْلِ الأَحْيَاءِ. إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ. إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هذَا الْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ” (إش 8: 19، 20).
7 عداوة Echthrai: سواء بغضة وعداوة للآخَرين في الباطن، أو زرع البغضة والعداوة بين الناس، وهذه الرذيلة ضد الوصايا الإلهيَّة، ولا سيما وصية المحبة:
* “لاَ تُبْغِضْ أَخَاكَ فِي قَلْبِكَ. إِنْذَارًا تُنْذِرُ صَاحِبَكَ وَلاَ تَحْمِلْ لأَجْلِهِ خَطِيَّةً” (لا 19: 17).
* “اَلْبُغْضَةُ تُهَيِّجُ خُصُومَاتٍ وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ” (أم 10: 12).
* “مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ” (1يو 2: 9).
* “كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ” (1يو 3: 15).
8 خصام: أي المنافسة التي تنتهي بالشجار والخصام ومقاطعة الآخَر، والخصام يأتي عند الإعلان عن العداوة الباطنية، فالخصام هو حالة استعلان العداوة، ومحبة الشجار والنزاع وافتعال الخلافات، وقد جاءت 9 مرات في العهد الجديد وكلها احتوتها رسائل بولس الرسول، مثل قوله:
* “لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ“(1كو 1: 11).
* “لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ البَشَرِ“(1كو 3: 3).
9 غيرة Zeloi: أي الغيرة من تميز الآخَر، ومحاولة الحط من قدره، والكلمة في الأصل اليوناني تعني المنافسة، وهذا أمر جيد، ولكن المقصود بها هنا الطمع فيما يملكه الآخَر، والرغبة في امتلاكه، وبسبب غيرة إخوة يوسف منه أبغضوه وألقوه في البئر، ثم أخرجوه وباعوه كعبد للإسماعيليين. وإن كانت هذه هي الغيرة الرديئة لكن هناك غيرة حسنة، فقد غار فينحاس على مجد الرب، فقال عنه الرب: “فِينْحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الْكَاهِنُ قَدْ رَدَّ سَخَطِي عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَوْنِهِ غَارَ غَيْرَتِي فِي وَسَطِهِمْ“(عد 25: 10)، وقال بولس الرسول: “حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ“(غل 4: 18) فالغيرة هنا أي الاقتداء بالقديسين في فضائلهم، وقد غار بولس الرسول هذه الغيرة الحسنة عندما قال: ” فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللَّه لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ” (2كو 11: 2).
ويقول “الأب متى المسكين“: “وقد يوجد اثنان ينظران ثالث قد نجح في حياته وفاز بنعمة، فيحسده الأول ويغير منه غيرة مُرّة تبلغ الذّم والشتيمة وربما السعي للإيذاء، والآخَر يغير له غيرة الحب والفرح ويتمنى له المزيد من نعمة اللَّه. إذًا فالدافع النفسي في منبعه واحد وهو (الغيرة)، ولكن حينما تكون النفس مريضة منحازة لجسد مريض فارقته النعمة لتصبح وبالًا على الإنسان مع أنها دافع يمكن أن يكون للخير والصلاح. وهذا هو الذي يُفرّق بين إنسان يسلك حسب الجسد الطبيعي، وإنسان يسلك حسب روح اللَّه”(347).
10- سُخط: هي ثورة الغضب الشديد والمزاج الحاد، ويقول “وليم باركلي“: “والكلمة التي يستخدمها بولس الرسول يعني ثورات المزاج الحاد، فهي لا تصف الغضب الذي يدوم طويلًا ولكنما ذلك الغضب الذي يتأجج ثم لا يلبث أن يخمد“(348).
ويعتبر السُّخط درجة من درجات الغضب، ويمارسه الإنسان مع من هم أقل منه في المستوى، هكذا يُدعَى غضب الملك على الشعب، والسُّخط ضد وصايا الكتاب:
* ” اَلرَّجُلُ الْغَضُوبُ يُهَيِّجُ الْخِصَامَ وَالرَّجُلُ السَّخُوطُ كَثِيرُ الْمَعَاصِي” (أم 29: 22).
* ” لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ. لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّه” (يع 1: 19، 20).
11 تحزُّب Eritheiai: أي مشايعة مجموعة من الناس دون الفحص عن أفكارهم واتجاهاتهم وتصرفاتهم، ويقول “وليم باركلي” عن التحزُّب: “فهي الكلمة eritheia وكانت تعني أصلًا العمل الذي يقوم به الأجير erithes، وبذلك أصبحت تعني العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر، ثم أصبحت تعني بعد ذلك الحملة التي يقومون بها للوصول لوظيفة سياسية أو عامة، وتصف الإنسان الذي يسعى للوظيفة، فهي صفة الإنسان الذي يهتم بنفسه، ولا قِبَل له بخدمة الإنسانية على الإطلاق”(349).
فالتحزُّب هو طموح أناني وتعصُّب أعمى ومنافسة غير شريفة وخلاف مع الآخرين، وهو ضد وصية الكتاب وضد الروح الواحد، ولذلك يحذّرنا بولس الرسول منه تارة هنا على أنه من أعمال الجسد، وتارة في رسالته إلى فيلبي: “فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا. لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ“ (في 2: 2، 3).
12- شقاق: والشقاق ينتج من التشدُّد في الرأي والتحزُّب الأعمى، فكل مملكة تنقسم على نفسها تخرب.. قال القائد الإنجليزي “نيلسون” بعد إحدى انتصاراته: إن سبب انتصاره أن حظة السعيد أنه قاد جماعة من الإخوة، وذلك في إشارة لروح الوحدة والتآلف بين الجنود.
13- بدعة Hairesis: أي التعاليم العقيدية الخاطئة التي يبتدعها البعض، والبدعة أو الهرطقة تخلف ورائها التحزُّبات والانشقاقات، وكلمة Hairesis تنشق منها كلمة هرطقة، فيقول “وليم باركلي“: “لم تكن كلمة hairesis أصلًا كلمة سيئة، فهي مشتقة من فكرة الاختيار، وكانت تستخدم من أتباع إحدى مدارس الفلسفة أو عن أي مجموعة من الناس يشتركون في اعتقاد واحد، إلاَّ أن مأساة الحياة. من يختلفون في الرأي لا ينتهون بالنفور من آراء بعضهم. ولكنهم ينفرون من بعضهم الآخَر، رغم أنه من المفروض أنه يمكن أن يختلف اثنان وتبقى صداقتهما”(350).
وقد سبق السيد المسيح تبارك اسمه وحذرنا من المبتدعين عندما قال: “وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ“(مت 24: 11)، كما حذر منهم بولس الرسول قائلًا: “لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ” (أع 20: 29، 30) (راجع أيضًا 1تي 4: 1)، كما أوصى تلميذه تيطس قائلًا: “اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ عَنْهُ“(تي 3: 10)، كما أشار لهؤلاء بطرس الرسول أيضًا (2بط 2: 1، 3: 17).
“حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّه“(غل 5: 21).
14حسد Phthonai: أي النقمة على الآخَرين بسبب ما لديهم من خير ونعم وتميُّز، والحاسد لا يبغى امتلاك ما يملكه الآخَر، إنما يتمنى من كل قلبه زوال النعمة عن الآخَر، وقال “أربيدس” عن الحسد أنه: “أعظم الأمراض بين الناس”(351)، والحسد يسبب مرارة شديدة للحاسد بسبب ما يتمتع به الآخَر: “الحسدPhthonai : وتمتد هذه الكلمة إلى ما هو أبعد من الغيرة. إنها الروح..
- التي لا تريد فقط الأشياء التي في حوزة الآخَر، بل أيضًا تحسده عليها.
- التي لا تريد فقط الأشياء أن تزول وتُسلَب من الآخَر، بل أيضًا تريده أن يتألم ويعاني بسبب ضياعها.
- “حَيَاةُ الْجَسَدِ هُدُوءُ الْقَلْبِ وَنَخْرُ الْعِظَامِ الْحَسَدُ” (أم 14: 30).
- “لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَّرِّ وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ” (أم 24: 1).
- “لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ” (رو 13: 13).
- “الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ وَلاَ تَنْتَفِخُ“(1كو 13: 4).
- “لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا“(غل 5: 26)“(352).
15 قتل: سواء قتل بالفعل بالتصفية الجسدية، أو قتل باغتيال السُّمعة وهو القتل الأدبي، ويُعد القتل أشر أعمال الجسد، إذ يتعدى القاتل على الحق الإلهي، لأن اللَّه وحده هو الذي يهب الحياة وهو الوحيد الذي له الحق في انتزاعها.. ويزداد القتل بشاعة عندما يسبقه التعذيب الذي يؤدي للقتل، أو عندما يلحقه التمثيل بجثة القتيل.
16 سُكر: المسيحية لا تحرم الخمر كمادة، ولكن تحرم إساءة استخدامها، فالإنسان الثمل بالخمر يترنح ويفقد وعيه وتوازنه واحترامه، وكل هذا ضد وصايا الكتاب:
- “اَلْخَمْرُ مُسْتَهْزِئَةٌ. الْمُسْكِرُ عَجَّاجٌ وَمَنْ يَتَرَنَّحُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ” (أم 20: 1).
- “لِمَنِ الْوَيْلُ لِمَنِ الشَّقَاوَةُ لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ. لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ. لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ الشَّرَابِ الْمَمْزُوجِ” (أم 23: 29 – 30).
- “فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ” (لو 21: 34).
- “وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ“(أف 5: 18) (راجع أيضًا رو 13: 13).
17 بطر Komas: وهو المتعة بلا ضابط من خلال الحفلات الماجنة واللهو والفجور والعربدة، ويقول “وليم باركلي“: “هذه الكلمة Komas لها تاريخ حافل، فكلمة Komas كانت تُطلق على فرقة الأصدقاء الذين كانوا يرافقون من يفوز في الألعاب الرياضية بعد فوزه. فكانوا يرقصون ويمرحون ويتغنون بمدحه. وكانت هذه الكلمة تصف أيضًا أولئك الذين كرّسوا أنفسهم للإله باخوس إله الخمر، فهي تصف ما يمكن أن نسميه بالدهماء أو الرعاع وكانت تعني المنافسة والمتعة التي لا تحدها ضوابط فانحدرت إلى الحضيض“(353)، والبطر ضد الوصايا الكتابية:
- “لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ“(رو 13: 13).
- “لأَنَّ زَمَانَ الْحَيَاةِ الَّذِي مَضَى يَكْفِينَا لِنَكُونَ قَدْ عَمِلْنَا إِرَادَةَ الأُمَمِ سَالِكِينَ فِي الدَّعَارَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَإِدْمَانِ الْخَمْرِ وَالْبَطَرِ وَالْمُنَادَمَاتِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ الْمُحَرَّمَةِ“(1بط 4: 3).
وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا.. فإن خطايا الجسد وشروره ومفاسده وفجوره عديدة، فما ذكره بولس الرسول من الخطايا السبعة عشر ليست على سبيل الحصر، بل هي مجرد أمثلة، كما أنه أشار لخطايا ربما لم تكن معروفة في عصره ولكنها ستظهر فيما بعد، لذلك قال: “أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ“، فها أنا أسبق وأقول لكم عن هذه الخطايا قبل أن تبرز للوجود مثل الخطايا الإليكترونية عبر شبكة المعلومات بكل أنواعها.. كان هدف بولس الرسول الكشف عن هذه الخطايا التي تعيش في الظلام تحت الصخور مثل الثعابين والحيات، ويقول لتلميذه تيطس: “لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ الْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ“(تي 2: 11، 12).
الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.. وهذا ما أكده بولس الرسول عدة مرات خشية أن يفقد الإنسان مصيره الأبدي في الملكوت، فماذا يتبقى له سوى جهنم النار؟!
- “أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. لاَ تَضِلُّوا لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ. وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ“(1كو 6: 9، 10)، وما ذكره هنا يمثل قائمة أخرى من أعمال الجسد المملؤة فسادًا.
- “فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللَّهِ“(أف 5: 5).
- “الأُمُورَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ اللَّهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ” (كو 3: 6).
وجاء في سفر الرؤيا عن أورشليم السمائية مسكن اللَّه مع الأبرار:
- “وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا إِّلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ” (رؤ 21: 27).
- “لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا” (رؤ 22: 15).
- “مَلَكُوتِ اللَّهِ“(مر 4: 11)، هو “مَلَكُوتُ السَّموَاتِ“ (مت 3: 2)، وهو “مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ“ (أف 5: 5)، هو “مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ“ (كو 1: 13)، والكلمة اليونانية لكلمة “مَلَكُوتِ“ Basileia وترجمتها الحرفية “حكم اللَّه” أو “دنيا اللَّه” (راجع و. ألان كول – التفسير الحديث للكتاب المقدَّس ص 156)، والرب يسوع في بداية كرازته: “كَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ“ (مت 4: 23) وجاء في بداية التطويبات: “طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ“ (مت 5: 3)، وقال بولس الرسول: “لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللَّهِ أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ“(رو 14: 17) وأوصانا قائلًا: “وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ“(أع 14: 22).. فكم ينبغي أن يكون حرصنا الشديد على ملكوت السموات، ملكوت ابن محبته، حتى لا يضيع مشوار الصليب هباءً بالنسبة لنا، وتكون الخسارة مضاعفة، لأن فقداني للملكوت يعني سكناي في جهنم النار.
الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.. هذه الأعمال الجسدية تنبع من الطبيعة القديمة والإنسان العتيق، ولذلك لكيما ننجو من أعمال الجسد لا بد من صلب الطبيعة القديمة، وهذا ما صرّح به بولس الرسول بعد قليل عندما قال: “وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ“(غل 5: 24)، (راجع أيضًا رو 6: 6، غل 2: 20)، فالمسيح رُفِع على الصليب لكيما يرفع قصاص خطايانا، ونحن يجب أن نُرفَع على الصليب معه حتى لا تملك هذه الخطايا على جسدنا وتسيطر علينا: “كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا“ (رو 6: 11)، وبقوة روح اللَّه القدوس الساكن فينا نستطيع بنعمة المسيح أن نميت أعمال الجسد: “لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ“ (رو 8: 13)، أما الذين يمارسون مثل هذه الخطايا ويخدعون أنفسهم بأن اللَّه أب مُحب حنون لن يحرمهم من الملكوت، ومن المستحيل أن يُلقي بهم في بحيرة النار، فأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لأن اللَّه الكامل الغير متناهٍ في رحمته هو أيضًا غير متناهٍ في عدله، وإن كانت أعمال الجسد تحرم الإنسان من الملكوت، فإن الأعمال الصالحة بدون التبرّير بدم المسيح لن تعطي الإنسان الحق في ميراث الملكوت، فدخول الملكوت بالإيمان بالمسيح الفادي هذا هو الشرط الأول، ويتبعه المعمودية والأعمال الصالحة إن كان هناك فسحة من العمر لهذا، فبعض الذين آمنوا بالمسيح مثل اللص اليمين وبعض الوثنيين الذين كانوا يعلنون إيمانهم بيسوع المسيح فيحكم عليهم بالموت الفوري لم يجوزوا معمودية الماء والروح، ولكن مثل هؤلاء قد اعتمدوا مع المسيح معمودية الدم، وبالرغم من أن العمر لم يتسع لهم لتقديم أعمال صالحة لكن نصيبهم محفوظ في ملكوت السموات.
“دينونة الجسد (الطبيعة الخاطئة): دينونة أولئك الذين يعيشون بالجسد بالطبيعة الخاطئة، وببساطة جدًا فأنهم لا يرثون ملكوت اللَّه، فإذا كان (فما دام) اللَّه بارًا، فينبغي أن يعيش الناس حياة بارة لكي يقبلهم، ولكن الناس يتجاهلون حقيقة بر اللَّه وما يطلبه من الإنسان من بر! فالناس يفصلون سلوكهم عن ديانتهم، فهم:
* يعترفون بالديانة * ويتحدثون عن الديانة * ويمارسون الديانة * ويدافعون عن معتقداتهم الدينية.
ولكنهم يمضون لحال سبيلهم ويعيشون كما يحلو لهم بصرف النظر عن ديانتهم. وإذا رغبوا في فعل شيء، فأنهم يفعلونه بإحساس أن اللَّه سيغفر لهم.. والمحصلة النهائية يظن معظم الناس أن اللَّه سيقبلهم، ولا شك أن هذا الزعم نتيجة مفهوم مغلوط عن اللَّه، مفهوم يتطلع إلى اللَّه كأب يتساهل، ويتسامح مع أبنائه ويعطيهم رخصة عمل الخطأ.. كان هذا هو الخطأ الذين وقع فيه بعض أعضاء كنيسة غلاطية، وهو نفس الخطأ الذي تقع فيه جماهير المتدينين عبر القرون.. “فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّموَاتِ” (مت 5: 20)“(354).
“وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ إِيمَانٌ. وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ“(غل 5: 22، 23).
وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ.. إن سلكنا بحسب الناموس فبحسب الناموس نُدان لأن كل من لا يحفظ جميع ما جاء في الناموس فهو تحت اللعنة، وإن سلكنا بحسب أهوائنا وخطايانا فحتمًا سنهلك، ولكن إن سلكنا تحت قيادة الروح القدس فحتمًا أن روح اللَّه يثمر فينا ثمر الروح، وعن ثمر الروح تحدَّث السيد المسيح وأوضح أن الإنسان الذي تخلو حياته من هذا الثمر فأنه يُقطع ويُلقى في النار: “كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ“(يو 15: 2)، وإن كان بولس الرسول ذكر هنا تسع فضائل من ثمر الروح، فقد ذكر قوائم أخرى للفضائل في ( 2كو 6: 4-10، أف 4: 2، 5: 9، في 4: 8، كو 3: 12 – 15)، كما ذكر بطرس الرسول قائمة أخرى للفضائل مع اختلاف الترتيب والمشتملات جاء فيها المعرفة والتعفف، والصبر، والتقوى، والمودة الأخوية، والمحبة (1بط 1: 5-7). إذًا لم يكن هناك قائمة مسيحية واحدة للفضائل، ولكن ما عُرِف هو ارتباط جميع الفضائل بالمسيحية: ” كُلُّ مَا هُوَ حَق كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا “ (في 4: 8).. ” لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرّ وَحَقّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ. وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا” (أف 5: 8 – 11).
ثَمَرُ الرُّوحِ.. عندما تحدث بولس الرسول عن الخطايا دعاها “أَعْمَالُ الْجَسَدِ” بالجمع، بينما في حديثه عن الفضائل فقد دعاها “ثَمَرُ الرُّوحِ” في صيغة المفرد علامة الوحدانية والتكامل والتآلف والتآزر والتوافق، فثمة فضائل عديدة ومواهب كثيرة ولكن الروح واحد، فهذه الفضائل أشبه بباقة ورد واحدة تجمع أصناف وأنواع من الورود والرياحين، أو عنقود عنب مكتمل الحبات، وإن كان بولس الرسول وضع في هذه الباقة تسعة ثمار، فأنه في موضع آخر ذكر أيضًا تسعة مواهب للروح: “فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأروَاحِ وَلآخَرَ أَنْوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ” (1كو 12: 8 – 10).
ثَمَرُ الرُّوحِ.. في هذه الفقرة وضع بولس الرسول مقابلة بين أعمال الجسد والتي ذكر منها سبعة عشر خطية، وبين ثمر الروح الذي ذكر منه تسعة فضائل، وعندما قابل ثمر الروح بأعمال الجسد ظهرت ظلمة ونتانة أعمال الجسد أمام إشراق وجمال ورائحة وحلاوة ثمر الروح، فما أعظم الفارق بين أعمال الجسد وثمر الروح، فهذه الأعمال تنبع من الإنسان العتيق والإرادة البشرية الشريرة، أما ثمر الروح فهو عطية إلهيَّة تأتي كنتيجة طبيعية لثبات الغصن في شجرة الحياة (يو 15: 5)، والفارق بين أعمال الجسد وثمر الروح يماثل الفارق بين الموت والحياة، وبين الظلمة والنور، ويقول “صموئيل شادويك ” Samuel Chadwick: “ ثمر الروح هو تصرف مُحب حنون، روح مشرق وطبع مرح، فكر مطمئن وسلوك هادئ، صبر يحتمل الظروف الصعبة والناس، نظرة تعاطف ومساعدة فعَّالة، صواب في الحكم وقلب واسع في أعمال الرحمة، ولاء وجدارة بالثقة في جميع الأحوال، وداعة تنسي النفس في فرح الآخرين، سيطرة على الذات وضبط النفس في كل شيء، وهو تاج صفات الكمال. بالشدة ترابط هذه الصفات في(1كو 13)“(355).
ثَمَرُ الرُّوحِ.. هذه الفضائل هي ثمار طبيعية نتيجة سكنى روح اللَّه القدوس داخل الإنسان: “وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ وَصِرْتُمْ عَبِيدًا ِللَّهِ فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّة“(رو 6: 22)، وإن كان الامتناع من أعمال الجسد يمثل الجانب السلبي في جهاد الإنسان، فإن اقتناء ثمر الروح يمثل الجانب الإيجابي، ولهذا كان بولس الرسول يطلب هذا الثمر في حياة أولاده فقال لأهل رومية: ” مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَمُنِعْتُ حَتَّى الآنَ لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ أَيْضًا كَمَا فِي سَائِرِ الأُمَمِ “(رو 1: 13)، وقال لأولاده في كولوسي: “لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ“ (كو 1: 10)، واعتبر التسبيح ثمر شفاه: “فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ ِللَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ“(عب 13: 15)، كما اعتبر أيضًا تقديم التقدمات ثمارًا (رو 15: 26 – 28)، وكما أن الشجرة تُعرَف من ثمارها هكذا يُعرَف الإنسان من فضائله: “مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.. “ (مت 17: 16-18)، ويقول “وارين“: “إذا فكّرتَ في الأعمال فأنك تفكّر في مجهود وتعب ومشقة، وإن فكّرتَ في الثمر فأنك تفكّر في الجمال والهدوء وبساطة الحياة. إن الجسد ينتج “أَعْمَال مَيِّتَةٍ” (عب 9: 14)، أما الروح فينتج ثمرًا حيًا. وهذا الثمر يحمل في ذاته بذارًا.. وقد اهتم الرب يسوع بأن يكون لنا ثمر، وثمر أكثر (يو 15: 2، 5)، لأن تلك هي الطريقة التي تمجَّد اللَّه بها. إن الطبيعة القديمة لا تنتج ثمرًا بخلاف الطبيعة الجديدة“(356).
ثَمَرُ الرُّوحِ.. لكيما يظهر ثمر الروح في حياتنا لابد من تهيئة البيئة المناسبة لظهوره، فهو يحتاج إلى تربة مرّوية بكلمة اللَّه ودموع التوبة والصلوات الحارة وحياة التسبيح والشركة، ولنحذر من الثمار المزيفة التي تنتجها الطبيعة القديمة، فثمر الروح له هدف واحد هو تمجيد اسم اللَّه وخدمة الآخرين في إنكار للذات، فهذه الثمار يجب تقديمها لمن يحتاج إليها، أما الثمار المزيفة فإن الذات تقف خلفها وهدفها تمجيد ذات الإنسان سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة ملتوية.. ويمكن هنا تقسيم ثمر الروح إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: ثمر يخص علاقتنا باللَّه (مَحَبَّةٌ – فَرَحٌ – سَلاَمٌ).
المجموعة الثانية: ثمر يخص علاقتنا بالآخَرين (طُولُ أَنَاةٍ – لُطْفٌ – صَلاَحٌ).
المجموعة الثالث: ثمر يخص علاقتنا بأنفسنا (إِيمَانٌ – وَدَاعَةٌ – تَعَفُّفٌ).
المجموعة الأولى: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ:
وهذه الثمار يهبها لنا الروح القدس كعربون حياة الملكوت: “لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللَّهِ أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ“ (رو 14: 17)، وفضائل المحبة والفرح والسلام من العسير أن تفصل واحدة عن الأخرى، فأينما وُجِدت المحبة وُجِد الفرح الحقيقي والسلام الحقيقي، وهكذا بالنسبة للفرح، وأيضًا بالنسبة للسلام، ويقول “فؤاد حبيب“: “محبة، فرح، سلام تتناول علاقتنا باللَّه، المحبة هي الرباط الذي يربط قلوبنا باللَّه أبينا. الفرح هو الإحساس بالسعادة الذي يعم نفوسنا بعد المصالحة مع اللَّه. السلام هو الشعور بالهدوء الذي يغمر النفس بسبب الدخول إلى راحتها. المحبة هي الأساس، الفرح هو البناء الذي يُقام فوق الأساس، السلام هو التاج الذي يتوّج قمة البناء. المحبة تحتل المقام الأول في الحياة لأنها قد: “انسكبت في قلوبنا بالروح القدس”، الفرح يُبنى على المحبة، وحسنًا يُدعى “فرح الروح القدس”، وهو يعلو أو يهبط طبقًا للمحبة، والسلام مرتبط بالفرح. وكلاهما عنصران أساسيان في ملكوت اللَّه (رو 14: 17)، أنه “سَلاَمُ اللَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ” (كو 3: 15)، وهو الذي يحفظ قلوبنا وأفكارنا وسط الاضطرابات والاهتمامات العالمية”(357).
1- مَحَبَّةٌ: هذه الفضيلة تعني محبة اللَّه لنا من جانب، ومن جانب آخَر محبتنا للَّه من كل القلب والفكر والقدرة، محبة اللَّه لأجل ذاته، وأيضًا محبتنا للجميع من أجل اللَّه، وبهذا تصير المحبة محور الحياة المسيحية، والمحبة ثمرة من ثمار الروح القدس، لأن الروح القدس يكشف عن أعين أذهاننا محبة اللَّه العجيبة لنا: “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا“(رو 5: 5):
- “مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ“(إر 31: 3).
- “كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ“(هو 11: 4).
- في مَثَل الابن الضال:“وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ“(لو 15: 20).
- في مَثَل ابن الملك:“هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ“(مت 22: 4).
- على الصليب تجسَّمت محبة اللَّه لنا:“لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ“ (يو 15: 13).. “وَلكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللَّهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ“(رو 5: 8، 10).
- قدم لنا يوحنا الحبيب خلاصة محبة اللَّه لنا في كلمتين عندما قال للأجيال المتعاقبة: “اللَّهَ مَحَبَّةٌ” (1يو 4: 8).
أما عن محبتنا نحن للَّه، فقد أوصى اللَّه شعبه منذ القدم ليس بعبادته فقط بل بالأولى محبته: “اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِك“(تث 6: 4، 5)، وما أجمل صلاة أبينا داود النبي: “أُحِبُّكَ يَا رَبُّ يَا قُوَّتِي“ (مز 18: 1)، وتغنَّت عروس النشيد بصليب الحبيب: “وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ“ (نش 2: 4).
وأما عن محبتنا للجميع، فالناموس كله يُكْمَل في المحبة: “لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“(غل 5: 14)، وجاءت وصية الرب يسوع في الليلة الأخيرة: “هذِهِ هي وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ.. بِهذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“(يو 15: 12، 17)، وقال يوحنا رسول المحبة: “وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ لأَنَّ اللَّهَ مَحَبَّةٌ” (1يو 4: 8)، وصارت المحبة سمة الإيمان المسيحي: “لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ” (غل 5: 6).
مَحَبَّةٌ.. جاءت المحبة في مقدمة ثمر الروح لأنها تتخلَّل جميع الفضائل، وأي فضيلة تنقصها المحبة تتحوَّل إلى رذيلة، فاللَّه لا يهتم بأعمال الخير مهما علا شأنها إلاَّ بمقدار ما تحتويه من حب، فعمل صغير مفعم بالحب لهو أفضل من مشروع عملاق للخير ولكنه خالٍ من الحب، وفلسي الأرملة أعظم من جميع التقدمات بالمحبة (غل 5: 6) ولذلك دعى بولس الرسول المحبة “رِبَاطُ الْكَمَالِ“: ” وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هي رِبَاطُ الْكَمَالِ” (كو 3: 14) وجعلها أساس المسيحية: “وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ. وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللَّهِ“(أف 3: 18، 19)، كما سجّل لنا بولس الرسول أغنيته الخالدة عن المحبة في إصحاح المحبة (1كو 13)، وانتهى إلى أن: “اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا. وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ وَالأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي وَالْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ“(1كو 13: 8).. ” أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ” (1كو 13: 13) لأننا عندما نرى كل شيء بالعيان، ويتحقق كل ما كنا نرجوه فلن نحتاج بعد للإيمان ولا للرجاء أما المحبة فأنها تثبت في ملكوت ابن محبته إلى الأبد.. وجعل يوحنا الحبيب المحبة علامة على أننا أحباء: “نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ“(1يو 3: 14).
مَحَبَّةٌ.. والمحبة كفضيلة حيَّة تنمو شيئًا فشيئًا: “وَالرَّبُّ يُنْمِيكُمْ وَيَزِيدُكُمْ فِي الْمَحَبَّةِ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ كَمَا نَحْنُ أَيْضًا لَكُمْ“ (1تس 3: 12) فتظل المحبة تنمو حتى تطول الأعداء، وصدق من قال أن المسيحية هي ديانة: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ“ (مت 5: 44)، ووضع القديس يوحنا ذهبي الفم تسع درجات للتدرُّج في المحبة إلى التمام:
1- ألاَّ نبدأ بالظلم. 6- ألاَّ نكره الذين فعلوا معنا الشر.
2- إذا ظلمنا لا نواجه الظلم بظلم أكبر. 7- أن نحب الجميع.
3- لا ننتقم لأنفسنا بل نحتفظ بهدوئنا. 8 – أن نعمل معهم للخير.
4- أن نحتمل ظلم الآخرين لنا. 9- أن نحب الأعداء.
5- أن نكون أكثر تسامحًا مع أصحاب الرغبات الشريرة.
وبينما كان هناك عدّة كلمات في اللغة اليونانية تعبّر عن المحبة بصورها المختلفة إلاَّ أن العهد الجديد استخدم كلمة “أغابي” وهي أسمى أنواع المحبة، فيقول “وليم باركلي“: “الكلمة التي يستخدمها العهد الجديد عن المحبة هي agape، وهذه كلمة لم تكن مألوفة الاستخدام في اليونانية الكلاسيكية، وهناك أربع كلمات للتعبير عن المحبة في اللغة اليونانية:
أ – eros : وهي تعبّر عن محبة الرجل للفتاة، فهي المحبة التي نسميها الهوى، وهذه الكلمة لا تستخدم بتاتًا في العهد الجديد.
ب – philia : وهي ذاك الحب الدافئ الذي تحس به من نحو أقرب الأقربين إلينا وأعز الأعزاء، وهي محبة تتعلّق بالقلب ومشاعره.
ج – starge : وهي تعني بصفة خاصة العواطف، وهي تستخدم عادة عن حب الآباء والأبناء.
د- agape: والكلمة المسيحية تعني في الواقع حب عمل الخير الذي لا يمكن أن ينتصر عليه شيء، فيه تعني مهما تصرَّف الإنسان على نحو ما سواء بالإهانات أو التحقير لا يثنينا هذا عن أن نطلب خيره الأسمى، فهو شعور بالعقل كما هو بالقلب، وهي تخصّ الإرادة كما تخص العواطف، وهي تصف ذلك المجهود المتعمد الذي لا نستطيع أن نقوم به دون معونة إلهيَّة وبه لا نبقي ما هو أقل من أفضل الأشياء حتى لأولئك الذين يبغون لنا الأسوأ“(358).
مَحَبَّةٌ.. محبتنا للَّه تدفعنا لمحبة الخير للغير، ومحبتنا للجميع تجعل محبة اللَّه تفيض علينا، ويقول “البابا شنودة الثالث“: “محبة اللَّه توصل إلى محبة الخير والفضيلة، ومحبة الخير والفضيلة توصل إلى محبة اللَّه. وكل منهما تقوي الأخرى..
إن الذي يحب الرب والفضيلة، قد ارتفع فوق مطالب الناموس، ودخل في الحب. أنه يفعل الخير، بلا وصية، بل بطبيعته الخيّرة. ليس هو محتاجًا إلى وصية تدعوه إلى الخير. أنه يفعل الخير لأن الخير من مكوناته، كصورة اللَّه.. يفعل الخير كشيء عادي، طبيعي، كالنفس الذي يتنفسه دون أن يشعر في داخله أنه يفعل شيئًا زائدًا أو عجيبًا..
الإنسان الذي يحب الخير يعيش في فرح دائم وفي سلام..
تأكد أنه عندما يزن اللَّه أعمالك في الأبدية، ليرى ما فيها من خير، سيزن الحب الذي فيها، ولا يأخذ اللَّه من أعمالك سوى الحب فقط، ولا يكافئك إلاَّ على ما فيها من حب..
وبمقدار محبتنا للَّه سيكون فرحنا به في الأبدية، وستكون سعادتنا..
وإذا أحببت اللَّه سوف لا تخاف، لأن المحبة تطرح الخوف إلى خارج، إذا أحببت سوف لا تخاف اللَّه، ولا تخاف الخطية، ولا تخاف الناس، ولا تخاف الموت“(359).
مَحَبَّةٌ.. قال “القديس أغسطينوس“: “أحب، وأفعل بعد ذلك ما تشاء”، وقال “القديس دوريثيئوس“: “إذا كانت لنا المحبة المصحوبة بالحنان والشفقة فلن نترصد لعيوب الآخرين. المحبة تستر كثرة من الخطايا ( بط 4: 8)، المحبة لا تفكر في السوء وتستر على كل شيء (1كو 13: 5، 7). فإذا كانت لنا المحبة الحقيقية فهي نفسها ستستر كل ذلك. وسيصير موقفنا من عيوب الناس كموقف القديسين إزاءها. الأم عندما يتسخ ابنها ويصير شكله قبيحًا، فأنها لا تتباعد عنه مشمئزة منه بل تسرُّ أن تنظفه وتعيده إلى شكله اللطيف المبهج، كذلك هو الأمر مع القديسين فأنهم يعتنون بالخاطئ ويهيئونه ويتحملون عبء إصلاحه”.
وقال “القديس مار آفرام السرياني“: “مغبوط ذلك الإنسان الحاوي المحبة للَّه، فأنه حاوي اللَّه في ذاته لأن اللَّه محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في اللَّه.. من له محبة لا يترفَّع على أحد، لا يتشامخ ولا يغتاب أحدًا”.
وقال “القديس يوحنا سابا” (الشيخ الروحاني): “عجيبة هي أيضًا المحبة التي هي لغة الملائكة ويصعب على اللفظ ترجمتها. المحبة اسم اللَّه الكريم. مَن يستطيع أن يفحصها أو يحدها”.
كما قال “القديس يوحنا سابا” أيضًا: “من شاء أن يتكلم عن محبة اللَّه، فهو يبرهن على جهله، لأن الحديث عن هذه المحبة الإلهيَّة غير ممكن البتة“.
فَرَحٌ.. والكلمة اليونانية المستخدمة Chara تصف الفرح النابع من اللَّه وليس من الخيرات الأرضية، وعندما خلق اللَّه الإنسان عاش الإنسان متوَّجًا على الخليقة فَرِح القلب، ولم يعرف الحزن ولا الكآبة إلاَّ بعد السقوط، كما وعد اللَّه الإنسان بالفرح الكامل في ملكوت السموات، فملكوت اللَّه هو فرح دائم: “لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللَّهِ أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ“ (رو 14: 17)، والعبد الصالح: “قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ. نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ.. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ“(مت 25: 23)، وبين هذا الفرح وذاك الفرح أراد اللَّه أن يعيش شعبه في فرح لذلك جعل لهم الأعياد والمواسم: “وَتَعْمَلُ عِيدَ أَسَابِيعَ لِلرَّبِّ إِلهِكَ.. وَتَفْرَحُ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَاللاّوِيُّ الَّذِي فِي أَبْوَابِكَ وَالْغَرِيبُ وَالْيَتِيمُ وَالأَرْمَلَةُ” (تث 16: 10، 11) (راجع لا 23)، وقال السيد المسيح تبارك اسمه: “كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ” (يو 15: 11).
فَرَحٌ.. والفرح يختلف عن اللذة، فيقول “البابا شنوده الثالث“: “اللذة خاصة بالجسد وحواسه، أما الفرح الحقيقي فهو خاص بالروح. إنسان يتلذذ بالطعام والشراب، إنها لذة الجسد. وإنسان آخَر يتلذذ بالمناظر، ويشبع عينيه من أي منظر جميل. إنها أيضًا لذة تختص بحواس الجسد. وثالث يتلذذ بالسمع والموسيقى، إنها لذة الحواس. ولكن تشترك هنا الروح إن كان ما يسمعه إلحانًا روحية، أو كلمات روحية تُشبع نفسه. وحينما نتكلم عن الفرح، إنما نتكلَّم عن فرح الروح. لأن هناك فرحًا نفسانيًا وهو فرح باطل“(360).
فَرَحٌ.. والفرح كثمرة من ثمار الروح القدس فرح ثابت لا يعتمد على الظروف الخارجية، فبالرغم من أن أهل تسالونيكي اُضطهدوا بسبب إيمانهم وجازوا في الضيق لكنهم اختبروا حياة الفرح: “وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ إِذْ قَبِلْتُمُ الْكَلِمَةَ فِي ضِيق كَثِيرٍ بِفَرَحِ الرُّوحِ الْقُدُسِ“ (1تس 1: 6)، وقال بولس الرسول لأولاده في كورنثوس: ” كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ“ (2كو 6: 10)، بالفرح الحقيقي لا يهتز وقت التجارب والضيقات، وهذا ما عبَّر عنه قديمًا حبقوق النبي إذ أن التين لم يزهر والكروم لم تنتج والزيتونة بلا ثمرة، والحقول لم تصنع طعامًا، والغنم انقطع عن الحظيرة والبقر عن المزود، وبالرغم من ذلك فأنه يقول: “فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي” (حب 3: 18). لقد كان حبقوق يتطلّع للخيرات السمائية أكثر من تطلعاته للخيرات الأرضية. بل أن آلام الاضطهاد لا تقوى على تحطيم هذا الفرح، فعندما أهين التلاميذ وجُلدوا: “وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ“ (أع 5: 41)، وقال مُعلّمنا يعقوب: “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ“(يع 1: 2)، ورأينا الشهداء وهم يساقون في مهانة لساحات الاستشهاد لم تفارق البسمة وجوههم وكأنهم ذاهبون إلى حفلة رائعة، وانطبق عليهم قول سليمان الحكيم: “اَلْقَلْبُ الْفَرْحَانُ يَجْعَلُ الْوَجْهَ طَلِقًا“ (أم 15: 13)، ففي التجربة والضيق يُولد الرجاء: “فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ “(رو 12: 12)، وقال الرب يسوع: ” طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَوَاتِ” (مت 5: 11، 12).
وبالرغم من أن رسالة فيلبي كُتِبت في سجن روما إلاَّ أنه أُطلق عليها “رسالة الفرح”، لأنها تفيض بعبارات الفرح والسرور والبهجة والحبور:
- “مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ“(في 1: 4).
- “وَبِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا“(في 1: 18).
- “وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَانِ“(في 1: 25).
- “فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا“(في 2: 2).
- “أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ. وَبِهذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضًا وَافْرَحُوا مَعِي“(في 2: 17، 18).
- “فَاقْبَلُوهُ فِي الرَّبِّ بِكُلِّ فَرَحٍ” (في 2: 29).
- “أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي افْرَحُوا فِي الرَّبِّ” (في 3: 1).
- “اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ وَأَقُولُ أَيْضًا افْرَحُوا“(في 4: 4).
- “ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا“(في 4: 10).
فَرَحٌ.. بأي شيء نفرح؟
- نفرح بالرب كقول داود النبي: “جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. لِذلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضًا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا” (مز 16: 8، 9).. “افْرَحُوا بِالرَّبِّ وَابْتَهِجُوا يَا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ وَاهْتِفُوا يَا جَمِيعَ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ“ (مز 32: 11).. ” يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ بِالرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِهِ وَيَبْتَهِجُ كُلُّ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ” (مز 64: 10).
- نفرح بالرب يسوع الكنز المُخفَي في حقل الأسفار المقدَّسة:“أَيْضًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ كَنْزًا مُخْفىً فِي حَقْل. وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَى ذلِكَ الْحَقْلَ” (مت 13: 44).
- نفرح مع الرعاة بالمسيا المُخلّص:“لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ“(لو 2: 10)، ونفرح مع المجوس الذين سعوا للقائه: “فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا“(مت 2: 10) ونفرح بلقاء الرب مع زكا: “فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا” (لو 19: 6)، ونفرح مع التلاميذ بقيامته: ” فَفَرِحَ التَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوْا الرَّبَّ” (يو 20: 20) إذ تحقّق وعده لهم: “وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ“ (يو 16: 22).
- نفرح بالفداء الذي صنعه الرب يسوع على الصليب:“وَمَفْدِيُّو الرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِالتَّرَنُّمِ وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ فَرَحٌ أَبَدِيٌّ. ابْتِهَاجٌ وَفَرَحٌ يُدْرِكَانِهِمْ. يَهْرُبُ الْحُزْنُ وَالتَّنَهُّدُ“ (إش 51: 11).. “فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ“ (إش 61: 10).. “فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ“(1بط 1: 8)، فبعد أن نال الخصي الحبشي الإيمان واعتمد: “ذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحًا“ (أع 8: 39).
- نفرح بالوصية كقول داود النبي:“وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ” (مز 19: 8)، و”الإنجيل” أي البشارة المفرحة.. “أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً“(مز 119: 162)، ولهذا تطالبنا الكنيسة أن لا نكف يوميًا عن التهام كلمة اللَّه لأنها تهبنا الفرح والعزاء الروحي.
- نفرح بالتوبة، فداود النبي قال:“حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحًا“(مز 30: 11).. “رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ“ (مز 51: 12).
- نفرح بعبادة الرب:“اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ. ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ“ (مز 100: 2).. “فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ“ (مز 122: 1)، وفرح بالعطاء: “الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللَّهُ” (2كو 9: 7)، ونفرح لأن فرح اللَّه يهبنا القوة لاستكمال المسيرة للملكوت: “لاَ تَحْزَنُوا لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ“ (نح 8: 10).
- نفرح بنجاح الخدمة كقول يوحنا الحبيب:“لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلاَدِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْحَقِّ” (3 يو 4) ويقول “البابا شنوده الثالث“: “أن المعمدان فرح كثيرًا ببشارة السيد المسيح ونجاحها، فقال: “مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ” (يو 3: 29). لقد فرح لأنه سلَّم العروس للعريس، حتى لو انتهت بذلك خدمته. هنا الفرح الروحي البعيد عن الاهتمام بالذات.. أما الإنسان الأناني فلا يفرح إلاَّ بخدمته هو، كأنه الوحيد الذي يخدم. ومن هنا قد يحدث التنافس والحسد بين الخدام، ولا يفرحون بعمل غيرهم“(361).
- نفرح لأفراح الآخرين:“فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ“ (رو 12: 15)، فالإحساس بالآخرين ومشاركتهم مشاعرهم تزيد من أفراحهم وتُخفِض من سقف أحزانهم، فالذي يمر بمناسبة طيبة ويرى الآخرين يحوطونه بحب صادق ومودة حقيقية، كم تكون سعادته؟!0
- نفرح بتوبة الخاطئ ورجوعه كقول مخلصنا الصالح في مَثَل الخروف الضال:“افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ“ (لو 15: 6)، وفي مثَل الابن الضال: “وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ.. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ“ (لو 15: 23).. ” يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ“ (لو 15: 7).
ويقول “البابا شنوده الثالث“: ” نفرح كلما نجد إنسانًا قد اصطلح مع اللَّه.. إذًا الخدمة بالإضافة إلى مكافآتها في السماء لها فرح أيضًا على الأرض، وكما يقول الكتاب: “مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا” (يع 5: 20). ما أعمق فرح الذي يخلص نفسًا من الموت. الفرح بإنسان ارتد عن الإيمان وأعدته. أو الفرح بإنسانة سقطت وضاعت ثم رجعت مرة أخرى“(362).
فَرَحٌ.. وبينما نحن نفرح، لنحذر من الفرح الخاطئ، مثلما يفرح الخاطئ بأهوائه وشهواته بينما المحبة “لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ“ (1كو 13: 6)، ومثلما يشمت إنسان في خصمه:“لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّكَ وَلاَ يَبْتَهِجْ قَلْبُكَ إِذَا عَثَرَ“ (أم 24: 17)، ومثلما يفرح الجاهل بحماقته عندما ينتقم من إنسان أو يسيطر عليه: “الحَمَاقَةُ فَرَحٌ لِنَاقِصِ الْفَهْمِ“(أم 15: 21) أي يرتكب حماقته ويفرح بها، والفرح بالمعجزات الوهمية، بل وأيضًا الانشغال بالمعجزات الحقيقية يُعبّر عن السطحية، فعندما عاد الرسل من إرساليتهم: “فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَا رَبُّ حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ. فَقَالَ لَهُمْ.. لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَوَاتِ“ (لو 10: 17 – 20).
ويقول “البابا شنودة الثالث“ أن الانتصار على النفس مثل الانتصار على العادة المسيطرة أو الخطية المحبوبة يهب النفس فرحًا أكثر من الانتصار على الغير: “كما يقول الحكيم” مَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً” (أم 16: 32). إن الانتصار على النفس أعمق بكثير من الانتصار على الآخرين، لأن به يتحرَّر الإنسان من الداخل. إن الذي ينتقم لنفسه لا يفرح مثل الذي يستطيع أن يضبط نفسه ويحتمل. لذلك فرح داود النبي لما منعته أبيجابل الحكيمة عن إتيان الدماء والانتقام لنفسه (1صم 25: 32، 33)” (363).
3 – سَلاَمٌ.. كلمة “سلام” في الأصل اليوناني “إيريني” eirene وتؤدي نفس معنى الكلمة في اللغة العبرية “شالوم“، وجاء في “دائرة المعارف الكتابية“: ” السلام هو الأمن والاطمئنان والخلو من الخوف والانزعاج والقلق والاضطراب، سواء لأسباب خارجية أو لأسباب نفسية. كما أنه يعني النجاح والصحة والسعادة ماديًا وجسمانيًا ونفسيًا“(364)، فلا غنى للإنسان ولا للأسرة ولا للمجتمع عن السلام، وإلاَّ تحوَّل المجتمع إلى مجتمع الخوف والاضطراب والغابة.
ويقول “وليم باركلي“: “في اللغة اليونانية الدارجة في عصر بولس الرسول كان لهذه الكلمة eirene استخدامان شيقان: فهي تعبّر عن الهدوء والسكون اللذان تتمتّع بهما إحدى البلاد تحت حكم أحد الأباطرة الطيبين المحسنين، وهي تستخدم للتعبير عن النظام المستتب في مدينة أو قرية. فلقد كان في القرى موظف كانوا يسمونه المشرف على سلام القرية، فهو الذي يحافظ على سلام الجماهير، وكلمة eirene المستخدمة في العهد الجديد تُعبّر عن الكلمة العبرية “شالوم” ولا تعني مجرّد التحرر من المشاكل، ولكنما تشير بالأكثر إلى كل الأشياء التي تعمل على خير الإنسان الأسمى. وهي تعني هنا هدوء القلب واستقراره النابع من الإحسان العجيب بأن ظروف حياتنا إنما هي في يد اللَّه. وأنه لمن الطريف أن الكلمتين اليونانيتينchara eirene أصبحتا اسمين مسيحيين شائعين في الكنيسة”(365).
وفعلًا السلام مرتبط بالفرح، فالقلب المضطرب الذي فَقَدَ سلامه كيف يستطيع أن يفرح؟!.. فالسلام هو ينبوع الفرح وبدونه لا وجود للفرح، وأيضًا القلب المكتئب الذي افتقد الفرح لا يشعر بالسلام، ولهذا قال سليمان الحكيم: “اَلْغِشُّ فِي قَلْبِ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ فِي الشَّرِّ أَمَّا الْمُشِيرُونَ بِالسَّلاَمِ فَلَهُمْ فَرَحٌ“ (أم 12: 20).
سَلاَمٌ.. استخدم شعب اللَّه قديمًا كلمة “شالوم” (سلام) في لقاء الأصدقاء، وأيضًا في وداعهم، فقد وعد اللَّه شعبه بالسلام طالما يطيع وصاياه ويسير في الطريق المستقيم بعيدًا عن الاعوجاج: “وَأَجْعَلُ سَلاَمًا فِي الأَرْضِ فَتَنَامُونَ وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُكُمْ. وَأُبِيدُ الْوُحُوشَ الرَّدِيئَةَ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ يَعْبُرُ سَيْفٌ فِي أَرْضِكُمْ“ (لا 26: 6)، لقد أعطى اللَّه وعده للمستقيمين: “إِذَا أَرْضَتِ الرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضًا يُسَالِمُونَه“ (أم 16: 7)، وكانت بركة هارون الكاهن للشعب: “يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَمًا“(عد 6: 25، 26).. وعندما جاء الرب يسوع إلى أرضنا طفلًا رضيعًا أنشدت الملائكة أنشودة السلام: “الْمَجْدُ للَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ“ (لو 2: 14)، وعندما أرسل الرب يسوع رسله الأطهار أوصاهم قائلًا: “وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلًا سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحُلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَإِّلاَّ فَيَرْجعُ إِلَيْكُمْ“(لو 10: 5، 6)، ونحن قد تبرَّرنا وصار لنا سلام مع اللَّه بالإيمان بيسوع الفادي وليس بأعمال الناموس: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ“(رو 5: 1)، فالتبرير بالإيمان يمنحنا ثمرة السلام، السلام الذي صنعه ابن اللَّه بدم صليبه: “لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ“ (أف 2: 14)، والسلام هو عطية المسيح القائم لتلاميذه: “سَلاَمٌ لَكُمْ“ (يو 20: 19)، وتمسكت الكنيسة بهذه العطية، ففي صلواتنا الليتورجية طالما رفع الأب الكاهن صليبه مباركًا الشعب: “السلام لجميعكم” وعلى الفور يجيبه الشعب “ولروحك أيضًا”.
سَلاَمٌ.. سلام مع اللَّه، ومع النفس ومع الآخرين. سلام مع اللَّه، مثل السلام الذي تمتَّع به أبونا آدم في الفردوس وقبل السقوط، أما بعد السقوط فخاف آدم وتبدَّد سلامه: “سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ“(تك 3: 10)، فصنع الرب معه صلحًا مؤقتًا مؤسَّسًا على دم الذبيحة عندما ستره بجلد الذبيحة وعلمه أنه بدون سفك دم لا تحدث مغفرة، وبالتالي لا سلام، وطالما اختبر شعب اللَّه فترات من السلام تمتَّع بها عندما كان يعيش في مخافة اللَّه، وطالما عانى من شتى أنواع العبودية والقهر والمذلّة فاقدًا سلامه عندما كان يجنح إلى خطايا شعوب الأرض، وسفر القضاة خير شاهد على هذا، فمن جهة اللَّه فهو يريد السلام لشعبه دائمًا: “إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللَّهُ الرَّبُّ لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ” (مز 85: 8)، وقال اللَّه عن الإنسان المنسحق المتواضع الروح الثابت: “سَلاَمٌ سَلاَمٌ لِلْبَعِيدِ وَلِلْقَرِيبِ قَالَ الرَّبُّ، وَسَأَشْفِيهِ“ (إش 57: 19).. “وليَمْلأْكُمْ إِلهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَان“ (رو 15: 13).. السلام الحقيقي مصدره إله السلام:
- “إِلهُ السَّلاَمِ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ آمِينَ” (رو 15: 33).
- “وَإِلهُ السَّلاَمِ سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعًا” (رو 16: 20).
- “عِيشُوا بِالسَّلاَمِ وَإِلهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ” (2كو 13: 11).
- “وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ” (1تس 5: 23).
- “وَرَبُّ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمُ السَّلاَمَ دَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ” (2تس 3: 16).
سَلاَمٌ.. سلام مع النفس، فعندما يحيا الإنسان في مخافة اللَّه ونور وصاياه تمتلئ حياته بالسلام، لا يشعر بالانشقاق ولا بالصراع الداخلي، ولا ينقسم على ذاته، فهو يثق بعقله وقلبه أن كل أموره في يد اللَّه، وأن جميع الأمور تؤول للخير، أما الشرير فالسلام يخاصمه: “أَمَّا الأَشْرَارُ فَكَالْبَحْرِ الْمُضْطَرِبِ لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِينًا. لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلهِي لِلأَشْرَارِ“ (إش 57: 20، 21)، فالشرير اهتماماته جسدية تقود للموت “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ“(رو 8: 6)، أمَّا الإنسان الروحي فيتمتع بسلام اللَّه:
- “لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ” (1بط 1: 2).
- “لِتَكْثُرْ لَكُمُ الرَّحْمَةُ وَالسَّلاَمُ وَالْمَحَبَّةُ” (يه 1: 2).
وسلام اللَّه يصاحب الإنسان الصالح في حياته وفي مماته، كقول اللَّه لإبراهيم: “وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ“ (تك 15: 15)، وقال سمعان الشيخ عندما حمل مولود العذراء: “الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَاسَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ“ (لو 2: 29)، وقال يشوع بن سيراخ: “أَجْسَامُهُمْ دُفِنَتْ بِالسَّلاَمِ وَأَسْمَاؤُهُمْ تَحْيَا مَدَى الأَجْيَالِ” (سي 44: 14).
سَلاَمٌ.. سلام مع الآخرين، بالروح القدس يمنح الإنسان الحكمة والصبر والاحتمال فيتعايش مع الآخرين في سلام لأنه يدرك مدى أهمية هذه العطية، وقال الكتاب: “لُقْمَةٌ يَابِسَةٌ وَمَعَهَا سَلاَمَةٌ خَيْرٌ مِنْ بَيْتٍ مَلآنٍ ذَبَائِحَ مَعَ خِصَامٍ“ (أم 17: 1)، وطوَّب الرب يسوع صانعي السلام: “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ“ (مت 5: 9)، وقال معلمنا بولس الرسول: “فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ“ (رو 14: 19)، كما قال أيضًا: ” إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ” (رو 12: 18).
ويقول “البابا شنوده الثالث“: “قال السيد المسيح في عظته على الجبل: ” فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ. فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ” (مت 5: 23، 24) وفي هذا تشترط الكنيسة الصلح قبل التناول.. وفي القداس الإلهي نصلي صلاة الصلح قبل قداس القديسين وقبل سيامات الإكليروس..
ولأنه قد يبدو من الصعب أن تصطلح مع كثير من الأعداء والمقاومين، لذلك قال الرسول: “إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ” (رو 12: 18).
ذلك لأن البعض لا يمكنك مسالمتهم، إلاَّ إذا اشتركت في الخطأ معهم، أو بسبب شراسة طباعهم، أو لأنهم يحسدونك بسبب نجاحك، أو بسبب تدابير معينة يدبرونها، أو لأن سلوكك الطيب يكشف أخطاءهم، أو لأي سبب آخَر.. لذلك حسب طاقتك، إن كان ممكنا ذلك، سالم جميع الناس. وإلاَّ فعليك بالآتي:
- لا تجعل الخلاف يأتي بسببك..
- كن واسع الصدر حليمًا..
- حاول باستمرار أن تحتمل وأن تغفر..
- “لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ” (رو 12: 21)..
- لا تطالب الناس بمثاليات0 وإنما أقبلهم كما هم بواقعهم، وليس كما ينبغي أن يكونوا..
- بالوداعة والتواضع يمكن مسالمة الكثيرين..
الاستثناء الوحيد في موضوع المسالمة، هو معاملة الهراطقة والمبتدعين وفاسدي الخلق“(366).
سَلاَمٌ.. والسلام كثمرة من ثمار الروح القدس، وعطية منه يختلف عن السلام الذي يهبه العالم، ولذلك قال الرب يسوع: “سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا“(يو 14: 27).. أنه: “سَلاَمُ اللَّهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (في 4: 7).. سلام دائم عميق يشمل العقل والقلب والوجدان، ويمنح الإنسان إحساس كامل بالأمان، بعيدًا عن أي خوف أو قلق أو اضطراب.
سَلاَمٌ.. ونحن ننشد عطية السلام في حياتنا علينا أن نحذر من السلام الزائف، فقد أنذر إرميا النبي الشعب، أما هم فاتهموه بالخيانة وأنه عميل لملك بابل: “قَائِلِينَ سَلاَمٌ سَلاَمٌ وَلاَ سَلاَمَ” (إر 6: 14). قالوا ما دام هيكل الرب في أورشليم فإن أورشليم في حماية الرب، أما هو فقد أكد لهم أن الرب سمح بسبيهم إلى بابل لمدة سبعين عامًا، ولم يصدقوه، بل صدقوا الأنبياء الكذبة، وعاشوا في السلام الزائف: “هُوَذَا الأَنْبِيَاءُ يَقُولُونَ لَهُمْ لاَ تَرَوْنَ سَيْفًا وَلاَ يَكُونُ لَكُمْ جُوعٌ بَلْ سَلاَمًا ثَابِتًا أُعْطِيكُمْ فِي هذَا الْمَوْضِعِ“ (إر 14: 13)، وقال الرب على لسان حزقيال النبي: “مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَضَلُّوا شَعْبِي قَائِلِينَ سَلاَمٌ وَلَيْسَ سَلاَمٌ” (حز 13: 10)، وهكذا سيكون في نهاية الأيام: “لأَنَّهُ حِينَمَا يَقُولُونَ سَلاَمٌ وَأَمَانٌ حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى فَلاَ يَنْجُونَ“ (1تس 5: 3).
سَلاَمٌ.. كيف يقول السيد المسيح إله السلام: ” لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا ” ( مت 10: 34 )؟.. إن السيد المسيح كان يشير لطبيعة دعوته، وما سيترتب عليها، فالذين سيؤمنون به سيقوم عليهم أقرب الأقرباء، ولذلك أكمل قائلًا: “مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي” (مت 10: 37).
المجموعة الثانية.. طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ..
ويقف خلف هذه المجموعة الرجاء، فالرجاء هو الذي يجعل الإنسان يطيل أناته على الآخرين، ويتعامل معهم بلطف، ويعيش حياة الصلاح، وأن هذه المجموعة بدأت بصفة سلبية وهي طول الأناة، لكنها انتقلت إلى صفتين إيجابيتين وهما اللطف والصلاح، وهذه الفضائل الثلاث يتمتع بها الإنسان القوي الذي غلب أهوائه وشهواته، وربما خشى بولس الرسول رد فعل أولاده في غلاطية تجاه الفريق الآخر فيسيئون معاملتهم، لذلك وضع أمامهم الفضائل التي يتحلى بها الغالب تجاه المغلوب، فهو لا يريد منهم أن يقسوا على أولئك المتهودين.
4 طُولُ أَنَاةٍ.. أي الصبر والاحتمال والتسامح في التعامل مع الآخرين، وفي مواجهة الصعاب والمشاكل والإساءات، وكان اليونانيون ينظرون لطول الأناة كعلامة ضعف، فكانوا يمجدون الإنسان الذي يبذل قصارى جهده في الانتقام من المسيئين إليه، والحقيقة أن طول الأناة صفة إلهيَّة، فقال الرب عن نفسه:
- “الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ” (خر 34: 6).
- “الرَّبُّ طَوِيلُ الرُّوحِ كَثِيرُ الإِحْسَانِ يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ لكِنَّهُ لاَ يُبْرِئُ“(عد 14: 18).
- قال داود النبي:“أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ“ (مز 86: 15).
- قال يوئيل النبي:“وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ. وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ لأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ” (يؤ 2: 13).
- قال يونان النبي:“لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ“ (يون 4: 2) (راجع أيضًا مز 103: 8، 145: 8، نح 9: 17، نا 1 : 31).
وقد أطال اللَّه أناته على شعوب كنعان، فقال لإبراهيم: “لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلًا“ (تك 15: 16)، فصبر عليهم أربعمائة سنة، فلم يُصلِحوا من أحوالهم، بل توغَّلوا في الشر، ووصلوا إلى مرحلة اللاعودة، فحمل يشوع سيف العدل الإلهي لكيما يبيدهم.. وأطال اللَّه أناته على الشعب في البرية أربعين عامًا، ثم أطال أناته عليهم في أرض الموعد، حتى قال: “طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ“ (رو 10: 21)، وقال إشعياء النبي: “لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا بَقِيَّةً صَغِيرَةً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ“ (إش 1: 9)، وأطال اللَّه أناته على شاول الطرسوسي حتى صار بولس الرسول، وأطال أناته على أريانوس والي أنصنا الذي طالما تفنَّن في عذاب المسيحيين حتى عاد إلى رشده وآمن بالمصلوب ونال إكليل الشهادة، وأطال أناته على قديسي التوبة مثل القديس أغسطينوس، والقديسة مريم المصرية والقديس الأنبا موسى القوي، وما زال يطيل أناته كثيرًا علينا.
والسيد المسيح أظهر طول أناة عجيبة في مشوار الصليب: “ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ“ (إش 53: 7)، فالسيد المسيح صبر على الموت، موت الصليب من أجل خلاصنا، وهو يطيل أناته على صالبيه: “يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ“ (لو 23: 34).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم” عن طول الأناة: “أن هذه الكلمة تعبر عن النعمة التي تدفع الشخص الذي في وسعه أن ينتقم إلاَّ أنه لا يفعل ذلك. فهو الإنسان البطيء الغضب. وأن ما يلقي كثيرًا من الضوء على هذه الكلمة هو أنها تُستخدم عادة في العهد الجديد عن موقف اللَّه أو موقف المسيح من البشر (رو 2: 4، 9: 22، 1تي 1: 16، 1بط 3: 20)، فلو كان الرب إنسانًا لمحا هذا العالم من الوجود منذ زمن بعيد. ولكن اللَّه عنده ذلك الصبر الذي يحتمل كل خطايانا ولا يطرحنا بعيدًا. ففي حياتنا وفي موقفنا من معاملات الناس معنا يجب أن نقتفي أثار موقف اللَّه الصابر من نحونا، في حبه واحتماله وغفرانه”(367).
طُولُ أَنَاةٍ.. الإنسان الطويل الأناة هو الإنسان الصبور الرحب الصدر مثلما كان موسى النبي: “وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ“ (عد 12: 3)، ومثلما كان سليمان الحكيم: “وَأَعْطَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةً وَفَهْمًا كَثِيرًا جِدًّا وَرَحْبَةَ قَلْبٍ كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ“ (1مل 4: 29)، والإنسان يحتاج طول فترة حياته على الأرض إلى طول الأناة، فقال الرب يسوع: “بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ“ (لو 21: 19).. “الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ“ (مت 10: 22)، ونفاذ صبر الإنسان يجعله يُصاب بالملل والضجر والقلق، وربما يحاول حل المشاكل التي تعترضه بفكره الخاص، ثم يجني المتاعب من وراء ذلك، كما أرادت سارة أن تحل مشكلة العقورية بتزويج زوجها لجاريتها، وكان ما كان، وحقًا قال يشوع بي سيراخ: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ فَقَدُوا الصَّبْرَ وَتَرَكُوا الطُّرُقَ الْمُسْتَقِيمَةَ وَمَالُوا إِلَى طُرُقِ السُّوءِ فَمَاذَا تَصْنَعُونَ يَوْمَ افْتِقَادِ الرَّبِّ“ (سي 2: 16، 17).. يحتاج الإنسان للصبر وطول الأناة في مواجهة الضيقات التي تأتي عليه: “نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً. وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي” (رو 5: 3-5)، وصوَّر بولس الرسول طول الأناة كثوب ودعى الإنسان أن يرتديه: “فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللَّهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ وَلُطْفًا وَتَوَاضُعًا وَوَدَاعَةً وَطُولَ أَنَاةٍ“(كو 3: 12).
طُولُ أَنَاةٍ.. تمنح طول الأناة الإنسان صمودًا أمام الضغوط التي يتعرَّض لها، ومغفرة عن طيب خاطر للمسيئين، واستمرارًا في العمل الصالح، وصبرًا في جني الثمار، وطول الأناة كثمرة من ثمار الروح يهبها الروح القدس للنفوس المجاهدة في طريق الملكوت، ومن جانب الإنسان فينبغي أن يتمسَّك بمواعيد اللَّه ويطلب هذه الثمرة في حياته، ولا سيما إذا كان هذا الإنسان خادمًا، فهو يحتاج بالأولى لطول الأناة في الخدمة، فيُلقي بالبذار ويتعهد الأرض بالعناية مهما تأخَّر الثمر، وقد أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلًا له: “عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ“(2تي 4: 2) فالخادم في التعليم يحتاج الصبر وطول الأناة، كما أوصى أولاده في تسالونيكي: “شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ“ (1تس 5: 14).
5 لُطْفٌ.. اللطف هو صفة من صفات اللَّه، وهو ثمرة من ثمار الروح القدس التي يهبها للإنسان، كما أنه فضيلة يتحلى بها الإنسان، واللطف ليس فقط بشاشة الوجه وحلاوة الحديث، ليس لطفًا ظاهريًا، بل هو نابع من عِشرة الإنسان مع اللَّه، واللطف لا يمنعنا فقط من أن نسبب ألمًا للآخرين، بل يجعلنا نشاركهم آلامهم، واللطف هو الإحساس بمشاعر الآخرين في أفراحهم وأحزانهم فنتعامل معهم برفق وصبر وشفقة ووداعة وحنو وتسامح بعيدًا عن القسوة والخشونة، وينبع اللطف من طول الأناة، أما الذي ينفذ صبره فأنه يتعامل مع الآخرين بعصبية.
لُطْفٌ.. يقول “البابا شنوده الثالث” عن اللطف أنه: “هو ثمرة طبيعية لحياة الوداعة والرِّقة والبشاشة والاتضاع، والبُعد عن الخشونة والعنف والقسوة والتعالي. وما دام هو من ثمر الروح، إذًا فهو من ثمر “الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ” (1بط 3: 4)، وهكذا يكون الإنسان اللطيف.
هناك أشخاص – للأسف الشديد – يظنون أن الحياة الروحية هي مجرّد صلاة وصوم، بينما يسلكون بطريقة منفرة في معاملة الآخرين! ولكنني أقول: إن لم تكن لطيفًا في تعاملك، فأنت شخص غير متدين على الإطلاق.. ما أشد قسوة بعض (المتدينين) في معاملتهم للخطاة، أو من يظنونهم خطاة.. ! وما أكثر ما يستخدمون من عبارات جارحة في توبيخهم! ويحسبون أن هذه غيرة مقدَّسة منهم وشهادة للحق! وأنهم يقودنهم إلى التوبة. ولكن السيد المسيح لم يكن هكذا، بل قيل عنه: “لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ” (مت 12: 19، 20، إش 42: 3)”(368).
وقد وصف أحد الأفاضل اللطف وصفًا بديعًا فقال: “هو المصباح الملآن بالزيت العطر، يضيء البيت بالنور ويملأه بالرائحة العطرة، وهو البساط ذو الوبرة العالية، يريح من يسير عليه ويمتص الضوضاء التي تملأ بيوتنا، وهو الستارة التي تمنع وهج الشمس اللافح صيفًا، وشدة الرياح الباردة شتاءً، وهو الوسادة الناعمة التي ترتاح عليها الرأس المتعبة” (من موقع بالإنترنت عن اللطف).
وهذا الوصف يشبه نبوّة إشعياء النبي عن السيد المسيح: “وَيَكُونُ إِنْسَانٌ كَمَخْبَأٍ مِنَ الرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ السَّيْلِ كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَة“ (إش 32: 2).
لُطْفٌ.. اللطف صفة إلهيَّة اتضحت بالأكثر عندما تَقبَّل اللَّه معاتبة الإنسان له، فقد عاتبه إبراهيم قائلًا له: “حَاشَا لَكَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ. أَنْ تُمِيتَ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ فَيَكُونُ الْبَارُّ كَالأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ. أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلًا” (تك 18: 25) وظل إبراهيم يساوم مع اللَّه حتى خجل من نفسه إذ لم يكن بالمدينة كلها عشرة أبرار، كما عاتب موسى النبي اللَّه قائلًا: “لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ. اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ.. فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ“ (خر 32: 12، 14).
وتغنّى داود بلطف اللَّه: “لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا“ (مز 103: 10).. “وَتَجْعَلُ لِي تُرْسَ خَلاَصِكَ وَيَمِينُكَ تَعْضُدُنِي وَلُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي“ (مز 18: 35)، ومن قبله لعازر الدمشقي عندما وُفّق لرفقة زوجة لإسحق: “وَقَالَ مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ الَّذِي لَمْ يَمْنَعْ لُطْفَهُ وَحَقَّهُ عَنْ سَيِّدِي” (تك 24: 27)، وشهد بهذا اللطف يعقوب أبو الآباء عندما قال: “صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ. فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هذَا الأُرْدُنَّ وَالآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ“ (تك 32: 10)، ورأينا لطف اللَّه في معاملاته مع يونان النبي الهارب، ولفت إشعياء النبي الأنظار للطف اللَّه عندما قال عنه: “فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ“ (إش 63: 9) ولعل هذه إشارة لقول موسى النبي لشعبه: “وفِي الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ رَأَيْتَ كَيْفَ حَمَلَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ كَمَا يَحْمِلُ الإِنْسَانُ ابْنَهُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْتُمُوهَا“ (تث 1: 31).
لُطْفٌ.. رأينا هذا اللطف في مخلصنا الصالح، فعندما انتهر التلاميذ الأولاد: “اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللَّهِ“ (مر 10: 14)، وفي مثَل الابن الضال عندما طلب الابن الأصغر نصيبه في الميراث وبالرغم من أن الأب على قيد الحياة إلاَّ أنه لم يمنعه عنه، وبعد أن بذَّر هذا الابن ماله بعيش مسرف وبمجرَّد عودته قَبَلَهُ إليه، وعندما تذمَّر الابن الأكبر خرج إليه أبوه وأعاده إلى البيت.. حقًا ما أعظم لطف هذا الأب الصالح الحنون، ورأينا هذا اللطف في معاملات الرب يسوع مع السامرية والمرأة الخاطئة وزكا العشار وبطرس بعد إنكاره.. رأينا هذا اللطف في مشوار الصليب: “حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللَّهِ وَإِحْسَانُهُ لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا“(تي 3: 4، 5).
فاللطف صفة إلهيَّة يتمتع بها الإنسان، ولكن مَن يستهين بلطف اللَّه يسقط تحت الدينونة: “أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللَّهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ“ (رو 2: 4).. “فَهُوَذَا لُطْفُ اللَّهِ وَصَرَامَتُهُ أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضًا سَتُقْطَعُ“ (رو 11: 22).
لُطْفٌ.. تمتَّع رجال اللَّه القديسيون بهذه الصفة الطيبة، فيوسف الصدِّيق بعد موت أبيه يعقوب ظن إخوته أنه سينتقم منهم لكنه قال لهم: “لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللَّهِ. أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا أَمَّا اللَّهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ. لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا. فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ. فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ“ (تك 50: 19-21)، وكم كان داود النبي لطيفًا مع شاول الذي كان يسعى بكل طاقته أن يقتنص روحه، وبالرغم من أنه سقط تحت يده مرتين إلاَّ أنه لم يمد يد الأذى إليه، بل أنه بعد موته بحث عن ذرية له ليصنع معه معروفًا، فوجد مفيبوشث الأعرج الرِجْلين فرد إليه حقول شاول وجعله يأكل على مائدته (2صم 9: 71)، وعندما احتج سبط أفرايم على جدعون لأنه خرج لحرب المديانيين ولم يدعهم فعاملهم بلطف: “فَقَالَ لَهُمْ مَاذَا فَعَلْتُ الآنَ نَظِيرَكُمْ أَلَيْسَ خُصَاصَةُ أَفْرَايِمَ خَيْرًا مِنْ قِطَافِ أَبِيعَزَرَ” (قض 8: 2)، فصرف غضبهم، ولم يفعل كما فعل يفتاح الجلعادي فيما بعد إذ احتد على سبط أفرايم بسبب نفس الإشكالية وقتل منهم 42 ألفًا، وتمتَّع بهذه الصفة الآباء الرسل: ” فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللَّهِ.. فِي أَتْعَابٍ فِي أَسْهَارٍ فِي أَصْوَامٍ. فِي طَهَارَةٍ فِي عِلْمٍ فِي أَنَاةٍ فِي لُطْفٍ” (2كو 6: 4 – 6)، وعندما كُسِرت السفينة ببولس ورفقائه استقبلهم أهل جزيرة مليطة وكلَّموهم بلطف زائد، وحاكم الجزيرة بوبليوس يقول عنه بولس الرسول: “فَهذَا قَبِلَنَا وَأَضَافَنَا بِمُلاَطَفَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ“ (أع 28: 7).
لُطْفٌ.. وكتابنا المقدَّس يشجعنا على السلوك بلطف في جميع معاملاتنا، فعريس النشيد يدعو العروس قائلًا: “أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ“ (نش 2: 14)، والذي يسلك بلطف يستريح ويريح الآخَرين فيكثر أصدقاؤه: “الْفَمُ الْعَذْبُ يُكَثِّرُ الأَصْدِقَاءَ وَاللِّسَانُ اللَّطِيفُ يُكَثِّرُ الْمُؤَانَسَاتِ“ (سي 6: 5).. “حَدِيثُ الأَحمَقِ كَحِملٍ في الطَريقِ وإنَّما اللطفُ على شَفَتيِ العاقلِ“ (سي 21: 19)، وصوت اللَّه بلسان لسان العطر يدعونا: “وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللَّهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ“ (أف 4: 32) فاللطف يدعونا للشفقة، والتسامح، ويصوّر بولس الرسول اللطف كلباس يكسو اللطفاء المتواضعين والودعاء: “فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللَّهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ وَلُطْفًا وَتَوَاضُعًا وَوَدَاعَةً وَطُولَ أَنَاةٍ مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا“(كو 3: 12، 13)، وقال بطرس الرسول: “كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي الرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرّ بِشَرّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ“ (1بط 3: 8، 9) فنحن نحتاج للطف في عالم استشرى فيه العنف والقسوة والحدة، نحتاج للطف في معاملة الآخَرين بصبر ومحبة وطول أناة ورأفة وحنو وشفقة وتسامح وصفح، وما أكثر الذين يحتاجون إلى كلمة لطف منا، والإنسان اللطيف لا يحتقر أحدًا.
6 صَلاَحٌ.. والصلاح صفة إلهيَّة، فكثيرًا ما تكررت عبارة: “اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ“ (مز 106: 1، 107: 1، 118: 1)، وقال ناحوم النبي: “صَالِحٌ هُوَ الرَّبُّ حِصْنٌ فِي يَوْمِ الضَّيقِ وَهُوَ يَعْرِفُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ” (نا 1: 7)، والسيد المسيح هو السامري الصالح مصدر الصلاح (لو 10: 30-35)، وقال بطرس الرسول: “إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ“ (1بط 2: 3).. من صلاح اللَّه أن أوجدنا من العدم بعد أن رتَّب لنا كل احتياجاتنا فلم يدعنا معوزين شيئًا، وقد خلقنا على صورته ومثاله في الصلاح، ومن صلاحه أنه عندما سقطنا أنه لم يهملنا ولم يتركنا بل تعهَّدنا بالمراحم الإلهيَّة فأعطانا الناموس وأرسل لنا الأنبياء، إلى أن أرسل ابنه “الذي هو صورة اللَّه غير المنظور، فحمل حكم الموت عنا، وأعاد لنا صورة الصلاح التي فقدناها بالخطية، ووهبنا هباته وعطاياه الصالحة: “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هي مِنْ فَوْقُ نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَار“ (يع 1: 17)، ويقول معلمنا يعقوب: “وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فهي أَوَّلًا طَاهِرَةٌ ثُمَّ مُسَالِمَةٌ مُتَرَفِّقَةٌ مُذْعِنَةٌ مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ“(يع 3: 17) ومن أهم عطاياه أنه أعطانا روحه القدوس ليسكن فينا (1كو 3 : 16).
والروح القدس بصلاحه يُبكّتنا على كل خطية، كما أن اللَّه في صلاحه أودعنا الضمير كرقيب على تصرفاتنا لكيما نعيش حياة صالحة طبقًا لوصاياه، ويقول “البابا شنوده الثالث“: “أيضًا من أجل قيادتنا أوجد اللَّه فينا الضمير.
الضمير صوت من الَّله فينا: يحكم ويشرّع، ويوبّخ ويؤنّب ويقود إلى الخير، ويمنعنا من الخطأ، وإن استنار الضمير بالروح القدس الذي فيك، فأنه يكون مرشدًا قويًا إلى الصلاح. ورادعًا عن الشر. هذا إذا أطاع الإنسان ضميره.. ومن أجل الصلاح أيضًا، أعطانا الرب الوصايا.
ومن أجل الصلاح أيضًا، أعطانا الرب الوصايا، هذه التي يقول عنها داود النبي: “وصية الرب مضيئة. تنير العينين عن بُعد” (مز 19)، “سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي” (مز 119: 105). فالذي يحرص على أن يسلك في طريق الصلاح، عليه أن يتمسّك بكلمة اللَّه التي تهديه“(369).
صَلاَحٌ.. الصلاح هو فعل الخير مع الغير بسخاء وبلا تكلُّف، والإحسان للغير دون أن نبغى أي هدف غير مجد اللَّه، وثمرة الصلاح تشبه كثيرًا ثمرة اللطف، وإن كانت ثمرة اللطف تظهر بالأخص في معاملاتنا مع الغير، فإن ثمرة الصلاح تنبع من الإنسان في كل وقت، وأحيانًا تشمل ثمرة الصلاح الإصلاح والتأديب والتصحيح.
ويقول “وليم باركلي“: “والكلمتان “لطف” و”صلاح” ترتبطان برباط وثيق فالكلمة اليونانية المترجمة بكلمة لطف هي كلمة chrestotes وكثيرًا ما تُترجّم بالكلمة صلاح فهي تعبّر عن اللطف والرقة (تي 3 : 4، رو 2: 4، 2كو 6: 6، أف 2: 7، كو 3: 12، غل 5: 22)، وتُعبّر إحدى الترجمات الإنجليزية عن هذه الكلمة في (2كو 6: 6) بكلمة “حلاوة ” فيالها من كلمة جميلة! ويقول عنها “بلوتارك” أن مجالها أوسع بكثير من العدل.. نير المسيح يُوصف بأنه chrestas (مت 11: 30) فهو لا يُثير ولا يُتعِب ولا يدفع للغضب وكل فكرة الكلمة في الصلاح الذي يحمل الطيبة بين ثناياه، والكملة التي يستخدمها بولس الرسول عن الصلاح هي الكلمة اليونانية agathosune وهي إحدى كلمات الكتاب المقدَّس المتميزة، فهي لا تَرْد في غيره من الكتابات اليونانية (رو 15: 14، أف 5: 9، 2تس 1: 11)، وهي كلمة تعبّر عن الصلاح في أوسع نطاق فهي {الفضيلة التي تناسب كافة المواقف} فما الفارق إذًا بين الكلمتين؟ الكلمة المترجمة “صلاح” فيها إمكانية التوبيخ والتصحيح والتأديب، أما الكلمة المترجمة “لطف” فهي تعني المساعدة فقط“(370).
صَلاَحٌ.. الإنسان الصالح يحمل هموم الآخَرين وآلامهم، فهو إنسان مبارك ينتظر الصوت الإلهي: “تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي.. “ (مت 25: 34-40).. وقيل عن طابيثا: “هذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالًا صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا“(أع 9: 36)، وحذّر بولس الرسول أولاده في رومية لئلا يُفَتر على صلاحهم بسبب عثرة الطعام: “لاَ تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذلِكَ الَّذِي مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِهِ. فَلاَ يُفْتَرَ عَلَى صَلاَحِكُمْ“ (رو 14: 15، 16)، ثم شجّعهم قائلًا: “وَأَنَا نَفْسِي أَيْضًا مُتَيَقِّنٌ مِنْ جِهَتِكُمْ يَا إِخْوَتِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ مَشْحُونُونَ صَلاَحًا“(رو 15: 14)، ومدح بولس الرسول أيضًا كل من يفعل الصلاح: “وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاَحَ“ (رو 2: 10)، والإنسان الصالح تجد كلامه صالحًا وأعماله صالحة: “اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ“(لو 6: 45).
صَلاَحٌ.. ” ثمر الصلاح (Agathosune) : هو الامتلاء بالفضيلة والتفوُّق والتميُّز، بالشفقة والحنان والحياة النافعة.. الصلاح يعني أن يكون الشخص مملوءًا من كل صلاح وأن يصنع كل صلاح، فهي تعني:
- أن له قلبًا طيبًا وسلوكًا خيّرًا.
- أنه صالح ويصنع الصلاح.
- أنه شخص ذو منزلة سامية.
والشخص الصالح يحيا ويتعامل مع كل شخص كما يريد هو أن يعاملوه، لا يستغل أي شخص، ولا يدع الآخَرين يستغلونه. هو ينهض ويحيا لما هو صواب، وجيد، وعادل، وحق. وهذا يعني أن الصلاح يستلزم تدريبًا وتهذيبًا، وتصحيحًا، وتعليمًا كما يستلزم أيضًا محبة، واهتمامًا، وسلامًا، ومصالحة، والشخص الصالح لا يتساهل مع الشر، ولا يدع الشر يتفشى. كما لا يسمح للشر أن يطلق لنفسه العنان ويتعامل بظلم مع الآخرين، ولا يسمح للآخرين أن يعانوا من الشر. فالصلاح يتقدم للأمام ويعمل ما أمكنه لإيقاف الشر والسيطرة عليه“(371).
صَلاَحٌ.. صلاح الإنسان صلاح نسبي، يشمل الصُّلح السلبي متمثلًا في البُعد عن الخطايا وتجنُّب العثرات، والصلاح الإيجابي متمثلًا في اقتناء الفضائل كالتي ذكرها مخلصنا الصالح في التجربة على الجبل، والتي ذكرها لسان العطر هنا، والإنسان الصالح لا تجد له الخطية بابًا، أما الإنسان غير الصالح فأنه يتلذذ بالخطايا وشرب الإثم كالماء.
ويقول “البابا شنوده الثالث“: “وفعلًا هناك أشياء لا يستطيع الإنسان الروحي أن يفعلها.. لا يستطيع أن يلفظ كلمة نابية بذيئة، لا يستطيع أن يكذب، بل أنه يحتقر نفسه إذا فعل ذلك. لا يستطيع أن يقوم بأي عمل غير مُهذَّب.. وبالتالي كلما نما في الصلاح يجد أنه عمومًا لا يستطيع أن يخطئ.. هناك عيب من جهة السلوك في الصلاح أن يحكم الإنسان على بعض الخطايا بأنها خطايا بسيطة! فيتساهل معها!
الخطية هي الخطية سواء حكم عليها الشخص بأنها بسيطة أو كبيرة. وهكذا يقول الرب: “مَنْ قَالَ لأَخِيهِ يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ” (مت 5: 22). وهكذا في باقي خطايا اللسان يقول: “بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ” (مت 12: 37). حقًا أنه توجد خطية أبشع من خطية. ولكن كلًا منها تتنافى مع الصلاح، فالإنسان الصالح لا يرتكب هذه ولا تلك، فالرسول يأمرنا أن نسلك بتدقيق (أف 5: 15)” (372).
المجموعة الثالثة: إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ:
وهذه المجموعة تخص علاقتنا بأنفسنا، ويبدو أن المقصود بالإيمان هنا أمانة الإنسان، لأن الإيمان في الأصل يسبق المحبة وكل الفضائل، وبدونه لن تجد ثمرة واحدة في ثمار الروح القدس في غير المؤمن، والفرح والسلام ينبعان من الإيمان (رو 15: 13) فهو يتقدمهما. إذًا المقصود بالإيمان هنا ليس كوسيلة ينال بها الإنسان التبرير والخلاص، إنما المقصود به كمبدأ يعيش به الإنسان المؤمن، فهو تعبير عن حالة المؤمن، كقول مار بولس: “فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ اللَّهِ“ (رو 3: 3).. إن اللَّه أمين من جهتنا وبالتالي يجب أن نكون أمناء له.
ويقول “الأب متى المسكين“: “وهكذا فرضت هذه المعادلة نفسها، فإذا كان اللَّه أمينًا بكل معنى وبكل ثقة من نحونا، أصبح من الواجب والحق أن نكون نحن أمناء له أي مؤمنين به!.. نخرج من هذه المقابلة البديعة أن الإيمان المعروض علينا والذي قبلناه ونعيشه يحتاج إلى أمانة أي إيمان يتجدّد بالعقل. فالإيمان لا يبقى إيمانًا إلاَّ بمزيد من الأمانة أي مزيد من الإيمان.. وبالنهاية يتضح أمامنا أن إيماننا بالمسيح هو تحت الفحص يومًا بيومٍ لأن الذي يتكلم عن الإيمان يتحتم أن يكون هو صاحب إيمان..
فاللَّه لأنه أمين استودعنا أمانته أي الإيمان به، فصارت أمانته أي الإيمان به رهن الفحص والمراجعة، فكما أظهر اللَّه أمانته لنا يسأل أن تكون أمانتنا له ظاهرة وتتناسب مع أمانته“(373).
إِيمَانٌ.. المقصود بالإيمان:
1– الإيمان باللَّه: أي الثقة في وجود اللَّه ومحبته للبشر والإيقان بأمور غير منظورة: “وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى“ (عب 11: 1)، فنحن لا نرى اللَّه ولا الملائكة ولا الشياطين ولا الملكوت ولا الجحيم وجهنم النار، وبالرغم من هذا فإننا نؤمن بكل هذه الأمور بقدر ما كشفها اللَّه لنا من خلال الأسفار المقدَّسة، ولسان العطر يدعونا أن نحيا بحسب هذا الإيمان: “لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ“ (2كو 5: 7)، ولن نكون مثل توما الذي قال: “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ.. لاَ أُومِنْ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ. طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا“(يو 20: 25، 29). وبالطبع ليس المقصود بالإيمان هنا الإيمان النظري الذي قال عنه معلمنا يعقوب: “وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ“ (يع 2: 19)، وأيضًا ليس المقصود بالإيمان هنا الفراسة والرؤية المستقبلية، فقد يكون لإنسان هذه الفراسة فيستقرئ المستقبل ومع ذلك تجده لا يؤمن بوجود اللَّه ولا الملائكة ولا الحياة الأخرى، فهو يفتقد الإيمان الذي يربط بين هذه الحياة الحاضرة والحياة الأبدية، الإيمان ليس السطحي بل الإيمان العميق المتغلغل في أعماق النفس والروح، فمثلًا الذي يؤمن حقًا أن اللَّه كائن في كل مكان وزمان، فهو بلا شك يستحي أن يفعل الخطية مثلما قال يوسف: “فَكَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللَّهِ“(تك 39: 9)، والحياة بدون هذا الإيمان الحقيقي لا يرضي اللَّه: “بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ“(عب 11: 6)، والحقيقة أن هناك خطورة على الإيمان الحقيقي، فقد قال الرب يسوع: “وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ“ (لو 18: 8).
2 الإيمان بكلمة اللَّه: أي الإيمان بوحي الأسفار المقدَّسة وأن: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ“(2تي 3: 16) وإن كل ما جاء في هذا الكتاب فهو صادق وأمين، والإنسان الذي لديه هذا الإيمان لا يشك في آية واحدة في الكتاب مهما سمع أو قرأ من أقوال أرباب النقد عديمي الإيمان، فإن مَن يشك في جزء في الكتاب فأنه سيشك في الكل، بل أنه سيشك في صاحب الكتاب ويتردى في هوة الإلحاد، أما الإنسان المؤمن بالكتاب فهو يثق به أكثر من ثقته في نفسه، فحتى لو مرَّ عليه آلاف الأسئلة فلا تزعجه ولا تقلقه، لكنه بصبر وطول أناة يبحث ويدرس في روح الصلاة وعندئذ سيدرك أنه لا جديد تحت الشمس، فهذه الأسئلة طالما أُثيرت وطالما أُجيب عليها، وأنه بنعمة المسيح لكل سؤال جواب، والإنسان الذي لديه هذا الإيمان يصير له الإيمان بمثابة ترس يحميه: “حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ“ (أف 6: 16)، فهو إنسان راسخ لا تهزه العواصف والأعاصير الفكرية، إنما يعيش بحسب وصية الكتاب: “كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ“ (1كو 15: 58).
3- الإيمان بالعقائد المسيحية المستقيمة: ذلك “الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ“ (يه 3) مهما كانت هذه العقائد فوق مستوى العقل، لأن العقل قاصر لا يدرك ما يدركه الإيمان، العقل مثل العين المجردة، أما الإيمان فهو مثل التلسكوب الذي به نعاين أمورًا لا تستطيع العين المجردة أن تطلع عليها.. نؤمن بالعقائد الروحية ونحن نعيش في طاعة الوصية: “وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ“ (يه 20).
إِيمَانٌ.. الإيمان هو ثمرة من ثمار الروح القدس، وهو أيضًا موهبة من مواهب الروح القدس: “وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ“(1كو 12: 9)، والمقصود بالإيمان هنا الإيمان العملي “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“ (غل 5: 6)، الإيمان الذي قال عنه لأهل تسالونيكي: “عَمَلَ إِيمَانِكُمْ” (1تس 1: 3)، الإيمان الذي قال عنه مُعلّمنا يعقوب: “وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي“ (يع 2: 11)، فإن: “الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ“(يع 2: 20) والذي له هذا الإيمان القويم العملي فأنه:
1) لا يخف: لأن الخوف دليل على قلة أو نقص الإيمان، فعندما هاج البحر خاف التلاميذ وارتعبوا، فنهض ابن اللَّه وأسكت الرياح والأمواج، ثم كشف لهم عن سر خوفهم قائلًا لهم: “كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ“ (مر 4: 40)، أما داود النبي الذي كان لديه الإيمان القويم فقد قال بقلب واثق: “أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي“ (مز 23: 4).. “إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ“ (مز 27: 3).
2) لا يشك: فالشك هو ضد الإيمان، فبطرس الرسول عندما كان له الإيمان القوي مشى على الماء، ولكن عندما نظر حوله وسأل نفسه كيف يحدث هذا؟ وبدأ الشك يدخل إلى قلبه بدأ يغوص في الماء، فصرخ: “يَا رَبُّ نَجِّنِي“، فقال له الرب يسوع: “يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ“ (مت 14: 31).
3) صلاته مستجابة: فهو يثق أن الرب يسمع صوته ويصغي إلى صلاته ويستجيب لطلباته سواء بالإيجاب أو بالسلب أو بالإرجاء، فلو منحه طلبته فهذه استجابة بالإيجاب، ولو منع عنه ما يريد فهذه استجابة بالسلب، ولو أرجأ هذه الطلبة للوقت المناسب فهذه استجابة مع الإرجاء لوقت أنسب.
4) ثقته باللَّه: فهو يثق في اللَّه ويصدق أن: “كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّهِ“ (مر 10: 27)، فنستطيع أن يقول مع القديس بولس: “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي“ (في 4: 13)، وله أن يترنم قائلًا: قُوَّتِي وَتَرَنُّمِي الرَّبُّ وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا ” (مز 118: 14).
إِيمَانٌ.. الإيمان كفضيلة حيَّة ينمو ويشتد وأحيانًا يضعف، فإبراهيم الذي ضعف إيمانه تارة أمام فرعون مصر وتارة أمام أبيمالك ملك جيرار، فكان يُصرّح بنصف الحقيقة وهي أن سارة أخته، ويغفل النصف الآخَر وهي أنها زوجته خوفًا على حياته، فأُخذت زوجته منه في المرتين ولولا التدخل الإلهي لضاعت سارة وضاع معها الوعد الإلهي، ولكن عندما نما إيمان إبراهيم واشتد لم يمنع ابنه وحيده حبيبه إسحق عن اللَّه، فأصعده محرقة ونجح في أصعب امتحان اجتازه إنسان، وإيليا النبي الذي بإيمانه أوقف المطر ثلاث سنين وستة أشهر، وبإيمانه جعل النار تهبط من السماء وتلتهم الذبيحة والمياه المحيطة بها مرة، وتأكل رئيس خمسين وجنوده مرتين تعرَّض لضعف الإيمان فهرب من إيزابل، ويمكن أن نرى إنسانًا مبتدئ في الإيمان ثم ينمو إيمانه إلى حد صنع المعجزات “صَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي الْمَرِيضَ” (يع 5: 15).. “إِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ“ (1كو 13: 2) بل أن هذا الإيمان الذي ينقل الجبال ليس هو نهاية المطاف بل هو فقط يشبه في الحياة المسيحية حبة الخردل، فقال الرب يسوع: ” فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ” (مت 17: 20).
إِيمَانٌ.. الإيمان يفتح باب العطايا الإلهيَّة، فلولا إيمان المرأة الكنعانية القوي ما كانت شُفيت ابنتها، وما كان رب المجد يمتدحها: “يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ“ (مت 15: 28)، ولولا إيمان أصدقاء المفلوج ما كان شُفيَ هذا المفلوج: “فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ ثِقْ يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ“(مت 9: 2)، وقال الرب يسوع: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا“(يو 14: 12)، وحقًا قال الكتاب: “وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا“(حب 2: 4).. “لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا“(غل 3: 11)، بل أننا نلنا الخلاص ليس بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع الفادي: ” لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ بِالإِيمَانِ وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ هُوَ عَطِيَّةُ اللَّهِ” (أف 2: 8).
8 – وَدَاعَةٌ.. وهي الكلمة اليونانية praotes وتحمل ثلاث معانٍ:
1 الخضوع للإرادة الإلهيَّة (مت 5: 5، 11: 29، 21: 5).
2 القابلية للتعليم، فهي تصف الإنسان المتضع (يع 1: 21).
3 المجاملة، والإحسان بالآخَرين، والتعامل معهم باتضاع واحترام (1كو 4: 21، 2كو 10: 1، أف 4: 2ا) (راجع وليم باركلي – تفسير العهد الجديد – رسالتا غلاطية وأفسس ص 85).
والوداعة هي ثمرة من ثمار الروح القدس تجمع بين الطيبة والهدوء، تجعل الصدر رحبًا، والأفق متسعًا، والمشاعر أكثر حساسية بالآخرين، تهب الإنسان احتمالًا وصبرًا وطول أناة على المعاندين والمشاكسين والمتشدّدين والمسيئين والمُضطهِدين، وهي فضيلة تزين وتجمّل النفس كقول ابن سيراخ: “يا بُنيَّ مَجّد نفسكَ بالوداعةِ. واعط لها الكرامةِ ما تستحقُّ“ (سي 10: 31)، ولذلك تذكرنا الكنيسة في صباح كل يوم بأن نسلك بالوداعة، ففي مقدمة صلاة باكر: “أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَوَدَاعَةٍ وَبِطُولِ أَنَاةٍ مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ“(أف 4: 1، 2).
وَدَاعَةٌ.. الإنسان الوديع ليس هو الإنسان الذي يتصنَّع الهدوء، إنما هو:
1- إنسان بشوش، هادئ الطباع، هادئ السلوك، هادئ الأعصاب، هادئ الملامح، هادئ اللسان، ينتقي ألفاظه بدقة ومهارة، عذب الحديث، عف اللسان، بعيد عن روح الغضب والتجريح والتشهير والحدة والتهديد والكبرياء والعجرفة، ليس من السهل استثارته، فهو يشابه سيده الذي: “لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ“ (مت 12: 19)، يقول عنه “القديس مار إسحق السرياني“: “سهل عليك أن تحرك جبلًا من موضعه. وليس سهل عليك أن تثير إنسانًا وديعًا”(374)، كما قال “القديس يوحنا الدرجي“: “الوداعة صخرة قائمة على شاطئ الغضب تكسر كافة الأمواج التي تلطمها، ولا تتحرك أو تضطرب البتة.. !”(موقع الحياة المسيحية بالإنترنت – إعداد ميشيل نجيب دميان)، وقيل عن القديس يوحنا القصير أنه كان يُعلّق البرية كلها بإصبعه.
2- إنسان يستريح له الجميع ويحبونه ويأنسون له كقول يشوع بن سيراخ: “يا بُنيَّ اقضِ أعمالكَ بالوداعةِ فيحبكَ الإنسانُ الصالحُ“(سي 3: 19)، والودعاء يفرحون بالأبرار: “بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ“ (مز 34: 2)، والإنسان الوديع يمرّر الأزمات بسهولة ولا يدع تلك الأزمات تمرّر حياته، ينأى بنفسه بعيدًا عن المجادلات الغبية كما أوصى لسان العطر تلميذه تيموثاوس قائلًا: “وَالْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ وَالسَّخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا عَالِمًا أَنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَاتٍ. وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ“ (2تي 2: 23، 24)، وأن يكون سلوكه هادئًا مثل النسمة الوديعة بلا دمدمة ولا مجادلة: “اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ” (في 2: 14).. الإنسان الوديع لا يقابل الشر بالشر والقسوة بالقسوة، ولا يضجر من أحد ولا يشكو أحد ولا يعبّس في وجه الآخرين.
ويقول “البابا شنوده الثالث” عن الإنسان الوديع: “أنه يمر على الحياة، كما يمر النسيم الهادئ على سطح الماء.
لا يُحدث في الأرض عاصفة ولا زوبعة، ولا يُحدث في البحر أمواجًا ولا دوّامات. ولا يحب أن يحيا في جو فيه زوابع ودوامات. إن كل ذلك لا يتفق مع طبعه، ولا مع هدوئه، ولا معه لطفه.. ولا مع أسلوبه في الحياة. لذلك فإن كل من يعاشره، يلتذ بعشرته. فهو طيب هادئ لا يصطدم بأحد، ولا يزاحم غيره في طريق الحياة. وإن صادف مشاكل فأنه يمرّرها، ولا يدعها تمرّره“(375).
3 إنسان يسمع وينصت للمساكين، يسمع شكواهم باهتمام ووداعة، مطيعًا وصية الكتاب: “أَمِلْ أُذُنَكَ إلى المسكينِ وأجبهُ برفقٍ ووداعةٍ“ (سي 4: 8)، ويجاوب كل من يسأله بوداعة: “مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ“ (1بط 3: 15)، ويتعامل مع الجميع بوداعة: “مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ“ (تي 3: 2).
4- إنسان واضح وصريح يتمتَّع بدرجة عالية من الشفافية، لا يخفي في دواخله مخادع مظلمة، يسهل عليك قراءته، لا يُظهر غير ما يُبطن، بسيط بعيد عن كل خُبث ودهاء، بعيد عن روح الإدانة والانتقام، لا يقيم نفسه رقيبًا ولا قاضيًا ولا حاكمًا على تصرُّفات الآخَرين، وإن اضطر للحكم على أحد بحُكم منصبه ومسئوليته، فإن حُكمه يتسم بالوداعة كقول بولس الرسول: “أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا“(غل 6: 1).. “مُؤَدِّبًا بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ عَسَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ“(2تي 2: 25).
وَدَاعَةٌ.. الرب قريب جدًا من الودعاء ويتعامل معهم، الرب يُعلِّم الودعاء طرقه: “يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ وَيُعَلِّمُ الوُدَعَاءَ طُرُقَهُ“(مز 25: 9)، والودعاء يقبلون كلمة الرب: ” فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ” (يع 1: 21).
الرب يُشبع الودعاء فتحيا قلوبهم: “يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ“(مز 22: 26).
الرب يسمع الودعاء: “تَأَوُّهَ الْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ تُمِيلُ أُذُنَكَ“ (مز 10: 17).
الرب يرفع الودعاء: “الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ“ (مز 147: 6).
ويتجمَّل الودعاء بخلاص الرب: “لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ“(مز 149: 4).
ويرث الودعاء الميراث السمائي، فقال داود النبي: “أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ“(مز 37: 11)، وفي ملء الزمان جاء ابن داود وقال في مقدمة التطويبات: “طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ“ (مت 5: 5).
وقال “القديس يوحنا الدرجي“: ” يجد الرب راحة في القلوب الوديعة، أما الروح المضطربة فهي كرسي الشيطان، الودعاء يرثون الأرض أو بالحري يسيطرون عليها، أما ذو الخلق الشرير فيطردون من أرضهم”. (موقع الحياة المسيحية بالإنترنت – إعداد ميشيل نجيب دميان).
وَدَاعَةٌ.. ومن أمثلة الذين عاشوا حياة الوداعة موسى النبي: “وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ” (عد 12: 3)، وقد تشفَّع عن شعبه: “وَقَالَ آهِ قَدْ أَخْطَأَ هذَا الشَّعْبُ. خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ. وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ“ (خر 32: 31-33)، وأبيجايل التي أنقذت داود الثائر من سفك الدماء حتى أن داود قال لها: “مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَرْسَلَكِ هذَا الْيَوْمَ لاسْتِقْبَالِي. وَمُبَارَكٌ عَقْلُكِ وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ لأَنَّكِ مَنَعْتِنِي الْيَوْمَ مِنْ إِتْيَانِ الدِّمَاءِ وَانْتِقَامِ يَدِي لِنَفْسِي” (1صم 25: 32، 33)، وبالرغم من أن داود النبي كان ممسوحًا ملكًا إلاَّ أنه كان طريد شاول الذي كان ما زال يملك ويحاول اقتناص نفسه، أما هو فصلّى قائلًا: “اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ كُلَّ ذُلِّهِ“ (مز 132: 1)، وأيضًا قائد المئة الذي التقى بالرب يسوع تمتَّع بروح الوداعة وقال: “يا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِ-ي“ (مت 8: 8)، وقد دعانا السيد المسيح لنتعلّم الوداعة منه: “تَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ“ (مت 11: 29)، ونلاحظ هنا مدى ارتباط الوداعة بالتواضع، فهما وجهان لعملة واحدة، كما أن الوداعة ارتبطت بالحلم: “أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ الْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ“ (2كو 10: 1).
ويقول “البابا شنوده الثالث“: “كان يمكن أن يدعونا لأن نتعلَّم منه الكرازة والتعليم والخدمة، والحب، والرحمة، والحكمة في التصرُّف.. بل كل فضيلة وكمال، إذ تتمثل فيه كل الكمالات والفضائل، ولكنه ركّز على الوداعة والتواضع، وقال لمن يتعلمونها: “فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ“. ألا يدل هذا على أهمية خاصة للوداعة في حياة الناس؟“(376).
وَدَاعَةٌ.. لا يجب أن نفهم الوداعة على أنها نوع من الخنوع والخضوع والجُبن والإستكانة أمام الأخطاء، فموسى النبي الرجل الوديع الحليم عندما رأى شعبه يعبد العجل الذهبي حمى غضبه على الشعب وعنَّف هارون أخيه، وحطَّم العجل وطحنه وذراه على وجه المياه، وأمر اللاويين بضرب كل من يتمسك بخطيته فقتلوا ثلاثة آلاف رجل، والرب يسوع الوديع المتواضع القلب وقد تعامل بعطف زائد مع السامرية، كما تعامل بحنو زائد مع المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل، ومع ذلك فقد تصدى بقوة لمن دنَّسوا الهيكل وطردهم من ذلك المكان، وأيضًا واجه القيادات الدينية وصبَّ عليهم الويلات، وبولس الرسول الذي كان وديعًا وقد تحمَّل الأتعاب والاضطهادات والضربات والجلدات، وقال لأهل كورنثوس: “أَنَا الَّذِي فِي الْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ” (2كو 10: 1)، ولكن عندما رأى بطرس الرسول يرتد إلى أفكار المتهوّدين يقول: ” قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا“ (غل 2: 11)، وبسبب الانقسامات في كورنثوس قال لهم: “مَاذَا تُرِيدُونَ. أَبِعَصًا آتِي إِلَيْكُمْ أَمْ بِالْمَحَبَّةِ وَرُوحِ الْوَدَاعَةِ“ (1كو 4: 21)، وهكذا كان الشهداء يسلكون في منتهى اللطف والوداعة والتواضع في حياتهم، ولكن عندما طُلِب منهم إنكار مسيحهم صاروا أسودًا وضحوا بحياتهم عوضًا عن التضحية بإيمانهم، وهذا ما لمسناه وشاهدناه بأعيننا في شهداء ليبيا الأبطال البسطاء، والبابا شنوده الثالث الذي تمتَّع بروح التواضع والوداعة عندما أراد القضاء أن يفرض على الكنيسة الزواج الثاني زأر بصوته مجلجلًا بأنه لا توجد قوة على وجه الأرض تجبرنا على مخالفة وصية الإنجيل.
وَدَاعَةٌ.. “وتعني أن تكون محبًا، حنونًا، متواضعا، لطيفًا، مراعيًا لمشاعر الآخرين، وفي ذات الوقت قويًا، فالوداعة تملك القدرة على السيطرة والخضوع، وتفعل هذا في الوقت المناسب:
أ- تجمع الوداعة بين تواضع الذهن وقوته. أمَّا عن تواضعها فأنه لا يعني ضعفًا أو جُبنًا وانحناءً، فالشخص الوديع ببساطة يحب الناس ويحب السلام، ولهذا فهو يسلك بتواضع بين الناس بغض النظر عن حالتهم وظروفهم الحياتية، واصطحاب فقراء الأرض والمتضعين لا يضايق الشخص الوديع، بل بالحري فأنه يرغب أن يكون صديقًا للجميع وأن يساعد الجميع كلما أمكنه ذلك.
ب – أما عن قوة الوداعة فأنها تنظر إلى المواقف وترغب في العدالة وصنع الحق. إنها ليست ذهنًا ضعيفًا يتجاهل الشر ويهمله أن يتغاضى عن فعل الخطأ والإساءة والألم والمعاناة:
إذا تألم شخص ما، سارعت الوداعة حيث هو كي تضع كل ما أمكنها للمساعد.
إذا ارتكب الشر، تفعل الوداعة ما تستطيعه لإيقاف الشر وتصحيحه.
في حالة تفشي الشر وانتشاره، فإن الوداعة تثور في غضب، ولكن الغضب يكون عادة في الوقت الصحيح وضد ما يستحق ذلك.
ج- للوداعة قدرة على ضبط النفس، فالشخص الوديع يتحكَّم في روحه وفي ذهنه، كما يتحكَّم ويضبط شهوات الجسد الطبيعية الخاطئة. لا يستسلم للطبع الحاد، ولا لحُب الانتقام، ولا يحيا حياة التدليل والتساهل، وحريته مسئولة ومنضبطة. والشخص الوديع يموت عن ذاته وعن جسده وطبيعته الخاطئة وعما ترغب في فعله، ولا يعمل إلاَّ ما هو حق، إلاَّ ما يريده اللَّه أن يعمله.
وبإيجاز يسلك الشخص الوديع باتضاع وبرقة، إنما في قوة وليس في ضعف.. ويغضب غضبًا مقدَّسًا ضد الشر والظلم، والوديع ينسى إساءات الآخرين في حقه، ويحيا من أجلهم بسبب ما فعله المسيح لأجله“(377).
9– تَعَفُّفٌ.. التعفف هو ضبط النفس والعزوف عن جميع الشهوات والملذات والسيطرة على الذات وتقديس الحواس والمشاعر، فالتعفُّف يشمل كل مناحي الحياة في الفكر والقلب، في الروح والجسد، في الحواس والسلوك، فتصير النفس عذراء عفيفة للمسيح (2كو 11: 2).
ويقول “وليم باركلي” أن كلمة “تعفف”: “تستخدم في اللغة اليونانية خارج الكتاب المقدَّس (للتعبير) عن الفضيلة التي يتحلى بها الإمبراطور الذي لن يسمح لمصالحه الشخصية بأن تؤثر على كيفية حكمه لشعبه، فهي الفضيلة التي تجعل المرء يمسك بزمام نفسه لدرجة يصلح فيها لخدمة الآخرين”(378).
وجاء في “دائرة المعارف الكتابية“: “والعفة: ترك الشهوات في كل شيء، فهي ضبط النفس، وخاصة في مجال الشهوات الجنسية، وتحاشي الإسراف في الأمور المقبولة مثل الأكل والشرب والحديث. والتعفف قوة روحية داخلية فهي في ثمر الروح القدس يظهر عملها في كل سلوك الإنسان (غل 5: 23)، والكلمة في اليونانية هي “إجرتيا” (egkrateia).. وقد تُرجمت الصفة من نفس الكلمة اليونانية “ضَابِطًا لِنَفْسِهِ” (تي 1: 8)، وتُرجم الفعل بنفس المعنى، فيقول الرسول بولس لغير المتزوجين والأرامل: “إِنْ لَمْ يَضْبُطُوا أَنْفُسَهُمْ فَلْيَتَزَوَّجُوا” (1كو 7: 9). كما يقول: “وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ“..
وهناك كلمة يونانية أخرى تؤدي معنى العفة والبراءة والطهارة، هي “هاجنوس” (hagnos)، وقد تُرجمت إلى “عفيفة ” أو “عفيفات”. كما في قول الرسول بولس للكورنثيين: “لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ” (2كو 11: 2، انظر أيضًا تي 2: 5). وهي نفس الكلمة اليونانية التي تُرجمت “أَبْرِيَاءُ” (2كو 7: 11)، و”طاهر” أو “طاهرة” (انظر في 4: 8، 1تي 5: 22، يع 3: 17، 1بط 3: 2، 1يو 2: 3)“(379).
تَعَفُّفٌ.. إن كان من أعمال الجسد الزنى والعهارة والنجاسة والدعارة، السكر والبطر حيث النهم والشراهة والجشع، فإن الإنسان الروحي لا يكف عن هذا فقط بل يعيش حياة التعفف، والذي يتعفف عن أمور هذه الحياة يكون محبوبًا من الجميع ويعيش حياة المودة الأخوية والمحبة، وما أجمل قول بطرس الرسول: “قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى Pوَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً“ (2بط 1: 5-7)، والكتاب دائمًا يدعونا لحياة العفة والتعفف: “قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ. لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ“ (رو 13: 12-14)، والتعفف فضيلة لها قوتها، والإنسان المُتعفّف هو إنسان قوي، فوقف بولس العفيف أمام فيلكس الوالي: “وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْبِرِّ وَالتَّعَفُّفِ وَالدَّيْنُونَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ ارْتَعَبَ فِيلِكْسُ“ (أع 24: 25).. إن البتولية نوع من التعفف، فبالرغم من أن الزواج سر مقدَّس إلاَّ أن البعض يفضل حياة التكريس الكامل مثلما كان بولس الرسول: “لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ كَمَا أَنَا. لكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مَوْهِبَتُهُ الْخَاصَّةُ مِنَ اللَّهِ. الْوَاحِدُ هكَذَا وَالآخَرُ هكَذَا” (1كو 7: 7).
تَعَفُّفٌ.. وعفة الجسد تنبع في عفة الفكر والقلب والحواس، فالقلب هو الفيصل، والذي له قلب عفيف يعيش حياة طاهرة، ولذلك قال الرب: ” يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي” (أم 23: 26)، وعفة القلب مرتبطة بعفة الفكر، فبحسبما يفكّر الإنسان بحسبما ينشغل القلب.. كانت سوسنة امرأة عفيفة ففضلت الموت عن مضاجعة الشيخين، أما الشيخان فكان قلبيهما ملتهبًا بالشهوة وعقليهما بالدنس.. وقد حذرنا يوحنا الحبيب قائلًا: ” لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ.. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ” (1يو 2: 15، 16)، وعفَّة الجسد ليست ضد الزنى بكل أنواعه فقط، بل أنها ضد كل نظرة شهوانية كقول الرب يسوع: “إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ” (مت 5: 28)، وعفة الجسد ضد شراهة الطعام وضد التبرُّج في الملبس.
ويقول “البابا شنودة الثالث“: “عفّة الجسد أيضًا ترتبط بالحشمة وعفَّة الملبس. وعفَّة الملبس بالنسبة إلى المرأة تتعلق أحيانًا بكشف جسدها بطريقة غير عفيفة، إما بملابس فيها لون من العري الجسدي يكشف أجزاء من جسدها، أو بملابس ضاغطة، أو بملابس شفافة، وكلها تؤدي إلى نفس النتيجة، وتكون معثرة..
وقد تبرر المرأة هذا بأنه إظهار لأنوثتها. وفي الواقع أنه إظهار لعدم عفتها مهما حاولت أن تدَّعي بأن هذه هي الموضة السائدة، لأنه لا يصلح أن تسود الموضة على الروح، أو تكون وصايا مصممي الموضة أهم من وصايا اللَّه.. والمرأة المحتشمة لا تقبل مطلقًا أي زيّ جديد يتنافى مع الحشمة، أو يسبب عثرة لأحد. وإن فعلت هذا في أي مكان، لا يجوز مطلقًا أن تدخل إلى الكنيسة بزي غير محتشم، وبخاصة في وقت التناول من الأسرار المقدَّسة.
وقد تتنافى مع العفة أيضًا ألوان من الزينة والمساحيق.
ومعروف ما قاله القديس بطرس الرسول عن الزينة الجسديَّة، وقد فضَّل عليها “زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللَّهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ” (1بط 3: 4). نحن لا ننكر على المرأة أن تتجمل، ولكن يُسمح لها بذلك في حدود العفة، وفي حدود التجمل غير المُعثر.
وقد لا يتفق مع التعفف أيضًا أسلوب المشي والحركة ونوعية الصوت.
فالمفروض أن تشمل العفة كل أسلوب حياتها، وأن تبعد عن كل تصرف يثير مشاعر خاطئة بالنسبة إلى غيرها“(380).
تَعَفُّفٌ.. ويشمل التعفف تعفف العين عن أي نظرة غير طاهرة وغير بسيطة، فقال أيوب الصديق: “عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ” (أي 31: 1)، وعندما زوجة فوطيفار: “رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا إِلَى يُوسُفَ“ (تك 39: 7) وبعد أن كانت تراه كل يوم بنظرة بسيطة بدأت تنظر إليه بنظرة شهوانية فأرادت أن تُسقطه في حبائلها، ولكن طهارة يوسف كانت أقوى كثيرًا من شر هذه المرأة، وعندما كانت عيني أمنا حواء لها نظرتها البسيطة كانت ترى ثمر شجرة معرفة الخير والشر ولا تتأثر، ولكن عندما أعطت أذنها للحيَّة، تلوثت أفكارها وبدأت نظرتها للشجرة تختلف: “فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ” (تك 3: 6) وبسقوط حواء وآدم سقطت البشرية جمعاء.. والعين البسيطة تتجنب النظرات الفاحصة التي تريد أن تسبر أغوار وأعماق الشخص الذي تحدقه، وترفض كل نظرة شهوانية تقودها للسقوط.
كما يشمل التعفُّف تعفُّف الأذن، فالأذن المتعفّفة لا تسترق السمع لتتلصَّص الأخبار ولا تستمع لكلمات الإدانة، ولا للكلمات البذيئة، ولا للفكاهات السخيفة، ولا كلام النميمة.. إلخ، ولا تستريح للأغاني والموسيقى التي تثير الغرائز الجسديَّة، إنما الأذن العفيفة تتلذَّذ بسماع كلمة الإنجيل، والقداسات، والترانيم، والموسيقى الراقية.
تَعَفُّفٌ.. ويشمل التعفُّف أيضًا عفّة اللسان، واللسان العفيف لا ينطق بكلام بذيء، ولا كلام كذب، ولا كلام احتقار وازدراء، ولا كلام جارح للحياء، ولا كلام نميمة، ولا كلام ذم، وما أكثر خطايا اللسان التي يتعفَّف عنها الإنسان الروحي الذي يحرص أن لا تخرج من فمه أي كلمة بطّالة أي لا فائدة منها، كقول مخلصنا الصالح: “كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ“ (مت 12: 36).. الإنسان العفيف اللسان تجد ألفاظه بعيدة عن القسوة، فلا تنطلق الكلمات كالأحجار تحطّم الضلوع، كلماته بعيدة عن البذاءات، بعيدة عن الإيحاءات الجنسية، وما شابه ذلك، إنما الإنسان العفيف اللسان فهو ينتقي الألفاظ مراعيًا مشاعر الجميع، ولا يجد صعوبة في هذا لأنه إعتاد أسلوب الحديث المهذّب، وأدب الحوار فحواراته موضوعية تدور حول الموضوع دون أن تُشخصِنه، تناقش الفكر وتُفنّده وترد عليه دون أي إساءة لصاحب هذا الفكر، وصاحب القلم العفيف ينأى بنفسه عن الدخول في مهاترات، ولا يخوض في أعراض الناس، ولا يستخدم قلمه للتشهير أو التجريح، ودائمًا كلمات اللسان تفيض من فضلة القلب كقول مخلصنا الصالح: “مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ“(مت 12: 34).
تَعَفُّفٌ.. ويشمل التعفُّف عفة اليد، فالإنسان ذو الأيدي العفيفة هو صاحب أيدي بيضاء لا تلمس ما هو محرَّم عليها، لا تمتد إلى ما لا يخصها، لا تقبل رشوة ولا هدايا لتسهيل بعض الأمور، بل أنها تستحي أن تمتد لتطلب ما يخصها.
ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ.. الناموس يشهد ضد أعمال الجسد ويدينها، أما ثمار الروح فلا يوجد ناموس يُنهي عنها، ولن يجد المتهوّدون ما يضاد هذه الثمار في الناموس، لأنه لا يوجد ناموس ولا قانون يُنهي عن هذه الفضائل التي تزيّن النفس البشرية كما أنها تبهج قلب اللَّه، فهي وليدة شركة عميقة مع اللَّه، وهي ثمرة طاعة النفوس الأمينة لروح اللَّه القدوس الذي يُحوّل تلك النفس الأمينة إلى شبه صورة المسيح له المجد.
ويقول “دكتور وليم آدي“: “ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ – هذه إشارة إلى الفضائل المذكورة ولا يضادها الناموس، لأنها الأثمار التي ينشئها روح اللَّه في المنقادين بالروح. والذي يضاده الناموس هو الخطية لأنه يُنهي عنها، وأما هذه الفضائل فيأمر بها، ولكن ليس له (للناموس) قوة على أن ينشئها في قلب الإنسان، بل له القوة في عقاب مبغضيها“(381).
ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ.. ثمر الروح القدس يتوافق تمامًا مع الناموس، فاللَّه أعطى الإنسان الناموس لحين ينضج الإنسان ويتمتَّع بثمر الروح، والإنسان الذي يقتني ثمر الروح من السهل أن ينفذ أحكام الناموس، لأن الناموس كله يكتمل في وصية محبة القريب: “لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“ (غل 5: 14).
ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ.. أمثال هذه الفضائل تمثل ناموس اللَّه، فناموس اللَّه صالح يتوافق تمامًا مع هذه الثمار، أما ما هو “ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ“ أي الخطايا والآثام والرذائل التي تضاد هذه الفضائل فعوضًا عن المحبة نجد البغضة، وعوض الفرح نجد الحزن، وعوض السلام نجد القلق والانزعاج.. إلخ، كل هذه الأمور الرديئة لا تتوافق مع الناموس ولا تمثل ناموس اللَّه، لأن الناموس صالح: “وَلكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّامُوسَ صَالِحٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ نَامُوسِيًّا. عَالِمًا هذَا أَنَّ النَّامُوسَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَارِّ بَلْ لِلأَثَمَةِ وَالْمُتَمَرِّدِينَ لِلْفُجَّارِ وَالْخُطَاةِ لِلدَّنِسِينَ وَالْمُسْتَبِيحِينَ لِقَاتِلِي الآبَاءِ وَقَاتِلِي الأُمَّهَاتِ لِقَاتِلِي النَّاسِ. لِلزُّنَاةِ لِمُضَاجِعِي الذُّكُورِ لِسَارِقِي النَّاسِ لِلْكَذَّابِينَ لِلْحَانِثِينَ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ يُقَاوِمُ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ“ (1تي 1: 8 – 10).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم: “ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ فمن يستطيع أن يضع ناموسًا على إنسان يقتني كل هذه الثمار في داخله؟ فكما أن الحصان الوديع لا يحتاج إلى لجام، كذلك الإنسان القديس بالروح لا يحتاج إلى ناموس، وهنا يطرح الرسول الناموس بعيدًا لا كأمر رديء، بل كعطية أقل من عطية الروح“(382).
” وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ. لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا” (غل 5: 24 – 26).
بعد أن حدَّثنا بولس الرسول عن اشتهاء الروح ضد الجسد والجسد ضد الروح، وبعد أن حدَّثنا عن أعمال الجسد والخطايا السبعة عشر، ثم ثمار الروح متمثلة في الفضائل التسعة، يحدثنا الآن عن ضرورة ضبط الأهواء والشهوات بصلب الذات، وأن نعيش ونسلك بحسب الروح مبتعدين عن الكبرياء والخيلاء والإعجاب بالذات الذي يصل بنا إلى المنافسة الرديئة والغضب والحسد.
“وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ“ (غل 5: 24).
وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ.. أي الذين آمنوا بالمسيح إيمان حقيقي عملي، الذين هم مسيحيون بالفعل وليس بالاسم، الذين صاروا في ملكية المسيح وفي معيته كقول بولس الرسول من قبل: “فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ“ (غل 3: 29) أي أننا ملكًا للمسيح بل نحن في المسيح: “لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ“ (أف 5: 30)، وسمة هؤلاء الذين للمسيح أنه صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات نتيجة إتحادهم بالمسيح المصلوب، وهذا ما أوضحه مار بولس من قبل عندما قال: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ“ (غل 2: 20)، فإننا “عَالِمِينَ هذَا أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ“ (رو 6: 6).. لماذا؟.. “لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ“ (رو 6: 6) و”جَسَدُ الْخَطِيَّةِ” هنا تعبير مجازي يعبر عن حالة الإنسان الأولى قبل إيمانه بالمسيح، وهذا الجسد قد بطل بالإيمان بالمسيح أي لم يعد قادرًا على استعبادنا للخطية، فجسد الخطية أي أهواء وشهوات الجسد النابعة من الإنسان العتيق والتي سمَّرها الإنسان الجديد على صليب المسيح.. هؤلاء هم الذين اتحدوا بالمسيح فضبطوا شهوات وأهواء الجسد وسمَّروها على الصليب، أو على أقل تقدير أنهم يجاهدون في سبيل تحقيق ذلك، وإن سقطوا في الطريق فسريعًا ما ينهضون مستكملين المسيرة صوب الملكوت.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ : هذا يعني انتماء المؤمن إلى ربه (راجع غل 3: 29): إذا كنتم للمسيح (إذا كنتم تخصون المسيح). ويتأسَّس هذا الانتماء على قرار الإيمان وعلى المعمودية. لا يوضحه بولس في هذا المكان لأنه يعتبره أمرًا ثابتًا. ولكن لا بد من تفسير بُعده الأخلاقي، نحن نخص يسوع المسيح حين نصلب الجسد، وهذا ما نساه الغلاطيون.. أن بولس يفترض هنا (وفي غل 6: 14) واقع المعمودية الحاسم كوسيلة أسرارية لصلب الإنسان القديم (الجسد، اللحم والدم، الإنسان الضعيف والخاطئ)..
فالذي سلَّم مصيره كله إلى المسيح في فعل الإيمان.. قَبِل أيضًا حكم الموت على حياته الملموسة، حكم الموت الذي يعلنه الصليب على الجلجثة. فنحن نعطي فعل “صُلِبَ” معناه القوي، كما هي العادة عند بولس. فنحن لسنا فقط أمام تخلّ أدبي عن حياة رديئة، بل أمام قبول المؤمن للصليب قبولًا تامًا، والمؤمن لا يستطيع أن يصلب الجسد إلاَّ بالإيمان بيسوع المصلوب“(383).
وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ.. شرح بولس الرسول هذه العبارة في موضع آخَر فأوضح أن الذي للمسيح يجعل جميع تصرفاته وسلوكياته مطابقة لمشيئة المسيح وإرادته سواء قدَّس يومًا معينًا أو لم يُقدّس، سواء أكل أو صام.. ” الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمُّ. وَالَّذِي لاَ يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ لاَ يَهْتَمُّ. وَالَّذِي يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ يَأْكُلُ لأَنَّهُ يَشْكُرُ اللَّهَ. وَالَّذِي لاَ يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ لاَ يَأْكُلُ وَيَشْكُرُ اللَّهَ.. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ“ (رو 14: 6 – 8).
قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ.. قد ضبطوا الجسد مثلما يكون مسمَّرًا على الصليب فلا يجد مجالًا للتفكير في الأهواء والشهوات الرديئة، وفي رسالة رومية نلاحظ ثلاث مراحل لصلب الجسد أي الذات:
1 “عَالِمِينَ هذَا أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ“(رو 6: 6)، فبما أن المسيح مات نيابة عنا فنحن قد متنا معه بالمعمودية.
2 “كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللَّهِ” (رو 6: 11).
3 ” وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للَّهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرّ ِللَّهِ“ (رو 6: 13).
لقد صُلب المسيح حاملًا في جسده خطايانا وأهواءنا وشهواتنا، فمن يضبط جسده بأهوائه وشهواته يكون كمن صُلب مع المسيح، ومن صُلب مع المسيح وأمات أعمال الجسد فأنه سيحيا حياة أبدية: “لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ“ (رو 8: 13).
وجاء في “التفسير التطبيقي“: “علينا أن نرجع عن خطايانا، ونسمّر طوعًا، رغباتنا الطبيعية الشريرة على الصليب. وليس معنى هذا، على أي حال، أننا لن نرى أثرًا لهذه الرغبات مرة أخرة، فكمسيحيين ما زالت لدينا إمكانية الوقوع في الخطية، ولكننا قد تحرَّرنا من سلطان الخطية علينا، وليس علينا أن نستسلم لها، بل يجب أن نضع يوميًا ميولنا الخاطئة تحت سيطرة اللَّه، وأن نسمّرها يوميًا على صليب المسيح، ونستمد لحظة بعد لحظة القوة من الروح القدس للغلبة عليها (انظر غل 2: 20، 4: 16).
أن اللَّه يهتم بكل جانب من جوانب حياتنا، وليس بالجانب الروحي فقط، وحيث أننا نحيا بقوة الروح القدس، فيلزمنا أن نُخضع كل جانب من جوانب حياتنا للَّه، سواء العاطفية أو الجسمانية أو الاجتماعية أو العقلية أو المهنية“(384).
قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ.. ” الأَهْوَاءِ” جمع “الهوى” أي العشق، و”الشَّهَوَاتِ” جمع “الشهوة” أي الميل الداخلي للنفس حسبما ترغب، والأهواء هي الميول الظاهرية التي تتولَّد من الشهوات الخفية، والشهوات هي التي تحرِّك الأهواء، بل تحرك الجسد كله. ومن الممكن أن تكون هذه الأهواء وتلك الشهوات مقدَّسة، كقول النفس البشرية: “إِلَى اسْمِكَ وَإِلَى ذِكْرِكَ شَهْوَةُ النَّفْسِ“ (إش 26: 8)، وقال السيد المسيح لتلاميذه: “شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ” (لو 22: 15)، وقد تكون هذه الأهواء وتلك الشهوات فاسدة ودنسة كقول يوحنا الحبيب: “لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ” (1يو 2: 16) ومثل هذه الأمور تصل بنا إلى ظلام الفكر والجهل وفساد القلب وفقد الحس الروحي كقول الكتاب: “إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ“ (أف 4: 18، 19) بل تصل بنا هذه الأمور إلى الموت الروحي وعداوة اللَّه: “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ.. لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ ِللَّهِ” (رو 8: 6، 7)، ولذلك دعانا رسول الأمم إلى رفض هذه الأهواء وتلك الشهوات: “فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ“ (كو 3: 5)، فالجسد بأعضائه وحواسه هو مركز وقاعدة هذه الأهواء وتلك الشهوات، ولكن متى تعلّقنا بالصليب فإننا نستطيع أن نُسمّر أهواء الجسد وشهواته، ونموت عن أركان العالم ونعيش للمسيح: “إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ“ (كو 2: 20)، ونستطيع أن نصغي إلى صوت ونداء معلمنا بطرس: “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ“ (1بط 2: 11) وندرك حقيقة الشهوة أنها سراب يجري الإنسان خلفه ولا يجني ثمرًا، وماء مالح: “كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا“ (يو 4: 13)، وكقول معلمنا يعقوب: ” تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ.. تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ” (يع 4: 2، 3).
“إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ“ (غل 5: 25).
إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ.. “إِنْ كُنَّا“ ليس المقصود بها الشك، إنما المعنى “ما دمنا”، وهذا يذكرنا بقول مخلصنا الصالح: ” وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ“ (يو 14: 3)، والمقصود بالروح هنا الروح القدس، وقد سأل بولس الرسول الغلاطيين قائلًا: “أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ.. فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ“ (غل 3: 2-5).. إن كنا قد صلبنا الجسد وقهرنا أهواء الجسد وشهواته ورغباته وصرنا نخضع لقيادة وإرشاد الروح القدس ونعيش بالروح، إذًا يمكننا أن نسلك سلوكًا روحيًا في طريق الكمال، ويكون لنا ثمر الروح.
إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ.. إن كنا لم نكمل شهوة الجسد: “وَإِنَّمَا أَقولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ“ (غل 5: 16)..
وإن كنا قد صلبنا الجسد مع أهوائه وشهواته: “وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ” (غل 5: 24).
وإن كنا بالروح نميت أعمال الجسد لكيما نحيا حياة أبدية: ” لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ” (رو 8: 13)..
فالمحصلة النهائية أننا الآن نعيش بالروح، وهذه حقيقة: “نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ” (رو 8: 4)، وصارت اهتماماتنا بما يخص الروح وليس ما يخص الجسد: “فَإِنَّ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ وَلكِنَّ الَّذِينَ حَسَبَ الرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ” (رو 8: 5)، وبما أننا نعيش بحسب الروح، ونهتم باهتمامات الروح. إذًا علينا أن نثبت ذلك بالدليل العملي، وهو السلوك خطوة بخطوة:
1- بحسب قيادة وإرشاد روح اللَّه القدوس: “لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ“(رو 8: 14).
2 بحسب قوة الروح القدس: “لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ“(أف 3: 16).
ومن أعمال الروح القدس في هذا الأصحاح:
1 السلوك بالروح: “اسْلُكُوا بِالرُّوحِ“ (غل 5: 16)، و“فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ“ (غل 5: 25)، وهناك فرق بين “السلوك بالروح” أي السلوك بقوة الروح القدس، و”السلوك بحسب الروح” أي بحسب إرشادات وتعاليم الروح القدس.
2 الانقياد بالروح: “وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ“(غل 5: 18).
3 الحياة بالروح: “إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ“(غل 5: 25).
“لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا“(غل 5: 26).
في هذه الآية ينهينا بولس الرسول عن ثلاثة أمور:
1- لا نكن معجبين. 2- لا نغاضب بعضنا بعضًا. 3- لا نحسد بعضنا بعضًا.
لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ.. كان المتهودون يفتخرون بأعمال الناموس وعندما يتمّمونها يشعرون بالفخر والزهو والخيلاء، مثلما كان شعور الرجل الفريسي الذي احتقر العشار وصلّى معجبًا بنفسه: “اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ“(لو 18: 11)، فكان هؤلاء اليهود من عينة هذا الفريسي معجبين بذواتهم وإنجازاتهم وتصرفاتهم، وعندما يظهر هؤلاء المعجبون بأنفسهم يشتد التنافس فيما بينهم وينقلب إلى غضب وحسد، وعندئذٍ يختفي المسيح من المشهد، لأنه لا يعمل إلاَّ مع المتواضعين والمنسحقي الروح. إذًا يجب أن نبتعد عن الزهو والغرور والافتخار والاستكبار، فالكبرياء هو مقدمة السقوط: “قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ“ (أم 16: 18)، والإنسان المُعجب بذاته يقيم من هذه الذات صنمًا يتعبد له ليل نهار، بينما من يسلك بتواضع تجري وراءه الكرامة: “وَقَبْلَ الْكَرَامَةِ التَّوَاضُعُ“ (أم 15: 33).. حسنًا أن نستحسن تصرفات الآخرين فنمدحهم ونشجعهم على بذل المزيد من الجهد، ولكن ليس حسنًا أن يستجدي الإنسان مديح الآخرين وإثارة إعجابهم به.
لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ.. وهي نفس الوصية التي وجهها لسان العطر لأهل فيلبي عندما أوصاهم أن يفتكروا فكرًا واحدًا: “لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ بَلْ بِتَوَاضُعٍ حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ“(في 2: 3)، فخطية العجب والكبرياء هي التي أسقطت الشيطان من رتبته.
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: ” كما ترك المسيح كل شيء من أجلك على الصليب، فليتك تترك شيئًا من راحتك ورغباتك المادية من أجله، أي تضبط أهواءك وتتوب عن خطاياك وتعطي لنفسك فرصة للصلاة وسماع صوته في الكتاب المقدَّس“(385).
نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا.. يبدأ الأمر بالاختلاف في الرأي والتشدد للرأي، ثم يغضب الإنسان، وسُم الغضب يسري سريعًا في الجسد فيفرز الكراهية والحقد وشهوة الانتقام، ويغيب عن أعيننا أن: ” كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ. وَمَنْ قَالَ يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ” (مت 5: 22)، ومعنى رقا أي سفيه، أو كلمة ازدراء بالآخَر، وقوله: “مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ“ أي مستوجب المحاكمة أمام المجمع.. لذلك يجب أن نكون في يقظة مستمرة من خطية الغضب والخصام لأن: “عَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ“ (2تي 2: 24)، وقد أوصى بولس الرسول تلميذه تيطس أن يوصي الرعية أن: “لاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ حُلَمَاءَ مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ“ (تي 3: 2).
وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا.. سبق لنا الحديث عن الحسد كعمل من أعمال الجسد، والحسد مرتبط بالعين الشريرة، مثل صاحب الساعة الأولى الذي طمع أن يأخذ أجره أكثر من الأجرة المتفق عليها وهي دينار لأنه رأى صاحب الساعة الحادية عشر قد أخذ دينارًا وهو لم يعمل سوى ساعة واحدة، فقال له السيد: “أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ“ (مت 20: 15)، فالعين الشريرة عندما تنظر النِعم التي يتمتع بها الآخَر تتمنى زوالها، أما صاحب العين البسيطة فعندما يبصر النِعم التي يتمتع بها الآخر يرفع عينيه نحو السماء قائلًا: “يا رب زده من نعيمك ولا تنساني أنا أيضًا“.
تفسير غلاطية 4 | تفسير رسالة غلاطية |
تفسير غلاطية 6 | |
أ/ حلمي القمص يعقوب | |||
تفاسير رسالة غلاطية | تفاسير العهد الجديد |